تنطوي هذه القصة السودانية الشيقة بحفرها في الذاكرة والتاريخ على استعارتها الشفيفة على الوضعين السوداني والانجليزي معا في مرحلة مابعد الاستعمار، أم تراها مرحلة الاستعمار العجوز الجديد.

حان أوان الذهاب

جمال محمد إبراهيم

(1)
"براون " ماذا تريد بعد، من هذه الدنيا؟ كان يسأل نفسه هذا السؤال كل صباح تشرق فيه الشمس خلبا في ضاحية "صري"، إلى الغرب من لندن، فلا يكاد يستجلي الإجابة الشافية، التي تطفيء نار التطلع والإكتشاف. اليوم بداية عطلة الأسبوع. يعرف أن إبنه "كريس" ـ كعادته - سيمضى ليلته بعيدا عن بيت الأسرة الصغيرة في "صري". يحسب الجدّ العجوز "براون" نفسه، جزءاً من هذه الأسرة الصغيرة، وليس مخلوقا زائداً، بعد أن تجاوز عمره الثمانين عاما، وأصبح يوما بعد يوم، يراوح في وحشته، وحيدا مثل شجرة برية، لا تكاد تكيّف إنتماءها للمزرعة المحيطة بالمنزل المترامي الأطراف، مثل غيره من بيوت الريف الإنجليزي. "براون" عجوز مثير للعجب. يماثل إعتماده على نفسه بطريقة عشوائية، إعتماد الشجرة البريّة على ما تجود به السماء من مطر الرحمة، وما ترسله التربة الضنينة من غذاء، يسري في العروق الشائخة، فلا يسمن أويغني أويحيّ الأوراق المصفرة. كلا لم يكن "كريس" - مع حرصه على الإهتمام بزوجته "إليزا" وإبنه "جيم" ـ يبدي أقل التفات إلى أبيه "براون". بعد سنواته الطويلة هذي، ليس لـ "براون" إلا أن يستسلم لإهمالٍ راتب، وإغفال ٍ مؤسس، وتجاهل ٍ يليق فقط بالأشجار البرية أوالنباتات الفطرية، التي تتخلق بلا مبررات، بلا حيثيات. لا معنى لوجودها، ولا مغزى في استمرار بقائها على هذا النحوالمستفز ّ، الذي يجافي النظم والنواميس، ويقترب من خلود غيبي، لا يؤمن به أناس من شاكلة إبنه "كريس" وزوجة إبنه الغريبة " إليزا ".. ـ هيا يا "جيم".. أعرني أذنيك! دعني أكمل لك قصة ذلك المصري المجنون الذي كان مفتشا للقطارات بين بورتسودان وأركويت .. هل سمعت بهاتين المدينتين من قبل.. ؟ هما في شرق السودان.
لم يبق لـ"براون" غير حفيده "جيم"، يلقي على أسماعه بحكاياته الشائقة عن مغامراته الطريفة، في المناطق النائية في أفريقيا. يسمع "جيم" أسماء أماكن وبلدان، لا يجد لها معنىً في قاموسه الجغرافي البسيط. لا تماثل حكايات جده إلا تلك القصص التي حكاها لهم مدرس الجغرافيا في المدرسة عن "ليفينجستون": رجل مغرم باكتشاف الأصقاع البعيدة، حيث يعيش أناس مختلفون، يأكلون طعاما غير مستساغ.. يسكنون بيوتا بنوها في الغاب، مع الكواسر، أوهم في خيام يضربونها في الصحراء، مأهولة بالثعابين والثعالب والذئاب غير البشرية. دائما ما يختفي "كريس" و"إليزا"، إلى مخابيء مريبة، في عطلة نهاية الأسبوع، تجمعهما مع أناس آخرين يشبهونهما في كل شيء: في الهندام .. في احتساء النبيذ بلا حدود .. ثم في التبرم من الأشجار البرية، التي تشمخ في اعتداد، في المزارع الخضراء، وقد انقضت أعمارها الإفتراضية، وتثاءبت العصافير فوق أغصانها العجفاء، إذ لم تعد هنالك من ثمار تؤكل، أومن رحيق يثير السقسقة ويستدعي الغناء. لكنهم يتبرمون منها.

