يقدم الشاعر والإعلامي بجريدة الشعب التونسية هنا ملفا عن رؤية الشباب لما جرى للثورة في تونس خاصة وللربيع العربي عامة، ويقدم عبر شهادات الملف استقصاءات حول الواقع الراهن، وحول قضايا الحرية والتعبير والكتابة، وما أسفر عنه الربيع العربي من حراك ثقافي واجتماعي تصعب معه عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبله.

ملف السياسي والثقافي

عن الثورات المغشوشة والشعراء الغشّاشين

عبد الفتاح بن حمودة

زياد عبد القادر

عضو حركة نص

(1)

«الأزرقُ طرودٌ بريدية مليئة بأرقام الظّلال.

صوتُ الشجرة الذي حين لم نكن نعرف ما هو اضطرّنا خواءُ اللغة إلى استدراجه بالنعاس لوصفه في المنام.

 الأزرقُ أشباحُ الرجال الذين كلّما تهجّيتُ أسماءَهم تراكضوا في دهاليز الكلام دافعين النقطة التي في آخر السطر كمن يدفع بابًا ثقيلا من خشب الصّنوبر الاسكتلندي.

لا أنامُ لأحلم. أنامُ لأحمل عصري فوق ظهري وأمشي به وسط الحجيج الذين سيحملونه متناوبين، قاطعين به البراري وصاعدين به الجبالَ».

صباحَ الثالث والعشرين من تشرين الأول من العام 2011 كتبتُ هذا، دقائقَ بعد غمس سبّابتي، لأوّل مرّةٍ، في حبر الانتخاب.

ممسوسًا بنفحةٍ وطنيةٍ غير مسبوقةٍ، كأغلب التونسيين.

بعد أعوام ثلاثةٍ، ككبير فيَلةٍ قلعوا أنيابه العاجَ، أخفض رأسي من المهانة معترفا لكم بما يلي: ما غمستُ فيه سبّابتي لم يكن حبرًا أزرق. اسمعوني جيّدًا:

كان وحْلاً!

(2)

كنّا قطيعَ فِيلةٍ لكنّ من وثقنا بهم كانوا صيّادي عاج محترفين.

لا أظن أنهّ ثمّتَ كائن في وسعه أن يحدّثنا عن علاقة الفيل بنابه، اللّهمّ إلاّ أن يكون الفيلَ نفسه أو الملكَ سليمان. بوسعي إذن أن أعرف مكْمن الإغراء في الحديث عن الفيلةِ، فطالما رأيتُ في بَكم الحيوان برهانًا واضحا على أنه حين لا ينمو الكلام تنتصبُ الآلام العظيمة.

جُرّد الفيلَ من نابه ليغدو مجرّد كتلةٍ خرقاءَ. الحذرُ الذي طالما ضمن البقاء في الأدغال يُفقد. مجموعة الإشارات والمهارات التي طوّرتها الغريزة تُنسى. للدقة، لا يتعلّق الأمر بنسيان مهارات التخفي وفقدان حسّ الحذر، إنما بالرغبة في فقدانها. من بين الجميع، من فقدوا ساقا أو ذراعًا سيفهمون مغزى الحكاية. أتحدّث عن فجيعةِ النقصان حالَ يستيقظ المبتور من بُنجه.

تخبرنا الطبيعة عن كثير من الكائنات التي طوّرت، غريزيّا، نظام مناعةٍ يتيح لها امتصاص صدمة الدقائق الأولى ومن ثمّ التكيّف مع نقصانها. الفيلُ ليس من بينها.

كان سيظفر بميدالية الذهب لأسرع من يموت قهرًا.

(3)

الصيادون الذين احتملوا العاجَ الثمين كانوا سريعين جدّا ومهَرة، بالنظر إلى رجال غادروا السّجون لتوّهم. زعيمُ الصيادين أشار إلى جهةَ الفيل الطريح كسمكة الشابل في قصة «أجمل غريق في العالم»:

«انظرُوا إلى هذا الأبله. بشكله الكرويّ وجلده الأزرق الرصاصيّ ألا يبدو شديد الشبه بمحبرةٍ ضخمةٍ؟»

كانت الشمسُ قد غابت تمامًا عندما فرغ الجميعُ من غمْس سبّاباتهم. الفيلُ بدا منْهكًا ومشوّشا. على تلك الحال نام مهشّما كبلّور رخيص. لكنّ فيلا محبَطا لا ينام إلاّ ليركض في المنام باتجاه قمّة جبلية قبل أن يرمي بنفسه إلى قاع دوفر صخري، مدوّيًا بقوّة مرساةٍ ضخمةٍ تسقط في مياه متجمّدةٍ.

صباح اليوم الموالي استيقظ التونسيون منهكين ومكدّرين بمزاج أقرب إلى مزاج من رأوا كابوسًا جماعيّا، حيثُ فيلٌ رضّه الألم يقفز في المنام إلى هوّةٍ صخريةٍ، فيما صوتُ ارتطامه بالصّخور يُدوّي بشكل يسمح بسماعه في اليقظة دون أيّ مشقةٍ.

11,5 مليون تونسي استيقظوا صباحَ الرابع والعشرين من تشرين الأوّل من العام 2011 فاقدي أنيابهم. أمّا بخصوص الصيادين، فعلاوة عمّا غنموه من عاج ثمين فقد باتوا يتحدّثون باسم الفيلةِ لقاءَ 3000 دينار، شهريّا، لكلّ صيّادٍ.

(4)

سأفترض أنه لم يسبق لك أن سمعت بقصة الدّمى نازعة الأحزان:

في بعض القرى المنسية في جبال «غواتيمالا» تُصنع دمى صغيرة مقدّسة. مدسوسةً تحت الوسادة، يُفترض بالدّمية أن تمتصّ حيرة النائم، قلقه، شكوكَه وآلامه. وحتى ديونه إن كان ثمّتَ من ديون وحملها بعيدًا جدّا.

على هذا نكونُ غواتيماليين أكثر منّا تونسيين. فقد صنعوا لنا دمى في وقتٍ وجيز. دمى صغيرة إسمها صناديقُ الانتخاب موزعة على مئات مكاتب الاقتراع. لكنّ الدمى التي أوهمونا بأنّ لها مطلق القدرة على مصّ أحزاننا فعلت بنا الأفاعيل. فقد سمّمت نومنا حتى دُمّرت في أحلامنا مساحاتٌ شاسعة من الغاباتِ الخضراء. الأشجارُ صارت تيْبس وتموتُ وماءُ المنام بات ملوّثا بالأكاذيب. أمّا الكائناتُ التي طالما تنفست من خلالنا فقد هجرت مناماتنا إلى الأبد.

(5)

«ذلك القطيعُ الحذِرُ

سوف يخرج عاجلا أم آجلا.

الدخانُ الذي أطلقته المسرّاتُ

لابدّ أن يصيبه بالعمى والجنون.

آنها سيندفع الزيفُ في الينابيع

ويشربُ الجميعُ، ملائكةً وشياطينَ، من النّبع ذاتهِ».

(6)

الحقَّ أقول لكم، حيثما تكون الثورات المغشوشة تزدهر تجارة العاج. ذلك أنّ دخان المسرّة لا يفوّت أحدًا إلاّ وأغواه بالخروج من مكْمنه. شعبٌ كامل أعمته الغواية عن ملازمة الحذر، فالماءُ على مقربةٍ والخبزُ أيضا. الحرية والكرامة...

لكنّ الدخان تبدّد في الهواء. في الأثناء، الفيلة التي تدافعت معلّقة أبصارها إلى السماء حيث غيماتُ المسرّة تمضي مبدَّدة، تنبّهت، إنّما بعد فوات الأوان، إلى كونها صارت في العراء.

فيلة كثيرة سقطت من الإعياء، وأخرى حالفها الحظّ بالوصول إلى حيث طمحت دائمًا. أمّا تلك التي طالما أثارت الرعب بنهيمها وخبط أقدامها، فقد انتهت مقلوعة الأنياب في دور ثقافةٍ مهجورةٍ واتحادات كتّاب مشبوهةٍ ونقاباتٍ مغشوشةٍ.

الحقَّ أقول لكم، هؤلاء الذين قايضوا أنيابهم بالطّعام والشّراب هم شرّ البريّة. إنما ليسوا أكثر شرّا من أولئك الذين، لقاء دنانيرَ زهيدةٍ، يحبّرون قصائد عن ثورةٍ هم أوّل العارفين كونها مغشوشة.

النائمُ وحدهُ «انزلق بنظره فوق هؤلاء جميعا مثل كلب يسرّح بنظره بعيدًا من فوق الظّهور المتلاصقة لقطيع من الغنم».

في النّهاية ما الذي يرجوه فيلٌ داجنٌ من نفسه؟ ما الذي يرجوه وطنٌ؟ ما الذي يرجوه فكرٌ؟

 

 

وظلّ التّونسيّون يلوّحون بأياديهم.

 

شفيق طارقي

عضو حركة نص

إنها ثورة الأيادي بين مصفّقة وملوحة وهذا كلّ ما في الأمر، السّارق لم تُقطع يدُه، وأما أنا فلم أكن ثوريا بما يكفي لألوّح بيدي.

لم أكن ثوريّا بالقدر الكافي لأخرج ذات جانفي من 2011 ملوّحا بيدي، كانت أمّي عشيّتها تطبخ شايا أخضر َفي نقطة من الجنوب التّونسيّ وكنت إلى جوارها أنتظر الطّبخة الثّانية، علاقتي متوتّرة بالطّبخات الأولى، فكّرت قبل يومين أن أشدّ الرّحيل إلى العاصمة، ولكنّ صروفا حالت دوني، أنصاف الثّوريّين مثلي عادة ما تنشغل أياديهم بمهمّات أقلّ درجة من فعل التّلويح، كنت مشغولا بكتابة نصوص حزينة، لم أكن في حاجة إلى قارئ، القرّاء جميعهم كانوا أيّامها مشغولين بتلويح أياديهم، الدّفء المتسرّب من حطب في الكانون كان وحده يغري يدين سمراوين وعريضتين، أنهيا منذ دقائق كتابة نصوص حزينة لقرّاء مشغولين جدّا.

