خص الروائي العراقي (الكلمة) بهذا النص الروائي الملحمي الذي يغوص بتاريخ الدولة العراقية الحديثة منذ نشأتها بحدودها الحالية 1921 من خلال بنية تمزج الوثائقي بالفنطازي بتناول حركة كانت الأكثر تأثيراً في بلورة ملامح العراق السياسي الحديث إلا وهي الحزب الشيوعي العراقي وعالمه في علاقته بالتاريخ والمجتمع.

ليلة الهدهد (رواية)

إبراهيم أحمد

باب العزلة: فضاء سماوي!

شيخ من المجهول قال لي، وقد رآني في قلق

اقرأ الأرض، لا تقرأ الورق!

اقرأ العتمة، لا تقرأ الألق!

(شاعر مجهول يعتقد إنه عاش في أيس، قبل أكثر من ألف عام، وأيس مدينة قديمة في أعالي الفرات من العراق، ذكرتها بعض الكتب المقدسة على أنها عدن، حيث لا عدن أخرى)

 

(1) هذا ما حدث، لكم أن لا تصدقوا!

لم يكن أحد ممن يعرفون السيد يونس رحيم، أو سمعوا به، يتصور أن هذا الرجل الهرم جداً، الهزيل الجسد، الكليل البصر، سيكون بطل حكاية عجيبة مثيرة لا تصدق. لذا فإن من يسمعها يعتقد إنه قد جن، أو اعتراه خرف الهرمين، بل ربما حل في جسده شبح ماكر، أو أحد الكائنات الأسطورية التي يقال أنها تستوطن هذه القلعة العريقة الموغلة في القدم، والتي تحوي سكنه الصغير. من يفكر بغير ذلك، يتصوره شاباً أو كهلاً نشيطاً؛ فهو إذا كان صادقاً فلابد إنه بقوة وحيوية تمكنه من خوض غمار هذه الرحلة الهائلة الطويلة المرهقة، ويعود منها سالماً ليرويها بذاكرة متقدة جلية كاللهب. وإذا كان دعياً كاذباً كما قيل، فإن حكايته تدل على خيال جامح، لا يمتلكه الشيوخ العازفون عن الحياة؛ واقعاً أو خيالاً!

 منذ سنوات اعتكف يونس في قلعة أربيل كنسر عتيق فقد ريشه وأحلامه ورونقه. يعيش عزلة طويلة، وحصاراً ونبذاً من رفاقه، ومعظم أصدقائه القدامى.

في عصر رائقٍ خالطته نسمات باردة منعشة بعد ظهيرة ساخنة، التقى أصدقاء قلة تبقوا معه، رغم اللوم والتقريع والشكوك المسلطة عليهم من حزبهم وأصدقائهم الآخرين، وراح يروى لهم ما حدث له، وما رأى. بعضهم نقل ما سمعه منه بتفصيلات وقائعه، بنفس عفويته وحرارته في الحديث، بعضهم أطفأ كل شيء، وسفهه وأحاله ثرثرة مضحكة. ثمة شاب أجهد نفسه في صياغتها مقارباً الشعر، فجاءت غامضة جداً، قريبة من الطلاسم. آخر نظمها شعراً باللهجة الدارجة، وصيرها مرة مراثيً، ومرة نكاتاً . رغم تعدد الروي، واختلاف الكلمات والأساليب، أدرك من قرأها أو سمعها غرابة ما حدث. فمضوا يتناقلونها إلى بيوتهم، أو البارات والمقاهي. ثمة من وجد حكايته مشوقة مسلية ومضحكة، أو حزينة كئيبة تبعث على الأسى والملل، ولكنها كالحكايات القديمة؛ لا تخلو من عبرة. أخذ البعض وقائعها كمسلماتٍ وحقائق واضحة. بينما تداولها آخرون خرافات وتهيؤات وأوهاماً، خاصة بعد أن نمت وتضخمت على الألسن ورذاذ الأفواه. انتشرت الحكاية على أي حال. أضحى يونس مقصداً لكثيرين، يستحثونه للحديث بها ؛فيصغون له بانتباه وتعاطف، أو برثاء وإشفاق. بعضهم مست حكايته أوضاعهم أو سمعتهم، قالوا إنها (هراء وسخف، وإن بطلها هذا دعي ُ بلغ به الخرف والهذيان حداً يجب أن يحجر عليه بقرار محكمة؛ لتحكم أن كلامه وأحلامه وتصرفاته المادية والمالية لاغية أيضاً)؛ رغم إنه لا يملك من حطام الدنيا شيئاً!

ظل يونس غير مكترث لما يثار حوله، متحدثاً بهدوء لمن يزوره، مختتماً كلامه دائماً بلازمة:

ـ هذا ما حدث، لكم أن لا تصدقوا!

تكاثر مستطلعو حكايته، والمتقصون لأصولها، بعد أن نمت كشجرة في جزيرة نائية مجهولة تحمل فاكهة غريبة: وجوهاً وكتباً، جواهر ولعباً، قناني خمور، وعظام طيور، هياكل أناس تعذبوا وماتوا، أناس لم يولدوا بعد. ورغم طولها وكآبتها وجدها البعض لا تخلو من تشويق ومتعة وفائدة. كان في كل مرة مع تغييره في الكلمات أو التفاصيل، ونبرة كلامه، وحرارته لا يخرج عن فحواها المدهش وغير المعقول والصادم لبعضهم. كثيرون أيضاً وجدوا في كلامه خلاصة روح هائمة نادرة في هذا الوجود، وتمنوا لو يستطيعوا أن يمدوا في عمره ليسمعوا المزيد من حكمته الممزوجة بالحركة والطرافة، وتأسوا أن عمر الإنسان مهما طال بالأغذية والأدوية أو الأدعية لكنه ينتهي دائماً، وبينما تزداد حاجة الناس إليه، لا يستفيد من حكمته سوى دود القبور!

تقاطر على يونس رحيم كثيرون، ولم يعد يسعهم بيته الصغير المتداعي: صحفيون وكتاب ومراسلو وكالات أنباء وسياسيون وفضوليون وهواة إشاعات، وجدل سياسي، وأصحاب نميمة وفتن. أحد الأشخاص وجد حكايته خلاصة للأسباب التي آل إليها حالنا اليوم؛ قال: يونس هو رائد (الفضاء الأسفل) و(مكتشف الأعماق الأرضية الأهم من أعماق الفضاء الشاسع) إنه حصتنا في هذا العالم، بينما لأوربا وأمريكا (رائد الفضاء إلى الأعلى)، وكل ينطلق من قدراته وحاجاته، والمكان الذي هو فيه!". رجل من المكلومين وهو والد لشابين شهيدين، قال: إن يونس هو (مكتشف الشهداء، والمدافع العنيد عن حقوقهم) مضيفين: أن هؤلاء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل غيرهم، لم يجرؤ أحد حتى الآن أن يتكلم عنهم بصراحة، ويقترب من أعماقهم، ويتعرف على هول خسارتهم، وكيف صارت أرباحاً لرجال ونساء قطفوا الثمار المروية بدمائهم، دون أن يستحقوها، وما يجودون به على ذوي الشهداء؛ ما هو إلا فتات موائدهم؛ للتغطية على الصفقة المجحفة! من المؤسف إن ما يرويه يونس يمنح صحوة؛ لكنها جاءت متأخرة! آخرون وهم في محنتهم القاسية نظروا لما يتحدث به من زاوية عملية، أو فائدة مباشرة، فتطلعوا إلى معلوماته ونصائحه: آباء وأمهات يبحثون عن أبنائهم المفقودين، وفتيات وفتيان يبحثون عن أحبتهم الضائعين يتسلقون المنحدرات العالية ذات الدروب الملتوية إلى بيته؛ يريدون أن يعرفوا المزيد من التفاصيل عن حقيقة ما يقال عن هذه المعجزة التي بطلها هذا الرجل المنعزل في أعالي قلعة عتيقة غامضة، علها تكشف حقائق أو وقائع مجهولة ومبهمة عن مصير أبنائهم، وتلقي شيئاً من الضوء عما يجري اليوم من أحداث، وتقلبات تتعلق بالمصائر العامة، أو الشخصية! ويجلس يونس على سريره الحديدي المفكك؛ ليروي لهم ما رأى. يرد على أسئلتهم الكثيرة المتلاحقة. بعضها لم تكن تخلوا من فجاجة، كسؤال الكثيرين منهم: ماذا تتنبأ لنا ولبلادنا؟ هل سيتذكرنا العالم؟ هل سيقرون بفضل حضاراتنا القديمة عليهم؟ هل سيرفعون الحصار عنا؟ هل ستتغير الأوضاع؟ هل سيسقط طاغية بغداد؟ هل سنحظى بحياة رغيدة في وقت قريب؟ بعض الأسئلة ملتاعة كالقلب الذي شهق بها: هل رأيت حبيبي؟ نطقت به متلعثمة، فتاة لا تزال تحتفظ تحت شحوبها بجمال وفتنة. أعلمته باسم حبيبها الحقيقي، معتذرة إنها لا تعرف اسمه الحزبي، وهو الأهم في القضية، استغرقت بوصف ملامحه وخصاله ونضاله، ومكان استشهاده، سألت دون أن تنتظر إجابة سائلة: هل ستقوم بزيارة أخرى له وأصحابه؟ هل تستطيع أن تأخذني معك إليه، إذا ذهبت ثانية؟ أريد أن تقول له إنني باقية على العهد؛ لن أتزوج غيره! ولكن ثمة من بقى يسخر من يونس ضاحكاً:

ـ رائد فضاء تحت الأرض؟ كنا نتوقع أن يتوج سنواته التسعين بأن يكون رائد فضاء، يكتشف لنا كوكباً مأهولاً آخر في هذا الكون؛ نذهب إليه؛ وقد عجز عنه رواد الفضاء من الغرب والشرق، أليس هو حفيد أحمد بن فرناس البغدادي أول طيار في العالم؟ هذه المرة حتى إذا أذابت الشمس الشمع عن جناحيه، فهو يمكنه من قمة القلعة أن يمسك بذيل طائرة أمريكية ويحلق معها!

ويرد عليه آخر جاداً متفلسفاً:

ـ أعتقد إنه حاول أن يتخلص من جاذبية التاريخ التي هي أقوى من جاذبية الجغرافيا!