(2)
قال "مختار" محدثا نفسه: ماذا تريد مني هذه الدنيا ؟ لقد خبرتها وخبرتني. أتلفتها وأتلفتني. بعتها الهواء، فباعتني الخواء. جبت الفيافي والقفار، وظفرت بصحبة بريطانيين، أفدت منهم خبرة في تسيير السكة الحديد، وقد كانت عصية علينا، أول أيامنا. ثم في آخر المطاف، ما لي من مكان غير الخرطوم. أواه من "خرطوم " هذا الزمان. ليست هي الآن المدينة التي عشقنا في سنواتنا الغابرة: يا "حليل " الإنجليز.. !يهمهم إلى نفسه، ويحرص أن لا تفلت همهمته إلى أذن خائنة. كان في سنوات صباه عاشقا للخرطوم، يستنشق في شارع فيكتوريا، هوائه المنعش .. يتمخطر بالشورت الخاكي والقميص الأبيض الحليبي، فيحسده، على تقليده ملبس الأفندية والإنجليز، الباعة أولاد البلد في الحوانيت المطلة على" ميدان عباس". لم يكن هنالك من تزاحم في الطرقات. كان السوق، بضعة حوانيت تباع فيها الفاكهة والخضر والملبوسات.. والمسجد الجامع يتوسط الميدان، شيده "ملك مصر والسودان" .. ثم هناك "مقهى الزيبق". بعيداً منه، بضعة مساكن بالآجر، بناها إنجليز وشوّام وتجار من "أولاد الريف".. تمتد على طرقات، شقت على نسق علم الإمبراطورية. ثم السكة حديد، مهيبة في إطلالتها البعيدة على "سراي" الحاكم العام.

(3)
أشهر الصيف في ضواحي لندن، شديدة الوقع على ذاكرة العجوز "براون". يهرع "كريس" إلى المركز التجاري الكبير في " صري "، ليبتاع مروحة أومروحتين، كلما دنت الأيام المزعجة على مقياس الحرارة. يبتسم العجوز ويهمهم إلى حفيده "جيم "، عن أيام شبابه في خدمة الإدارة البريطانية في السودان. كان في قسم الهندسة في إدارة السكة الحديدبة:
ـ أيامها أيها الفتى، ما كان يرهبنا إلا إلتهاب السحايا. لكننا احتملنا ذلك الطقس المزعج. من لا يتبع النصائح الصحية، يلقى حتفه لا محالة.. ! يجزع الصبي "جيم". ما سمع عن وباء السحايا إلا من جده الآن. ـ كان معنا في الإدارة الهندسية بعض "أولاد الريف" من المصريين. خوفهم من ضربة الشمس، يماثل خوفهم من الوحوش الكاسرة. كنا أفضل منهم في تحملنا للحرارة، ولمخاطر السحايا. كنت أنا في معية عمال" الدريسة "، في الصيف الحار، مثل البطل الهمام.. ينظر إلي المصريون والسودانيون في الإدارة، نظرات إعجاب واندهاش. ما كان يجاريني في التحمّل، إلا " السردار" السوداني. كان رئيسا لعمال "الدريسة"، وخبيرا بأحوال السكة الحديدية، جميعها. كان فذا.. ! يجهد العجوز في شرح مفردات حديثه للصبي "جيم"، وقد بدأ الملل يتسلل إليه، وكاد صبره أن ينفد مع العجوز. رفع الصبي كفا إلى فمه المفتوح ليخفي تثاؤبا طارئا غلبه. لم يكن يريد لجده "براون" أن يلحظ حالته، وقد أخذته التفاصيل توغلا في حكاياته، فهوم بعيدا.. أما "كريس"، فلم تكن تستهويه عادة أبيه في سرد قصصه، خاصة تلك التي تدور حول سنواته البعيدة في أفريقيا.. وقد أضمر أمرا. ولكن كيف يسلك مع إبنه "جيم" ؟ هل سيقتنع بالفكرة التي طافت بذهنه أم سيقاوم ؟ هل سيفتقد حكايات جده.. ؟ هل.. ؟