حين لوّح التّونسيّون بأياديهم كان الوقت كافيا ليجهّز الرّئيس حقيبته الأخيرة، لم ينْسَ ثيابه الدّاخليّة وأحكمت زوجته إغلاقها، لم يكن الرّئيس مُغرما بكتابة يوميّاته كانت يده منذ ثلاثة وعشرين عاما مشغولة بسرقة الأحلام يودعها حساباته البنكيّة في فرنسا وسويسرا وفي المرّيخ متى لزم الأمر، كان الوقت كافيا ليغلق حاسوبه الشّخصيّ وليغيّر كلمة السّرّ خشية اختراق، شرب كأس «يلسون»، وربّما صلّى ركعتين، كان الوقت كافيا ليستخير الله، السّماء الواسعة والعريضة مثل يديّ السّمراوين لم تخيّبا حاجة في نفسه. لمّع حذاءه ومشى بخطى متّئدة إلى مدرج الطّائرة، وهو يركبها فكّر في أن يلقي نظرة أخيرة، ولكنّه عدل عن الأمر، ابتسم في وجه زوجته، وربّما أوقد سيجارة، القرّاء الّذين قضّوا ثلاثا وعشرين سنة يصفّقون للرّئيس، قرّروا فجأة أن يلوّحوا بها ذات جانفي من 2011، كانت أياديهم في الهواء تصطدم ببرودة الطّقس، فتتذكّر أنّها كثيرا ما صفّقت طيلة ثلاثة وعشرين عاما، الأيادي الّتي أحجمت عن فعل التّصفيق قليلة. أحسّت بفائض من اليتم وسط ذلك التّشابه المغرض، ولكنّها واصلت التّلويح، الرّئيس الّذي تتوجّه طائرته إلى السّعوديّة كان يطلّ برأسه. حاول مرارا إحصاء الأيادي الّتي تلوّح، ولكنّه كان يفشل في كلّ مرّة، لوّح بيديه هو أيضا، ثمّ انشغل بقراءة عناوين الجرائد، أجرى أكثر من اتّصال هاتفيّ وكان في أواخر كلّ مكالمة يلوّح بيديه، هكذا إذن حين لوّح التّونسيّون بأياديهم كان الرّئيس يدخل سماء السّعوديّة، وأمّا التّونسيّون فقد ظلّوا بعده يلوّحون بأياديهم، الشّعراء الذين كتبوا قصائدَ عشيّتها اكتشفوا أنّ خللا عروضيّا تلبّس بالوزن مازالوا منذ جانفي 2011 يحاولون تعديله ولكنّهم فشلوا في إصابة ما ابتغوا، مازالت الطّبخة الثّانيّة لم تجهز بعد ولم أستطع أنا أيضا منذ جانفي 2011، أن أفسّر ابتسامة كانت تعلو قسمات أمّي، كان الدّفء المتسرّب من الكانون يغني يديّ عن التّلويح ويغنيني عن فشلي في تفسير ابتسامة علت قسمات وجه أمّي.

حين امتثلت الحكومة الأولى واقعا متجسّدا، خرج التّونسيّون ليلوّحوا بأياديهم، ولكنّ رئيسها لم يذهب إلى السّعوديّة صُرفت له جراية تقاعد، وقرّر فجأة أن يكتب مذكّراته في جزر شرق الأرض، ولم يكفّ التّونسيّون عن التّلويح بأياديهم حصل الأمر مع الحكومة الثّانية، وتحوّل الفعل إلى عادة تونسيّة تفنّن الفوتغرافيّون في التقاطها، ولكنّ آثار التّصفيق ظلّت عالقة بخطوط الأيدي، ذات جانفي 2013، انشقّت أياد اجتذبها الحنين إلى قيعانه لم تعد مصابة بقدر التّلويح، وعليه أصبحت الأيادي التّونسيّة على حالين مصفّقة استبدّ بها الحنين، وملوّحة لا تُلوي على شيء، حين اغتالوا «بلعيد» صفّقت أياد ولوّحت أخرى، حصل الأمر نفسه حين اغتالوا «البراهمي»، وتكرّر وقوعه في رمضانيّات باردو، الرّئيس الّذي نزلت طائرته في السّعوديّة يربّي طيور كاناريّ في بيته الأنيق، وسلاحف، وأمّا ابنه فقد كُلِّف بمداعبة الثّعابين، زوجته الّتي أحكمت إغلاق حقيبته، كتبت مذكّراتها، وقرّرت أن تقضي ما تبقّى من حياتها في متابعة أفلام رومنسيّة.

إنّها ثورة الأيادي بين مصفّقة وملوّحة وهذا كلّ ما في الأمر، السّارق لم تُقْطع يدُه، وأمّا أنا فلم أكن ثوريّا بما يكفي لألوّح بيديّ ولم أكن ثوريّا بما يكفي لأتقن التّصفيق، في هذا الصّقيع الإسلامويّ تحنّ يديّ إلى طبخة ثانية في كانون أمّي، وإلى كتابة نصوص حزينة، إنّه الرّابع عشر من جانفي 2014، ولم يعد القرّاء بعْدُ، لم يَعُد الشّهداء، سأخرج عشيّة اليوم ملوّحا بعقلي!

 

 

المشهد الشعري التونسي:

حين تكون الحراب مصوبة للقلوب

 

نزار الحميدي

عضو حركة نص

 

بينما كنا نسير- أنا محدثكم الداعي لكم بالشعر أبدا وإيكاروس - في الربع الخالي - أي المشهد الشعري التونسي- تلبدت سماؤنا بأشياء ليمونية شكلاً ولونًا. لقد ملأت سماءنا غارة من المؤخّرات. لم نشعر منذ الهزة الرأسية الأولى بالرغبة في الاندساس النَّعامي في الرّمل كما فعل شعراء كثيرون. فتّشنا جيوبنا بحثا عن ولاّعتين. كاد يقتلنا حبّ أن نفحص هذه الأنابيب الغازية الطائرة. فإمّا أن نشويها شعرها وإمّا أن نفجرها. ولكن خفنا أن تكون قنابل فساء، فخشينا أن نختنق وما كان منا إلا أن رابطنا في مكاننا. أيها الفساء تفشَّ بعيدا أو لتحملك الريح كقطع السّحاب أبعد من الربع الخالي. من العيب أن يرفع مواطن رأسه الحالم فتفجعه عناوين الخيبة وكيمياء الفضلات. أيتها السماء أمطرينا بردا إن قررت مقاتلتنا، على أن لا تفتعلي مزرعة مؤخرات. رجاء. سأل إيكاروس: من علينا؟ رددت: مؤخرات فضائية. كانت فضائية. أتقصد من طيّرها؟ لكنه بدأ يركلها وقد تحول الربع الخالي مأهولا بالسكان مثل عاصمة الصين. وتبدّل المكان الذي نقف عليه ملعبَ مقذوفات، وملأ الليمون العالم. إيكاروس لم تمطره السماء ذهبا جزيل نشاطه الحركيّ الجادّ في الربع الخالي. ولم ينل مقدم بداية الخدمة.  هل عليه أن يشعر أنه في «رجيم معتوق» في ثمانينات الوطن؟ ومازلنا نركل العدوان ذا الرائحة الذكرية حتى توقّفت الغارة.

****

كان إيكاروس منتشيا كالخارج توًّا من سرير الرغبة. وكنت أحرس رأسينا من إسهال الأجواء الغادرة. كنا نشعر أن شيئا أطول منا يرمينا بأشياء مكتوبٌ عليها شهوة أن تركل. نحن لا نحتمي بأي شيء في العادة ولكن رغبنا إلى مطارحة الغارة مرحّبين. فمن شيم الإخوة الآخرين النيل من الحالة اليوسفية التي نعيش بذئابها آبارَها العميقةَ. لعل نبوءة في الطريق. رغم الرماح التي مازالت مُصوَّبة للقلوب.  قبل الغارة خرجنا على العاصفة الرملية. وأثناءَها كنا نعيش اللحظة «البارديّة»*1 بعنفها نفسه. وبالهدوء ذاته. العنف هو العنف لا فرق فيه. وهو مؤقّت كالحكومة الأقوى في تاريخ تونس الحديثة. مؤقّت كالحكومة الصمّاء كعمّتي حين تُسأل. ما زلنا نشكّ إلى الآن في هويّة الغارة. وتمنينا لو كانت مطرا حقيقيا. فيخضرّ الرمل. أو تدفن العناصر. فإذا الرّمل تراب أخضر وفيه فائدة للشعب. صاحبنا الذي زجّ به في الرديف يعرف التراب الأخضر جيدا.

****

ما أمرَّ أن تكون في الربع الخالي دون بوصلة. لست كريما دون بوصلة، لا حركة من خلفك أو أمامك... ثمت الموت، وبعد هذا ليس كرامة أن تعيش كريما لوحدك؟ حتى النّقاد: شرطة سير النصوص لن يعطوك بوصلاتهم الحقيقية. قَعْ وحْدكَ في رمل دون حاجب.

الراعي بوصلة الغنم. أمّا أن تكون نعجة وتستسلم لعصا معوجّة فستنتهي ساقطا ثم مبقورا على الحجارة الحادة. هذا شأن النعاج جميعا. غدها بيد من «يسرح»*2 بها.

أشهد أنك يا إيكاروس شاعر من الدرجة الأولى لأنك تحبّ الخدمة العامة ولا أستغرب أنك معضوض ما قبليّا وقد حقنت في الموضوع فلا تتأثر من جرح...

