تموضع الكاتبة الفن الأيقونوغرافي السرياني السوري في التاريخ، تتبين مميزاته، ومرونته التي جعلته ينفتح غرباً ويتصل شرقاً بغيره من الثقافات، فتكيف واستوعب واقتبس دون أن يفقد هويته، وهو يصهر في بوتقته مصادر آرامية وثنية، وعبرانية كتابية، ومسيحية مشرقيّة، ويونانية هيلينية، وعربية إسلامية وفارسية ومغولية.

الفن الإيقونوغرافي لدى السريان

نسرين عبدالرحمن الخياط

خلال مطالعاتي عثرتُ على مقال بعنوان "الفن الإيقونوغرافي لدى السريان" نشرته مجلة " المنارة" اللبنانية للرهبان المرسلين الكريميين في العدد الثالث لسنة 1989 فسررت للعنوان جدا. لاسيما وأن مؤلفه هو سيادة المطران ميخائيل الجميل الجزيل الاحترام. قرأته باهتمام كبير واتصلت بسيادته مهنئة إياه على دراسته هذه الفريدة من نوعها. ثم طلبت منه بعض الارشادات والمصادر، لأقوم بنشر شيء في هذا الموضوع، لفائدة قرائنا في موقع بخديدا. استجاب سيادته، وأضاف فارسل المنمنمات السريانية التي كان هو نفسه، منذ عام 1981، قد استخرجها من أشهر المخطوطات المحفوظة في مكتبات العالمية مثل مكتبة : الفاتيكان ولورنزيانا وروسانو وباريس ولندن وكمبريج. فأخذتها شاكرة. وها إني أقدمها لقرائنا الأعزاء لتعم الفائدة.

الفن الايقونوغرافي
سمى الفن بالايقونوغرافي نسبة الى الايقونة وهي كلمة يونانية أي الصورة. أُطلقت كلمة ايقونة على الصورة الدينية التي تمثل أشخاصا أو مواضيع من الكتاب المقدس، ثم استقرت التسمية على الصورة المرسومة على خشب. وأشهر الفنون الايقونوغرافية اليوم هي الفن البيزنطي والروسي والبلقاني.

بيئة الانتشار السرياني

يسوع المسيح

مريم والدة الله

 

حلول الروح القدس

الإمبراطورية الرومانية
إن مهد الفن السرياني في العهد المسيحي هو الأفليم الشرقي في الامبراطورية الرومانية. وكان هذا الاقليم المسمى "سوريا الرومانية" يمتد من البحر الأبيض المتوسط حتى المناطق التي ترويها مياه دجلة والفرات يضاف اليها مساحة من آسيا الصغرى (تركيا). فكانت تشكل إطارا ديموغرافيا وبيئة سريانية. إن الدور الأساسي في تكوين وانتشار ونمو الفن الايقونوغرافي المسيحي كما هو الحال في الفن الهندسي، يعود إلى سريان منطقة سوريا وما بين النهرين. ففي أعالي ما بين النهرين ولدت مدرسة فن تمثل التيارات الثقافية للشرق السامي ولليونان، وفي مدارس نصيبين والرها اللاهوتية وُجِد الدور الموجه لتنسيق مواضيع الكتاب المقدس وتصويرها.

بدايات الفن السرياني المسيحي في سوريا وما بين النهرين
لقد تأثرت سوريا وما بين النهرين بالحضارة اليونانية لإتصالها وانفتاحها على البحر الابيض المتوسط. وشواهد الفن المسيحي بكثرة فيها. من بينها آنية مقدسة وأدوات ليتورجية اكتشفت في بداية القرن العشرين شمال سوريا وفي مواقع قريبة من قبرص وقلقيا وروسيا. فكأس انطاكية وهو من تاريخ 450م (في متحف نيويورك)، الذي اكتشف في حوالي 1910، وتعدّ من الآنية الفريدة في الفن المسيحي المشرقي. نُقش على جهة صورة المسيح محاطاً بمار بطرس وبولس ومن ورائهما يوحنا المعمذان ويوحنا الانجيلي. ومن الجهة الاخرى للكأس مريم العذراء حولها ملاكان.

إن الرمزية المسيحية مأخوذة من رسوم وثنية أقدم منها، وقد انتقلت إلى مفهوم مسيحي بعد انتقال السريان من الوثنية إلى المسيحية. مثالنا على ذلك طائر الطاؤوس الذي يعتبر عنصراً هاماً في الرمزية الوثنية، إنه طائر مجد الأباطرة وعلامة الخلود، وفي المسيحية أصبح طائر الفردوس ورمز الخلود. هناك عناصر أخرى تزيينية وهندسية في كنائس سوريا الشمالية تعتبر في الأساس من التزيين الهندسي، المعتمد فيما بعد في المنمنات المسيحية، بشكل أقواس متكررة، كنعل الحصان واستعملت أيضا في مخطوطة رابولا.

