تكتب الشاعرة التونسية نصا يستعيد من خلال شعرية الفراغ، استراجاعات ذاكرة مثخنة، تحاول لماما استجماع بعضا من تفاصيل الزمن الذي يسيج الحاضر. هي تفاصيل تنوء بثقلها على ذاكرة ترغب التخلص قدر الإمكان من زحمة كوابيس الزمن.

تفاصيل يوم فاقد للذاكرة

عائـشة المؤدب

على مهلٍ نفيقُ، على مهل نزيح شراشف النوم المخرّمة بدانتيلا الكوابيس، على مهل نمارس طقس الذهول الصباحيّ، تبدأ القهوة بالتدخين ويشرع البن النديّ في نشر رائحة تمسح الذاكرة وتوقظ بلاهة الوعي، على مهل نترشف الفراغ، نتلمّض طعمه المغروس في القلب، على مهل نساير مرارة الوقت حتى تمتزج بالريق..

تتكوّر الساعة المزروعة على الجدار كطفل متوحّد، يمجّ الضوء البليد رداء العتمة ويلكز بكارة النوافذ النائمة ، تكز النوافذ على ستائرها، تحبس الضوء المتمرد على موتها المعلق في الهواء، أمنيزيا الغرفة المزمنة تَذْهَلُ من الألوان وهي  تسيح خجلى وترتخي على سطح مرآة صامتة، على مهل يبتعد شبح في المرآة ويمشي.

للشمس أن تصعد على المسرح الآن ولنا أن نكتم العتمة خوفا من اتزان مربك.

ككهل ثمل يمر الصباح، ويكنس الدقائق الملقاة على رصيف الوقت، تعبر الظهيرة شارع الكآبة كحسناء تتخفى وراء مكياج رخيص تهيئ المكان محطّة أخيرة للمساء القادم على مهل، وتمطر الأمسية شتاتا من ذكريات رثّة ناصعة الوخز.

نستمرّ في سفح الوقت على قارعة الفراغ، تنبهنا اللامبالاة إلى قط يلعق فتات حلم شهيّ وإلى العصافير المتخلفة عن الرحيل ترقص على إيقاع فالس أعرج، يوصلنا النهار بلا ملل سالمين إلى آخره، ندخل الغيبوبة المعلنة، معافون تماما من الفرح، خاوون من الكلمات، مترفون بنبضة قلب ناقصة.

يمنحنا آخر شعاع للشمس إلى المساء كأسرى حرب باردة، يعدّد جثثنا النابضة بالوهن، يرصّفها موازية لصوت الصمت القاتل، حين يمارس علينا بعض ساديته يكبّنا على رصيف الأرق ثم ينام، نبقى يتامى على باب الليل لا يفتحه، تنز الضلوع بالعتمة المعششة فيها فيغرق المكان في برد أليف، حين تأوي غربان الغياب إلى أعشاشها تتناسل على مرأى من القلب المجمد، ها هي تحلق في الهواء، تمتزج، تهاجم المسام، تفرد نعيقها على الحواس، تقتحم الصدر ممرا للنفور إلى السقف المعلق في الفراغ، الليل غراب بلا عيون والنوم حالة يقظة تامّة، يصّاعد النفس المكبوت وتسّاقط الغربان مطرا أبابيل، تغمر الكوابيسَ رائحةٌ من زخم الغياب، والليل يسجد للصرخة الباكية:

"يا وجهك، يا فتنة أيبست الكلمات بحلقي كعبرة مرة، يا التفاتة تهرب من مقلتين إلى مقلتين فيضيء مصباح مهمل مخبّأ بقفص صدريّ"

تهدأ الأنفاس حين يموت آخر شاهد على الفاجعة وتكشط الشمس وجوه الكائنات على مهل، نفيق، نزيح شراشف النوم المخرمة بدانتيلا الكوابيس، ونشرع في تجرع الفراغ على مهل.

 

كاتبة من تونس