وإنهم لمُلاحقوك حتى دورة المياه، بُلت أم تبلْ، هذا شأنك الشخصي ولكنهم يريدون بك أن تزلّ قدمك فتدمغ الحائط. لا يحبون حتى أن تتغوط وأنت في حال:«إني لأفتح عيني حين أفتحها / على كثير ولكن لا أرى أحدا».

 أَحْبِبْ بهم من أصدقاء يفتحون عليك كتابا كاملا من الكراهية. لست وحدك طبعا.

*****

أعندك ساعة؟

(بلفْ بلفْ بلفْ )

عدلها

*****

أيّتها المحاربة الجبلية لا تكفّي عن شحذ قلمك الحبر فمن حارب هم شعبك حربا رُكونيّة زادته السلطة صكّا كرتونيا.   

الضّباع المتأخرة تترصد بقايا الفرائس متناسية عيون الصقور.

يقول لك ستيف جوبز: «لا يكون الغد لننتظره، الغد كي نبتكره». أما أحبّتنا، أعداء أنفسهم، فقد شطبتهم الأحكام الثورية الحق، الأحكام التي ليست حسابا على الماضي وإنما هي تعهد بخلق المستقبل. يا فلان إنك تمثلني!

أيتها المحاربة الجبلية الشرسة: مازالت مقابر الثوار على قمم الجبال. لم تتحرك ربْطات أعناق الدولة قيد أنملة لترمي باقات ورد ولو من البلاستيك على قبورهم هناك في أعالي الجبال حيث استشهدوا. دفنهم رفاقهم المجاهدون. وواصلوا «فلاّقة»*3. أتحداهم أن يشيروا لك بإصبع المعرفة إلى قبر واحد من هذه القبور. المقاومة شعارهم البطّال. أيتها الدولة الكرامة تبدأ بفحص الأعالي شجرة شجرة حجرا حجرا عشبة عشبة بحثا عن رميم الشهداء القدامى. الكرامة في إرادة الفعل. لا في رنين النوايا المغرورة.

أيتها المحاربة الجبلية يا زوجتي العزيزة، إنهم لا يعرفون – بعضهم - هشام المحمدي وعبد الرزاق نزار ومحمد زيد وشعراء آخرون... رحلتهم بدأت الآن ورحلتك قديمة مقبلة، رحلتك أقدم من تاريخ حفّاري القبور أما هم فحفّارو قبورهم...

****

أعزائي الكتاب، أتذكرون حمّام الصابون في القصعة؟ العيون الدامعة من أثر الصابون الأخضر؟

حصص التشمّس بعد حمام الصابون وقشعريرة اللحم بعد لفحات الهواء كنّا في تلك الأيام نترك الماء يتشمّس ونقف والحيطان أشباهَ عراةٍ. رعشات باردة خفيفة. فُوطة تتداول عليها اللّحوم المحمرّة. ذكريات القيلولة العنيفة، الرغبة الطفولية في قضاء شؤون البيت، المعارك الأولى.

مفهوم الحصان الخشبيّ: يكون راكبا على عصا فيقال له: «مبروك عليك الحصان»!

****

الغبيّ من يفهم درس الرماية خطأً:

أعلّمه الرماية كلّ يوم / فلمّا اشتدّ ساعده رماني!

الغاية من تعليم الرماية السّداد الصواب الطيب وليس العضلات المخروطية. الحكمة في «السين» السّديدة لا في «الشين».

****

هوائيّو الأحكام الذين ليسوا محقونين بالأصولية من السّهل الركوب عليهم.

****

أهلا بشرطة السير، أهلا بأحد النقاد :

لنبدأ من مقهى ميلاد، اجتمعنا على رقعة الشطرنج ومرّ الليل : كشْ! كشْ!  سقط النظام ونحن نلعب الشطرنج وعاد النظام ليقوم من جديد قومة لا سقطة بعدها. تلك أخطاء الثوار. ما زلنا نلعب الشطرنج!

****

بينما كنت أتّبع ضبابةً وقلّما رفع أحدنا رأسه إلى السماء في المدينة لأنه يخشى أن يصدمه عمود كهرباء أو سيارة. موجعة تلك الصدمة.

****

عندي نظرية بسيطة في التربية تقول إن المعلم الأول إذا استعمل ............... عليه أن يفتش عن ترضية التلميذ وإلا فإن العقاب سيجعله يكره معلميه الأوائل صغيرا وكبيرا (لأنهم يعاقبونه وينسون ترضيته) فيكبر حاقدا ويقرأ كلّ شيء في حياته بحقد. وتخسر الدولة مصاريف تدريسه!

****

المتغوّط واقفا

بغَضَ النصوصَ الشعرية للشعراء أن تبدو على صورة قصائد وكأنه يعلّمهم القطيعيّة. ألم يتوضح له اختلاف النصوص/البيانات فكل يُبين ويظهر ويوضّح ويبدي ما يريد كما يريد وهو يريد للمُبين أو يُبين كما يريد أن يُبين. كفر الرجل. يكتب في الناس وجاهة نظره أما أنا عارف زيف الوجاهة. لتقرأ له لكن لا تجالسْه مرّتين لن تسلم جرّتك ثانية.

****

 توقّيا من الجوع وهبوط منسوب الشعير يصبّ بنك الكرم الحاتمي آراءه المخاتلة في طاولة الجلسة، ينبزك أحيانا - لا بأس -، مقبول منه، تلك مسألة ديمقراطية، ويبعثك لتخدم دخانه - لا بأس - تلك مسألة خدمة للجميع  وتتوسط له قليلا. يسبّ البسطاء ويدفع الحساب وأنت بعد أن نتهض من ثمالتك... ستشعر بالقواقيز المغشوشة وبخمرة المواقف وستُكابر حتّى رأس الشهر. ثم يبدأ في رأسك: السؤال ثم ينمو حتى يشيب، لماذا ؟ لست راضيا عمّا فعلت لتنفجر فرحا مبكيا.

لا بأس ففي لحظة صيد الشعير تطلّ الفئران بأنصاف رؤوسها وبنعومة طمّاعة.

لولا أن القوادة جنس لا أدبي لا رجولي وليس طحينا وطنيا مقنعا لفضحنا اليهوذات الأسخريوطية.

 الخمرة في المشهد الشعري التونسي: مؤامرة مؤثّرة.

السبّ تحت تأثير العرائس الخُضر.

قروض البنك الرَّبويّة: القرض مقابل المواقف!

إنه البنك «الكثير» الفارغ يرشق أموالا حلالا ويجامل ويتودّد ويستعرض الكرامات ويغضب ويتكلّم بمفرده ويلوّح بيده وينادي النّادل ويحتكر الحوار. وأنت لامريد ولا محاور ولا معترض حقيقي تقنعه بفهمك.

يلبس باروكة المؤتلف ويقضم عين المختلف.

هاجم «حركة نص» بعرج في الرؤية وبمخّ ذبابة!

****

ما الذي نشأ بعد ما قِيل؟

لا ثقافة اختلاف ولا أدب عدوان قهريّ على المتحابّين في النص.

واحسرة على المتنبي : «عش عزيزا أو مت وأنت كريم» وأنت أخي في القضية أين عزتك القومية أم أنها عزة قزمية أمام عربدة الحالة ونعرات ولعلعة الأنْخاب المشوبة بالقسوة.

ما حدث مرض بالمناسبة. ومناسبة ضربة دفاعية خائبة مسبوقة برهاب الشّماتة، خوف من خيال كلبيّ، ما أشبهه بنيرون يلفت إليه مقتفي أثر النار. أعليك وعلى أعدائك؟ لا أشعر بالعداوة.

لتنصت إلى نقيق الضّفدع في حنجرة الأفعى المغصوصة.

****

ما يجمع بين التغوّط والعدوان والعار وإلصاق التّهم وترْكيك الحقيقة هو الإرادة فالتغوّط إرادي وكذلك العدوان وليس من ورائه شيء غير غير ما يلفّون ويربطون.

سأهرّب عيني حتى لا أضحك منه أنا أحلم، إذا هو كابوس يسير والحيطان، ملفوفا بالمؤامرة يتلفت وراء اليمين ووراء اليسار مصفرّ الوجه كالكلب المقذوف بالحجارة ملطوخا بالوحل. عفوا صديقي البرمائيّ الكالش أنت لم تغرس يوما شجرة ولم تدفن جثة عصفور مقتول. أنت مصنّف عندي ضمن الهاربين من الخدمة الشعبية العامة بحجة «البيرو- فكر» بين قوسين.

أليس من شيء غير التنافسية الحاقدة. هل عليك أن تنهش لحم النصّ.

لأشهد أن شخصا ما كان نخالة. سيكون المحظوظ عشاء البهائم. إنها مجاز الخبز.

حدثنا عن عصائر النصّ وعن قلب تحت الضلوع الهشة أم أن القلب عندك مجرورة نفايات، قل شيئا جميلا، أطلق زغرودة مثلا، أَحِبَّ نفسك قليلا وقِهَا شرَّ لسانك الخارق. 

تقول الشاعرة الإسبانية إميليا كوراس:

«منديل أزرقُ يلوّح في الريح

تراه ترحاب

أم وداع

وحدك تعرف من حركتك»

****

ماذا لو سلمنا بعض الشعراء التونسيين الآن مقاليد الحكم في تونس؟ منذ عامين قال العبسيّ (*4 هذا الكلامَ متندّرا. هو يدرك أنهم سيتحولون إلى ميناتورات نصف دموية ونصف كباش حد أنصافهم السفلى. آنذاك وسم العبسيّ أحدَهم ولم أجد لنفسي وَزارة، لست من المفكرين في وزارة أو حكم غير أني سأكون من المصفقين لهم، أتصور ذلك. لقد حرَمَهُم السلطةَ لأنه أدرك أنهم سيكونون أسوأ مما عليه «النهضة» الآن ولن ينهض أي شيء ولمّا كانوا يرون أنفسهم سلاطين كنت أرى أن لا أحد منهم ممسك بمقاليد عِلْم واحد. كلهم شعراء وهذا ضرر: سيقشّرون جلْد الدولة وستتحول البارات والمقاهي الرخيصة إلى غرف تبنيج الحقيقة بمضادّات سُمّيّة. وسيسلطون أحكامهم العرفية. بالنسبة إليّ أنا ضدّهم. سأقترح إيكاروس أمينا لوزارة الأوقاف. لأنني أريد له أن يؤمن مستقبل الأشجار والطيور ومؤسسات الجمال ويحوّل كل شيء جميل وقفا مقدّسا على الشعب ولن يقبلوا بذلك لأنهم يكرهون ذلك لأن  العنب سيُمنع عنهم. وسَمهم العبسي، لأنه كان بالسّطلة بعد الثورة ولكنه الآن لا يشعر بها لأنه أحسّ بأن النكبة في النخبة.