الجدرانيات والفسيفساء في مناطق السريان
اقتبست المسيحية الشرقية فنها التصويري من تراثها الوثني القديم الذي تسلمته من أجدادها الآراميين في منطقة تمتد من البحر الأبيض المتوسط حتى بلاد فارس، لكن حذر الكنيسة، في بدء تاريخها، من عبادة الأوثان جعلها في موقف رفضي من النقوش والمجسمات الجدرانية ذات الصدى الوثني والمعنى الصنمي في ذهنية مسيحي الأجيال الاولى. وهذه دلالة على قلة المنحوتات والجدرانيات قياساً إلى الرسوم والنقوش المسطحة التي تركها قدامى السريان على جدران الهياكل وقباب الكنائس. علماً أن عبث الأزمنة وتعاقب المذاهب والأديان المتزاحمة في هذه المنطقة لم تترك لنا من تلك النقوش سوى نزر ضئيل جداً. فما جرى اكتشافة في نينوى وخرسباد قرب الموصل يبين تماماً بأن استعمال الرسم الملّون كان سبق العهد المسيحي بزمان، إذ كانت العادة قد درجت في هذه المناطق بتزيين القصور والبيوت الخاصة بمثل تلك القصور، ومن القصور والهياكل التي اشتهرت بالرسوم والنقوش هيكل الآلهة في تدمر، وناووس هيكل أدونيس، وهيكل جاد في دورا أورويس (على الفرات 50 كم. شمال البوكمال بسوريا).

هذه المجموعة من الرسوم والنقوش والفسيفساء والجداريات التي تعود في الأصل إلى العصور الوثنية تكشف لنا البيئة الايقونوغرافية ونوعية الألوان ومدلولها على أهمية الفن المسيحي لدى السريان، كما أنها بمثابة المهد الذي وجد الفن السرياني فيه ولادته في فن الرسم كذلك في الفن المعماري، ففي دورا أوربوس نجد أقدم بناء مسيحي مخصص لإقامة العبادة منذ بداية القرن الثالث، وبجواره كنيسة صغيرة بشكل مستطيل من الغرب إلى الشرق مُسقفة بقُبّة تزينها كواكب، وقد كسيت جدرانها برسوم دينية أهمها:

- صورة الراعي الصالح وفق الرسم المعروف منذ بداية القرن الثاني الميلادي.

- صورة آدم وحواء والشجرة والحية تحت الأقدام.

- صورة شفاء المخلع.

- صورة مشي بطرس على المياه.

- صورة النساء حاملات الطيب.. وغيرها من الموضوعات الكتابية.

إن الحضور السرياني في حقل الفن الايقونوغرافي لا يظهر بوضوح إلا من خلال مجموعة من جدارنيات وجدت في منطقة بعيدة عن شمال سوريا وما بين النهرين، هي جدرانيات (دير السريان) في وادي النطرون بمصر على منتصف الطريق الصحراوي بين القاهرة والاسكندرية. وكان هذا الدير يسمى قديماً (دير والدة الله للأنبأ بيشوي) للسريان، وقد شُيد عام 535م، ثم هُدم واعيد بناؤه في القرن السابع، ثم انتقل عام 710م إلى ملكية السريان القادمين من بين النهرين وبالتحديد من تكريت (العراق) وبقي بيد السريان فازدهرت فيه الحياة الرهبانية حتى نهاية القرون الوسطى حين عاد إلى ملكية رهبان أقباط ولا يزال.

المنمنمات السريانية
يُقصد بالمنمنمة (رسم أو نقش أو زينة على ورق أو قماش أو جلد). والمنمنمات التي تركها الكتبة والخطاطون السريان هي امتداد لتقليد كان معمولاً به لدى اليهود في كتابة أسفار العهد القديم ولدى السريان الوثنيين منذ ما قبل التاريخ الميلادي. والحقيقة لولا هذه المنمنمات التي تركت على صفحات المخطوطات لكان التراث الايقونوغرافي السرياني قد ضاع تماماً بعد ان أُتلفت وضاعت أصوله الجدرانية.

