ستظل أعمال جابرييل غارسيا ماركيز، الكاتب العظيم الذي فقدناه مؤخرا، محط اهتمام القراء والنقاد لزمن طويل. هنا يعود الناقد المصري المرموق إلى بعض أعماله غير المشهورة، وإلى تجربة له في عالم المسرح، ليكشف لنا، من خلال قراءة مستبصرة له، مدى ثراء عالمه وعمقه، في المسرح والأقصوصة على السواء.

الوعي واستنزاف اللحظات الفارغة عند ماركيز

في مسرحية «خطبة لاذعة ضد رجل جالس» لغابرييل غارسيا ماركيز

محمد سمير عبدالسلام

الواقع يشبه تداعيات الكتابة، ونشوتها الخيالية، ويتحد بنماذج الأسطورة المتراكمة في الذاكرة الجمعية؛ إذ يعيد السارد إنتاجها في نسيجه السحري، وعلاماته الأولى نفسها معا - في نصوص الروائي الكولومبي العالمي المبدع غابرييل غارسيا ماركيز ( 1927 – 2014)؛ إذ تبدو علامات النص في حالة اتصال بالماضي السحيق، وبحالات تجدد الوعي المبدع الذي يعيد تشكيل العالم، وتأويله انطلاقا من الغرابة الأولى، والغموض الأول في بنية الأشياء، والشخصيات، وصيرورة الحياة؛ إنه ينتخب ذلك العنصر الفريد في الواقع، ويعيد إنتاجه في كتابة تأويلية ترتفع عن المركزية، وتكشف عن اتساع الأخيلة، والأفكار، والأبنية الثقافية التي ترتبط بالشخصية، أو الحدث، أو المكان؛ إذ تنفتح العلامة على سحر الكتابة، وتداعياتها، وتخرج عن حدودها الفيزيقية، وبنيتها الأولى.

ويمكننا قراءة آليات الكتابة عند ماركيز من خلال عنصرين جماليين متواترين في نصوصه؛ هما:

الأول: أصالة الإبداع، وأخيلته، وجمالياته في بنية العالم، وطرق تفسيره، وفي صيرورته باتجاه المستقبل، واحتمالاته:
يحاول ماركيز الكشف عن الاتجاه الطبيعي للجمال في العلامات الكونية، وضرورته في الأبنية الاجتماعية، والفكرية، والثقافية، وهو طريقة جوهرية في تفسير الظواهر، كما يبدو أخيرا كآلية في التطور الروحي تتجاوز مخاوف الإنسانية، وأغلالها؛ وتبدو هذه الآلية واضحة في نص (انفجار ديموقليس) الذي وجه فيه نقدا لسباق التسلح النووي، وكشف عن مفارقة جمالية بين صورة الصراصير التي قد تبقى في المشهد لو أفنى الجنس البشري نفسه بلا ذاكرة، وصورة متناغمة إبداعية محتملة لحفل تتويج سلمندر في زي امرأة، دون مخاوف الحاضر من ذلك الموت الميكانيكي (راجع: ماركيز، قصص ضائعة، ترجمة: صالح علماني، دار أزمنة، 1999، من ص 92: 97).

إنه يؤكد أن الصيرورة الطبيعية للعالم تنطلق من تواتر الإنتاجية الإبداعية، وهو يؤول ميكانيكية الموت بصورة الصراصير بما تحمله من فقدان القيمة، والعداء، وغياب حالة التناغم، أو الوجود نفسه، ويؤول المستقبل بتلك الاحتفالية القصصية الجمالية التي تتجاوز الخوف؛ ومن ثم فهي تفسر المستقبل من خلال علاقته الوثيقة بالغرابة الإبداعية التي تشبه الكتابة، وتاريخ الفن حين يتقاطع مع السلام الاجتماعي المحتمل، وتحقق الصفاء الروحي للإنسان حين يتحد بنموذج الجمال في الوعي، واللاوعي.

الثاني: الاتساع الخيالي، والسردي للعلامة:
ثمة تهيؤ للاتساع الخيالي يكمن في علامات الواقع، والتاريخ، والعناصر الكونية طبقا لآلية الكتابة عند ماركيز، ويقوم وعيه المبدع بعملية إكمال سردي، وكشف عن الاتساع الخيالي الذي يقع في بنية العلامة حتى يصل إلى ذروته في التداعيات النصية. الكتابة هنا إكمال خيالي نسبي، وثوري، وذو احتمالات لانهائية، ويشمل عوالم الحلم، والثقافة، والفن، والأسطورة، ولكن في سياق بكارة إنتاجية جديدة، وممتدة، ومكملة لغرابة العلامة، وتهيؤها للاتساع الذي تحققه الكتابة عند ماركيز.

