يروي لنا القاص التونسي طرفاً من طفولته في قرية صغيرة بعيني طفل يلهو في الحياة لعباً مع رفاق طفولته لاقطا تفاصيل شفافة عن نسوة يعملن بالحياكة وطفل أشقر غريب أمه فرنسية سكنت قريتهم.

ابنُ الرّاهبة والعفاريت الثلاثة

خيرالدين جمـعـة

أنْ يكون للرّاهبة ابنٌ ذلك جنون، أمّا أن يتحوّل هذا الابن إلى عفريت فإن ذلك هو العبث عينه.

في قريتنا كانت النساء مرجًا من الضياء، أما الرجال فظلالٌ من الغيابْ!!

كانت منازل حيّنا المتقاربة ذات طراز معماري خاص، فكلّ بيت لابد أن يكون له بابان، الأول كبير يفضي إلى صحن المنزل أما الثاني فصغير يؤدي إلى غرفة مخصصة لحياكة المرقوم يسمونها "المخزن"، تقضي فيه النساء تقريبا أغلب يومها وهي تحيك السجاد في منسجهن الذي كانت تفوح منه رائحة الشاي الأسود الثقيل وبعضٌ من الحكايات والأخبار والمواويل الحزينة والكثير من غمز النساء اللذيذ برائحة الموت والميلاد..!

أثناء إجازة الصيف القائظ، كنا ونحن صغار ننهض صباحا، نجلس على عتبة رخامية لبيتٍ يتوسط الحي، بابه مغلق دائما، ثلاثة أحلام صغيرة متوثّبة صاخبة، لا يستر أجسادنا البرونزية السمراء سوى تبّان قصير، نتناول ما بقي من رغيف الخبز بين أيدينا في انتظار أن تنادينا إحدى نسوة الحي بصوت قوي:

- "عفاريت يا عفاريت .... عفاريت"

نهرع بعدها إلى مخزن المرقوم حيث تطلب منا أن نقف على خشبة تكون على الأرض، تشدّ خيوط السجاد المعلقة عموديا، وكنا فوق الخشبة نقف ونقفز في سعادة غامرة ونتعلق بخشبة أخرى عالية مسنودة إلى عمودين قائمين .... نظل نقفز ونتعلق في فرح غامر حتى تأمرنا النسوة بالتوقف ..

و بعد ذلك وحين نطمئن إلى أن مناسج النسوة قد وقع تعديلها وأنهن انهمكن في العمل والأحاديث والغناء الحزين، نتسلل إلى عين الماء أو المسقى القريبة والتي كانت عبارة عن ماسورة اسمنتية كبيرة، يتدفق منها الماء، فيشكّل بقوته مسبحًا ترابيا نرتمي فيه من تلة صغيرة تشرف عليه، ثم نعود بعد ذلك إلى بيوتنا وندفع ثمن ذلك ضربا موجعا من أمهاتنا ونقسم لهن أننا لن نعود إلى صنيعنا مرة أخرى .... و لكن جنون العفاريت يعود ليستبد بنا دائما كلما اشتدّ القيظ ...

كان ذلك دأبنا كل صباح ...إلى أن جاء اليوم الذي كنا فيه كعادتنا جالسين على تلك العتبة الرخامية نأكل شطائر الجبن وننتظر متشوّقين صراخ أمّهاتنا اليومي : "عفاريت ... يا عفاريت."

في ذلك اليوم وقبل أن نسمع صراخ أمهاتنا فوجئنا بباب المنزل الذي نجلس أمامه يفتح لتطلّ منه امرأة بشعر أصفر قصير ونظارات طبية وراءها عينان زرقاوان ... نظرتْ إلينا في دعة، كانت تمسك مكنسة بيدها، قمنا من مكاننا فأخذت هي تكنس أمام بيتها ونحن نتأملها في استغراب وذهننا في العفاريت!

ولكن بعد أن أتمّت عملها، دخلت بيتها للحظة ثم عادت وفتحت الباب مرة أخرى ليطلّ منه طفل صغير في مثل سننا، بدا مختلفا عنا كثيرا بشعره الأصفر الذي ينسدل على جبهته وملابسه النظيفة وعينيه الزرقاوين، كان ينتعل حذاء رياضيا أبيض وجوارب بنفس اللون ناصعة، اقترب منا، قال لنا بعربية متعثرة إن اسمه " كريم" وأنه سيظل معنا في القرية وربما لن يعود إلى فرنسا مع أبيه، ذهلنا مما ذكره لنا، ولم نصدق كل ما كان يقول، أريناه من بعيد بناء المدرسة التي نرتادها وتجوّلنا معه بين المنازل وفي أنحاء الحي فشعّت ابتسامة ندية على محيّاه الصغير، كان مبتهجا بنا ولذلك قضينا اليوم نلعب معه في سعادة ......

في ذلك اليوم لا أدري لمَ لمْ يتردّد صوت العفاريت في الحي..!!!

من الغد كنا جالسين كالعادة أمام العتبة حين أطلت الرّاهبة وانفلت " كريم" من ورائها نحونا، كان الفرح يشعّ من وجهه، ظللنا نتحدث ونلعب، عرضنا عليه شيئا من طعامنا فاعتذر بأدب، وبينما كنا نلعب ونجري ضاحكين، في تلك اللحظة سمعنا صوت العفاريت يتردد في أنحاء الحي فانطلقنا إلى أحد المخازن، كانت أمه مازالت مختفية وراء الباب حين أخذه الاضطراب وهو يرانا نندفع ناحية الصوت، لكننا شجعناه على أن يرافقنا، فتبعنا في فرح، وحين دخلنا ذلك المخزن مسرعين وصعدنا على الخشبة، وقف هو وراءنا مترددا لكنه تشجع، وحين اقترب ليضع قدمه على الخشبة فوجئنا بالمرأة تنهره في شدة وتقول له :

-       أنت ...أنت لا تصعد ..انزلْ... ستوسخ السجاد بحذائك ...!

