يتتبع الباحث المغربي المرموق هنا دلالات الموت في أعمال محمود درويش، ويكشف عن أنه أحد التجليات المهمة للمقاومة وللحياة في شعره. لأن موت الفلسطيني من أجل الوطن هو السبيل إلى استمرار الحياة، وإلى تألق قيمة الوطن في بنيه. فلم يعد الموت صنو الغياب، وإنما سبيلا لانبعاث جديد ولحياة تقاوم المحو والهوان.

محمود درويش مغني الشهداء

مصطفى الغرافي

لقد كان لقاء درويش بالموت في فترة مبكرة من حياته. تجسد أول مرة في مواكب الشهداء الذين يسقطون تباعا واقفين مثل النخيل وأشجار البرتقال الحزين. يشعيهم جمع من الشباب الفلسطيني الذي يؤمن كل واحد منهم في قرارة نفسه أنه مشروع شهيد، يسير على الأرض  التي سيرويها ذات لحظة لا يعرف موعدها بدمائه، التي تسيل لكي تصنع من ملحمة الموت ملحمة الحياة. إنه العرس الفلسطيني حيث لا يلتقي الحبيب حبيبه إلا شهيدا أو شريدا[i].

يظهر التأمل الدقيق في شعر درويش أن الموت الذي اعتنى بتصويره الشاعر منذ قصائد الأولى ليس الموت العادي ولكنه الموت الذي ينجم عن فعل مواجهة أو مقاومة. ولذلك كان الموت الذي يحتفي به درويش جماليا هو موت الشهداء؛ أي فعل التضحية الذي يجعل من الموت تجربة إنسانية فريدة تستحق التمجيد والاحتفاء.

تكشف القصائد الأولى التي كتبها درويش عن تصور رومانسي للموت، حيث لا يعني الموت في نصوصه المبكرة العدم والنهاية، ولكنه يعني التجدد والانبعاث؛ أي البداية:

ثلاثة أشياء لا تنتهي:

 أنت، والحبّ، والموت[ii].

الموت مثل الحب ولادة ثانية. ولذلك كان الموت عند درويش لا يعني النهاية بل هو البداية. ومن هنا زخرت مراثيه للشهداء وأغنياته لهم بالدعوة إلى استمرار الحياة، لأن الحياة لا تتوقف بالغياب الجسدي ولكن الموت مناسبة لدفع عجلة الحياة إلى الأمام: 

نعيش معك
نسير معك
نجوع معك
وحين تموت
نحاول ألا نموت معك
ففوق ضريحك ينبت قمح جديد
وينزل ماء جديد
وأنت ترانا
نسير
نسير
نسير.[iii]

تكشف مراثي درويش للشهداء عن جماليات جديدة في التعامل مع فعل الموت. لقد أضافت قيما جمالية جديدة إلى شعر الرثاء في التراث العربي؛ فدرويش لا يحصر مراثيه في تقديم التعازي وتمجيد الأعمال التي أنجزها الشهيد في حياته ولكنه يعمل على توليد أسباب الحياة من رحم الموت مما يجعل المراثي تتحول في كثير من الأحيان إلى قوة دفع تدعو إلى الحياة ممثلة في فعل السير بعد دفن الشهيد من اجل إكمال الطريق والوصول إلى الأفق الذي أشار إليه ورسمه بدمه: الانحياز لخط المقاومة حتى تحرير الأرض واسترجاع الكرامة. يظهر ذلك بشكل واضح في قصيدة درويش "أحمد الزعتر" التي يمكن اعتبارها رثاء جماعيا لكل الذين استشهدوا في "تل الزعتر"، حيث ينصهر في هذه القصيدة الفردي والجماعي في ملحمة الدم الفلسطيني  لتنطلق الدعوة عالية إلى المقاومة باعتبارها التجسيد الحقيقي لفعل الحياة المنبثق من رحم الموت: 

فاذهب عميقا في دمي
اذهب براعم
واذهب عميقا في دمي
اذهب خواتم
واذهب عميقا في دمي
اذهب سلالم
يا أحمد العربيّ… قاوم![iv]