ويشير ماركيز إلى تلك الآلية الجمالية في كتابه (عشت لأروي)؛ فقد تواجد في مطعم، ثم أصدرت الكروانات صوتا عاليا من تأثير الروائح؛ فقام زبون هائج بالإمساك بأحدها، وألقاه حيا في قدر الطبيخ، وحين حاول الإمساك بآخر، صاحت (نيغرا أوفيميا):

"يا للعنة، اهدءوا وإلا ستقلع الكروانات عيونكم".

وكتب ماركيز بعدها قصة بضمير المتكلم عن ثلاثة زبائن في ماخور، وتقتلع الكروانات عيونهم، ولا يصدق ذلك أحد . (راجع: ماركيز، عشت لأروي، ترجمة صالح علماني، دار المدي بسوريا، ص 522، و523). هل انتصر ماركيز للكروان المقتول؟ أم أنه استحضر تاريخ العقاب من الماضي السحيق، ومن ثقافات العالم، ومزجه بأخيلة الكتابة؟

لقد أكمل ماركيز ثورة الكروان، وصياحه الناقص في صيرورة الكتابة التي تشبه بنية الحلم، أو الواقع المعكوس، كما جاء العنصر الجمالي مجردا من الحتميات التي صاحبت ارتباط الكروان بالإزعاج في المشهد الأول؛ فحدث التهام أعين الزبائن في الكتابة يتجاوز حتمية الموت، ويستنزفه من خلال بنيته، ويتقاطع مع العقاب، دون أن يجسد حتمية وقوعه؛ لأنه يرتبط بسحر الحدث، لا الحدث نفسه؛ إنه ينتخب غرابة الحدث الواقعي، ويكشف عن اتساعها الجمالي اللامركزي في الكتابة، وكأن الكروان ذو تاريخ ناقص، أو يتهيأ لحياة افتراضية إبداعية أخرى يجسدها أدب ماركيز، حين يحول الطاقة الإبداعية للموت إلى حياة خيالية تتصل بجذورها الواقعية، وتعيد إنتاجها في سياقات جمالية، وفكرية، وثقافية جديدة.

ويكشف ماركيز في نصه المسرحي (خطبة لاذعة ضد رجل جالس) ترجمة : نجم والي – الصادر عن منشورات المجمع الثقافي بأبي ظبي – ط1 – 1998 - عن فاعلية وعي البطلة (غارسييلا) في استحضار الماضي، ونقضه، والسخرية منه، وتجاوزه في العلامات الخيالية الممكنة، والتي تستنزف فراغ اللحظة المهيمنة، وتعيد تشكيلها في بدايات تصويرية جديدة في مسارات إبداعية تناهض التقدم الآلي للزمن، وثبات مدلول الهوية في آن، وذلك عن طريق تقنية (المونولوج)، وآلياته الجديدة في إبراز الإنتاجية الإبداعية المتجاوزة للمركز، أو للمرجع التاريخي الواحد للشخصية.

وبصدد تحولات تقنية المونولوج في المسرح ترى (كلير والاس) - في بحثها (مسرح المونولوج، الأداء المنفرد، والذات كموضوع للعرض) – أن المونولوج اليوم يقدم بطرق بلاغية، وسيكولوجية جديدة، وتشير إلى استخدام (صمويل بيكيت) للتكنولوجيا في (شريط كراب الأخير)؛ ليفكك التطور السردي، وفي استخدامه للضمير الثالث المتعلق بالمرأة في نص (لست أنا)، وتومئ إلى كشف (ديبورا جيز) آليات التناقض، والمحاكاة الساخرة في مسرح المونولوج فيما بعد الحداثة. (Read: Monologues Theatre: Performance, Subjectivity, edited by Clare Wallace – Charles University 2013 / p. 8, 9).