ويتدخل آخر بعد صمت وتأمل طويلين، لهؤلاء المتجادلين أو المتندرين بالحكاية قائلاً:

ـــ وما الضير إذا كان الإنسان لا يستطيع الخروج من هذا الكوكب الصغير بنفسه أن يخرج بخياله ويرى عوالم أخرى؟ أو النصف المظلم من عالمنا، ويعود أو لا يعود، فلا أحد يدري هل الحقيقة هنا أم هناك! أم هي لا هنا ولا هناك! وكل جهودنا في البحث عنها مضيعة لوقت ينبغي أن ننفقه مع كأس وامرأة حسناء، وقطعة موسيقية، أو قطعة صمت وظلال، وعبير وذكريات! ما قاله هذا الشخص، يشجعنا على أخذ حكاية العجوز يونس على محمل الجد، وسواء صدقنا أو لم نصدق ما يقوله، ألا ينبغي أن نصغي له؟ أو لمن روى عنه، ونحاول أن نعرف ما حدث؟ رغم إنني ومنذ الآن أرفض الانحياز لآرائه وأفكاره التي قد يريد فرضها علينا كضريبة أو ثمن لبطاقة دخول، ومشاهدة رحلته التي يقول أنها مثيرة ممتعة، كما هي مضنية وقاسية!

(2) لا تزال قلعة الآشوريين تعج بالأشباح ذوي الخوذ الحديدية!

في ذلك اليوم، يوم المعجزة كما أسماه البعض، فرح يونس لبزوغ الفجر. ضوءه الدافئ سيطرد أرقه وهواجسه وأفكاره الشائكة. مع ذلك أحسه يوماً غريباً كأنه قادم من جنة الأحلام القديمة. لكنه لا يحمل شذاها اللذيذ، إنما نكهة غامضة تدعو للتوجس. لليوم جناح طير يمس قلبه. خطر له أن ينظر إلى التقويم. في غمرة ذهوله المتواصل، اكتفى بهزة من رأسه، يأذن لليوم أن يأخذ تسلسله بهدوء بين أيامه العادية الرتيبة، قائلاً في نفسه، إنه مجرد قطرة براقة أخرى في سراب العمر!

تجاوز يونس رحيم الخامسة والثمانين من العمر، والبعض يقول إنه قارب التسعين. أضحى هيكلاً مهدماً يحفظه جلد أصر بقوة الروح، لا بقوة الدم على الاحتفاظ بنضارة الشباب ونبضه رغم أوجاعه ونحوله. قامة متوسطة مستقيمة، رأس أشيب ثابت على كتفين غير هزيلين، وجه أسمر مستدير عذب الملامح. عينان واسعتان لم تفقد بريقهما، يسكن بيتاً صغيراً متداعياً مؤجراً في منطقة السراي من قلعة أربيل، قريباً من مئذنة جامع ربما لقصرها يتخيلها مقطوعة الرأس. حين يسير في دروب القلعة، يحس أنه في عالم آخر، تتداخل به طرق السماء بطرق الأرض، النجوم بالحجارة، الغيوم العطرة بالسواقي الآسنة، طرق الحاضر بطرق الماضي، مكونة حياً خاصاً به تسكنه الأطياف والأشباح والطيور وربما الملائكة، والشياطين أيضاً. يسعى البشر تحته في شوارع المدينة بأحجام الأطفال، يتحركون بسيارات كأنها لعبهم. بيته والبيوت التي حوله بجدرانها المتهدمة، والآيلة للسقوط هي ملك لأناس هجروها وراحوا إلى قصور وعمارات شامخة بنوها في أحياء فخمة بعد أن اغتنوا في الظلال الوارفة للصراع القومي المتصاعد، والحروب وما ينبت على ضفافها الدموية عادة من سنابل ذهب، وصفقات كبيرة!

شعر أن هواجسه وأفكاره لا زالت جاثمة على قلبه، طاردته وأحالت ليله إلى صحارى أرق وهموم. نهض ببطء وسار بتثاقل إلى الحمام المتآكل الجدران. دهمته رائحته الثقيلة الجافة، أفرغ جسده الضئيل، سكب ماءً صيفياً دافئاً قليلاً على جسمه. ألقى نفسه على أريكة صغيرة رثة في حوش البيت فتطاير غبارها. شعر بالسماء تنسكب في روحه متغلغلة كماء في طين قديم؛ فيبعث تلك الرائحة الغامضة الشذية، ربما رائحة ذكريات قديمة تحللت ونسيت. تناول قطعة خبز بائت، وجبنة بيضاء، وقدحاً من الشاي، تلك وجبة مازالت تثير شهيته المحتبسة عادة. نظر إلى الكتب مركونة بجانب سريره، وأحس بالأسى أنه لم يعد يستطيع القراءة. ليس فقط لأن بصره قد ضعف، ولكنه يجد مزاجه يحرن ويكبو. وكل كلمة تثير شجنه لتفترسه ذكريات وفكر يراها حشرات شرسة تتسلل داخله! مع هذا وجد إنه مستعد لاستقبال صباح جديد، يضيفه؛ على استحياء لعمره المديد العسير. قضى لحظات طويلة يتأمل مدينة أربيل من شباك حجرته شبه المتداعية. جال ببصره في السماء الصافية الفارغة إلا من طيور عابرة. توقف قليلاً عند منحدرات القلعة القديمة المكسوة بالحشائش الجافة، وقد استحالت عهناً ذهبياً من لهب الشمس الطويل. الأفق أمامه يمتد متسعاً لتأخذه الضواحي الجديدة، ولا يتبينها سوى كتلاً بيض مشعة.

رغم عدم استطاعته صعود مرتقياتها وطرقها القديمة العالية الملتوية، صار متآلفاً معها، شاعراً أن هواءها الندي بعبير صنوبر، وماض بعيد يلائم أنفاسه الأخيرة. كان يتأمل ذرات الزمن مختلطة بلمعان الضوء، ويرى في نوافذ بيوتها الصغيرة إطلالات على المجهول من تاريخ هذه الأرض المكونة من حطام سيوف وجماجم، كتب، ومجامر بخور، وعطور وخمور! يتسلى كل يوم باستعادة الذكريات العتيقة لهذه المدينة، ربما هرباً من ذكرياته الشخصية، أو لترويض عقله كما يقول لكي لا يصيبه الخرف. يشعر بحنين ووجود أعمق حين يتذكر إن أربيل هي من أقدم مدن الدنيا التي ما تزال مأهولة! قبل خمسة آلاف سنة تقريباً بنى الآشوريون في هذا السهل الرحيب هضبتها الكبيرة حجراً حجراً. أعلوا في بنائها حوالي ستة وعشرين متراً تحسباً لهجمات الأعداء، حيث لا يوجد حولها نهر أو جبل يحميها. أسموها أرباـ إيلو، أي الآلهة الأربعة. أعلنوها عاصمة أبدية لمملكتهم! بعد أزمان طويلة حين بسطوا سيطرتهم على سهل وادي الرافدين مخضعين من تبقى من السومريين والأكديين والبابليين، نقلوا إلى قمتها كرسي الإلهة عشتار، ورفعوا مناصب سفرائهم إلى محفل آلهة السماء، وتلقوا رواتبهم وعطاياهم من السماء مباشرة: مزيداً من المطر والمراعي الخضراء وضروع الماشية المترعة بالحليب الدسم المعطر بزهور السفوح! ومن هذه الزبدة الكبيرة تنهض نساء ممشوقات القوام، ناهدات الصدور، لدنات البطون والأفخاذ، ترف شعورهن الذهبية مع آخر خيوط الشمس على الشواطئ البعيدة! في كل مرة يسأل يونس نفسه من هم هؤلاء الآلهة الأربعة الذين ساسوا بأرواحهم العظيمة هذه المدينة؟ فهي لم ترتح في مكانها بل راحت تجوب آفاق الدنيا والتاريخ، سفينة فتوحات واستطلاع وهيمنة! في كل مرة يجيب: لا أريد أن أستقي معلومتي من الكتب! العتمة والغموض أشد إمتاعاً! لذا كان يمارس في كل مرة معها لعبة التوقعات. كان يقول: من المؤكد، لم يكن بينهم إله الحب، بل إله الحرب، لو كان إله الحب بينهم لما طغى إله الحرب، ولكن هل يستطيع إله الحب الرقيق لي ذراع اله الحرب قوية العضلات؟ السجلات القديمة لهذه القلعة مكتظة بأخبار حروبها وفتوحاتها أزماناً طويلة. فهي ألقت بظلها على أهرامات الفراعنة في مصر، وحقول التوابل في الهند. طوع ملوكها الحديد لعضلاتهم؛ فصارت قلوبهم أقسى من الحديد. وركبهم جشع السلطة والثروة والشهوات؛ فراحوا يتصارعون على العروش. الابن يقتل أباه، والأخ يقتل أخاه، والزوجة تخون بعلها ومليكها؛ لتضع أبنها أو عشيقها مكانه! يجوبون أقاليم الدنيا، يقهرون حكامها وأبناءها ليأتوا برؤوسهم وجلودهم، يعلقونها عند مداخل قصورهم للزينة. كان بينهم إله الحكمة، هذا مؤكد، فبعضهم أحب المعرفة والاكتشاف والعلم، بنى إمبراطورهم آشور بانيبال مكتبته في مدينتهم نينوى فكانت أول وأكبر مكتبة في العالم القديم. لكن ماذا يفعل إله الحكمة مع إله الحرب، وقد أغلق أذنيه، وفتح عينيه على طرق الغزوات والثروات؟ إنه طرد إله الحب, وحين رأى الشبان يقصدونه غير مكترثين للحرب، قتله. قطع جسده وجعل القطط السوداء تأكله لتصير رمزاً للكراهية! تحالف الكلدانيون مع الميديين وقضوا على إمبراطورية آشور وأحرقوا ملوكهم أحياء، واحتلوا قلعتهم هذه! في الأزمان الأخيرة فني كثير من الآشوريين في صراعهم الطويل مع الأتراك والكرد والعرب. رحل كثير ممن تبقى منهم إلى أمريكا وكندا وبريطانيا وأصقاع الدنيا الأخرى. ثمة مجموعات نزحوا إلى بغداد والموصل، أو واصلوا عيشهم متناثرين في قرى اشتهرت بالأعناب والخمور والأديرة المأهولة بالرهبان المعمرين، والراهبات اللواتي طمرن جمالهن الفتان تحت مسوح سماوية ثقيلة! اليوم آلت معظم أرضهم الشاسعة للكرد القادمين من عزلتهم الطويلة في أعالي الجبال. جعلوا أربيل عاصمتهم، وراحوا يبسطون سيطرتهم على ما حولها. تضاءل ذكر اسمها في الكتب وسجلات الأمجاد الكبيرة. عاشت نصف القرن الأخير في طاحونة دم مع السلطة في بغداد. صارت تعيد إليها جنودها القادمين من وسط البلاد وجنوبه جنازات، أو مجرد أسماء ميتة، وتلتقط من الأرض المحيطة جثث رجالها ونسائها وأطفالها، في غارات وقنابل حارقة وسامة. بينما يتردد اسمها في بغداد في أوقات السلم القليلة مقروناً بلبنها اللذيذ مفعماً بنكهة النار، وزهور الجبال! ظل هذا التيار الدموي يطويه النسيان والتجاهل وراء الجبال، يطيح بزعماء وحكام العراق، ويطوي عهود حكمهم مع أكفان الموتى وينشر الشقاء بين العراقيين، ما جعل البعض يعتقد أن قلعة الآشوريين هذه لا تزال تعج بالأشباح ذوي الخوذ الحديدية! وفي دوامة كل ذلك دفع بيونس رحيم إلى رأس القلعة، ليسكن هذا البيت الصغير في محلة السراي بين العوائل الفقيرة، ويطل منه على الأفق المتوهج في شروقه وغروبه. يرى في التماعاته المبهمة أو الواضحة ما يشاء تفسيره من تاريخ وأحزان خاصة. صار كلما امسك ذرة منها زاغت من بين أصابعه المرتجفة، ورموش عينيه اللتين تغيمان بالدموع أحياناً. حين ينهض من جنب النافذة يحس جسده مفتتاً، تراباً لم يعد يستطيع الحنين، لأهل أو مرابع أصدقاء. صار يتوق لتراب القبر، وراحته التي لا تقطعها ساعة تنبيه، أو طرق على الباب!