إن قوة الحياة تنبعث وتتولد من فعل الموت. ذلك ما يريد درويش أن يستخلصه قراؤه من مراثيه للشهداء، حيث يتحول الموت إلى قوة حركية تفعل في الأحياء وتدفعهم الحياة/ الفعل التي تتخذ في كثير من قصائد درويش الرثائية شكل السير أو المشي:

صباح الخير يا ماجدْ
صباح الخيرْ
قُمْ اقرأ سورة العائدْ
وحثَّ السيرْ
إلى بلدٍ فقدناهُ
بحادث سيرْ[v]

تنطوي مراثي درويش للشهداء على احتفاء واضح بالحياة المتولدة من رحم الموت ويرجع ذلك إلى أن الفلسطيني لا يملك غير دمه في مواجهة الترسانة العسكرية المتطورة لغاصبي أرضه ووطنه، فلا ميلاد ولا انبعاث إلا من هذا الدم الذي يجري رقراقا من أجل تحقيق الولادة الثانية، لشعب ذخيرته الوحيدة قتلاه وجرحاه:
قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة
فاضرب بها اضرب عدوك لا مفر[vi]

لا يملك الفلسطيني غير دمه يحتمي به من الواقع العربي الذي يسيطر عليه التآكل والانهيار. من الدم صنع الفلسطيني أسطورته الفذة. ومن بريق هذا الدم المستباح تشكلت معجزة فلسطينية استطاعت أن تجعل من الغياب حضورا بهيا ومن الموت حياة متجددة تقاوم النسيان. ولذلك أطلق درويش على الدم صفة "الأخضر" رمز الخصب والنماء:

جَدِّدْ أيها الأخضر صوتي . إنَّ في حنجرتي خارطةَ

الحلمِ وأسماءَ المسيح الحيّ

جَدِّدْ أيها الأخضرُ موتي

إنَّ في جُثَّتيَ الُأخرى فصولاً وبلادْ

أيها الأخضرُ في هذا السواد السائدِ، الأخضرُ في بحث

المناديل عن النيل وعن مهر العروس

الأخضر الأخضر في كل البساتين التي أحرقها السلطانُ والأخضرُ في كلِّ رمادْ

لن أُسمّيكَ انتقال الرمز من حُلم إلى يومٍ

أسمّيك الدمَ الطائر في هذا الزمانْ

وأسمّيك انبعاث السنبلهْ[vii].

إن الموت في مراثي درويش للشهداء لا يعني النهاية والغياب فالشهداء يستأنفون حياتهم بعد الموت بطريقة طبيعية ويقومون بنفس الأعمال التي تعودوا على القيام بها في حياتهم السابقة:

بيروت …… ليلا

يخرج الشهداء من أشجارهم ، يتفقدون صغارهم

يتجولون على السواحل ، يرصدون الحلم والرؤيا

يغطون السماء بفائض الألوان ، يفترشون موقعهم

يسـمـّون الجزيرة ، يغسلون الماء ، ثم يطرزون حصارنا

قططـــا  …. ونخلا[viii].

ويبلغ من تمجيد درويش للفعل البطولي الذي يقوم به الشهداء أن يحرص على توفير شروط الراحة لأرواحهم بعد الموت فيقوم حارسا لنومهم ولأحلامهم:

عِنْدمَا يَذْهَبُ الشُّهَدَاءُ إِلَى النَّوْمِ أَصْحُو حصار

وَأَحْرُسُهُمُ مِنْ هُوَاةَ الرِّثَاءْ

أَقُولُ لَهُم

تُصْبحُونَ عَلَى وَطَنٍ

مِنْ سَحَابٍ ومَنْ شَجَرٍ[ix]

مما يؤشر على أن فعل الموت- الاستشهاد بالنسبة إلى محمود درويش طريق سالكة إلى الخلود والحياة المتجددة باستمرار حيث يتوحد في شعر درويش فعل الموت - الشهادة بشهوة الحياة – الخلود: (الجدارية: رياض الريس للكتب والنشر- بيروت ط1- 2000 ص:37)