ونلاحظ ارتكاز مونولوج البطلة في نص ماركيز على آلية السخرية من الذات، والتاريخ، والسياق الاجتماعي المهيمن على المشهد، كما تفكك بنية المبدأ الحواري، والتصعيد الدرامي عن طريق إنتاجية الوعي، وبحثه عن بدايات زمنية خيالية جديدة، أو هوية أنثوية محتملة قيد التحقق في المسافة بين فاعلية الوعي، وعلامات الواقع التي تهيمن عليها الرتابة، وحالات الصمت، والفراغ، والميكانيكية؛ وكأن الوعي الأنثوي هنا يبعث طاقة أو حياة أخرى كامنة في ذكريات الماضي، وعلاماته التي لا تتسم بالسلطة المطلقة، ولكنها تقبل التفاعل الإبداعي مع وعي (غارسييلا) الثوري، ورغباتها في الاندماج بالطبيعة، وجمالياتها، وتشكيل بدايات خيالية تستنزف صمت النهايات من داخل هيمنة الصمت الزائفة على المشهد؛ فالكلام يبدو هنا كتخييل لهوية تتجاوز بنيتها الأولى في الواقع، وتؤول كينونتها انطلاقا من قدرتها على إعادة إنتاج الذكريات، وتجاوزها.

يهيمن على المشهد وضع التواصل العبثي، أو انعدام التواصل بين البطلة (غارسييلا)، وزوجها الذي يبدو صامتا، ويطالع صحيفة، ويتجلى (المونولوج) في هذا السياق الفني كسيمفونية للرفض، تتصاعد فيها نغمات الماضي الميكانيكية، والعبثية، ونغمات البحث عن متعة روحية، وهوية فريدة تتجاوز الفراغ، والصمت في آن؛ وكأن النغمات المتعارضة تتجاور؛ لتعيد بناء الكينونة من داخل معاينة النهايات؛ فالاحتمالات قائمة، والذات تقع بين إنتاجية الوعي، والتمرد على السياق الاجتماعي المسيطر. ويذكرنا ذلك السياق النصي بمفهوم (بارت) عن نص اللذة، وما يحمله من تناقض، وتعدد في الحركات، والنغمات.

يبدأ النص المسرحي بثورة البطلة، وتكسيرها لبعض الأواني، وتدخينها للسجائر بينما يظهر الزوج كآخر لها، أو كممثل لسلطة صامتة تقع بين الغياب، والحضور، ونعرفه من خلال مونولوج البطلة في مشهد احتفال شكلي بذكرى الزواج، ولكنه في الوقت نفسه رفض عميق للماضي ممزوج بتعلق انفعالي بذكرياته. إن البطلة لا تستطيع أن تفلت من سطوة الذكريات المشكلة لهويتها القديمة، بينما تنتج عالما خياليا يشبه الكتابة في وعيها، وتعود فيه إلى أصالة تأويل الكينونة، وحضورها الأنثوي النسبي خارج الحتميات التقليدية؛ فهي تسخر من الرجل، وتستنزف حالة الصمت في امتلاء خيالي بهيج، يقع فيما وراء الفراغ.

تبدو ثورة (غارسييلا) منظمة، ومنطقية أحيانا، ولكنها تتصاعد سلبيا، وإيجابيا بصورة لا مركزية؛ إذ تشكل تاريخا بلاغيا لذاتها يقوم على تجديد هوية الرجل، وهدم صورته الواقعية على المسرح معا.

ويمكننا ملاحظة أربع تيمات فنية في العمل؛ هي التأويل كسخرية من الماضي، وتجدد الذات الأنثوية، وأسئلة الوجود، والعدم، والتعقيد، والتداخل في بنية المبدأ الحواري، ثم نناقش الرؤية الاجتماعية للعالم بين التمرد، والبحث عن حضور آخر، أو بداية روحية متجددة.

أولا: التأويل كسخرية من الماضي:
تحاول البطلة أن تعود إلى أصالتها الطبيعية التي تقبل إعادة التأويل، أو التحول الإبداعي في المستقبل من خلال المحاكاة الساخرة لوجودها الواقعي في الماضي، وفي معاينتها لسطوة الصمت في الحضور الزائف؛ ومن ثم فالسخرية تفكك حالة من الوجود؛ لتعيد تشكيلها جماليا في زمن جمالي آخر يتجاوز شكليتها، أو فراغها من القيمة الذاتية، أو الطبيعية. تسخر (غارسييلا) من صورة الزوج الذي يفخر بأنه لا يدخن، ولا يدمن الكحول، بينما يبدو كسياسي قليل القيمة يطفو على سطح المجتمع، دون حياة ذاتية حقيقية.