ارتشف شاياً، واستمتع بنسمات الصيف قبل أن تسخن مع الضحى، مضى يفكر: إذا كان إله الحب قد عاد إلى برج القلعة، فلا شك إنه الآن عاطل عن العمل، أحيل على التقاعد، أو جرت رشوته بعاهرة أو غلام! أو إنه الآن في حجرته القريبة من السماء يستمني مستعيداً في خياله عبثاً، أجساد حبيباته الآلهات الشبقات القديمات! فلا حب هنا منذ زمن طويل! لا شيء غير الكراهية والتناحر، ضوارٍ تفترس بعضها، صراع على السلطة، تربص واغتصاب واستحواذ على الأرض والناس! يتذكر يونس دوما أن القادة المهزومين أو المتقاعدين في العراق لا يقضون بقية حياتهم في بيوتهم. هم محظوظون إذا طردوا إلى المنافي، أو اكتفوا بإرسالهم إلى المقابر، ولم يذبحوا ويسحلوا في الشوارع، وتحرق بقاياهم مع الأزبال! هو إذا عد نفسه قائداً، ولو صغيراً، فإن بقاءه حياً حتى الآن، دون أن يفقد حياته، أو عضواً من جسده، أعجوبة أو استثناء عليه أن يعيشه باستمتاع ويتأمله؛ ليعرف أن كان ذلك أفضل من موته! ليس الناس فقط يسألونني، أنا أيضاً أسأل نفسي ما الذي أتى بي إلى هذه القلعة؟ لماذا ارتضيت عزلتي واستسلمت للأحزان والصمت؟ سأتحدث فيها الآن باختصار: لقد أفلح سكرتير الحزب حمه سور وصاحبه كمتار بيس في السيطرة على قيادة الحزب الشيوعي، وقاما بإبعادي عن مكتب قيادته وفرضا طوقاً من العزلة، والنبذ والحصار عليّ. أسكنت قسراً في هذا المكان، فأنا لا زلت عضواً في الحزب، ويجب أن أخضع لقراراته مهما كانت جائرة. شيئاً فشيئاً ارتضيت وارتحت لعزلتي. ثم أين أولي وجهي؟ والمنطقة كلها مشتعلة صراعات وحروباً. لو عدت إلى بغداد لقتلت بقسوة أو مسخت. لا أريد أن ألجأ إلى بلد بعيد. لا أستطيع العيش في أي بلد في العالم مهما كان جميلاً ومرفهاً، فأنا مغروس في وطني، ربما أنا مشطور من النخلة، التي هي شجرتي المفضلة منذ صغري. رحت أعذب نفسي أيضاً، تارة بالذكريات وتارة بالأحلام. مرة بقذيفة من الماضي، ومرة بركلة من المستقبل. ولكي يكون الأمر واضحاً لا بد من حديث طويل يجرني إلى التاريخ، أحاول أن أجد فيه سر ما جرى. تاريخنا هو كعكتنا الكبيرة التي صنعناها جميعاً، ومهما رأينا عليها من عفن وتفسخ يجب ان نتقدم، لنأخذ قطعة منها، ولو على سبيل التذوق.

(3) لا تزال الحياة تزورني بين فترة وأخرى!

 ظل يونس يتمتع بذاكرة مشتعلة متأججة، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، قال له صديق قديم له من المولعين بحدائق بغداد، وكتبها النباتية:

ـ ذاكرتك شجرة جهنمي متوهجة بزهورها دائماً، تزيد ألقاً كلما كبرت!

ويفهم يونس أن ذلك يعني أنها شجرة زينة وبهجة عابرة لا تثمر، لكن صديقه يحبه ولا يغمزه، وقد أدرك ثغرة كلماته فبادر للقول:

ـ رغم الهجير الطويل ظلت ذاكرتك يا صديقي شجرة ورد وهاجة فواحة بالأحلام والذكريات وهذه هي الثمرة الأرقى.

ويرد يونس بتواضعه:

ـ لا يا صديقي! نخلة واحدة أعطت أكثر مما أعطيت في نضالي، أو حملت في ذاكرتي ومخيلتي!

ويبدو أن ذلك الحكم لا يزال ساري المفعول حتى الآن. أمراض شيخوخته تتفاقم، يحس بدبيبها بين مفاصله، وتحت لسانه، ويعجب لبشرته النضرة فوقها "بقيت أتحامل على نفسي،

من أجل ذكرياتي أدافع عن جسدي، حتى اليوم لم يتخل يونس عن ابتسامته، وبريق عينيه الصافيتين رغم وهنهما. مسح نظارته الطبية عدة مرات وحاول القراءة فلم يستطع. ألقى الكتاب السياسي القديم، وتناول كتاب مختارات شعرية كان يحمله معه أينما حل وارتحل، صار يحفظ معظم قصائده، لكنه درب نفسه على أن يستنشق رائحة كل شاعر من الورقة المكتوبة عليها قصيدته: ورقة شاعر الحب: عطر زهرة مقطوعة لتوها، شجرة احترقت بصاعقة. ورقة شاعر الحكمة: رائحة ضوء جمر يشع من تحت رماد ليل طويل. ورقة شاعر حنين وبكاء على الأطلال: رائحة احتراق عشب ودموع وروث. ورقة شاعر السياسة: رائحة عصافير تحترق في ليل بهيم، حديد ملتهب يغطس في دم بشري. كان يسمع خلالها نبض قرائحهم أيضاً، هدير شلالات تنحدر من جبال، مياه أمطار تسيل بوديان مليئة بالصخور، مستنقعات راكدة تتحرك بقوة ما تحتها من كائنات غامضة، ويقترب منها مهما اختلف معها في السياسة والفكر، ظل يحب كل هذه الروائح والخفقات متكاملة متراصة منسجمة، قوارير عطر في حجرة امرأة مهجورة تذكرها بعشاقها القدامى، دائما لها وحيها وبوحها وحزنها، أحياناً يستنشق روائحهم معاً، ثم يعود يفردها كباقة ورد، فيحس بروحه تمتلئ، ويعود لحسابه الطويل مع نفسه " تهمة كبرى قاسية أن يكون الإنسان معمراً في بلد يهرس الناس فيه بالحروب والاعدامات والكوارث! ترى أية ظنون وتساؤلات ستلقى علي منهم؟ ومن ضميري أيضاً؟ وماذا يختلف أن تعذبني ذاكرتي بشوكها، أو زهورها أو دخانها؟ كنت أقول أن ذاكرتي شعلة شمعة أريدها أن لا تنطفئ في هذه الريح،حتى تحرق آخر قطرة زيت ترسبت فيها من رحيق هذه الأرض، ثم تقول كلمتها وتمضي" وبعد أن وجدت الكلمات لا تجدي نفعاً في عالم يحكمه الضجيج والصخب الفارغ العنيد؛ لم أعد مكترثاً أن تنطفئ شمعتي، لكنني أعود أبحث عن أي شيء يبقي جذوة همومي مشتعلة: كتب لا أقرأها، رفاق وأصدقاء لا يفهمونني، ولا أفهمهم، أحلام لم تتحقق، أحزان اخترقتني كالرصاص، وأحزان أخرى لم تأت بعد، رغبات لا تتحقق، ولا أريدها أن تتحقق، شموع من خلايا نحل عطرة لا أشعلها! وغيوم كثيرة في القلب، كنت دائما أقول لمن يلومونني على حزني وصمتي: لو أعطوني كل أفراح الدنيا المبهرجة؛ لما بادلتها بلحظة حزن حقيقية تمنحني فرح الحكمة والصدق والأمل! هجرني رفاقي بعد رفقة زادت على الستين عاماً، من أخذهم الموت هم الذين ينبغي أن يعتبوا عليَ، حيث لم ألحق بهم، أو كنت بشكل أو بآخر قد تسببت في موتهم أو عجلت به، ومن بقوا على قيد الحياة، ولا يزالون أصحاء أو يستطيعون السير على أقدامهم، يحق لي أن أعتب عليهم، فأنا رغم بقايا قوتي منهك عليل أتلهف لروائحهم وكلماتهم التي أحسها تدب في روحي كالماء في تراب قديم! هجران الرفاق والأصدقاء يبعث شجناً لذيذاً حين يذكر بهجران الحبيب الأول في مطلع الشباب، لكنه يبعث قشعريرة باردة في الروح حين يذكر أيضاً بموت الروح قبل الجسد! كيف أنسى القانون الساري بين البشر مذ صارت لهم مصالح وسلطات على بعضهم: حين تكون ذا سلطة أو جاه أو مال يبتدع الناس كل وسيلة، ويشقون كل طريق ليصلوا إليك، وحين تخلو يداك من سلطة أو مال أو جاه يبتدعون كل وسيلة، وكل طريق ليبتعدوا عنك! بعض الناس لا يكتفون بقطيعتي، راحوا يلوثون اسمي وسمعتي ويدعون الآخرين لمقاطعتي، لم أكن أتصور أن كل هذه القسوة تربض كإبر القنافذ الحادة تحت بشرتهم الهادئة الناعمة! جاءت أيام صارت أفضل أمنيتي فيها الرحيل بالموت، بذلك تكون مغادرتي آمنة ومريحة لمن حولي، لا يستغرق تجهيز الميت طويلاً، ولا يكلف أحداً كثيراً، خاصة وإنني ادخرت لذلك قليلاً من النقود، وضعتها في مظروف بارز في حجرتي، حدث هذا معي مرتين، وكلاهما عشتها وشهدتها من تلفزيون في مقهى صغير لا يبعد كثيراً عن بيتي: عندما سحق الأمريكيون وحلفاؤهم الجيش العراقي في الكويت، وتناثرت جثثت عشرات آلاف الجنود العراقيين على الطريق، بينما كانوا هم يتقهقرون باتجاه بلادهم. اندلعت انتفاضة في الجنوب، هب فيها الناس بشكل عفوي فسيطروا على المرافق الحكومية، وأزاحوا، وقتلوا معظم أتباع الدولة والحزب الحاكم. ولكن الإيرانيين ورجالهم من العراقيين؛ تسللوا إليهم وسيطروا على مواقع قياداتهم، ورفعوا صور حكام إيران وشعاراتهم. أثار ذلك فزع حكام الدول المجاورة؛ فاتصلوا ببوش الذي أمر شوارزكوف قائد قوات التحالف الدولي لوقف زحفه إلى بغداد، بعد أن صار على مشارفها، وأعطى الضوء الأخضر لصدام لسحق المنتفضين. شاهدت ما حل بأبناء الجنوب من مذابح، وانتهاك وتشريد! وليلتها بقيت أتقلب أرقاً؛ أحاول ان أستنفر خبرتي في السياسة؛ لأعرف كم جهة شاركت في صنع هذه المأساة، حتى عييت!