أنا مثلا جلست مرة على كرسيّ دوّار فأصبت بسَطَل السّلطة. لن أوافق أبدا على التحكم بمصير شعب كامل. لا تعجبني أنخاب الانتصارات الرجعية.

****

تتذكرون القتل على الهوية ومعاقبة الطالب النقابي؟ حدث ذلك في الجامعة التونسية بين «الطّروف» السياسية وفي ثورتهم على النظام... حدث أمر مشابه مع أمير، ففي طفرة الهرج وتعالي الأصوات. طالب اللغة العربية الخارج من درس الجناس: «أمير»... يتعرّض لعملية قنص أمني تداخلت فيه أصوات العربية : «ضمير... أمير» خلل سمعي على درج الضاد العربية تسبب لأمير في دمار ظهره بالعصيّ في حافلة صفراء مختارية موضوعة لصيد أبطال شارع 9 أفريل. هبط بطلنا معلولا ومكسَّرا بعد أن تداولت عليه العصيّ. دون أن يتأوّه. هبط الشارعَ. وجبر ضرره معنويا وهو المقاتل الشرس دفع عن رفيقه الضّرر. أسرد هذه الحادثة لأسألكم. ماذا عن الشعراء؟

مشهدنا الشعري محكوم بالتبوّل السريع. ولو سقط شاعر لبال عليه الشعراء ولغمروه شماتة لذلك فليتقدّس الشعراء حقّا والكتّاب النقابيون حقا. كان النقابيون ذوو الهوية النضالية - الشعرية الحق، إلى الآن يقدمون جلودَهم. أما بعض شعرائنا فهم يحبون موقع الجلاّد. سحبوا تضحياتهم عند أجمل المنعطفات. ولم يندفعوا لإثارة خدش تاريخيّ واحد على أجسادهم الرخوة.  تقدَّس جلدُك يا أمير الهمامي والخزي للشّعراء البوّالين!

****

تحبّ محاكمة النصّ، تكره أن يحلم الطيبون

تهدّم بيتا من الطين والعشب

والتمتمات البريئة

وحدك تهدم

أما البناة فهم آخرون!

* نسبة إلى اعتصام الرحيل بباردو.

* يخرجها للرّعْي.

* المحاربون في الجبال أيام الاستعمار الفرنسي الغاشم.

* نسبة إلى الشاعر التونسي صابر العبسي.

 

 

لماذا يحقد التونسي على المثقف؟

  السيد التوي

عضو حركة نص

 

تمهيد
يتناول هذا المقال بالدّرس موضوعا قديما جديدا وهو نظرة المجتمع  إلى المثقف، كما يتنزل في إطار الجدل  الذي أمسى حاضرا في المشهد السياسي في تونس وفي البلدان العربية عشية الانتفاضات الشعبيّة وما آلت إليه من تغيير في هرم السلطة وفي بعض ملامح المجتمع. ويدور هذا الجدل حول الأنموذج المجتمعي الذي يجب أن َتكون عليه مجتمعات الانتفاضة بعد أن تخلّصت حسب ما يعتقد البعض من سيطرة من كرّسوا بالقوة النّموذج القديم، والواقع أن الموضوع قيْد الدرس يقتضي تدبُّر مسألتين على غاية من الأهمّية : أولاهما تتعلّق بضبط تعريفٍ لكلمة المثقف والثانية تتصل بتحديد العلاقة بين المثقف والمجتمع.

إن أوّل ما يجب الانتباه إليه في فهم هذا الموضوع هو النظرة الدونية التي أضحى يكنّها المجتمع العربي للمثقف. وقد استغلت بعض الأحزاب السياسية اليمينية المتلبّسة بالدّين استعارة ووسيلة لا منهجا وتصورا في إطار حملتها التعبويّة هذه النظرة، لأجل إقصاء خصومها السياسيين ممّن يدعون النضال من موقع الطبقة المسحوقة وفي إطارها أو ممّن يحملون مشروعا يزعمون كونه حداثيّا مستنيرا.

على أنّ الإشكال الذي يجب فكّ جوانب التّعقيد فيه هو: هل يُعتبر المثقّف الذي يشار إليه بالبنان ويُوصَفُ بكونه يحمل خطابا لا صلة له بالجماهير مثقّفا فعلا ؟ ومن هو المثقف الحقيقي ؟

تعريف المثقف

يمكن أن نعرف المثقّف، من خلال ثلاث منطلقات : الأوّل أنثروبولوجيّ ويرتبط رأسا بفرضية وقع الاستدلال على صحّتها وهي أنّ الثقافة نقيض للطّبيعة، وبالتّالي يكون كلّ إنسان مثقفا بشكل أو بآخر، وليس خفيّا عن الدّارس الحصيف ما عليه هذا المنطلق من تعميم يتعذّر معه محاصرة مفهوم المثقّف في إطار السّياق الذي نتحدّث فيه.

أمّا المنطلق الثاني فيتّصل بعلم الاجتماع، ويحدّد  أصحابه مفهوم الثّقافة باعتبارها الأخذ من كلّ شيء بطرف أي مجموع الخبرات المعرفية والمهاريّة والسلوكيّة التي تجعل الإنسان ناجعا على مستوى فرديّ وجماعيّ، إلاّ أن هذا المنطلق على ما فيه من تخصيص يبقى رهين تصوّر منفعيّ ضيّق يجعل المثقف يتعامل مع الواقع بما لديه من كفاءات دون سعي إلى تغييره.

ويصطبغ ثالث المنطلقات بالتاريخ، وهي صبغة تمكّن من تعريف المثقف من جهة علاقته بالواقع وفعله فيه، فالمثقف الحقيقي هو الذي يمتلك من الأدوات ما به يفهم الواقع وبناه المختلفة ومن ثمّتَ الوقوف على مآزقه، ويخوّل له هذا الاقتدار الاقتراب من الحلول الكفيلة بتجاوز هذه المآزق، ويصطفّ المثقف بهذا المعنى إلى جانب الطبقات المسحوقة وينخرط في النضال في دائرتها، لأن التمايز الطبقي المغلف بالأبعاد الميتافيزقيّة أو النظريّات الطبيعية هو المعضلة، بحلِّها تُحَلّ جميع مشاكل الأغلبية المستضعفة.

ولعلّ أهمّ الأدوات التي على المثقّف امتلاكها هو الوعي التاريخي الجدلي، لأنه السبيل الأكثر نجاعة لتفهم مأساة المقهورين والمظلومين وخط النهج المفضي إلى تحررهم.

غير أن تعريف المثقف من هذا المنطلق لا يلغي المنطلقات الأخرى بل يحتويها، مؤكدا على وعي المثقف والتزامه، وليس من الفائدة القليلة الإشارة إلاّ أن هاتين الخصلتين قد تكونان في فضاءات متعدّدة: العلم، الفن، السياسة.

ومن الواضح أنّ المرجعية التي يعكسها هذا التعريف هي المرجعية الماركسية بمختلف تلويناتها، وتشكّلاتها. ولا شك في أن ما قدمناه من تعريفات هو من قبيل الإشارات التي صغناها بطريقة تستجيب لغايتنا من هذا المقال.

حقد التونسيّ على «المثقف»

قد يكون من قبيل الاستعارة الحديث عن حقد يحمله التونسي تجاه المثقف، لكنه من الثابت التنصيص على القطيعة بينهما فالمثقف في نظر التونسي شخص يقول كلاما بعيدا عن همومه ومشاغله وهو إلى جانب ذلك ينتمي إلى الطبقة المحظوظة ويتشدق بدفاعه عن حقوق الإنسان وانتصاره للكادحين، وله صورة أخرى لا تقلّ خطورة عمّا قبلها فهو ملحد متنكر للهوية ينتهي نضاله بخروجه من الحانة أو من قاعة السينما أو التياترو.

ويتّصف المثقف في عين التونسي بصفات أخرى تجعله بعيدا عن اتّخاذه قدوة فهو فاشل اجتماعيا، لا تعكس مقولاته المبدئية سلوكه.

إنّها صورة تدور حول محورين: أوّلهما يقوم على اعتبار المثقف منسلخا عن الطبقات المسحوقة من حيث الخطاب والسلوك. ثانيهما ينهض على النظر إلى المثقف على خلفيّة كونه شخصيّة مأزومة فاشلة اجتماعيا لا ترتقي إلى أن تكون مثالا يحتذى. وقد ألصقت بالمثقفين صفات أكثر شناعة فهو يؤمن بالمثلية وماسوني، ومن أزلام النّظام السابق، وفرنكفوني، وقد صار البعض مبدعا في نحت هذه التهم وصارت مجالا للتنافس والتّباري.

ولعلّ ما يبيّن حقيقة هذه النظرة الدّونية التي يحملها التونسي عن المثقف تشنجه في كل مرة يحاول فيه هؤلاء تقديم تصوّرهم في مسألة من مسائل الشأن العام سياسيا أو اجتماعيا أو فنيا، ويمكن أن نعتبر ما تعرّض إليه الكثير من السياسيين التقدميين والفنانين والمفكرين من مضايقات بلغت حد العنف، إضافة إلى العنف الرّمزي والمادّي الذي يمارس على أنصار الفكر الحرّ من إقصاء دليلا على ما تقدم.

