هكذا وبكلمة واحدة دالة يعنون الشاعر الأردني شهادته على رحيل الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة، وهي شهادة تحرص على رهافة الخيط الرفيع بين الاعتراف بالدور دون الوقوع في مبالغات الرحيل.

الرائدة

أمجد ناصر

 

نعرف ما الذي كان يدور في صدر تلك الشاعرة العراقية الشابة وهي تستمع، عبر المذياع، الي اخبار وباء الكوليرا المتجول بسيفه الحاصد بين المصريين. كان انفعالا شديدا. وارادت كتابة قصيدة موازية لقوة ذلك الانفعال وامواجه المتتابعة. كتبت قصيدة. فلم تعجبها. قالت: لا، ليس هذا ما اريد. ليس فيها شيء من الامواج المتلاحقة التي تلطم صدري. فمزقتها. راحت تكتب قصيدة جديدة. كان عدد ضحايا وباء الكوليرا قد بلغ ألفا في اليوم. قرأت القصيدة لنفسها وشعرت، مثل المرة الاولي، أنها قصيدة فاشلة . هذه قصيدة فاشلة قالت لنفسها، كان ينبغي ان تمرّ ليلة. لا ندري ما الذي جاءها في المنام. فهي لا تخبرنا شيئا عن ذلك. ولكن صباح يوم الجمعة الكسول هو الذي سيرمي بها من سريرها المجعد الي بناية قيد الانشاء قرب بيت ذويها. طبعا لم تنس، وهي تطير من السرير، الي ورشة البناء المجاورة، ان تأخذ قلما وورقة. ثم من دون جهد. من دون تفكير بالقصيدتين السابقتين الفاشلتين ، ستخرج قصيدة الكوليرا كطلقة واحدة. وستقول لنفسها، قبل ان تعود طائرة مرة اخري الي البيت: هذه هي القصيدة. هذه هي القصيدة.

في روايتها لولادة قصيدة الكوليرا ، التي يعتبرها معظم النقاد اللبنة الاولي في مدماك الشعر الحر العربي، تتهور نازك الملائكة في الوصف. تقرأ القصيدة لأمها. فتقول لها: شنو هاذا؟ تقرأها لأبيها فيقول: ماذا يعني الموت، الموت، الموت؟ تقرأها للحاضرين في صبيحة تلك الجمعة في بيت ذويها فيضحكون. هي وحدها تعرف مولودها. فتقول لهم في شيء من الحرد الطفولي والنبوءة : هذه القصيدة ستغير خارطة الشعر العربي!

لم يكن بودلير، وهو يكتب قصائد نثره الاولي، يفكر بـ تغيير خارطة الشعر الفرنسي. كان ضجرا من الوزن والقافية. من التصنع والانشاء البلاغي. من التماثل. من ترفّع الشعر عن الانخراط في وحول المدينة. اراد ان يكتب شيئا (يتلاءم مع الحركات الغنائية للنفس)، مع «تموجات الحلم وانتفاضات الوعي». يقول بودلير لناشره: اي كاتب من كتابنا (يقصد الشعراء طبعا) لا يملك طموح كتابة (نثر شعري)؟ هذا يعني ان بودلير لم يكن وحده يفكر بكسر طوق الوزن والقافية، والخروج الي الشارع بقميص وبنطلون، لا ببدلة من ثلاث قطع مخنوقة بربطة عنق. لكن لماذا لم يفعلوا ذلك. لماذا كان علي بودلير ان يعلق الجرس؟ لا اعلم. ولكنني اعلم ان آحادا، وليس مجموعات، هم الذين يضعون بدايات اشياء كثيرة. افراد هم الذين، يعبّرون من دون ان يدروا، ربما، عما يشعر به المجموع، عما يحتشد في ذلك الصدر الجماعي الكبير. ولكن واحدا فقط هو الذي يشق القفص الصدري ويطلق قلبه كعصفور حبيس في الفضاء.

 
هذا ما فعلته نازك الملائكة. انسوا قولها لذويها: ان هذه القصيدة ستغير خارطة الشعر العربي. انا، شخصيا، لا اصدق انها كانت تمتلك هذه القناعة الايمائية المبشرة بجنة الشعر الحر. حتي وان كانت نازك الملائكة قد قالت كلماتها الحاسمة تلك عن قناعة وانكشاف كامل لحجب الغيب، فلا يهمني ذلك. ما هو مهم ان (المعجزة) التي تحدث عنها بودلير قبلها بقرن تقريبا قد حدثت. لكن لاحظوا الفارق: كان بودلير يحلم بخروج شعري كامل من الوزن والقافية بعد تراكم شعري متواصل وطويل، بينما لم تكن تحلم نازك الملائكة بأكثر من قصيدة تلائم وقع الخيول التي تجر عربات ضحايا الكوليرا:

سكن الليلُ
اصغ، الي وقع صدي الأنّاتْ،
في عمق الظلمة، تحت الصمت، علي الأمواتْ.
صرخات تعلو، تضطرب
حزن يتدفق، يلتهب (الخ)...
خربطة التفعيلات المقصودة (أو غير المقصودة) هي التي فتحت الباب للشعر العربي (الحر). من (خربطة) أو (خطأ) بدأت مسيرة المعاصرة. لم يكن عمر الشعر العربي المستعاد، من فترة الركود التركية الطويلة، اكثر من ضعفي عمر نازك نفسها عندما كتبت قصيدة الكوليرا . كل الارث الشعري العربي (النهضوي) ومدارسه المتعددة من المهجريين الي ابولو لم يكن يتجاوز نصف قرن. قبل ذلك كان العصر العباسي هو آخر ممارسة خلاقة للشعر العربي.

 
تؤرخ نازك الملائكة قصيدة (الكوليرا) يوم الجمعة 27/10/1947. بينما يؤرخ السياب قصيدته (هل كان حبا) في ديوانه (ازهار ذابلة) يوم 29/11/1946. الجدل العربي حول ريادة السياب والملائكة لقصيدة (التفعيلة) وأيهما اسبق من الثاني، لم ينته فصولا. لكنه جدل توثيقي، تأريخي، لا اهمية حقيقية له في مسار هذه القصيدة التي نقلت الشعر العربي من محاولات تجديد الكلاسيك العربي الي الشعرية الحديثة ابنة زمنها ومخاضاته العسيرة .. وهي نفسها، علي الارجح، التي فتحت الباب لقصيدة (الماغوط) .. وما صار يعرف، لاحقا، (قصيدة النثر). نازك رائدة كبيرة. طارحة اسئلة لم يطرحها، قبلها، شاعر عربي بالدقة والمنهجية، التي بدت عليها في (قضايا الشعر المعاصر). السياب.. هو الشاعر المغيّر، ليس بالتنظير، وانما بقلب تربة الشعر العربي وتعريضها لشمس عصره وأوانه.