يا مَوْتَنا ! خُذْنَا إليكَ على طريقتنا ، فقد نتعلَّمُ الإشراق

فالموت ليس نهاية الكائن ولكنه انتقال من حال إلى حال:

  لم يمتْ أحد تماما ، تلك أرواح  (الجدارية ص:52)
تغير شكْلها ومقامها /

يكشف هذا القول الشعري عن فهم رومانسي لفكرة الموت التي ترتبط في قصائد درويش بدلالات وإيحاءات عميقة تحيل إلى عوالم رمزية وتخييلية لا تنفصل عن الأبعاد المجازية البانية للأنظمة البلاغية والجمالية التي ما يفتأ درويش يؤسس لها في منجزه الشعري بصبر وأناة. فالموت كما تكشف قصائد محمود صنو التجدد وطريق الانبعاث والخلود.  وقد عبر درويش عن هذه الرؤيا بكثافة شعرية شفافة في قصيدته "آه... عبد الله" الواردة في ديوانه "العصافير تموت في الجليل" الديوان الذي كرسه للاحتفاء بمواكب الشهداء الذين يولدون من رحم الموت:

عادة، لا يخرج الموتى إلى النزهة
لكن صديقي
كان مفتونا بها.
كلّ مساء
يتدلّى جسمه، كالغصن، من كل الشقوق
وأنا أفتح شباكي
لكي يدخل عبد الله
كي يجمعني بالأنبياء!.. [x]

إن موت الشهيد، كما يكشف هذا المقطع الشعري،  ليس غيابا مطلقا ولكنه انتقال من حال إلى حال؛ فالشهيد يخرج من قبره ويتنزه ويلتقي الشاعر ليجمعه بالأنبياء لأنه بموته يغادر منزلة البشر العاديين ليرتقي إلى مقام النبوة التي تستطيع اجتراح الخوارق والمعجزات فتنفذ من المرئي إلى اللامرئي حيث الكشوفات الروحية الخصبة فالشهيد يدخل من الشباك كالعطر والنسيم لأنه تحرر من كل القيود  المادية التي تشد الروحي إلى الجسدي.  تلك كانت نظرة درويش إلى الموت عندما يقترن بالشهادة في سبيل القضية.

 



[i] - هذا هو العرس الذي لا ينتهي
في ساحة لا تنتهي

في ليلة لا تنتهي

هذا هو العرس الفلسطيني

لا يصل الحبيب إلى الحبيب

إلا شهيدا أو شريدا
"محاولة رقم 7" ضمن ديوان محمود درويش، دار العودة- بيروت مج 1 ط 14-1994 ص:509

[ii] - محمود درويش، محاولة رقم 7 ضمن ديوان محمود درويش، دار العودة- بيروت مج 1 ط 14-1994 ص:502

[iii] - محمود درويش، حبيبتي تنهض من نومها ضمن ديوان محمود درويش، دار العودة- بيروت مج 1 ط 14-1994  ص:364

 

[iv] - محمود درويش، أعراس، ضمن ديوان محمود درويش، دار العودة- بيروت مج 1 ط 14-1994  ص:653                                 

 

[v] - محمود درويش، حصار لمدائح البحر  ضمن ديوان محمود درويش، دار العودة- بيروت مج 2 ط21- 1994 ص:141

[vi] - محمود درويش، مديح الظل العالي، ضمن ديوان محمود درويش، دار العودة- بيروت مج 2 ط21- 1994  ص: 25

[vii] - محمود درويش، أعراس، ضمن ديوان محمود درويش، دار العودة- بيروت مج 1 ط 14-1994  ص:653

[viii]- محمود درويش، مديح الظل العالي، ضمن ديوان محمود درويش، دار العودة- بيروت مج 2 ط21- 1994  ص: 45

[ix] -[ix]- محمود درويش، ورد أقل ضمن ديوان محمود درويش، دار العودة- بيروت مج 2 ط21- 1994  ص: 343

[x] - محمود درويش، العصافير تموت في الجليل، ضمن ديوان محمود درويش، دار العودة- بيروت مج 1 ط 14-1994  ص: 260