إنها ترسم صورة لاستلاب الذات في مجموعة من الأبنية الاجتماعية الفارغة من المحتوى الجمالي، أو الطبيعي للشخصية، وكأنه مجرد دور في أنساق السلطة، وتحولاتها، ومراسمها التي تمتص القوة الروحية الكامنة في الوجود الشخصي. وتسخر من ذاتيتها القديمة؛ إذ بدت كأنها فتاة للبيع في سياق المعايير الاجتماعية الآلية، بينما تعيد تشكيل صورتها في الوعي المبدع الذي يناهض جمود الماضي بالاندماج الروحي بالعناصر الطبيعية، والكونية. تقول: "ذات ليلة ألقيت بنفسي من النافذة في المياه الميتة للخليج هكذا كما كنت، ورحت باحثة عنك، سابحة تحت الماء، ... أمرغ نفسي في الوحل المتعفن مثل كلبة شارع". ص 29.

تمتزج السخرية هنا بتأويل آخر للذات تشعر فيه البطلة بالتحرر الروحي، والطبيعي، ومعانقة أخيلة الماء، والوحل التي تومئ إلى الاتساع الكوني المناهض لصورة المرأة / الآلة بداخلها، والاندماج بصورة افتراضية أصيلة للآخر / الزوج تكمن في ذلك المسار التأويلي الآخر، وتبدو السخرية في تعلقها بالماضي حين تندمج بصيرورة الوعي المبدع، وجمالياته التي تحمل أثر الذكريات. وتسهب البطلة في تحليل مشاعر الغيرة، والسخرية من بنيتها في وعي الزوج، وتفكيك بنيتها، ومزجها بالمتعة الجمالية المتجاوزة للتواصل التقليدي مع الآخر/ الرجل. تذكر البطلة زوجها بعلاقاته النسائية الشكلية الزائفة، وبأنه لم يحبها حقا، ولكنها تسامت عن الخطيئة، وبحثت عن جمال آخر يفكك مركزية الغيرة، وهو التواصل الإبداعي الاستثنائي مع الآخر.

والتناول الجمالي للخطيئة، والعقاب يتواتر في أعمال ماركيز بصورة فريدة تجمع بين الجذور الثقافية، وأخيلة الوعي، وتحولات الصورة، وخاصة في (مئة عام من العزلة). تتذكر البطلة لحظة تواصل روحي فريد مع أحد أصدقائها من الأدباء قد امتزجت فيها الموسيقى بالثلج، والرقص، وتشير إلى أنه لم يقترح عليها الصعود إلى الغرفة، ثم أرسل إليها سلة من الزهور في اليوم الثاني. إنها تحاكي نموذج التواصل الزائف بين الرجل، والمرأة في وعي الزوج محاكاة ساخرة، وتستبدله بنموذج المتعة الروحية المجردة من تاريخ الخطيئة، ومن ثم تستنزف بنية الغيرة بالكشف عن عدم مركزيتها، وهوامشها المضادة المتعلقة بالجمال؛ فالتواصل الروحي يقيم علاقة عاطفية، دون أن ينتمي لجذور فكرة الغيرة نفسها.

ثانيا: تجدد الذات الأنثوية:
تجدد البطلة هويتها الأنثوية الجمالية في ثلاث مراحل رئيسية هي الثورة على التحولات الخطية للزمن؛ ومن ثم الشيخوخة، ثم تخييل الذات عن طريق تداعيات الوعي، وأطيافه الجمالية، ثم بناء العالم الخيالي الممثل لأصالة الصوت الأنثوي. تشعل (غارسييلا) سيجارة، وتخاطب المرآة، وليس الزوج، ثم توجه نقدا لشروخ الروح التي تعلو على شيخوخة الجسد، وتحاول أن تمسك بدائرية الزمن الداخلي كبديل عن خطية الزمن الواقعي. ثمة تناقض في هذه الحركة بين البحث عن وجود يقوم على التناغم الجمالي اللازمني المستعاد من اللاوعي – بين الروح، والجسد، والامتداد الخطي الذي يجسد الوعي بالنهايات؛ وكأن البطلة تستبدل صورة المرآة التقليدية التي تكشف آثار الزمن بمرآة أخرى افتراضية، ومضيئة تمثل الهوية الأنثوية المتجددة، والمتجاوزة للحزن في المشهد. وتستعيد البطلة طيفا لعازفة ساكسفون تدعى (آماليا فلوريدا) تعيد تكرار أغنية واحدة، وتستعيد صوتها الجمالي الذي يذكرها بأن الساكسفون ليس نحاسا. إنها تستنبت صوتا جماليا من الماضي، وكأنها تحتفي بمسألة تأويل الهوية، وإمكانية تخييلها خارج سياقها التاريخي الأول في لحظات زمنية فريدة، ومتفرقة.