والواقع أن هذا الموقف من المثقف ليس واحدا بين مختلف الشرائح وأنه قد يمارس على غير التقدمين، إضافة إلى كونه لا يظهر بوضوح إلا في بعض الوضعيّات المشحونة بالصراع السياسي. مثل هذا القول يحملنا على الإجابة عن السؤال الذي سبق أن طرحناه في مُفتتح المقال. هل المثقف الذي يزدريه التونسي مثقف فعلا؟

إذا نظرنا إلى المثقف من حيث قدرته على قراءة الواقع وتغييره لصالح الطبقة الكادحة وجماهير المهمّشين فإنّنا لا يمكن أن نصنّف من يتبنّون الأطروحات الليبرالية ومختلف التيارات اليسارية الإصلاحية بمثقفي الجماهير لأنهم يقفون في الصفّ المعادي لها ويسيرون في ذيل الانتهازيين وذلك رغم المجهود التوفيقي الذي كثيرا ما يعللونه بما هو مفروض عالميّا وقطريا، كذلك لا يمكن أن ننعت من يتبنون الفكر اليساري الراديكالي بمثقفي الجماهير لأنهم لو كانوا كذلك لتمكنوا من إيجاد الأدوات الكفيلة من الاقتراب منه ولَتَوَصّلُوا إلى معادلة تجمع بين الأهداف التكتيكية والاستراتيجية لطمأنة عموم المستضعفين أن مشروعهم إنما يهدف إلى تحررهم.

أمّا إذا تعرضنا إلى من ينتسبون إلى الثقافة شكلا فالمسألة تصبح أكثر وضوحا، فهل يمكن أن نعتبر كل من يهاجم الفكر الديني مثقفا وهل نعتبر كذلك من يلبس قبعة، ويطيل شعره، ويرتاد الحانات ويتأبط كتابا في كل وقت وحين، ويتمتم بعض الكلمات بالفرنسية، أو من يختزل أطروحات لا يكفي العمر مهما طال درسها في بعض الشعارات المكرورة التي فقدت من فرط استهلاكها مضمونها.

إنّ التونسيين لم يزدروا مثقفين عضويين يتحركون في صفوفهم ثابتة أقدامهم في أرضية نظرية صلبة. إن التونسيين لم ينفروا مثقفين مكنتهم ثقافتهم من أن يكونوا دون خداع قدوة لهم. إن التونسيين لم يرفضوا مثقفين يراعون ما هم عليه من سوء فهم للدين والدنيا، إن التونسيين لم ينكروا مثقفين هم زمن الأزمة أول من يتقدم وآخر من يتراجع، لقد لفظ التونسيون مثقفين لا يتقنون إلا اتهامه بالجهل والتخلف، أو المزايدة عليه بالنضال.

إنّه لمن المعقول دائما أن يدير التونسي ظهره لمن يختزلون مبادئهم في لباس أو سلوك معين، لمن ينفق في اليوم مقدار دخله الشهري في نزواته ثم يرفع عقيرته مناديا بالعدالة الاجتماعية، أو من يعلق شماعة فشله على ما يحمله من مبادئ.

إلاّ أنّ ما رددناه لا يعني عدم توفّر مثقفين يتحركون في صلب المضطهدين ومن أجلهم وفق تصورات ثاقبة، إنهم متوفّرون لكنهم لم يكوّنوا نواة قادرة على الفعل في الواقع.

إنهم موزعون على أحزاب لو تخلّت عن الأبعاد الذاتية والتشويش النظري التي هي عليه واتّحدت لانتقلت من موقع التبرير إلى مواقع التغيير. وأقصد هنا أحزاب اليسار الراديكالي بتفريعاته، واتحادها ليس مجرد مقولة مثالية تستند إلى فهم بكائيّ للواقع وإنما هو مطمح ينبني على قراءة نقدية معمقة لمختلف الأطروحات من منظور ثوري يفضي إلى تصور واحد لتغيير الواقع.  

هكذا نتبيّن أنّ المثقف الذي ينظر إليه التونسي بحقد ليس مثقفا عضويّا إنما هو مثقف قاصر في فعله وانفعاله ، أما المثقفون العضويون فهم على تفرقهم ما انفكوا يفتكون نظرة احترام من التونسي رغم كل محاولات التشويه من القوى الرجعية.

دور القوى الرّجعيّة في بلورة الحقد التونسيّ على المثقف

لقد ساهمت القوى الرجعية في تونس وفي الوطن العربي منذ الاستعمار في تشويه الفكر الحر ونخص بالذكر الفكر اليساري الراديكالي للدفاع عن مصالحها، وتأبيد الواقع الذي ترتضيه لنفسها، لقد اُتِّهِمَ أصحابه بالكفر والمروق، وفي أحسن الحالات بإفساد العقيدة، ألم تتهم فرنسا الزيتونيين المجدّدين بالبدع مؤيدة التيار المحافظ؟ أما بورقيبة فقد حصر الشيوعية في الإلحاد لصالح رؤية اشتراكية ممسوخة، ولقد ورث بن على هذه الفلسفة وتفنن في نحت ملامحها واختزل التيارات اليسارية الراديكالية في كليشيهات أبعدتهم عن الجماهير فهم ملاحدة وروّاد صالونات وخطابهم ملغز بل هو طلسم يصعب فك شفرته، ثم بعد ذلك وفي فجر الانتفاضة الشعبية للشعب التونسي نهجت التيارات الإسلامية السَّمْت نفسه مدعمة بإرث من التفكير يتخلل تكتيكها السياسي اعتمدته عبر صراعها الطويل مع الفكر الحر، إننا نراها اليوم تحول بكياسة عجيبة مجال الصراع من الاقتصاد والسياسة إلى مجال العقيدة وما يلحق بها من «دوغما» الإقصاء والرفض. وقد نجحت هذه التيارات نجاحا باهرا فزادت من غربة المثقفين، وصار النضال ضدها مسألة عسيرة جدا.

وقد عوّلت مختلف الجهات المعادية للتيارات الماركسية الثورية منذ الاستعمار إلى الآن على المكوّن العاطفي للجماهير وما ينطوي عليه من حنين إلى ماض يعوّض انكسارات الحاضر وخيباته، كما اتخذت من غياب الحسّ النقدي في صفوف الكادحين لتصوغ تصورا «ميتا - تاريخيّا» للتّراث، وتمكنت تدريجيا من التأسيس لمجموعة من «البراديغمات» تستجيب لمطامحها في احتكار حقيقة قراءة النّص وتأويله وشرعية توظيف التراث والاستفادة منه، ويمثل «براديغما» الهُويّة والشّريعة عماد هذا المسلك في التّضليل ومخادعة الجماهير.

ويتأكد هذا المنطق القائم على احتقار عموم المستضعفين في ظل الجهل والأمية، وليس بخفي أن أغلب التونسيين يعانون من هاتين الآفتين، وحتى المتعلم منهم هو ضحية نظام تعليميّ درّبه على كلّ شيء إلاّ على الفكر النّقدي، ولم يعلّمه شيئا قدر تقديسه لغير المقدّس. لذلك لاغرْو إن ألفيْنا رفضا للفكر الحر في هذه الأوساط.

جملة الأمر إن حقد التونسي على المثقف يعود إلى عوامل متنوعة لعلها الإرث الذي كرسه ومازال يكرّسه أئمة الرجعية بشقيها الليبرالي الإسلامي والليبالي الحداثيّ إن صحّ التعبير.

خاتمة

جملة الأمر أن المثقف الذي يحقد عليه المواطن التونسي لا يستحق هذه الصفة لأنه على مسافة من الجماهي، و لا يحسن التّواصل معها ولا يتقن فنّيات النضال في صفوفها، أما المثقف العضوي  فهو على ندرته يعيش مأساة تشتت الجهود حتى أن صوته يضيع في زحمة الأصوات، كما أنه يبذل مجهودا خرافيا للاقتراب من الجماهير لكن مجهوده يذهب أدراج الرياح في ظل الحملات الدعائية المضللة. ويعود هذا الوضع المأسوي إلى ثقافة أصلها الاستعمار ووكلاؤه لضرب أعدائه.

وحتى إن وسعنا دائرة مفهوم المثقف العضوي ليشمل كل من ينخرط في روح العصر مؤمنا بقيم الحداثة فإننا لا نستطيع الابتعاد كثيرا عن المنطق الذي اعتمدناه في التحليل.

إلاّ أنّ كلّ هذه الصّعوبات التي تعترض المثقفين وغيره من مناصري الفكر الحر لا يجب أن يثنينا على مواصلة النضال لأن المعركة مع الرجعية بمختلف تنويعاتها طويلة جدا وما يبدو اليوم مفروضا وقسريا ولا مناص منه يكون في المستقبل سهل الاستئصال، ومن ثمة ما على قصيري النفس إلا أن ينسحبوا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

• نقصد بالتونسي كل من ينتمي طبقيّا إلى الكادحين والمُفقّرين وقد توسّعت هذه الطبقة في العشرين سنة الأخيرة لتشمل ما كان يسمى بالطبقة الوسطى. ولا يعني ذلك أن من لا ينتمي إلى هذه الطبقة ليس تونسيا. لقد اخترنا هذه الكلمة على سبيل التعميم بُغية الإيضاح.

• ضيق المجال لم يسمح  بدرس عديد المصطلحات والأفكار.

 

 

اركض يا رفيق فالعالم القديم يركض وراءك

 

صلاح بن عيّاد

عضو حركة نص

كلّ الأنظمة سياسيّة كانت أو ثقافية أو غيرها تصبح قديمة هكذا بحكم الزمن الذي ولا حتّى يجلس لبعض الرّاحة مهما كان الظلّ مغريا إلا الأنظمة العربية الخالدة التي تجدد في كلّ مرة ماكياجها وتغيّر في كلّ مرة اسمها وتاريخ ميلادها.