هنا انتفض الكرد؛ فتصدى لهم ما تبقى من جيش النظام، رأيت ما حل بهم. هاموا مشتتين على سفوح الجبال على غير هدى. صاروا يتلقون الخبز والحليب لأطفالهم من أبواب طائرات الهيلوكوبتر الدولية المحلقة فوقهم. لم أبرح بيتي مع قلة من سكان القلعة, بقيت مع هذه المجموعة الصغيرة من الفقراء التي ظلت في بيوتها الصغيرة القديمة ينتظرون القتلة، أو أية مصائب أخرى! هرع مسعود البرزاني، وجلال الطالباني إلى صدام. رأيتهما في التلفزيون وهما يدخلان إليه، الواحد تلو الآخر، لا أدري بماذا تحدثا معه، وإذا كانا قد اعتذرا عما بدر من الكرد في انتفاضتهم، لكنني رأيتهما يقبلانه من كتفه. صدام لا يسمح لأحد أن يقبله من وجهه، منحاه ما يشبه قبلة الحياة، كان بأمس الحاجة إليها بعد أن كاد يتورى!

اقتربت من الموت وتمنيته! مرة أخرى قبل فترة قصيرة، جرى بين البرزاني والطالباني صراع على أموال الكمارك وغيرها من الأتاوات في المنطقة التي يتقاسمان النفوذ عليها، تطور إلى حرب دموية طاحنة قتل فيها المئات من الجانبين، فاستعان الطالباني بقوات إيرانية، واستولى على أربيل معقل مسعود البرزاني، وأجبره على الفرار منها مع فلول قواته، استعان مسعود بصدام، فأرسل له لواءً مدرعا وكتيبة من القوات الخاصة بقيادة ابنه قصي؛ هزمت بيشمركة الطالباني ومن معه من القوات الإيرانية، ولاحقتهم إلى ما وراء الحدود مع إيران. عاد البرزاني مع بيشمركته إلى أربيل، سمعنا صوته من أذاعته، وهو يكيل المدائح لصدام، ويصفه بالأب الحقيقي للأكراد، والذي يجب طاعته مهما قسا على أبنائه، والقائد الحكيم الذي لا يدرك حكمته إلا أصحاب البصيرة، وإنه مستعد لأن يلبي كل ما يأمر به! دارت مفارز الأمن والمخابرات على الفور يرافقها البرزانيون أدلاء على بيوت ومقرات ضيوفهم المعارضين العرب العراقيين. الذين لم يفيقوا من هول صدمتهم بوجود قوات السلطة حولهم حتى عاجلهم الرصاص والقصف بالقنابل. قتل المئات منهم، واعتقل كثيرون وأخذوا أسرى مقيدين إلى بغداد. سبوا عوائلهم ونهبوا بيوتهم ومقراتهم، حصلوا على وثائق تحوي أسماء أعضاء في أحزابهم وتجمعاتهم ومناصرين من مدن العراق المختلفة. كانت مذبحة كبرى، جاءني أحد الشبان الكرد المتعاطفين معي، عرض أن يأخذني إلى مكان آمن. شكرته ورفضت مغادرة بيتي، وجدتها مناسبة طيبة أو معقولة للخلاص، صرت أنتظر القتلة، أن يأتوا ويخلصونني من حياة أضحت فائضة عن حاجتي وحاجة الآخرين. وجدت الاستسلام للموت القادم من بغداد مريح جداً، تمنيت فقط أن يجهزوا علىّ بسرعة ودون تعذيب، صرت أتخيل الطريقة التي سيقتلونني بها، رضيت بكل طريقة لقتلي، فقط كرهت اقتيادي إلى أجهزتهم السرية في بغداد، أو عرضي في التلفزيون لإذلالي! قال الشاب الكردي: أمر مخز لنا، القادة الكرد هنا يقتلون ضيوفهم ومناصري شعبهم. الغدر صار لديهم تقليداً، وعرفاً وشيئاً يفاخرون به! بقيت طيلة الأسابيع التي مكثت فيها قوات صدام في أربيل أطل من نافذة القلعة؛ أرى مصفحاتهم وسياراتهم تجول وتصول، لم أخرج لأسلم نفسي لهم خشية أن يأخذ ذلك معنى تعاوني معهم، لم يفكروا أن في هذه القلعة المتآكلة هدفاً يستحق الملاحقة، انزل حزب البرزاني في شوارع أربيل فرق رقص ودبكات ومزامير وغناء، رافعة صور صدام وعلم العراق تهتف، وتحي الضباط والجنود القادمين محررين من بغداد! انسحب الجيش من أربيل، والمنطقة تاركاً إياها للحماية الأمريكية. سرعان ما عادت العلاقة بين الحزب الشيوعي وجماعة البرزاني إلى سابق عهدها، وكأن شيئاً لم يحدث، ولم يقتل العشرات من الرفاق هنا وفي بغداد، وغيرها بعد أن كشفت أسماؤهم وعناوينهم. هذه هي القاعدة، مادام رأس الحزب سالماً معافى؛ فالحزب بخير، ولا شيء يدعو للمساءلة! أصبت بخيبة أمل أنني بقيت على قيد الحياة، حتى صرت أعجب من استعصاء عمري على الانتهاء!

أحس يونس بقشعريرة، عاد يحدق من الشباك بجلسة جامدة. أخذه خلالها نعاس متقطع. قارب الظهيرة. آوى لفراشه عله يستعيض بالقيلولة عن سهاد الليل. الكهرباء منقطعة كعادتها، والمروحة المنضدية علاها الغبار. أنفاسه تتردد في صدره لهاثاً مرهقاً. توسل أن يغفو. صارت ساعة النوم أمنية كبرى. رأى نفسه ينزل جبلاً شاهقاً كان قد صعده في شبابه، وعلى ظهره زوادته وكتبه. الآن يصعده لاهثاً منهكاً متداعياً! واجهه البحر الذي لم يكن يراه من قبل في هذه البقاع الآسيوية المحصورة بين جبال وسهوب. بدا له الموج المتلاطم في اللجة ينوح ويتوعده. صار على الشاطئ، أخذ الموج يلاعب أقدامه: ثياباً هفهافة على أجساد فتيات جميلات راقصات يدعونه بما لم يدع له العمر كله. قال في نفسه؛ وماذا أستطيع أن أفعل وقد بلغت أرذل العمر؟ وقع في أحضانهن العارية البضة، لكن طرقاً شديداً ولجوجاً على باب بيته جذبه من بين أجساد الفتيات الحسناوات الراقصات فوق الماء، وألقى به على الشاطئ تحت شمس حادة الأشعة. أفاق على الباب يهتز ويكاد ينخلع، والجو صار حاراً. قال في نفسه "الأمر كذلك دائماً طيلة العمر، حلم جميل يقطعه طرق لجوج". ظل لابثاً في سريره الحديدي وفراشه المتهرئ، لا يريد أن ينزل منه. من هذا الذي يأتيه في هذه الظهيرة المشتعلة؟ من يأتيه أصلاً؟ أخرجه من حلم لم ينل فيه لذته العميقة الساخنة، لكنه أوحي له من جديد بحياة القلب والجسد، على هذه الأرض، أو في مكان آخر! وعمر آخر! كان يريد أن يتمثل ما جرى له أو يستعيد قواه المنهارة. أخذته فورة النزوات الغابرة. ظل الطرق يتعالى بإلحاح. لا يتوقع أحداً بالتحديد. أصدقاؤه ومعارفه هنا هم من رفاقه الذين تحدوا العزل والحصار المفروضين عليه بزيارات ولقاءات اقتصرت على مناسبات متباعدة جداً. أصدقاؤه الشبان بعد أن حذروهم منه؛ قلت زياراتهم أيضاً، ولا يأتون بمثل هذا الوقت عادة. خطر له أن يبقى لابداً في قيلولته ولا يهبط من فراشه، لو كان الطارق من أهل الدنيا لمل ومضي. ربما هو الحلم الرهيب نفسه، ليست واحدة من فتيات البحر الجميلات طبعاً، بل من أولئك الذين يظهرون في مناماته وكوابيسه يوجهون أسئلتهم الرهيبة، ويتوعدونه في عالم الموت. والريح تقرع الباب بدلاً عنهم. لكن الدق تواصل بإلحاح. تذكر إنه لم يفتح الراديو العتيق منذ ليلة أمس، وربما الآن جاء إليه النبأ العظيم: سقوط الطاغية، وانفتاح الطريق إلى بغداد. ولكن من تبقى من الأهل والأصدقاء؟ حتى قبورهم قد لا يجدها. أهو محمد البيرماني قد جاء ثانية؟ راودته مشاعر متناقضة بين فرح لعودته شرط أن لا يتحدث عن السلطة ووعودها ودولاراتها، وبين أن لا يكون هو فلا يراه ثانية. تحامل على نفسه، يجر قدمين متعبتين بالتهاب المفاصل، تغدوان في حر الصيف أقل وجعاً.

(4) هل جاءني الكردي بالنبأ السعيد المنتظر؟

قضى وقتاً هشمه الطرق والترقب، وصل الباب، كان شاباً كردياً على عتبته، قال يونس بصوت واهن:

ـ أهلاً وسهلاً ! ....خير؟

كان الشاب يعمل في مقر الحزب الشيوعي في أربيل، يأتي أحياناً مرافقاً لمسئوله الحزبي في زيارته المتباعدة. يتكلم العربية بصعوبة؛ مكسرة، متلعثمة، سلم عليه بتهذيب:

ـ رفيق انت اليوم عصر يحضر حفل افتتاح!