كنا نقفز في لهو حين لمحناه يقف عند الباب يخنقه الحزن ثم يتوارى ليخرج فيقف أمام منزلهم، عدنا إليه بعد ذلك وعندما رأيناه على تلك الحال عرضنا عليه أن يذهب معنا إلى عين الماء القريبة للسباحة ولكنه ظل صامتا، حزنه كان كبيرا، كستْ الحمرة وجهه، بدت عيناه تلتمع ببريق عجيب سرعان ما داراه بأن تركنا وركض إلى بيتهم هاربا ....في تلك اللحظة تذكرنا ما يدور في القرية من أحاديث حول المرأة الفرنسية التي تزوجها ابن قريتنا والذي لم يعد بها إلى القرية إلا هذا العام، هو الذي هاجر إلى أوروبا منذ سنوات عديدة، لقد أطلقوا على زوجته لقب " الرّاهبة" لأنها تشبه كثيرا راهبات قريتنا اللائي أقمن منذ زمن طويل بيننا يُدرِّبن المعوّقين مختلف الحرف اليدوية ويتعاملن مع نساء القرية بصمت صارخ وابتسامة عتيقة بتُول.

من الغد خرجت السيدة بمكنستها كعادتها كل صباح، ابتسمت لنا في صمت ثم دخلت، ظللنا ننتظر خروج " كريم" ولكنه لم يظهر، كانت عيوننا الصغيرة معلَّقة بالباب العنيد الذي ظل مُوصدا لا ينفتح ....

غاب كريم ..يوم ...يومان...افتقدناه وشعرنا بالحاجة إلى هدوئه، غيابه جعلنا نشعر أنه كان يكذب علينا وأنه لن يدرس معنا السنة القادمة في مدرستنا وربما يعود مع أمه الراهبة إلى فرنسا !!!

صباح اليوم الثالث جلسنا كعادتنا على العتبة الرخامية ...انفتح الباب لترقص ابتسامة الراهبة في فرح هذه المرة، فقد ظهر زوجها أيضا إلى جانبها، سلّم علينا وصافحنا بحرارة ثم نادى ابنه " كريم " الذي سرعان ما خرج في خفة وكأنه كان ينتظر صوت والده، انهمك أبوه في سيجارته وحين كانت أمه تهمّ بالدخول سمعنا إحدى النساء تصرخ :

-       عفاريت يا عفاريت تعالوا ...

ولما كنا نشرع في الركض، رأينا أباه يساعده على نزع حذائه بسرعة البرق ويندفع وراءنا يجري حافيا بطريقة مضحكة، على الخشبة أخذ كريم يقلدنا قافزا متمسكا بالخشبة الفوقية في سعادة ..بعد ذلك خرجنا إلى ساحة الحي، انتظرنا حتى تنهمك النساء في النسيج والحياكة وحين كنا ننطلق نحو العين للسباحة، انفتح باب بيتهم ورأينا أمه تشير له بمنشفة في يدها ليأخذها ولكنه من فرط سعادته وهو يندفع معنا لم ينتبه إليها وانطلق يجري معنا بل يسابقنا ومن ورائنا نستمع إلى ضحكات أبيه وكذلك أمه التي اكتشفنا في النهاية إلى أنها تتكلم، فقد كانت تصرخ بشكل مضحك وبنطق غريب:

-كريم .. إفريت ... إفريت .. إفريت !!

و حين عدنا من المسقى، ثقيلة أقدامنا بالتراب، مبلَّلة أجسادنا السمراء اللامعة تحت شمس الجنوب الشامخة، واقتربنا من حيّنا، حدث أمر غريب، فقد لاحت لنا أم كريم الراهبة وكأنها لازالت واقفة تلوّح بمنشفتها وإلى جانبها زوجها وما إن دنونا من بيوتنا حتى أخذت أمه تصرخ بنفس الطريقة الغريبة :

"كريم ... إفريت ... إفريت .. إفريت" أما زوجها فقد كان يصفق، ونظرًا لتلك الأصوات الغريبة التي اكتسحت الحي فجأة أطلّت النسوة برؤوسهن من الأبواب لرؤية المشهد فقد انفلت كريم راكضا نحو أمه التي لفّتْه في المنشفة، حمله بعد ذلك أبوه إلى فوق في فخر وسعادة ثم دخلوا جميعا البيت ... وجمت النسوة ... سادت لحظات صمت مميتة في الحي ... توارى الصخب اليومي وحل مكانه سكون مريب ... في ذلك اليوم حين دخل كلٌّ منا منزله وقع استقبالنا في هدوء ولم يقع تعنيفنا أو ضربنا ...

في ذلك اليوم الصاخب المفعم بصياحنا الذي مازال يتردد في أذني ... في ذلك الصباح حين غمرني الماء ورأيت " كريم" يقفز مثلنا في الهواء من الهضبة نحو المسقى ... سعيدا عاريا إلا من تبان قصير..في تلك اللحظة الرائعة وضحكته تصافح الماء البارد ... تأكدتُ من أنّ " كريم" لم يعد ابن الراهبة ... وأنه من ذلك اليوم، بل من تلك اللحظة قد تحوّل مثلنا إلى عفريت !!