(4)
قصص الجد العجوز ممتعة في بداياتها. كل شيء يبدوجميلا ممتعا في بداياته. الشمس أجمل في بزوغها عند الفجر، أما عند الظهيرة فهي تتقيح نارا وجحيما. تغدوغير محتملة، مملة. كل شيء يبدوجميلا ممتعا في بداياته. الورد في تفتحه قبل أن يذبل. العمر في عنفوان الشبيبة، قبل اختلاج العيون بضباب الكهولة وسواد الزهايمر. لقصص العجوز في بداياتها، جاذبية وسحر. لكنها الآن صارت مدعاة لإعتلال الصبر ونفاد التحمل. يراها الصبي "جيم" مضيعة لوقت، كان يحتاجه لنشاط ما بعد الدراسة، في مدرسة " صري " التجهيزية المجاورة لمنزل الأسرة، أولزيارة المكتبة العامة في الحي، للإطلاع، أولإحتساء قهوة، أومشروب بارد. أما قصص العجوز "براون"، فهي على طرافتها لم تعد تستهوي "جيم"، على كل حال. صار الجد يعيد القصص، ذات القصص كل يوم. ليس فيها غير المصري الساحر، ثم " مختار السردار " وفريق الإدارة الهندسية، العامل في إصلاح القطارات، ومغامرات خلوية واصطياد فهود ونمور وثعابين، تتجمع حين تتوقف عربات القطار بسبب أعطال طارئة.. يغرق العجوز في تفاصيل السرد، كل مرة يعيد فيها حكاياته، يصارع الأيام والنهارات التي تنهش ذاكرته نهشا منظما.. لكنه يتشبث ب "جيم". يعلق حكاياته على أذني "جيم".
ـ هيا أعرني أذنيك.. !
لكأنه الغريق يمسك بخيط ٍ واهن، قد يعيده في ظنه المتفائل، إلى برّ الأمان. لكن سنواته التي تجاوزت الثمانين، أثقل من أن تجرّها الخيوط الواهنة المعلقة بأذني صبي، يستعيرها منه صباح مساء. ويعرف العجوز " براون" أنه يدير معركة لا انتصار فيها، لا قبلها ولا بعدها. يعرف أنه الخاسر الأول والأخير. لن تشفع له إنجازاته في مجاهل أفريقيا، أونجاحاته في تلال البحر الأحمر، حين كان في خدمة السكة الحديدية في السودان، وقد امتدت شرايينها شرقا وغربا، وكان ل "براون" سهم في ذلك.. في صباه، كان "كريس" مغرماً بقصص العجوز "براون "، مفتوناً بمغامراته السودانية. لكنه، كلما مرّ عام تلوعام، بدأ هذا التعلق والإفتتان في التهافت والأفول. لم يعد يعر العجوز - وقد صار عجوزا هرما بالفعل - أي أذن، حتى يشرع في غزوها بحكاياته الغريبة: " حكايات كانتربري السودانية "، كان دائما ما يسميها، متهكماً التهكم الذي يقارب الأذى، من العجوز " براون ". مضى أبعد من ذلك، ورشح للعجوز إبنه "جيم "، ليحشوأذنيه بهذه الحكايات.
كيف يغادر العجوز ويأخذ حكاياته معه إلى غير رجعة ؟ سيأخذ معه أيضاً، الساحر المصري، ذلك القابع في محطة بين " سنكات" و"هيا "، على التلال المطلة على البحر الأحمر.. وسيختفي " السردار " في ثياب العجوز الراحل، ولن يلهج لسان العجوز بعبارات الإعجاب بذلك السوداني، رئيس جماعة "الدريسة"، ممن يعملون في صيانة طرق القطارات:"السردار"، قاهر الصحارى المليئة بمخلوقات الله المتوحشة. سيأخذ العجوز "براون" معه، إلى منفاه الذي اختاره له "كريس"، قصته التي لم يكمل سردها على "جيم"، عن الصبية التي عرفها في " كسلا "، وكاد أن يتزوجها، لولا كيد ابن جلدته، المأمور في مديريرية " كسلا"، مستر"ويلكوكس" مع ناظر الحلانقة. لم يستطع "جيم " الصغير، أن يقهر الحزن الذي أطل من عينيه، حين ثبت العجوز "براون" قبعته، ثم حرك كفاً واهنة الأصابع، بإشارات الوداع. حان أوان الذهاب. إختفت الحافلة بالمسنين إلى " بكنجهام شير "، وابتلع الفراغ الذي خلفته، حكايات "براون " السودانية بكامل تفاصيلها. صاح "جيم"، وكأنه في غيبوبة أوحلم، لا يمت للواقع بصلة:
- وداعاً، أيها الساحر المصري.. وداعاً، " مختار السردار ".. !