حرن الشاب في كلامه. راح العجوز يونس رغم تلاشي نبأ الأمل العظيم، يفرك عينيه ويمسد جبينه محاولاً أن يفهم ما يقوله الشاب، ظل ينظر إليه، أعاد الشاب كلماته، ومع المسافة التي طالت بينه وبين رفاقه قادة الحزب، راح يخمن ماذا سيفتتحون عصر اليوم، فهو لا ينسى إنه العضو المنحى من المكتب السياسي. المعزول والمنبوذ والمنفي داخل وطنه، وإن رفاقه الذين أصبحوا سجانيه لا يذكرونه عادة بما يسر، لكن أساريره تهللت بعض الشيء، فالحزب القديم يبدو إنه أدرك أخيراً ضرورة العمل العادي البسيط، والإنتاج المادي، بعد طول انهماك بالتهويمات الخيالية، والشعارات، واللافتات، والاجتماعات والمنشورات، وجمع التبرعات، والمظاهرات القديمة، التي لم تحقق شيئاً، ولم تحسم أمراً منذ ستين عاماً. خامره شيء من حلمه القديم أن نضالاتهم القديمة لم تذهب هدراً رغم النكسات والضربات والمصائب فهاهم يفتتحون شيئاً نافعاً، ورغم ثورته على سلوك بعضهم، وتغير قناعته بفكرتهم، قال في نفسه " ها هم يدعونه لشيء جيد، حتى ولو تباهياً" قال بلهفة:

ـ شراح يفتتحون؟

حاول الشاب أن يقول شيئاً لكنه لصعوبة نطقه العربية، وربما لعدم فهمه ما جاء من أجله يتلعثم ويتردد ويصمت. دعاه للدخول، تردد الشاب، فهو يعرف أن الرفاق القادة هنا لا يحبونه، لكنهم اليوم أرسلوه إليه، ربما غيروا موقفهم منه، دخل بهدوء، جلس متردداً، ظل يونس متحيراً يتساءل في نفسه ماذا سيفتتحون؟ وبينما كان يضع أمامه علبة كرتون صغيرة فيها قطع حلوى، والشاب يعتذر عن الأكل، أعاد عليه السؤال، عله استجمع تفكيره وقاموسه من المفردات فيعلمه بهذا الشيء الهام الذي سيفتتحونه ويدعونه لحضور حفل افتتاحه!

لم يستطع الشاب أن يعبر عما يعرفه عن هذا الشيء الذي سيفتتحونه.

فراح يونس يخمن ويساعده للنطق:

ـ سد مثل سد دوكان، جسر، مصنع نسيج؟

ـ لا رفيق.

ـ سايلو حنطة؟ معمل أحذية؟

ـ لا كاكا، هاي شنو!

ـ مدرسة؟ روضة أطفال؟ مكتبة عامة؟

ـ لا.

انكفأ مزاجه المنهك بعد أن أشعله حلم افتتاح شيء جديد مهم في هذه الأرض الغنية المقفرة المستنزفة بالصراعات المجنونة، لكنه لم يشأ أن يفقد الأمل الذي اشتعل فجأة، رغم أن نزعة يأس ساخرة تناوشته فجأة فسأل مبتسماً:

ـ مزرعة بطيخ؟ مطعم كباب؟ دكان دوندرمة؟ مكتب للتنجيم، والضرب تحت الرمل؟ شراح يفتتحون، انت حيرتني؟ فوجئ به يقول له :

ـ هسه عرف يقول رفيق: مقبرة شهداء حزب، راح يقصون شريطها!

لم يصدق ما سمعه؛ فعاد يسأله معتقداً أنه لكونه لا يجيد العربية؛ أخطأ في القول، لكن الشاب أكد:

ـ صحيح كاكا، مقبرة شهداء خالدين، نعم رفيق!

قال يونس بلهجة سؤال حازم:

ـ يفتتحون مقبرة للشهداء، ويقصون الشريط بالمقص؟ رد الشاب على الفور، وهو يحرك أصابعه بحركة قص كختان أو حلاقة:

ـ صحيح كاكا، مضبوط،يقصون شريط أحمر، تمام!

وجد إنه ليس في سياق بكاء مرير، إنما ضحك أمر:

ـ يقصون شريط أحمر؟ ها ؟

ـ نعم يقصون شريط احمر، رفيق!

اعتصرت قلبه غصة، كيف صدق أن رفاقه هؤلاء سيقدمون على بناء شيء جديد؟ لام نفسه إنه اندفع مع حلم بالخير، أي خير يرجى من هؤلاء؟ اخرجه من لجة همه صوت الشاب وهو يتحدث بطريقته المقطعة. عرف منه بعد كلام متعثر أنهم سيمرون عليه اليوم الرابعة عصراً، ليأخذوه إلى ضاحية قريبة من أربيل، حيث سيجري الاحتفال بافتتاح مقبرة لشهداء الحزب الشيوعي، برعاية سكرتيره العام.

ودع الشاب، وأغلق بابه، وعاد يجر قدميه بالشحاطتين العتيقتين، ثمة خلجات كانت تدفعه أن لا يصدق ما سمع، لكن صحوة عقله جعلته يردد: وهل يرجى منهم شيء غير هذا؟ شعر بعظامه تصل عليه بوجع مفاجئ. رغم ضحكه من كتب تفسير الأحلام، تساءل: ترى ألهذا كان يرى كوابيس الليل التي فر منها؟ كان يرى المئذنة العتيقة فوق القلعة أو يتوهمها، وقد استردت جزأها العلوي الذي يتصور إنه مقطوع لتميل به وتسقطه على رأسه، وحيثما فر منه نالته حجارته وسحقته. ثم يظهر ذلك المشهد ليجلده في الليالي: قرع ودوي شديدان، ويجد أمام بيته جمهرة هائلة من شهداء الحزب يقرعون جدران بيته ويلوحون بقبضاتهم العارية من اللحم والكفن ويسألونه: قل لنا لماذا قتلنا؟ ماذا حققتم مما وعدتمونا به؟ هل كان لموتنا جدوى؟ الكوابيس تقطع عظامه وأعصابه بمنشار وتغوص إلى روحه أكثر من آلام الروماتيزم، تفكك جسده فيتحملها صاغراً معتقداً أنها ضريبة النضال التي تأتي متأخرة باهظة عادة، خاصة إذا لم يفض سوى إلى مقبرة!

منذ سنوات طويلة وأنا أسمع أصوات الشهداء، في البداية كانت مع السكون الثقيل، ثم صارت كلمات كالفطر السام تنبت في غابة الصمت، تتفتح عن رسائل مشفرة ملغزة أحياناً أخرى، ثم همساً يجرح القلب، تحولت في الآونة الأخيرة إلى صرخات عالية، وقرع شديد على باب بيتي المخلع مختلطة بضجيج الأشياء حولي، يحيطون بي، يسألونني لماذا متنا؟ ماذا فعلتم بموتنا؟ هل استعملتموه بشيء مفيد؟ أم ركنتموه مع الثياب والأحذية القديمة والنفايات الأخرى؟ يبدو أن موتنا لم يفد الناس، لم يفد أحداً حتى أعدائنا الذين قتلونا، أقول لهم: لا ! كيف تقولون ذلك؟ مستعيراً عبارات من خطب المناسبات: أنتم عبدتم طريق الحرية، صنعتم السعادة للمحرومين، فتحتم آفاق المجد! ويعلو صوتي بنبرة فلسفية: الحياة العظيمة؛ من الموت العظيم! قبوركم ليست مظلمة فهي رحم المستقبل، ومصدر أنواره البهيجة! نعم يا رفاقي اطمئنوا، عودوا لنومتكم الهانئة في أحضان الخلود، وقروا عيناً، كل شيء بعد رحيلكم جيد، ويسير وفق ما أردتم وحلمتم! بينما أعرف أن من استفاد من موتهم هم رجال صاروا يتبجحون: قائلين أنهم يقودون حزب الشهداء، السائق يحس بالفزع والرهبة إذا وجد نفسه يقود سيارة فيها جنازة، كيف يقود هؤلاء قطاراً، حزباً فيه كل هذا العدد الهائل من الموتى؟ واسمعهم يعيدون القول: إذا كان موتنا غير مفيد، لماذا دفعتمونا للموت؟ ربما موتنا مريح لنا، لكن عذاب أمهاتنا، آبائنا، أحبتنا، هو الأكثر إيلاماً لنا! منذ سنوات طويلة وأنا أتعذب من حديثي المتواصل معهم، اشعر إنني مسؤول عن قتلهم! وعن فشلهم، وضياع آمالهم، أقول: يجب أن ألجأ إلى طبيب نفسي، طبعاً هو لن يفهمني، سيصف المهدئات والمسكنات، أتوقف قائلاً هذا مخجل، كيف أستنجد بالطبيب ليحميني من شهداء؛ لهم كل الحق في محاسبتنا، وقول ما يشاءون؟ وأظل أسأل نفسي؛ لماذا أرسلناهم إلى القبور؟ وبقينا هنا نتصارع على المواقع الحزبية، والمكاسب الشخصية، وربما أيضاً غداً على الثروات والمناصب والجاه والسلطة؟ نعم كل نضال يتضمن الخيانة، ولكن لماذا كان حجم الخيانة عندنا بهذا القدر؟ أي مجد يقوم على موت الشباب وحطام أهلهم وأحبتهم؟ يبدو إن إحدى خصال المجد قدرته على إخفاء العار!

(5) وعدناهم بأفراح وزهور، وأتيناهم بقبور!

في المرآة الصغيرة المعلقة بمسمار على حائط الفناء الصغير؛ وجد يونس وجهه يزداد شحوباً وصفرة، ثمة فراشة صغيرة كأنها روح هائمة تمر ملامسة بقايا شعره الأشيب تريد اختراق المرآة؛ فتصطدم وترتد إلى يده، ليدفعها جهة النافذة المفتوحة علها تنطلق. اتجه للحنفية الصدئة، وراح يغسل وجهه كأنما ليسقط عنه ما سمعه من كلمات. لماذا يدعونني لهذا الحفل بعد طول مقاطعة وحصار؟ وهل يخفى الأمر؟ يريدونني شاهداً على مأثرتهم العجيبة! قطعة أثرية من ماضٍ يعيدون استثماره، ثم ألست أنا قبراً متجولاً؟ كيف تكتمل القبور دون وجودك بينها؟ نشف وجهه وهو متردد في الذهاب، راحت شكوكه تتجمع جارحة في نفسه، يستثمرون اليوم في قبور الشهداء، يقصون لها أشرطة، ويهزجون؟ ولم العجب ألم أصدق كل بدعهم وساهمت في صنعها؟ عاد وتهالك على سريره، أخذ يضرب بكفيه على فخذيه النحيفين محركاً دشداشته البيضاء الخفيفة؛ يريد لجسده أن يتنفس. كان رفاقه الأقل عمراً، وصاروا قادته، يستشهدون بحركاته هذه؛ مدللين على عصابه وجنونه! هي عادته في لوم نفسه، وتقريعها كلما اعترته نوبة غضب على المسار والمآل كله، أو توقف عند سلوك رفاقه وتصرفاتهم، وقد صار عاما بعد عام يفترق عنهم ويحس بغربة عميقة حيالهم، وإذا كان قد صمت عنهم؛ فهو لم تكن تعوزه الشجاعة، إنما لأن لديه وفرة من الصبر، وقناعة أن مواجهة العدو تحول دون مواجهة رفاق الطريق. كان قد واجه الجلادين من رجال السلطة في مختلف العهود، حتى ليعجب هو نفسه كيف عبر مضائق الموت الكثيرة في طريقه الطويل. لا ينسى كلمة قالها له ضابط شرطة كبير في سجن بغداد:

ـ نقاؤك وشجاعتك تزيداني احتراماً لك، لكن احذر؛ فقد تقع بأيدي جبناء يستثيرهم نقاؤك وشجاعتك؛ فيقتلونك بسببهما، فقط لا غير!