وتذكر (غارسييلا) الزوج بأنها امتلكت أيضا عالما خياليا راقيا، وممثلا لهويتها الأخرى البديلة عن علاقاته العاطفية، والاجتماعية الشكلية؛ إذ كانت تلجأ إلى الحفلات الموسيقية، والسينما، وندوات الأدب في حالات كمونه. تقول: "لجأت إلى جلسات رجالي من رجال الأدب الذين كرموني بأبياتهم، دون ذل اشتهائي في الفراش". ص 45. إنها تذكره بأنها تملك حضورا آخر حقيقيا في حالات فراغه، أو صمته، أو غيابه؛ فهي تشير إلى شكول الوجود النسبية، والمحتملة خارج نطاق مركزيته، رغم أنه كامن بصورة خفية في المشهد، ولكنه ليست مركزيا؛ إذ استبدلته البطلة بالمرآة أو بصوتها الجمالي الآخر.

ثالثا: أسئلة الوجود، والعدم:
الإشكالية الفلسفية للوجود، والعدم قائمة في النص كله منذ توتر صورة الرجل بين الصمت، وحضوره الآخر في ذكريات البطلة، ووعيها، ثم رغبتها في تشكيل زمن آخر تتجاوز فيه رعب الشيخوخة، وإدراك النهايات. تقول حين تواجه النهار، وتستعيد وجهها منذ خمسة، وعشرين عاما: "إن لم يكن ذلك بسبب الشروقات، سنبقى شبابا طوال الحياة. إن من المؤكد أن المرء يشيخ عند بزوغ النهار". ص 21. تظل حالة مؤقتية الوجود – إذا – تهيمن على الوعي، وتناظر الإحساس الأصلي بالخلود في وعي البطلة، ولا وعيها، ولكن موقفها الثوري من مسار أحادية البدايات، والنهايات يجعلها تبحث عن لحظة حضور خيالية أخرى خارج الحتميات.

رابعا: التعقيد، والتداخل في بنية المبدأ الحواري:
يبحث ماركيز عن تجريب في تقنية المونولوج، ويمنحها ثراء فنيا يتجاوز المدلول التقليدي للذات التاريخية، والصوت المركزي؛ وذلك بالكشف عن التناقضات الجمالية، واختلاط العبث بالتناغم الخيالي مع الآخر المحتمل، وتواتر السخرية من العرض، وكذلك التهيؤ لتغيير محتمل يقع بين المشاهد، والواقع المسرحي.

وأرى أن النص يومئ بوجود حوار آخر محتمل، ومتخيل في النص بين (غارسييلا)، والصورة الأخرى الافتراضية من الزوج، عقب محوها لشكله السلبي حين أحرقت جريدته؛ وكأنه سيصير طيفا يعيد تشكيل المبدأ الحواري في الإكمال المحتمل للنص المسرحي.

تقيم (غارسييلا) حوارا خارج العرض مع الجمهور، وتطلب أن يذكرها أحدهم بما كانت تقول، وحين تلتقط خيط المونولوج ترجو ألا يتدخل أحد في موضوع يخصها هي، وزوجها فقط؛ وكأنها تسخر من فكرة العرض نفسها، والتي تفترض شكلا من الحوار مع الجمهور، ولو كان متخيلا، وقد كانت تطلب قبلها إكمالا أو مشاركة نشطة من الجمهور نفسه؛ وهي نقطة تجريبية ربما تدل على امتداد انقطاع التواصل بين الأنا، والآخر من داخل العرض إلى خارجه، وربما تدل على أصالة التناقض في النماذج الحوارية بشكولها المختلفة. ونلاحظ - في نهاية العرض - ملمحا بريختيا حين تتصاعد النغمات الثورية داخل البطلة، وعلى خشبة العرض في صورة النار؛ وكأنها تستفز الجمهور؛ ليقوم بتغيير مدلول نقص التواصل نفسه؛ ومن ثم يسعى إلى متعة روحية مماثلة للعالم الخيالي لدى البطلة.