صبيحة الانتصار المزعوم للثورة التونسيّة أي يوم الخامس عشر من جانفي (يناير) خلت أني سألقى نفسا جديدا وأصواتا جديدة تنبعث من ديار الجيران كما اعتقدت أن جارتي البدينة ذات الرداء الأسود الخالد سوف لن تلقي بفضلات بيتها أمام باب بيتي إيمانا بالثورة. جارتي هي ذات جارتي وبعد أن كانت تلقي أكياسها الوقحة أمام بابي خلسة فقد أصبحت تلقيها متبخترة ناظرة إلى وجهي المطل من الشبّاك بوقاحة ناقدة «شباب توّا ذوي السراويل المتملصة»!

حتى سكان الوزارات الجدد لم يتكلفوا عناء طلاء الأبواب بألوان أخرى قد تعطي للعيون مدى آخر. هي ذات البدلات وذات الأجساد التونسيّة المفعمة بغلال الوزارة الحمراء. هي ذات الحافلات الصفراء بذات الكسور وبذات رعشات الأبواب المكسرة بذات نفس الموظفين الصارخين «ما أكثركم»!

صاحب الكشك الكائن بباب العسل تفطن إلى لعبة فقد طلى ما كان بنفسجيّا بالأزرق ووضع آيات من القرآن الحكيم بدل صورة الزوجين بن علي وما ملكت أيمانهما وعلى مسحة «الفتوّة» التي كانت على وجهه فعلت السجادة فعلها على جبينه.

قد ترى اليوم أن اللون الأزرق بدأ يتقشر عن لون بنفسجي وفي مواضع أخرى يختلط ذاك بذاك. كما قد يصدر عن صاحب الكشك الحامل لأثر الاحتكاك على السجادة لكنة الفتوّة القديمة!

أطردنا «بن علي» فجاء «ابن أبي علي» هكذا كما يحلو للتراث العربي أن يرتب الإسم وَفق الموضة القديمة!

على المسارح التي ورغم اختفاء الصورة التي كانت ديكور كل شيء فإن لغة تصعد الخشبة، لغة استفاقت بعد نومة طويلة وجاءت غير عابئة بعملة المدينة الجديدة ولا بذوق المتلقي ولا بما حدث في العالم ولا بكل من استشهد ماديا ومعنويا من أجل أن يرى على تلك الخشبة مستقبلا أكثر ابتساما ولا يخضع إلى مادة الإملاء!

إنها الإملاء ما يربط هذه الأنظمة بالمواطن كالعادة العائدة إلى قرون طويلة، إملاء تسلّط عليه كما تسلط على طفل لا يحسن الكتابة وكثير الأخطاء وهي الإملاء أيضا ما يربط المثقف المكرّس أو المصاب بجنون العظمة ـ وما أكثرهم ـ بالآخرين الحائرين الذين لا يجدون حلاّ لأسئلة امتحاناتهم اليومية الكثيرة.

صباح الخامس عشر من جانفي (يناير) شربت قهوتي متأملا ما قال «فيليب فال» الكاتب الساخر الفرنسي ولم أصدّقه لخلل في الحلم: «ما الذي حدث بالضبط حتّى نرتقي من طور المحارة إلى مرتبة القردة العليا للإجابة يكفي أن نطلع على نظرية التطور التي مازالت ترفضها رخوياتنا إلى اليوم»...وعليه فإن الأصوليّ (من أتباع العالم القديم) مجرّد صدفة (لم ترتق بعد إلى مرتبة القردة). هكذا هي عادات العالم القديم، عادات غير مصدّقة للجديد.

نعم نحن لم نرتق. وأقدم للكاتب المذكور اعتذاراتي الصادقة.

المسرحيّات الكوميدية قديمة بشخصيّاتها (من انتخابات وشتائم الصحف وخدوش في قلب الاقتصاد وكل الفخاخ المنصوبة...) لكنها مسرحية بإخراج جديد وتحت أضواء أقلّ. يحدث اليوم أن تدور هذه المسرحيات تحت جُنح ظلام قاتم. مسرحيّات على اليمين تنخفض فيها حدود الشفتين في التلقي والضحك وأخرى على اليسار تنفلق فيها الشفاه كبراعم هاربة.

مسرحيات على اليسار بطلاها عاشقان يقترفان قبلة عميقة رغم البوليس والغازات المسيلة للدموع عملا بالقول الثوري القديم (أيضا) «قبّل حبيبتك دون أن تلقي سلاحك».

لا اليمين ولا اليسار بممثليه الكوميديين والتراجيديين قد تمكنوا من التملص من عالمهم القديم وعليه فإن سؤالنا: «هل يستطيعون يمينا ويسارا وما بينهما فهم ميل العالم أن يكون جديدا؟ نزعتُه المضيّ إلى الأمام..؟»

وبما أن هذا العالم الجديد لا يوجد فإن الشابّ منهم يخرج ليتدبر شؤون «فايسبوكه» كأن يلتقط صورة لوجهه قرب نافورة من أجل خصوبته وأن  يقفز قرب سرب البطّ كرصيد جانبي للجنون.

الآن سيكون علينا إذن الجلوس جميعا عند شرفة وأن نعدّ شعارات جديدة للثورات القادمة وأن نحرص على عدم الوقوع في جبّ «إذا الشعب يوما أراد الحياة» لأن الحياة من تريدنا أكثر.

لا بدّ أن نريد شيئا آخر أهمّ...كأن «إذا الشعب يوما أراد الطيران»، «إذا الشعب يوما أراد السّعادة»...

أن نوضّب المظاهرات أيضا توضيبا آخر، أن لا تكون هناك صفوف خلفية أن لا يكون هناك سعال وقلب طارق فوق العادة وأن نكون كاملي الفيتامينات والبروتينات وكل ما يلزم السعادة أن نجابه الغازات بالقهقهات وأن نكون على قناعة أنّ امرأة عارية لا يمكن أن تسيء إلى أحد، وأن نحمل الخصوبة شعارا من الشعارات: نعم سنتوالد من هذه الرّحم، نعم «الشعب يريد أن يطير!» «إذا الشعب يوما أراد أن يسعد»!

أن لا نترك الوطن ـ تماما كما الأدوية ـ في متناول الشيوخ. أن لا نكتب كثيرا على الحيطان فطالما قلنا إن للحيطان آذان! وربّما التفكير في إسقاط الحيطان المستقرة في الأذن كما يقول أحد شعارات إحدى الثورات الأوروبية.

 أن لا نترك الأطفال يخلطون بين الألوان بما في ذلك بين الأحمر والوردي.. أتباع اللون الوردي يلتحقون بركب اللّون الأحمر ببعض الثقوب في الأنف والحاجبين.

أن لا ننسى حرف التّضعيف فوق ثاء الثّورة حتى لا تتناقص نقاط الثاء إلى تاء أو نون. أن لا نركض وراء هدف، تبّا لأهداف الثورة» نحن نريد الثورة دون حواجز، الثورة كما هي! أن لا نخطئ في رسم الهمزة في الأخبار العاجلة خاصّة تلك الأخبار المتعلقة بهمزة المرأة الواقفة!

أن نترك مجالا للسّرياليّة أن تحلّ المشاكل الرّياليّة (الواقعيّة) وأن نحترم مختلف استخدامات اللغة التي تختلف كثيرا عن العلكة طويلة الأمد. تسقط كلمات مثل «المرحلة الانتقالية، المسار الانتقالي، الربيع العربي، عنق الزجاجة...» يسقط المتراقصون فوق الأزمات الواقعية بكلام بارد وكل هذه «العلكات» و«الشوينغومات»...يسقط هذا القاموس التافه ـ الكريه الذي لا يختلف كثيرا عن «البانادول» الموجّه إلى حلّ مشكلة ضرس مثقوب!

علما أنّ كلمة «السّعادة» هي كلمة تنام من قرون في متوسّط القاموس وعادة ما تتطلب ثورة اصطلاحيه كأن نتعامل معها على أنها كلمة جديدة ولم تُستخدم بعد.

فمثلا: اضحك أيها التونسي ولا تفكّر فيما تقوله الجدّات متناقصات الأسنان وثقيلات اللسان «اللهم اعطنا خير ها الضّحكة!»، اضحك ولا تهتمّ بشفتيْ الجمل الضّاحك لأول مرّة، لتنفلقا! قل «أنا» أيّها التونسي دون التخفيض منها بـ«أعوذ بالله من كلمة أنا»! لتكبر أيها التونسي ولا يهمّك فليس عليك أن تفكّر في أنه «لا يكبر في داره إلا القرع (اليقطين)»..فأين ستكبر إن لم يكن في دارك؟ وماذا لو كنت «يقطينا» وكبرت!؟ّّ لتسقط الأمثال الشعبية التي جاءت تحت تأثيرات استعماريّة!

(نترك المجال هنا لإخواننا العرب أن يضعوا جنسياتهم القطرية بدل الجنسية التونسية).

قد ينبغي أن نبدأ بتلميع المرآة من أجل هذه «السّعادة»، قد ينبغي علينا أن نطالب الدولة بنصيبنا منها، أن يبدأ الدستور في فصله الأول بتعريف السعادة والتكفّل بتوفيرها. كأن نقول «تونس دولة كل ما عليها فعله هو السعي إلى اسعاد متساكنيه والمقيمين فيه وقتيا وحتى العابرين»...هل السعادة بنت النقود؟ بنت المغازات المزيّنة، بنت تربية الآباء لأبنائهم؟ بنت الخيال؟ هي بنت كلّ ذلك ربما لكنها أيضا ستبدو دون أصل كبنت لا شرعيّة طالما أنها كلمة جديدة،  إنها تولد في كل لحظة.