التأثيرين اليوناني والعربي
تفاعل الفن الايقونوغرافي في المنمنمات السريانية مع تيارين أساسين من الفن الروسوماتي هما: الفن اليوناني والفن العربي. فالفن اليوناني تأثر هو أولا بالطابع الشرقي السرياني، ثم ازدهر حتى عاد يؤثر بدوره تطوراً في الفن السرياني، كما في منمنمات مخطوطات سريانية كتبت باللغة اليونانية، مثل مخطوطة سفر التكوين من القرن السادس المحفوظة في مكتبة فيينا، وانجيل روسانو من القرن السادس المحفوظ في مدينة روسانو بايطاليا، والانجيل الفاتيكاني تحت الرقم 354 في الرف اليوناني من عام 948، ومخطوطة أورشليم تحت الرقم 56 من القرن الحادي عشر، ومخطوطة باريس تحت الرقم 203 من عام 1059، ومخطوطة أثينا في مكتبة جناديوس تحت الرقم 15 من عام 1226. وهذه المخطوطات اليونانية اللغة هي سريانية الاصل والمنشأ. أما تأثير الفن العربي فيبدأ منذ القرن الثاني عشر. ففي مخطوطة مسيحية مصرية محفوظة في مكتبة باريس تحت الرقم قبطي 13، وهي من فترة ما بين 1178-1180، نرى بدايات تأثير الفن العربي. فالعرب بعد أن أخذوا عن السريان الفن الايقونوعرافي أنعشوه وصبغوه بصبغتهم المتأثرة بالتفاعل الحضاري العربي والفارسي، حتى برز في بغداد منذ بداية القرن الثالث عشر، وقد عاد الفن العربي لينعكس تطوراً في الفن السرياني كما هو في مخطوطة الموصل (إنجيل نسطوري محفوظ في المكتبة الشرقية من المتحف البريطاني تحت رقم 7174)، وتمتاز منمنمات هذه المخطوطة برشاقة الأشخاص. كما بالعمامة وبطريقة القعود والوجه المستدير ذات المسحة المغولية أحيانا.

وهكذا فعبقرية الفن السرياني هي مرونته بحيث يتكيف ويستوعب ويقتبس دون أن يفقد هويته. بل لديه القدرة لجمع بين تيارات فنية مختلفة وصوغها في شكل يناسب تماماً الأسلوب والتقليد السريانييين. ولسنا نغالي إن قلنا بأن السريان في المناطق المذكورة كانوا قبل الجميع وأعطوا الجميع واقتبسوا من الجميع، ليمدّوا من جديد شعوب المنطقة برصيد فكري وفني مستمر. وهو بانفتاحه غرباً على البحر الأبيض المتوسط واتصاله شرقاً بالشرق الاسيوي الشاسع يُشكل نقطة التقاء حقيقي بين الشرق والغرب في مضمار الفكر والفن. إنه وحدة رائعة من مجموعة أساليب فننية أتت بها عبقرية مراكز حضارية في منطقة شرق الأبيض المتوسط من:

- آرامية وثنية

- وعبرانية كتابية

- وسريانية مسيحية

- ويونانية هيلينية

- وعربية إسلامية متأثرة بلمسة فارسية وأحيانا مغولية.

عند تنصرهم منذ القرن الأول الميلادي نقل السريان معاني الصور ومدلولات النقوش الجدارية من المفهوم االوثني إلى المفهوم المسيحي، فصوروا على جدران الكنائس موضوعات الدين الجديد، وهكذا فالصورة السريانية تغرق المؤمن في انذهال متواصل ونظرة متبادلة بينه وبين الله، إلى حد أنه ينسى عبء الذات وأوزار الحياة والبؤس البشري، وعليه فالوجوه في الصورة السريانية هي كلاسيكية تحدق بالمتأمل وتنشله من مخالب المادة، وتحرره من أسر هذه الدنيا لترحل به إلى عالم الأسرار الخلاصية، وتفتح له أبواب الملكوت. ثم تأتي الألوان لتساعده على الارتفاع.

فمن خلال اللون الأزرق العميق يسمو القلب وترتفع العيون الى السماء حيث المدينة ذات الأساسات الباقية. واللون الأحمر يحثه على البذل والعطاء حتى الدم أسوة بيسوع الذي ذهب به حبه لنا حتى الاستشهاد على الصليب. أما اللون الأرجواني الذي يتفرد به رداء يسوع ومريم هو وعد بالغلبة وشراكة بملوكية يسوع ملك الدهور.

 

صلب المسيح

 

النزول إلى الجحيم والقيامة

 

الرسامون السريان لم يعتمدوا على التقنية في فنهم كما فعل البيزنطيون والروس. ولم يفكروا أن يحّملوا الصورة معاني لاهوتية دقيقة من خلال القياسات والأبعاد الهندسية، التي قامت عليها الأيقونة البيزنطينية. كما لم يهدفوا إلى إبراز الهالة الإلهية والعظمة الملوكية من خلال الوقفات والنظرات الإمبراطوراتية. ما ارادوه هو، بكل بساطة وبدون أي تعقيد، أن يعبروا عمّا في نفوسهم من وصال بحقائق الأسرار الخلاصية، وما في أرواحهم من صبابة وتوق، فجاءت صورهم بخطوطها المرنة، وسذاجة تناسقها، وبراءة ألوانها شبيهة برسوم أطفال أبرياء لا تفتنهم التقنية ولا تعقدهم القياسات. بل جلّ اهتمامهم هو الاتحاد بيسوع المخلص والانضمام إلى رفقة الرسل والأنبياء والقربى من القديسين الشهداء حتى تتحول الأرض سماء ثانية.

 

البشـارة

 

ميلاد المسيح

تقدمة يسوع في الهيكل

 

العشاء السري

 

الصلب والقيامة

المسيح يبارك الرهبان

(عن موقع بخديدا)