تكتب القاصة المصرية حكاية تمارا المرأة التي تكسر الأعراف في بيئة ضيقة صارمة في بنية قصة تستفيد من الحلم والحكايات الشعبية عن مجتمعات تقمع المرأة ومن تتمرد وتحلم بتحقيق ذاتها يكون مصيرها مصير تمارا

تمارا

شـيماء أحـمد

تسير بخطى متثاقلة نحو شرفتها . تلقي بجسدها المنهك على الأريكة . يداعب النوم جفونها تقاومه لتبقى في عالم اليقظة. ليلة صافيه تتلألأ نجومها في السماء . الزهور على جانبي

الشرفة تحمل لها عبيرا ساحرا. مساء ربيعي جميل.

تشرد بذهنها مع النجوم . لا شك أنها هناك. أشعر بوجودها ، لها ملامح الفن السريالي الذي لا يفهمه إلا مبدعه. تحمل رائحة الماضي تتنفسها داخل الأهرامات ، تشبه التاريخ دون أن تدخل لحدوده خارج الزمن . لا علاقة لها بمنطق العقلاء ، محرمة كتفاحه آدم ، قصه استثنائية . لا تخضع لشروط مسبقة ولا تشبه غيرها من القصص.

نعم لا شك هي هناك فوق إحدى النجوم ، حيث تحلق أرواح العشاق مرددة الأغنيات وتعزف الألحان التي كتبت بشفرات خاصة ، لا تخضع إلا لموجات العشق الاستثنائي الذي لا يشبه العشق الذي يعرفه العالم ، ولا يحمل ملامح الرغبة ولا يرجو إلا العطاء ..

هي روح هائمة تغرد لحنا ذا صيغة مختلفة .

أتراها روح تغرد بالعشق ؟ !

أم روح أردْاها العشق ؟ !

أم روح تائهة تلتمس الهداية بضوء النجوم في عتمة الليل ؟

أم لعلها جميعا.. ؟ !

ملامحها ملامح بطلتي.

بدأ النوم يغالب جفوني .. ساحرة ، لسحرها نكهة شرقية . خمرية البشرة . شعرها شلال أسود طويل . عيناها السوداوان كعيني ألمها ، تزيدهما مكحلتها غموضا وسحرا . ابتسامتها أخاذة تخطف القلوب التي لا تختلف أبدا على محبتها . صوتها هامس رقراق كينبوع ماء عذب .عقلها يفكر . يقبل و يرفض . في عرف القبيلة عقل المرأة التي تفكر آفة لا بد من وأدها في مهدها قبل أن تترجم أفكار العقل لكلمات لها صوت وإرادة لتفعل ما يمليه الصوت.

تمارا .. !! نغمة حرة ، خرجت عن النوتة التي كتبتها أعراف القبيلة ، أصبحت نغمة نشاز وسط لحن متناغم . شذت لتكون نغمة في لحن يشبهها ، ويشبه إحساسها . لحن تصدقه ، .. يطربها ، فترقص على نغماته..

أصدرت القبيلة حكمها سلفا على اللحن :" لا يجوز !! ..لا يجوز !! "

تمارا .. نغمة !! في لحن كتبته الأعراف لا يحق لكِ أن تشذين عن عرف القبيلة .

الحكم : " حكمنا عليكِ بغالب .. " تمارا ستكون لغالب ، ..هو الأقدر على كسر تمردها وإخضاعها لعرف القبيلة .

واحتنا كما نبتة صبار . نبتت وسط رمال الصحراء . تعاند الموت. تدلل على وجود حياة رغم انتفاء مقومات الحياة ، وسط الكثبان الصفراء ، وحرارة تشعل الأرض والسماء ، وتقتل نسمات الهواء..

هكذا نبتت واحتنا في أحضان الغدير الذي وهبها الحياة ، وجعل سماءها قبلة للطيور العطشى . أحاطت بها النخيل ، صادة عنها زحف الرمال .

واحتنا حياة وسط موت يحيط بها من كل الجهات . لا مفر من العيش الأبدي ضمن حدودها . الهلاك مصير من يخرج بحثا عن أرض جديدة ، ستبتلعه الصحراء قبل وصوله لمبتغاه . هو هالك لا محالة.

العرف والعادات هنا قوانين ملزمة. شريعة حياة يتعبد الناس في محرابها ، ويخضعون لإمرتها بإرادتهم ، يسلموها إرادتهم الحرة ، ويكتفون بعيش آمن عبيدا تحت رايتها..

لم يفكر أحدهم في إعادة النظر بشأن عادات وأعراف تحكم القبيلة ورثوها كما ورثوا الواحة عن آبائهم . هي كأرضهم حياة ، هي قدس يمنع الاقتراب منه ..

رجال الواحة أسيادها ، هم الرجال .. ! هم من يتسلقون النخل آتين بالتمر . مقامهم بعلو مهامهم بعلو النخل في الأعلى بالقرب من السماء .