بحت أصواتنا، وتهرأت أذان الناس، ونحن نسرد لهم وعودنا العظيمة، ونؤملهم بمستقبل طافح بعسل وحرير وأفراح وزهور، ثم اليوم نأتيهم بقبور!

ثمة شهداء أوصوا أن تبقى قبورهم على سفوح الجبال والوديان وفي أماكنها مهجورة منسية هائمة، ربما قالوا ذلك في لحظة غضب أو ندم، أو يأس وحزن، اليوم أدرك، كم كانوا محقين، لماذا يريدون اليوم وضعهم وراء أسوار مقبرة، أمن أجل هوس تسجيل الأمجاد؟ اية أمجاد؟ للقادة اليوم مشاريعهم، وجوه متوردة، كروش متهدلة، ثياب أنيقة، أرصدة ضخمة في البنوك، هالة قدسية. على الشهداء أن يحملوهم على أجنحتهم إلى ذرى المجد! مهمة صعبة أخرى تلقى على كاهل الشهداء، عليهم إنجازها بسرعة، استسهل القادة صناعة الشهداء، حين عجزوا عن أية صناعة أخرى، فهي مربحة ومضمونة: موادها الخام متوافرة هنا: أرحام نساء طيبات يمنحن لبناً نقياً، وأغاني مهود حزينة تحكي عن الوفاء! آباء طيبون يحسون دائماً بالتقصير؛ فيدفعون أبناءهم لإكمال مشوار حياتهم في نضال مرير لا ينتهي، صناعة الشهداء تعطي في النهاية النائمين حتى الضحى في أحضان عشيقاتهم؛ كراسي الحكم والمجد، وخزينة الدولة دفعة واحدة! أتعبه التفكير الذي يتمنى الفكاك منه، دون جدوى، وقف عند النافذة، أطل على جوانب القلعة، جدرانها البنية العالية مشعة في فضائها المتوهج، لاحت له المئذنة مقطوعة الرأس "كل شيء صرت أراه مقطوع الرأس؛ حتى الطيور والقطط والكلاب السائبة صرت أراها تسير مقطوعة الرؤوس، ما هذا؟ أهو أحد أمراض الشيخوخة؟ ربما أصلاً لا توجد مئذنة، يخطر لي أن السماء الصامتة هي في الحقيقة تتوسل الجبال والشوارع والبيوت والقبور أن تهبها كلماتها، وليس العكس! فأرض العراق قد مر عليها من العذاب ما يكفي لجعل ترابها سماءً مقدسةً!" عاد ينظر إلى التقويم على الجدار، كان على النمط القديم، مكون من رزمة كبيرة من الورق المائل للصفرة، يقابل فيها كل يوم ورقة عليها رقم كبير، وخلفها كلمات تتضمن حكمة اليوم، مع وصفة طبخ. أقتطع الورقة، كانت تحمل يوم 14 تموز2000، لم يقلبها ليقرأها، وجد الرقم يحمل حكمته وطبخته! قبل أكثر من نصف قرن وقع فيه ذلك الانقلاب الدموي، قتلوا الأسرة المالكة، رغم أنها خرجت من القصر حاملة القرآن مستسلمة، ملوحة بالشراشف البيض! سحلوا الوصي ورئيس الوزراء، توالت الانتهاكات والانهيارات، صارت للهواء والتراب عروقاً تتفجر بالدماء، الناس يسكرون ويغنون، الثور بجوارهم على الساقية؛ يدور معصوب العينين، يرفع من النهر الضحل ماءً عكراً. غامت عينا يونس، صدره يعلو ويهبط، خشي أن يكون عرضة لنوبة قلبية أخرى، تمدد على فراشه، قرر أن يكف عن التفكير ويستريح،ولكن هيهات!

(6) الحزب حوت، أعضاؤه أسماك كبيرة وصغيرة، تتصارع في جوفه!

ـ قضى الشهداء من أجل أمل طيب، وهمي أو حقيقي، وما دام فردوسكم لم يتحقق بعد؛ فاتركوهم يستمتعون براحتهم الأبدية دون ضوضاء!

ـ أنت رجل مهزوم، نحن وشهداؤنا منتصرون حتماً!

ـ ولكنني لا أرى نصراً، أرى موتاً وخراباً في كل مكان!

ـ أنت كليل البصر، يأسك وتخاذلك جعلاك لا تستطيع أن ترى أو تسمع!

ويتلفت يونس، يخمن أن سكرتير الحزب راضي سعيد يحاوره، لماذا يتجاهل وجوده؟

دعاني لأنني من الرفاق القدامى؛ ووجودي في الاحتفال يعني موافقتي عليه، وإقراري بأن الشهداء؛ لم يموتوا في ظل فكرة ضالة، أو بإهمالنا وأخطائنا ونوايانا اللاشعورية المرعبة.

ـ كيف تروج عنا؛ أننا لم ننجز شيئاً؟ أنظر معجزتنا الثورية: بنينا أكبر مقبرة للشهداء في العالم!

ـ ولكن لم لا يكون أكبر مستشفى للولادة؟ وإذا عجزتم عن ذلك، لم لا تتركوا الشهداء وشأنهم، ولا تزجوهم في ألاعيبكم؟

لا بد من ذهابي إلى المقبرة، أريد أن أكون إلى جانب رفاقنا، خاصة الشباب أستمع لبوحهم، وأقول لهم رأيي في ما يحدث! ولا بد لما يحدث، من شاهد! لم يجد في يديه المرتعشتين طاقة لحلاقة لحيته النامية المهملة منذ أسبوعين، قال "لا ضرورة لذلك فشعيراتها البيض، كادت في هرمي تعود سوداء كالحة كأنها مداعبة ثقيلة من الزمن، تبدو لي مناسبة أكثر لجو القبور" أخرج من دولاب خشبي واطئ باهت اللون مخلع في زاوية الحجرة، قميصاً وبذلة صيفية خفيفة حائلة اللون، لكنها نظيفة وتمدد على فراشه.

تلفت يحس بالصوت يأتي من الفراشة، شعر أنها روحه الهائمة تدور حول مرآة، تعكس سماء القلعة، أصاخ بسمعه مقترباً بحذر منها، وهي تحاول اختراق سماء المرآة كما حاول هو في شبابه اختراق سماء مرآة حياته، جاء الصوت ثانية مع خفق جناحيها:

ـ كانوا رفاقك، صعدوا المشانق، تلقوا الرصاص بصدورهم، ذوبت أجسادهم بالحوامض، لا تتخل عنهم!

همس لها، ليتني مت في ذلك الزمن السعيد رغم مصاعبه، زمن الوهم الجميل قبل تفجر الحقائق، كل ما أعانيه اليوم هو لأني لم أتخل عنهم!

ويأتي صوت الفراشة واهناً، وكأنها اخترقت زجاج المرآة، وصارت هناك في الجهة الأخرى في وسط قلعة الغيب والوهم:

ـ هل انتهى الأمر يا يونس؟ قل كلمتك من أجلهم!

ـ اطمئني يا فراشتي!

عاد إلى كوابيسه، رأى الحوت الهائل نفسه ينحدر من تحت جليد سيبيريا، إلى شاطئ دجلة، يخرج مع أهل بغداد ليراه، فجأة ينفتح في جسد الحوت باب يدخل منه خلسة لوحده، يجد داخله شباناً وشاباتٍ وكهولاً، يشربون البيرة والفودكا، حول موائد طافحة بالأطعمة، محتفلين يرفعون الأنخاب، يقول له أحدهم:

ـ نحن رفاقك، اشرب معنا الكأس حتى الثمالة!

ويقول:

ـ لكنه جوف حوت، معدة قابضة منبسطة!

قال كهل بينهم:

ـ ونحن سعداء داخل حزبنا العظيم، مهما هرسنا بمعدته العامرة!

وتقول فتاة حسناء بلهجة جريئة، متلمظة برشفة شمبانيا:

ـ هو بيتنا وسفينتا التي سترسو على جزيرة للسعادة لم يصلها البشر بعد!

استفاق. ظلت رائحة معدة الحزب عالقة في منخريه، تقبض رئته، كانت هي ذاتها رائحة الاجتماعات الحزبية الطويلة وقد احتملها سنيناً ثم صارت تصيبه بالغثيان، التفت جهة الفراشة كان توشك أن تحلق مخترقة سماء المرآة الزئبقي، هناك حيث ستغيب إلى الأبد، أهي الروح وقد آن رحيلها؟ وهمس لها:

ـ ما الفرق بين الحزب، أي حزب، وحوت يشفط الأسماك السائرة بين التيارات المائية إلى جوفه ليحيلهم إلى زيت؟

سمعها صوت نسمة تقول :

ـ لا فرق، فقط الحوت مسير بالغريزة، والحزب مسير بالأيدولوجيا، مع سبق الإصرار!

مرة أخرى يا فراشتي،دخلت كابوساً رأيت نفسي فيه باجتماع حزبي كبير، نتحلق حول صخرة كبيرة، فجأة سمعنا مسئولنا الحزبي يأمرنا:

ـ عليكم أن تقضوا عشر سنوات تلحسون الصخرة، حتى تجعلوها ناعمة بيضاء، تليق أن ترسم عليها صورة لينين العظيم!

قلت مندهشاً مستنكراً:

ـ عشر سنوات ونحن والجموع الهائلة معنا نلحس الصخرة بألسنتنا؛ لترسموا عليها صورة لينين العظيم؟ هذا كثير! هذا رعب!

أمر المسؤول الحزبي بإخراجي من الاجتماع صائحاً بالمجتمعين:

ـ اهتفوا خلفه، خائن، مرتد، جبان، منهار، منحرف، قصير النفس!

أسمعت يا فراشتي يا روحي الهائمة الشريدة على الدوام؟ كانت الفراشة قد اختفت داخل المرآة، وليس في صفحة المرآة سوى حبال غسيل منشورة عليها ملابس عتيقة مهلهلة تحركها الريح فتتموج وتصطفق، المنشدون حلقوا فجأة عالياً، وبقيت ثيابهم وراءهم ترقص لوحدها على الحبال مع بقايا النشيد، اغتم يونس وأحس رغم كرهه الخرافات بنذير شؤم!

ألا يبدو حضوري هذا الحفل محيراً للشبان الطيبين الذين يأتونني أحياناً، وأمنحهم النصيحة؟ سيعتقدون أنني راض عن هذه اللعبة، مشارك بها رغم خروجي من الحزب، سوف لا يعرفون حقيقة رأيي. أفضيت مرة لرفيق بالكابوس المتكرر قال: حوت الحزب هرس الأسماك التي في جوفه كلها، قتل شهداءه بأيدي أعدائه، كان قد بلعهم لأول مرة وإلى الأبد، طحنهم وأذابهم في معدته الواسعة، محا أفكارهم ورؤاهم الخاصة، وامتص زيت أروحهم وأجسادهم، سمن الحزب، وترهل، وصار أكثر من مرة وليمة دسمة للأعداء، والرفاق،الأسماك الصغيرة، غابت وإلى الأبد.