رؤية العالم بين التمرد، والبحث عن حضور آخر، وبدايات متجددة:
يتشكل (الوعي القائم) لدى البطلة من موقف الرفض، والسخرية من القيم الاجتماعية المهيمنة على شكل معين من البورجوازية التي ينتمي إليها عالم الزوج/ ممثل السلطة الآلية الفارغة من المضامين الإنسانية الجمالية، إذ تشير – في أكثر من موضع – إلى أصله البسيط، وتسلقه، وسلوكه الاجتماعي الشكلي المبني على نماذج ثابتة تتعارض جذريا مع إمكانية تحقق الوجود الفردي. وأرى أن فلسفة الرفض لدى البطلة سلبية، وإيجابية في آن؛ لأنها تسخر من القيم المهيمنة على الزوج، والمجتمع، وتسعى إلى صفاء روحي محتمل فيما وراء المحو السلبي الممثل في أخيلة النار، وقد حققت تلك الإيجابية في تحولات خشبة العرض إلى شكول طبيعية بسيطة، أو شكول جمالية موسيقية أحيانا. ويمتد موقف الرفض إلى علاقتها المتناقضة بالابن؛ إذ ترفض حضوره في سياق علاقتها بالزوج، بينما تسعى للاتصال به في المستقبل.

وأرى أن موقف البطلة يحمل ملمحا جماليا من خطاب (جان دارك) في مسرحية (جان دارك .. قديسة المسالخ) لـ(بريتولد بريخت)؛ فقد صور بريخت تمردها على الاستغلال ممزوجا بسلام روحي، ورغبة صادقة في الإيمان، وقد ماتت نتيجة التهاب رئوي، وتوقف عن الطعام؛ بسبب سوء وضعها. تقول جان دارك في خطابها: "في هذا الليل المسربل بالدم، والحيرة .. في هذا الزمن .. زمن الفوضى المنظمة، والتعسف المدبر، والإنسانية التي فقدت إنسانيتها، حيث لم تعد الاضطرابات تتوقف في مدننا؛ في هذا العالم الشبيه بمسلخ كبير، نريد أن نوقد جذوة الإيمان".

(راجع: بريخت، جان دارك .. قديسة المسالخ، ترجمة: نبيل حفار، ومراجعة: سعد الله ونوس، دار الفارابي ببيروت، 1981، ص 21).

الرفض - طبقا لجان دارك عند بريخت – داخلي، ويسعى إلى تناغم العالم، وخلاصه انطلاقا من فكرة التجاوز الروحي للصخب، والاستغلال، وشكول العنف المتطرفة؛ ومن ثم فالتغيير لديها داخلي إيجابي، وغير مرئي، بينما نلاحظ الملمح الجان داركي – في نص ماركيز - في بحث (غارسييلا) عن أصالة روحية أكثر تعلقا بالهوية الفردية، بينما التحقق الإيجابي يأتي هنا مختلطا بنزوع سلبي يبدو في حالات المحو، والسخرية، والتناقض. ويتشكل (الوعي الممكن) لدى البطلة من مدى التواؤم المحتمل بين العالم الخيالي الممثل لهويتها الجمالية، وتغير شكل خشبة العرض، والواقع الاجتماعي معا؛ إذ تسعى لتغيير المسوخ إلى شكول افتراضية أخرى، وتغيير الامتداد الزمني إلى وهج روحي يتجاوز الحضور الشكلي. ويبدو هذا العالم الافتراضي الآخر في علاقة مفارقة مع ما كانت تسخر منه في علاقتها بزوجها في الماضي؛ مثل علاقته بمجرمين سياسيين، وبحثه عن عدساته اللاصقة التي يحملها بعينيه، وتصفحه للجريدة من اليسار لليمين، ثم العكس كأنه يقرأ بالعربية، وردودها الودودة الشكلية في المناسبات؛ كنعم .. نعم حبيبي. ويبدو هذا العالم نفسه كأنه يستنزف في وعي أنثوي متجدد، وفي فراغ أدبي يحتمل بدايات جديدة.

 

msameerster@gmail.com