إنها الثورة، ولهذا فلا يمكن لها أن تكون بنت العالم القديم فاركض أيها الرّفيق. اركض خلف أشيائك الشخصية بما في ذلك سعادتك. اركض وراء وصولك. اركض من أجل ألف شهوة بما في ذلك الوطن الشهيّ. اركض فالعالم القديم بتعاسته يركض وراءك!

 

«حدود الحريم»

من الدّيكور إلى عروس الشّمع المحترقة

 

أمامة الزاير:

«عضو نقابة كتاب تونس وعضو حركة نصّ»

 

قد نبدو لوهلة متشائمين كثيرا مما يحدث في أوطاننا. قد نبدو سرياليين ونحن نفتّش في كلّ جهات الأرض عن سبب واحد لنضحك ملء قلوبنا الصغيرة. قد نبدو حالة من الرومنطيقا ونحن نكدّ يوميّا في اتجاه رفض كلّ ما قد يهدّد كينونتنا أو يضعها مرمى النار والحجر، أو في اتّجاه الغياب والتهميش والإقالة القسريّة من العالم ومن الحياة وتجميد الأفكار والعودة بالتاريخ إلى هرطقات رجال الدّين يلوّحون بألواحهم المقدّسة ويتهدّدون ويعدون بالجحيم والجنّة يوزّعونها علينا مثل حلوى العيد.

قد نبدو عبثيّين ونحن نرفض المتاجرة بأحلامنا وبدم كلّ الذين غادروا مشيئة القطيع وانطلقوا في رحلة بحث شاقّة عن الإنسان تمجيدا له ولفعله ولحلمه بدءًا بقاسم أمين والطاهر الحداد وغيرهما.

قد نبدو شكاكين، نتساءل ثم نتساءل ثم نتساءل شوقا إلى المعنى والحريّة الحمراء. قد لا نكون خيرين جدا لعلمنا بأنّ العنف القائم على أساس الجنس استمدّ مشروعيته من قراءة مغلوطة للمقدّس.

«إنّ العنف هو الواقعة الأولى ومحور نسق المقدّس ونظامه»(1) ينبني أساسا على الإقصاء و»إنكار للآخر باعتباره قيمة مماثلة للأنا،  إنه استبعاد للآخر من مجال الحياة ومن مجال الفعل ومن مجال القول....»(2).

ولا يمكننا أن نفهم هذا العنف الموجّه ضد المرأة بعزله عن سياقه التاريخي والدينيّ، لا يمكننا تفكيكه وإعادة قراءته بغضّ النظر عن رصد تفاصيل الانتهاك الرمزيّ للمرأة في مجتمعاتنا العربية ومجتمعنا التونسي تحديدا قبل 14 جانفي وبعده باعتباره تحوّلا جذريّا في مسار منجزات الدولة الحديثة.

1/المرأة التونسيّة قبل 14 جانفي 2011 : أوهام الديكور

تبجّح النظام السابق لبن علي بأنه ضمن امتيازات عديدة للمرأة التونسية  وأنه حمل مشروعا تحديثيا يقوم في جوهره على تحقيق مطلب المساواة التامة والفعلية بين المرأة و الرجل، وعلى النهوض بدورها في المجتمع التونسي.

 حقوق كثيرة زعم هذا النظام أنه كفلها لنساء تونس من خلال الإلحاح على التمسّك بمجلّة الأحوال الشخصيّة.. وروّج لذلك لا فقط خارج البلاد، وإنما أراد ترسيخ هذه الفكرة في كلّ الأوساط التونسية.. قوانين شكلية لا يتم تطبيقها عادة وانتهاكات تمارس يوميا ضد المرأة نفسها وسخرية منها في كل المجالات..

 ألم تكن أداةً استعملها النظام الدكتاتوري لشرْعنة دفاعه عن حقوق الإنسان أمام العالم فيما كانت المرأة التونسية  تتعرّض إلى أشكال متنوعة من الانتهاكات ضد كيانها الإنساني؟

فقد رفض النظام السابق من جهة الإمضاءَ على اتفاقيات دولية تكفل حقوق النساء وتحفّظ على بنود كثيرة من عديد الاتفاقيات... وصوّر نفسه من جهة أخرى راعيا رسميّا لحقوق المرأة.

وكانت المرأة المثقّفة في الواجهة تماما، إمّا مرضيّ عنها في دواليب الدولة، تحمل حقائب الوزارة أو مسؤوليّة رئاسة اتحاد الكتاب وهي الصحافية والفنانة والسياسيّة.. واجهة لا غير، منخرطة فيما يرسم لها من دوائر، وردة بلاستيكيّة في المحافل الرسميّة وعلى موائد السلطان. وإمّا نراها في السّاحات تعبّر عن رأيها دون خوف، تكتب فتُمنع مقالاتها، تُحاصر سياسيّا وتقمع اجتماعيّاذ...

ألسنا في مجتمع عربيّ اسلاميّ ادّعى نظامُه الحداثةَ؟

لقد مُورس القمع والعنف على أساس الجنس في تونس قبل 14  بطرق ملثّمة أو مفضوحة بالسجن والتهديد والتشويه وعرقلة كلّ مسار ثوريّ تقدميّ يطمح حقّا لتحقيق الحريّة والمساواة في مجتمع شبه تقليديّ يرفض أن يعلو فيه صوت المرأة العورة.

وكان المشهد الحقوقيّ في تونس غائما لا يصحّ فيه إلاّ ما قاله أدونيس:

«دخان يتنكّس

يتحامل على الهواء

لا يقدر أن ينتهي لا يقدر أن يبدأ

البحر يرفض البحر

الصّحراء تنفي الصّحراء

وللشّمس أجفان من شمع»(3)

2/ المرأة التونسية بعد 14 جانفي: عروس الشّمع

«لست شيئا آخر غير حياتك»(4)، هذا ما اعتقدناه لوهلة في حراك ثوريّ هائل بعد سقوط النّظام.. آمال كثيرة وأحلام تشاطرنها انكسرت عند المنعطف الأوّل.

لقد تحدّث أغلب الناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة بالخصوص عن تخوفهم وقلقهم من إمكانية الارتداد عن المكتسبات الحداثيّة التي ناضلت من أجلها المرأة التونسية وعن القوانين التي أقرّها المشرّع التونسي وإن تحفظوا على أشكال تطبيقها في الواقع.

 كان التهديد صارخا من قوى الشدّ إلى الخلف والرجعيّة الظلاميّة التي استندت إلى فهم مغلوط للنص الديني. إذ أثبتت الإحصائيات الأخيرة التي قدمتها بعض المنظمات المهتمّة بالدفاع عن حقوق المرأة مثل الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات تزايد نسبة العنف ضد المرأة بمختلف أشكاله وتنوع مظاهر التمييز التي تمارس ضد النساء التي يكرسها المجتمع الذّكوري. ومن ذلك تكريس التفريق بين الجنسين «فالمرأة كائن ناقص قاصر الإدراك مُواطن من الدرجة الثانية وغير مؤهل لأن يتحمل أي مسؤولية خارج البيت.. إذ تنحصر وظيفتها في الإنجاب والعناية بالأبناء والزوج.. وطبعا تستحق التأديب والتقويم وهو ما يبرر العنف الأسريّ.

 وقد قفزت «الخلايا النائمة» إلى الساحة ممثّلة في الحركات السلفيّة التي تقدّم تصوّرا للمجتمع يتنافى تماما مع قيم المجتمع الحداثي الذي نطمح إليه. وانطلقت حملات التجريح والتشويه ضدّ بعض المفكّرات التونسيات (ألفة يوسف، رجاء بن سلامة وغيرهما..) وتكفيرهنّ والمطالبة بإقامة الحدّ الشرعيّ عليهنّ ومحاكمة أفكارهنّ وترهيبهنّ.

 ليس ثمّتَ ما يبرر اليوم حالة النّكوص التي بدت في نقاشات عادت بنا مئات السنوات الضوئيّة من وجوب الحجاب أو النقاب أو ملازمة الدار وستر العورات (الصوت عورة).

نقاشات طالت ومحاولات للارتداد عن مجلّة الأحوال الشخصيّة التي تستحق مراجعة لتطويرها وليس نفيها، أثارت جلبة لتشددّ الأطراف الدينية فيما يخصّ حقوق المرأة، في المجلس التأسيسيّ وغيره من فضاءات الدولة «رغم أنّ مقاصد الإسلام الجوهريّة تحثّ على تكريم الإنسان بقطع النظر عن جنسه»(5)

المرأة التونسيّة اليوم تناضل من أجل حريّتها ومن أجل كيانها الذي أصبح مستهدفا من قوى الظلام التي تُجهد نفسها في أن تفكّك المجتمع بأسره وتعيد صياغته وفق رؤية إسلامويّة متطرفة من خلال التهجّم على الحرم الجامعيّ ومحاولة فرض النقاب أو المنتقبات في الجامعة التونسية وغيرها من الفضاءات العامّة، ومن خلال تفشّي جرائم الاغتصاب والعنف الأسريّ.

لقد تحوّلت المرأة بعد 14 جانفي من أداة لتزيين الواجهة الإعلاميّة التي روّجها النظام السابق، إلى عروس الشمع المحترقة التي تُرجم بحجارة الإرهاب والتطرّف الديني، وتعتقل أفكارها بدعوى التّحريم والتجريم.

محاولات كثيرة لتهميش حضور المرأة في مواقع القرار (حضور شكليّ للنساء في المجلس التأسيسيّ مثلا) يجهد أن يحافظ على مستلزمات الديكور، ومحاولات كثيرة لتشريع قوانين لا تهدف أساسا إلاّ لفرض بيت الطاعة على النساء.

«أهو ذنبك أنّك يوما ولدت بتلك البلاد»(6) ليس ذنبك إنّما لنا أن نكون كما نشاء.