ظل صراعي معهم مناكفة أحياناً، وأحياناً صمتاً ولا مبالاة، لم يكونوا يكترثون لخلافي معهم على قضية الفكرة. تفاقم جدلنا وخلافنا؛ عندما صرت أطالب بمحاسبة كمتار بيس وصاحبه السكرتير حمه سور؛ فقاموا بتنحيتي وضرب الحصار عليَ في هذه القلعة.

ويواصل الشهداء قرعهم بابي، وتتعالى صيحاتهم: قل لنا لماذا قتلنا؟ ماذا فعلتم بتضحياتنا؟ وأتمنى أن يحطموه، ويدخلوا ويكتموا أنفاسي إلى الأبد، هذا ما يريحني، أكاد أتمزق لا أستطيع النوم، كيف يستطيع السكرتير السابق حمه سور، وكمتار بيس ومن معهما النوم؟ كانوا مهووسين باستقدام الشبان من أماكن دراستهم أو عملهم في أوربا واليمن الجنوبية وسوريا والجزائر وبلدان شتى ليموتوا على هذه الجبال، لا تدري من أجل ماذا ؟ أمن أجل الشيوعية ؟ أم قضايا القوميين الكرد؟ أم قتل الجنود الفقراء؟ لا أدري! وأظل أتقلب، لا أستطيع النوم حتى بزوغ الفجر، تأخذني غفوة؛ فأرى نفسي في حلم غريب لا أصدقه، أنا في حجرة كبيرة من الطين، فيها سرير من جريد النخل، عليها رجل مسن بثوب أبيض فضفاض، يتقلب مثلي في نومه أيضاً، ويا لغرابة الأمر؛ أعرف إنه جد الأنبياء جميعاً إبراهيم الخليل في فراش من قش، هل نحن في أور حيث ولد وواجه النمرود بالإله الواحد؛ فحورب وكان أول المنفيين العراقيين؟ ثمة جبل يطل من النافذة الكبيرة، إذاً نحن على شاطئ البحر المتوسط في مدينة قديمة لا أعرفها من فلسطين، ما زال يتقلب، وأعرف إنه شهد رؤيا، يذبح ابنه إسماعيل تقدمة وتقرباً من الله، لكن ثمة صوتاً يقول له: هذا كثير يا إبراهيم، أتشك في إيمانك؟ أتعتقد أن الله يرشى بما تتصارعون عليه من مادة أو مال؟ الله لا يريد سوى نقاء قلوبكم ومحبتكم لبعضكم، ما ذنب ولدك الطفل تذبحه لرب يملك الأكوان، وما فيها من بشر وشجر وحيوان وحجر؟ لكن إبراهيم يصر على منح الرب أغلى ما لديه، فيقتاد طفله إسماعيل، ويحمل سكينه ويصعد به الجبل، هناك على القمة، سيكون أقرب إلى الله، ويستطيع الله أن يشم جيداً رائحة دم طفله وهو يتفجر، وأقول في نفسي يا لبساطة الرجل، ينسى أن من يخلق الجبال والبحار يمكن أن يكون في جحر النملة أيضاً، وأصعد معه الجبل لاهثاً، الطفل لا يدري إنه سيذبح، يقبل يدي أبيه بحنان، ولا يدري أنها ستمد السكين إلى عنقه، وأنا صامت لا يخرج من فمي سوى أنفاسي المتقطعة، صخور كثيرة تعترض طريقنا. وأسمع الصخرة تقول له " توقف! ما هكذا يعبد الله" يجد الأب أخيراً البقعة التي يراها تليق بمذبح إلهي، ويمدد الطفل عليها، والطفل يضحك معتقداً إن أباه يغدق عليه من حنانه ويداعبه، يضع السكين على حنجرته، ويحس الطفل بلسعة الشفرة فيصرخ باكيا، ويتشبث بأبيه يريد حمايته جاهلاً حتى الآن إنه قاتله، وكما تنطلق بغتة عاصفة يرافقها برق، ثم صوت مدوٍ، تأتي مشيئة الله، كف يا إبراهيم، اعرض عن هذا، ويتوقف، ويسمع الوحي كله، خذ هذا الكبش واذبحه، هذا يكفي يا إبراهيم ما نحن بأكولين ولا نهمين، ولا متوحشين! ينهض إبراهيم ليذبح الكبش، فيكون هو الفداء والأضحية، وتستريح روحي واقترب من إبراهيم وقد عاد إلى صوابه وهدوئه، وعاد إليً صوتي ونبضي، أتعرف أيها النبي الكبير لقد غالى وبالغ أتباعك وأحفادك في الأضحية، صارت بيوت اليهود والمسلمين تفوح برائحة الدم، لا شيء سوى الدم، لا رائحة زهر ولا نبيذ ولا نغم ولا كلمات، لا شيء سوى الدم، حفيدك المسيح تقدم ليفتدي البشر بدمه؛ فيستريحوا من حكاية الدم هذه! لم يتوقف الأمر، صار الحال أكثر فظاعة، المتحكمون بالأديان والأحزاب صاروا يذبحون الناس، ليأكلوا هم الأكباش والخراف والدجاج، والنساء أيضاً! أيرضيك هذا يا أب الأنبياء؟ ويتقدم مني إبراهيم والسكين في يده، ظنته سيذبحني لأنني تجرأت وخاطبته، أحسست براحة، سيخلصني من آثامي وعذابي، فأنا ذبحت الطفل والكبش ورفاقي معاً، لكن إبراهيم اقترب مني وقال بصوت حزين عميق:

ـ إذا ظل الإنسان يأكل الإنسان، فستهبط السكين من السماء وتطهر الأرض! فهم لا يستحقونها!

صعقني كلامه، قلت متوسلاً هاذياً ربما لأكسب رضاه: نحن اقتدينا بك كثيراً، صرنا نكرم ضيوفنا بنحر الخراف، أبسط كلمة تودد لدينا نحن العراقيين،(أروحلك فدوه) بذلك خدمنا حكامنا وأحزابنا جيداً يا أبا أنبيائنا جميعا! انقلب ضاحكاً، اخرج دناً من الخمر، وراح يشرب،تركني دون اكتراث على قمة الجبل أتلفت حولي مستوحشاً، لا أدري ماذا أفعل، انطلقت عاصفة، وبرق ورعد ثانية؛ طوحت بي من الجبل إلى البحر، صحوت على صوت طرقات الشهداء على بابي، ذات الأصوات: لماذا ضحيتم بنا، ماذا تحقق؟

ـ واصرخ كالمجنون لا شيء! لا شيء!

وأهدأ قليلاً، يزلزلني صراخهم،أردد:

ـ لم يتحقق إلا الأسوأ! كفى أرجوكم أذهبوا إلي بيت حمه سور، إنه يعيش في بيت كبير مجاور لبيت حاكم المنطقة! من يسمعني يعتقد إنني مجنون، ليكن، إذا كان حديثي مع الشهداء يعني الجنون، لأكن مجنوناً!

وأجلس يغمرني العرق مرتجفاً، محاولاً عبثاً استعادة آلامهم العظيمة، اختلاجات أجسادهم وهم ينزفون ويحتضرون، شهقاتهم الأخيرة، وهم يطلقون أرواحهم في الهواء الراكد الواجم حولهم، الشهداء كلمة باردة نقولها بنفس الحروف التي نقول بها الكلمات الأخرى، يصعب أو يستحيل أن نعي حقيقتها، وأية عذابات وأوجاع تقلبوا فيها، واكتوى بها آباؤهم وأحبتهم، وهم يستعيدون وجوههم في يقظتهم وأحلامهم كل يوم، وكل دقيقة!

اليوم سأواجه سكرتير الحزب،عند باب المقبرة: "كف عن اللعب بجماجم الشهداء، أما كفتك لعبك المعروفة؟ " لكن هذه مهاترة، لا تليق بي، يجب أن أصمت، وأقول ما ينبغي قوله فيما بعد!

(7) جلال العطار، أين أنت الآن؟

رغم علمي أن جلال العطار مات في منفاه الأوربي البارد منذ سنوات طويلة، لكنني لا أريد أن اصدق أن صوته وشخصيته الصاخبة المثيرة، قد طواهما الثرى.

احتاجك اليوم يا جلال، علنا نستعيد في جلسة من أيامنا الغابرة حقيقة ما جري، لا على الأرض وحسب، وفي داخلنا أيضاً حيث نكتشف الخديعة، ثم نمضي مع الضلال، لا تفيق إلا حين لا جدوى! كان جلال العطار مدرساً للرياضيات في إحدى ثانويات بغداد، تعرفت عليه أواخر 1939، بمقهى حسن عجمي في شارع الرشيد، حيث يتجمع مثقفون كثيرون، كان أديباً روائياً، يعد متقدماً في مقاييس ذلك الزمان، فالروائيون والرواية قلائل في العراق آنذاك، كان قد قارب الأربعين، فارع القامة، ضخماً دون كرش، أسمر الوجه بدكنة، تتقدم رأسه صلعة دسمة، عليها حبيبات عرق حتى في جو الشتاء. إذا سار أو جلس سمعت منه لهاثاً، وشخرة خفيفة، يعتني بلباسه وبدلاته الأنيقة، ولد في أحضان أسرة موسرة في الموصل، ورغم إن الحياة الثقافية في هذه المدينة بعد رحيل العثمانيين عنها أخذت تتشكل وتنمو مع الدولة الحديثة على نمط جديد ومتطور، وصار له فيها حضور محسوس ومؤثر، إلا إنه هجرها قائلاً:(أردت أن أحك السياسة بالأدب؛ لأطلق شرارة تشعل حرائق في حياتنا الراكدة) لكنه لا يفصح عن هدفه من ذلك: أن يكون فيها بطلاً وقبلة للأنظار، زعيماً وطنياً كبيراً، ربما كان يستطيع ذلك أو شيئاً منه، لكن آفته أنه كان مهووساً بالخمرة والنساء والكتب والسياسة! بعد حب غريب أليم محطم، لم يتزوج، عاش حراً طليقاً يتنقل بين حانات بغداد والبصرة، وفنادقها الفخمة، ومواخيرها السرية والعلنية؛ بحثاً عن النساء الجميلات القادمات من مدن العراق، أو من تركيا ومصر وبلاد الشام! يصرف راتبه كله في لقاء امرأة في مجلس أنس، ثم يعطيها ظهره وينغمس مع رفقته في جدل سياسي حاد، يفسد اللقاء ويصل حد العراك، ومع ذلك ظل الكثيرون يحبونه، وينشدون صحبته(كان يقول: إذا تأخر وصول حوالة نقدية لي من الموصل، وأفلست فأنا مستعد أن أرهن أو أبيع بدلتي لقاء قنينة عرق في جلسة حلوة مع امرأة أو صديق) رغم إنه لم يفلس مرة، لكنه يقول ذلك تقليداً للشعراء الصعاليك العرب القدامى الذين يفاخر بانتسابه إليهم، أكثر من انتسابه لعائلته المعروفة، أو للمتنبي، أو أبي تمام. كان يسخر منهما قائلاً: المتنبي شاعر يوزع حكمه أين ما حل وارتحل، وهو أحوج الناس للحكمة، هل ثمة شاعر حقيقي يبادل شعره بكرسي السلطة؟ وأبو تمام حين كان مديراً لبريد الموصل، لم يوزع في المدينة كتاباً أو رسالة غرام أو حب واحدة، كان يوزع بيته الشعري: السيف اصدق أنباءً من الكتب! كان العطار مستعداً أن يقاتل كل شرطة العراق لكي يحصل على كتاب جديد أو قصيدة. أو قنينة خمر قائلاً :

ـ أنا أعرف أن رباعي المرأة والخمرة والكتب والسياسة قد ينجح، ويوصل صاحبه إلى قمة المجد في كل مكان في العالم، إلا في العراق، حيث لا بد لأحدهما أن يتحالف مع الحكومة، أو المجتمع ضد صاحبه؛ فيقتله ويحيله هشيماً! لذا حرصت على ان أكون يقظاً مهما شربت، وأن لا أنهك قلبي مهما كان جسد المرأة جميلاً يغري بالإبحار فيه!