دائما النساء باقيات أسفل النخل ينتظرن رجالهن ، هكذا حياتهن منذ كانت طفلة حينما كان أبوها وأخوها وأعمامها يتسلقون النخل .. والنساء في الأسفل يجمعن ما يلقى لهن من التمر..

ولد حلمها ، أن تكون بالأعلى ، أعلى النخل تلقي هي بالتمر . تشعر بقدرتها على فعل ذلك . كبر الحلم معها يوما بيوم واليوم حكموا عليها بغالب ليكسر الحلم الذي باحت لهم به ..

غالب : تمارا أفهمك و أصدق حلمك ، سأساعدك..

تمارا : هل ستنشق عن ركب العادة

- أبرمي معي هذا العهد ، كوني لي وسأحقق حلمك

- أمنحك عهد ثقة وأمان ، عهد ميثاقه شرف الكلمة ،سأكون زوجتك..

أطلقت الواحة ( الزغاريد ) : " تمارا لغالب " . طبل ومزمار . رقصات الخيل .. " تمارا لغالب .. "

تتمتم : " غالب لتمارا "

في ثوبها الأخضر ، وحزام وسطها مشغول بخيوط الذهب ، تمارا أجمل عروس عرفتها الواحة. مدَّ يده ليلبسها طوقا ذهبيا مطعما بالزمرد .. ترفع رأسها باسمة تنظر له فتنسحب بسمتها .. لمعت عينا غالب ببريق الانتصار كعيني ذئب حين يمسك بفريسته..

- أبرمت معك عهد ثقة وأمان ميثاقه شرف الكلمة

- غالب : : " تمارا لغالب ، وغالب للقبيلة ! "

دخلت بيته ، يسمعها ابتهالاته في محراب العادات ، يخبرها أن العرف ملزم ولا خروج عليه

- ها أنت تجور على العهد المبرم . ها أنت تصادر حلمي ..، تعلمني أن الجور على عقلي وإحساسي أسمى شيمك ، تخلع عنك قناع الحر ليظهر وجهك الحقيقي . أنت عبد لما رٌّبيت عليه في محراب قبيلتك..

مدَّ يده ليمسكها ، أوقفته نظراتها ..هي أحد من سيف بتّار تقطع عليه الطريق تلجم يديه..!

- هل تحلم أن أخضع للجامك ؟ ألم يخبروك بأن تمارا فرس لا تخضع للجام وأن أحلامها تحلق بها عاليا ولا تسجنها الجدران.. ؟! أحكم قيدك فوق حروفي حاصر أفكاري حاكم كلماتي .

بقيت رهن البيت حتى النافذة الوحيدة المطلة على الواحة محرمة عليها ..

- جورك صادرني مني ، ما عدت أعرفني ، طيفك يرهبني ويحول بيني وبين نفسي . حتى عفوية روحي وحبي للناس أصبحوا ذنوبا أنكرها ..أجمل ما في روحي تدنسه بوصمه بالخطيئة .. ابتسامتي رحلت ، بدَّدَّها عبوسك

لتتعبد في محرابك . سأبقى ألعن محرابك . سيأتي يوم وتجدني حطمت أصنام العادات ما كان لعقل أن يسجن . الفكرة تطير بصاحبها تحرره من جهل المحراب.

صرخت بأمها تستغيث : " أمي غالب قاتل حرريني .. "

- قتل من؟

- قتلني ويقتلني كل يوم ..

- أراكي بخير لا دليل على ما تدّعيه عليه..

- أقسى الجروح تلك التي لا تراها العين ولا تلمسها بيديك ولا تجد دليل مادي يدل عليها .. تريدون دليل مادي لتحاكموه على أنه قاتل ؟ بعض الكلمات قاتلة ! بعض النظرات قاتلة ! بعض النبرات قاتلة عندما تكون الطعنة في صميم الروح ، عندما تنزف الروح قطرات الحياة . تلك جريمة كاملة ، لم يترك الجاني بها أي دليل يدل عليه.

وحيده في البيت.. تدور باكية بين الجدران . تسمع لنغمات تناديها . تتبعها . تقودها لغرفة غالب حيث النافذة المحرمة .. الستائر الحريرية تتطاير ، النافذة مفتوحة ..هرولت نحوها كمن فتحت له طاقه للحياة .. كان هناك أسفل النافذة .. غريب يعزف على ربابته لحنا شجيا ، التقت العينان ، وأنطلق اللحن عذبا ساحرا..

تشعر وكأنها أرض جدباء تسقط عليها النغمات كرذاذ المطر وتهبها الحياة ..تربو وتزهر..

تهمس لنفسها : " من أنت ؟ ! وكيف وصلت لواحتنا ؟ ! "

الغريب : وأخيرا رأيت عينيكِ تمارا

سمعت القبيلة بشأن الغريب الذي يعزف بربابته بالقرب من بيت غالب ليلا.. كثرت الأقاويل . بعضهم قال أنه جنيّ . بعضهم قال أنه ولاشك ساحر ، و إلاّ كيف نجا من الصحراء ووصل للواحة .. ؟

تسللت من البيت تحت ستار الليل إلى حيث يعزف الغريب لتسمعه عن قرب..