الهوامش :

1/  مجموعة باحثين في ندوة نظّمتها الجمعيّة التونسيّة للدراسات الفلسفية فرع صفاقس، القماطي التيجاني، الإنسان والمقدّس، دار محمد علي الحامي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى سنة 1994، صفحة 72

2/ نفس المصدر، ص 71

3/ أدونيس، مفرد بصيغة الجمع، بدايات للطبع والنشر، سنة 2007، ص 206

4/ سارتر جان بول، الوجوديّة منزع إنساني، تعريب محمد نجيب عبد المولى، دار محمد علي الحامي للنشر تونس ودار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع لبنان، الطبعة الأولى، ص58 

5/الشرفي سلوى، الإسلام والمرأة والعنف، منشورات علامات، ص 51

6/يوسف سعدي، حفيد امرئ القيس، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى سنة 2006 ، ص97

 

 

تونس: فنّ/ حرام

 

عبد الفتاح بن حمودة

( عضو نقابة كتاب تونس وعضو حركة«نص»)

 

لا شيء هنا سوى الموت. لا شيء سوى بزوغ شمس فاشيّة بفمٍ أدردَ وعين عوراء وقرنيْ ثور هائج! صار صوت الرصاص والمتفجرات والكمائن أقوى من المهرجانات الثقافية والفنية والأدبية (معرض كتاب بائس لأجنحة فارغة وكتب صفراء، أيام قرطاج مسرحية عجفاء سيئة التنظيم، تظاهرات فنية من هنا وهناك لذرّ الرماد على العيون، حيث الارتجال والتسرع والارتباك وإعادة ملتقيات قديمة بأثواب جديدة...).

انزلقت البلاد إلى هوّة سحيقة وإلى ضرْب من المجهول حيث لطمة العدم والعقم!

لكُمْ أن تقرؤوا شيئا عن سوسيولوجيا الثورات وصعود الحركات الدينية الفاشية من خلال المعجم الجديد المتداول يوميا في كل وسائل الإعلام (سحْل، اغتيال، ذبح، تفجير، كفر، إلحاد، سلفيّة، طواغيت، تدافع، تمكين، خلافة سادسة، شرعية، المال السياسي، الشيوخ، الأمراء، السنة، الشيعة، العلمانيون، الملحدون، التهريب، غسيل الأموال، قطع الأيدي والأرجل من خلاف، قطر، تركيا، تنظيم القاعدة، الجهاد، جهاد النكاح، الزواج بأربع نساء، حركة الإخوان المسلمون، الحجاب، النِّقاب، المدارس القرآنية، العمل السياسي في المساجد، فتنة، خلايا نائمة، أمراء، كتائب... )

كتائبُ من كل نوع تتلفّع بالسواد.

لم أعوّل على الانتهازيين من الكتاب والمثقفين والإعلاميين ممن قدموا الولاء والطاعة للحكام الجدد وممن ركب الثورة فتكالبوا على البلاتوهات في القنوات التلفزية والإذاعات بصفاقة ووقاحة، وقد كانوا أمس من الممجّدين للنظام السابق. لم أعوّل إلا على ثلّة منهم، هم الآن في حالة صمود ومقاومة لا مثيل لهما. لا أتذكر شيئا حقا سوى الانتهازيين الذين اختطفوا الثورة التي لم تكتمل من الشباب ووزعوها على الشيوخ الباحثين عن متعة الكراسي ومتعة الزواج بأربع نساء!

ما مرّ عام وتونس ليس فيها موت وجرذان وقطعان وأمراء مزابل.

لقد أثرى الأثرياء الجدد على حساب الشعب الفقير المعدم المسحوق المهمش.. ففي بداية عام 2012 ازداد عدد المليارديرات من خمسين قبل الثورة إلى ستين بعدها بعام... ويقدّر عددهم الآن بسبعين من التجار والمحتكرين وغاسلي الأموال القذرة من كل حدب وصوب. شركاتهم وراء البحار وهم هنا يمتصّون دماءنا. إنهم أثرياء الحروب والأزمات والثورات... كلاب الدم التي ولغت في كل قِدْرٍ.

في خضمّ تلك الحرائق، وُلدت حركة أدبية جديدة في صيف 2011 تضم سبعة شعراء لمحاربة ثقافة الانتهازية الجديدة/القديمة، ومقاومة الموت الزاحف من كل مكان.

ووُلدت الحركة الشعرية التونسية الجديدة التي تضمّ عشرين شاعرا تقريبا قدّموا حسب تقديري شاعرا وقارئا البديلَ الجماليَّ، متجاوزين شعراء القرن الماضي بآلاف السنوات الضوئية.. لم يشدّني في هذا البلد، في هذه الرقعة التي يتكالب حولها الجميع، سوى هذه الحركة الشعرية الجديدة التي تتوسع دائرتها كل يوم و«حركة نصّ» التي قطعت نهائيا مع الرداءة والانتهازية والثورجية الكاذبة المقيتة، هذه الحركة الوحيدة التي أعول عليها في المستقبل وهي تضم دون شك شعراء حاملين فوانيسهم في ليل الأرامل والذئاب، هم دون شك الشعراء: صابر العبسي، أمامة الزاير، خالد الهدّاجي، نزار الحميدي، محمد العربي، شفيق طارقي، صلاح بن عياد، صبري الرحموني، سفيان رجب، أنور اليزيدي، زياد عبد القادر،  أشرف القرقني، محمد الناصر المولهي، وليد تليلي، عبد العزيز الهاشمي، فريد سعيداني، مهدي غانمي، جميل عمامي، سحر الغريبي، روضة عبد ربه...  وأصوات أخرى قادمة لاريب فيها.. كل هذه الأصوات الشعرية (الشعراء التروبادور) هي صنعت ربيع الشعر التونسي مواصِلةً المشروعَ الحداثي الذي بدأه الشعراء السابقون: خالد النجار، عزوز الجملي، فضيلة الشابي، يوسف خديم الله، محمد علي اليوسفي، منصف الوهايبي، رضا العبيدي، ميلاد فايزة، فتحي قمري... وغيرهم من شعراء رابطة الكتاب الأحرار ونقابة كتاب تونس. وستولد حركة قصصية وروائية ومسرحية وسينمائية وغنائية مختلفة عن السائد والمألوف ضد ثقافة الظلام والولاء والانتهازية والنقاب وفتاوى شرب بول البعير والإرضاع...

ربع قرن والحداثيون والتنويرين يحاربون دكتاتورية 7نوفمبر، حيث لم نعثر على واحد من هؤلاء الذين كانوا مختبئين في جحورهم، إلى أن عاد سيدهم وشيخهم رضي الله عنه! بعد ثلاثة أشهر من اندلاع ثورة الجياع والفقراء والمهمشين والمعدمين والطلبة الأحرار وأصحاب الشهائد المعطلين عن العمل، فاستقبلوه في مطار تونس قرطاج ب«أقبل البدر علينا» ولكنّ الشعب التونسي وقُواه الحية خرجت أكثر من مرة ب«أقبل الموت علينا». سحقا سحقا سحقا للسلاحف وعبدة الموت والخلايا النائمة والمجد لأبناء الحياة.

من العبث الحديث عن ثقافة في تونس. ثلاثة أعوام مرّت حيث ثقافة القتل التي بشّر بها الحكام الجدد وسَدَنتهم من الأحزاب المتزلفة الخانعة، فمنذ حصولهم على تأشيرة النشاط في أحزاب علنيّة في مارس 2011 ركبوا القطار وهو يسير وبدؤوا مخطّطاتهم الإرهابية. لم يدخلوا من باب واحد بل من أبواب مختلفة، منها باب الثقافة فأحرقوا قرابة خمسين مقاما للأولياء الصالحين وهاجموا كل التظاهرات الفنية والأدبية والمسرحية والسينمائية والموسيقية لأنهم لا يحبون الرقص والغناء. اعتدوا على رجال المسرح والسينما والمبدعين والمثقفين والإعلاميين وهرسلوهم في كل مكان.

ما مرّ عام وتونس ليس فيها قتل واغتيال وموت.

وبعد أن حاولوا بشتى الطرق نجحوا في خلق ثقافة جديدة اسمها ثقافة الموت والقتل والاغتيال والتكفير والتحريم. اعتدوا على مقرات أهم منظمة مناضلة (الاتحاد العام التونسي للشغل) وعلى النّقابيين الأحرار، ضربوا أهالي مدينة سليانة(الشمال) الأحرار بالغاز والرصاص والرشّ(سلاح جُلب من تركيا!)، سحلوا الشهيد «لطفي نقّض» حتى الموت في تطاوين (الجنوب)، اغتالوا الشهيد «شكري بلعيد» يوم 6 فيفري بدعوى أنه علماني وكافر (بينما هم الكفار والملحدون). إن صدمة 6 فيفري أيقظت الشعب التونسي من السُّبات حيث أفاق الشعب صبيحتها على أن هؤلاء هم الإخوان المجرمون. ثم بدأت لغة المتفجّرات في جبل الشعانبي (القصرين/الوسط الغربي) وبدأ الجنود يتساقطون ويُذبّحون، ولقد اختتموا توقيعهم بالدم باغتيال الشهيد «محمد البراهمي» يوم 25 جويلية  2013 وبعدها بثلاثة أيام اغتالوا تسعة جنود ذبْحا.. واغتالوا الشهيد «محمد بالمفتي» (قفصة/الجنوب) وصولا إلى اغتيال الشّهيد سقراط الشارني(من أعوان الحرس الوطني/الكاف/ الشمال).

لقد مرّ صُنّاع ثقافة الموت والاغتيال والحقد الأعمى إلى مشاريعهم التي أتوا من أجلها، ففي كل أسبوع صرنا نسمع انفجارا في الجبال والغابات أو الضواحي، وبدأ الناس يتعوّدون على الموت والسواد والظلام ولكنهم كلّما أمعنوا في القتل والكذب والافتراء كلّما ابتعد عنهم الشعب ولفظهم.

ما مرّ عام وتونس ليس فيها قتل واغتيال.