- مرحبا أيها الغريب.

- مرحبا أيتها الساحرة تمارا

- هل تعرفني؟

- كنت أبحث عن شيء مفقود ينقص لحني . سمعتك وأنتِ تبثين حلمك للوجود فعلمت بأنك نغمتي الضائعة .

- كيف سمعتني وأنا حبيسة البيت ؟ !

- ما كان لعقل أن يسجن ! الفكرة تطير بصاحبها تحرره من جهل المحراب

- هي كلماتي !

- أنتِ تتمة لحني..

- إنه لحن جميل

- إنه تمارا .. إنه لحنك أنتِ

يمسك بيديها ليبتعدا.. عند الغدير ، الماء يتدفق في سكينة صافيا عذبا ، يضئ بنور البدر في السماء .. الليلة صافية طرزت النجوم سماءها بالنور ، فأصبح ليل الواحة فجرا بالضياء

الغريب مشيرا للنخل :هاك النخيل تمارا ..حققي حلمك .. أنتِ في أمان معي.

أمسك ربابته يعزف " التمارا " .. نغماتها كتعويذة تمنحها صلابة الإرادة

- تمارا أنتِ نغمتي الضائعة التي أكملت لحني

- ولحنك هو التعويذة التي حررت إرادتي ، كلانا وجد في الآخر ما كان يبحث عنه، أتيت من عالم مجهول لتحيي حلمي

- همت على وجهي ضائعا لأهتدي بكِ تمارا

- أيها الغريب لو كان هذا اللحن هو آخر ما أسمعه منك شكرا لك لأنه منح إرادتي حريتها لأحقق حلمي

- وإن كانت تلك النغمة هي آخر ما تهبيه لي شكرا فهي أعظم ألحاني

خلعت تمارا غطاء رأسها فانسدل شلال الليل الأسود على كتفيها ..رذاذ سحرها أنبت نغمات جديدة على ربابة الغريب

ربطت ما بين النخلة وخصرها بغطاء رأسها ، و أحكمت رباطها. النغمات الجديدة تهبها القوة والإصرار. تنسيها القبيلة والأعراف وغالب . لا تتذكر إلا الحلم المنتظر أعلى النخلة

تؤلم يديها الناعمتين خشونة النخلة .. تصعد .. وتصعد .. جرحت ساقيها ويديها .. سالت الدماء فاختلطت بجذع النخلة في رحلة صعودها ..النغمات تسري في أوردتها وشراينها وروحها لتلهمها القوة لتعلو وتعلو

تمارا ملء عيني الغريب ..تسكنه.. تسلب لبّه وتمنحه نغمات لا تنتهي ..

عرف غالب والقبيلة بأمر تمارا ، توجه الجميع إلى النخيل كانت تمارا في صعودها والغريب يعزف على ربابته أسفل النخلة

تمارا في صعودها تمد له جسرا من النغمات ..تعلوا أصوات القبيلة " تمارا زانية .. تمارا دنستها الخطيئه... "

صرخت من فوق نخلتها : " لتصدقوا يوما وتقولوا الحق كفاكم زورا وبهتانا قولوا تمارا كسرت الأعراف .. "

القبيلة : " لتروى أرض الواحة بدمائها لتكون عبرة لنساء الواحة .. "

مدّت يدها لتقطف تمرات فسبقها سهم غالب في صدرها

الغريب يعزف أسفل النخلة... تقبض على التمرات بيديها .. تمسك حلمها ، وتسقط بجسدها على رمال الواحة ..

دوَّي صوت رحيلها في لحن الغريب ثم اختفي كمن انشقت الأرض عنه..

يختلط دمٌّ تمارا برمال الواحة فينبت جسرا أخضر تحفه الزهور ما بين الواحة والواحات المجاورة والمدن المجاورة والعالم البعيد والفضاء الرحب ..تجري نساء القبيلة فوق الجسر لعالم يسمح لأحلامهن أن تعيش ويسمح لعقولهن بأن تفكر وتقول لا للبالي من الأعراف

دٌفن غالب والقبيلة والأعراف وبقيت تمارا نغما حاضرا في كل ألحان الغريب ، من مكان لمكان ، ومن زمان لزمان ..ظلت روحها تطبع القبلات على خديه وتشكره لأن حياتها القصيرة لم تذهب سدى فيوم رحلت كان حلمها بين يديها .. تمارا كسرت أغلال العرف والعادات وأصبحت أنشودة الحرية لكل من يؤمن بأحلامه وحدها.. ويصدق أن المهم ما يفكر به ويعتقده هو لا ما يعتقده الآخرون ..

تمارا بقيت وأعرافهم دفنت معهم في قلب الصحراء..

- " تمارا .. تمارا.. "

تفتح عينيها

والدتها : لماذا تنامين في الشرفة؟

تمارا: غالبني النعاس ورأيتها في منامي بينما أنظر للنجوم وأفكر بقصتي ... ولكن كيف سأكتبها أمي ....؟!

- عن أي شيء تتكلمين ؟

- تمارا .... تمارا يا أمي