تعلمت أن لا أسير وراء الثعلب حتى لو أوصلني للدجاجة السمينة، ولا أسير وراء الأسد، حتى لو أوصلني إلى عرش الغابة، لا أسير إلا وراء عطر زهرة بعيدة غامضة! كان بارعاً في صنع عداوات وتحالفات بين المرأة والخمرة والكتب والسياسة، فكان يتحالف مع الخمرة والكتب والمرأة ضد السياسة، ومرة مع الخمرة والكتب ضد المرأة، ولم يتحالف يوماً مع السياسة ضد المرأة أو الخمرة أو الكتب!

كم كانت جلساتي معه مفعمة بالجدل العميق، والكلمات الموحية! أستعيدها اليوم وأنا في عزلتي فاشعر بالتقصير. لماذا أهملتها في لهاثي مع الأيام والعمل السياسي الصاخب المجنون؟ لماذا استهنت بها ملحقاً إياها بفوضى شخصيته وتقلباتها وثرثرته أحياناً كثيرة. اليوم وأنا في عزلتي وحصار رفاق الفكرة لي، وتحولهم إلى سجانين لي صرت أتأمل بعمق وقناعة نصائحه، واستعيد جلساتي الطويلة القديمة معه، وأحاديثه الشيقة والحزينة! هي حياتي السرية الخاصة في هذه القلعة المدقعة المهجورة تقريباً!

(8) المطرقة والمنجل، والقلب بينهما!

مرة أخرى يقطع أفكاره دق حاد على الباب، نهض متثاقلاً، خرج من لجة أفكاره السحيقة المتلاطمة! وببهجة خفية تلمس ثيابه، وتعجب من نفسه كيف تهيأ للخروج وأعد نفسه للذهاب إلى المقبرة، دون قرار واضح! أنا ذاهب إلى الشهداء، وليس للحفل ولا للمقبرة، أقنع نفسه أخيراً.

وجد سيارة بيك آب أمام البيت في انتظاره، دهش أكثر إذ وجد شباناً يحملون أبواقاً ودنابك وصناجات وآلات موسيقية متنوعة. أدرك أنها ستستعمل في حفل افتتاح المقبرة. كعادة الشيوعيين، لا تتحقق مناسبة لهم ما لم يرافقها عزف وأغان وأناشيد ورقصات ودبكات. غناء وصخب حتى في اشد المناسبات حزناً، هذا جميل، ولكن هل ما نحن فيه مجرد حزن؟ قال في نفسه، لا أحد يلوم الغجر أنهم يحملون معهم قيثاراتهم إلى أعراسهم ومآتمهم، إنهم لم يعدوا أحداً بفردوس آخر غير فردوسهم المتنقل معهم! ساعده الشاب الذي جاء إليه على صعود السيارة، جلس لاهثاً، ظل ممتعضاً من الطبول والأبواق، وجدها ستقرع فوق رؤوس الشهداء وتقلق نومتهم، ربما ما زالوا يعانون الأرق منذ أدركوا أن موتهم ذهب سدى، سارت السيارة في طريق القلعة، وقد تناثرت عليه وحوله أزبال وأوساخ، تقطعه بين فينة وأخرى قفزات أطفال وصبايا ودجاج وقطط وكلاب، توقفت السيارة عند قوس الباب الكبير لبقايا القلعة، توقف السائق متحدثاً مع أحد معارفه، ثم انطلق بسيارته تتلوى مع الطريق الإسفلتي القديم المتشقق المنحدر بتدرج متلوٍ أتعبه. كان قبل هذا يرى فيه متعة غريبة، إذ هو هبوط من جبل أو قلعة موحشة إلى قاع مدينة صاخبة حديثة مكتظة بالناس والحياة يحتضنها سهل فسيح بيسر ونعومة. استقرت السيارة على الطريق العام.

لم يتألم يونس رحيم لأنهم ركنوه جانباً منذ قرابة العشر سنوات. لكنه تألم أن يهجره أو يتخلى عنه رفاقه من القياديين والمسنين ممن ليسوا ضمن ما سمي بعصابة السكرتير، ولقد امتثلوا خانعين للحصار الذي ضرب حوله! كثيرون راحوا يرددون ما روجوه "إنه يعاني وهن الشيخوخة والخرف، وضرباً من العته والجنون" رغم إنه قبل أيام من بدء معارضته لسياسة وأفكار الحزب كانوا يضربون به مثلاً على القدرة السحرية لفكرتهم التي تبقي من يعتنقها شاباً مهماً تقدم في العمر! نفذوا قرار إخراجه من الحزب ومحاصرته بدهاء، أبقوه يعيش قريباً منهم، أخذوا يمدونه بإعانة العيش فقط، جعلوها أقل من جراية التفرغ الحزبي، بحجة إنه لم تعد لديه مهام حزبية تقتضي الصرف، لا يكاد مبلغ الإعانة يفي بأوده وحاجاته البسيطة. لكنه كان بطبعه متقشفاً قليل الحاجات والطلبات. عينوا له مسؤولاً حزبياً يزوره في فترات متباعدة، لكنه كان يراقبه عن بعد، ويرفع تقارير لقيادة الحزب عن تحركاته، ومن يتردد عليه. لم يحاول الخروج إلى المنافي البعيدة، "ليس فقط لأنهم لا يسمحون لي بالإفلات من قبضتهم، أو لأن العمر قد بلغ منتهاه، ولم يعد يحتمل الغربة والبعاد عن تراب الأهل والأجداد، بل لأني حقاً أريد أن أشارك الناس عن قرب في معاناتهم، وفجيعتهم في ما آل إليه الوطن من مصير تعيس نتيجة ظروف عديدة لعل من بينها ابتلائهم بفكرتنا الهائجة المستحيلة!

توقفت السيارة، كان على الرصيف رجل ينتظرها على ما يبدو، عندما صار بمحاذة باب السيارة عرفه يونس، إنه كاكا قادر، كان يتردد عليه، يؤنسه ويتحاور معه، ثم انقطع كالآخرين؛ منذ ما يزيد على السنتين، سلم عليه بهدوء، وبشيء من التحفظ. لم يوجه له يونس السؤال المعتاد: منذ زمان لم أرك؟ وجده سؤال يقارب التسول، يصير المعزول متسول كلمات ونظرات عطف، لا لن أكون كذلك، ثم ماذا سيكون الجواب سوى تمتمة وصمت وتعال، وإذا كان الشخص مهذباً سيرد "هموم كثيرة، نركض ولا نلحق بشيء" لكن ليونس مع قادر ذكريات وأحاديث جميلة ثم هو قارب الثمانين، وجد يونس أن عليه أن يجامله خاصة وقد تذكر حكاية كان لا ينفك يرويها له فسأله: كيف حال الديالكتيك الآن؟ ضحك قادر، قال: بخير يعمل مثل ساعة القشلة! كان ذلك حديثهما القديم. عاد يونس لصمته، مستعيداً ذكرياته مع قادر؛ بعد إخراجي من قيادة الحزب، وفرض العزلة الإجبارية علي في القلعة. لم يكن يزورني إلا قليلون، بينهم قادر، كان يسكن غير بعيد في القلعة مع ما تبقى من عائلته الفقيرة، الآن صار ابنه ضابطاً في جيش البرزاني، وحصل على بيت في حي جديد، كان هادئاً ولطيفاً رغم إن أحاديثه قليلة ومحدودة. كان يصغرني بحوالي عشر سنين، كان همه أن يحدثني في كل زيارة كيف اعتنق الشيوعية دون أن يفقه منها سوى شيء واحد، هو أنها طريق الفقراء إلى النعيم، والخلاص من الظلم، كيف يتم ذلك؟ هذا لا يهم. وكل شيء يظهر في حينه. قال إنه ما أن قبل عضوا بالحزب في السليمانية؛ حتى كلف بقيادة حوالي 16 (ملا) من طلبة الدين في جامع كاك أحمد الشيخ، كانوا جميعهم بين أعمى وأعور وأطرش، وكانوا جوعى على الدوام. عرفت أن الذي كسبهم إلى الحزب قال لهم أن الشيوعية تجلب لهم الكثير من الطعام، وسيرسلهم الحزب إلى موسكو للعلاج في مستشفيات ترد البصر للعميان، والسمع للطرشان بقدرة الرفيق ستالين، وشفاعته عند لينين! فالشيوعي على كل شيء قدير، كانوا كلما جئتهم يسألونني هل جلبت لنا طعاماً من الحزب؟ وكنت أقول لهم:

ـ فيما بعد، فيما بعد، الحزب الآن فقير، وحين يستلم السلطة قريباً، سيصير غنياً؛فيوزع الأطعمة والأموال على الفقراء!!

وفي كل مرة آتيهم خالي الوفاض، وأخيب أملهم. فيعتريهم وجوم وصمت، ثم يسألني أحدهم :

ـ متى ترسلوننا إلى موسكو ليردوا لنا أبصارنا؟ ويسانده آخر، ليردوا لنا سمعنا؟

واضطر لمجاراتهم وتصبيرهم بكلمات مضحكة. فيقبلون ويسكتون. كنت قد لمست أن ثمة نزعة الحادية أيضاً جلبتهم إلى الشيوعية. فهم قد سمعوا أن الشيوعيين لا يؤمنون بالله. وحيث هم ناقمون على الله لأنه خلقهم بهذه العاهات. ويخافونه أيضاً. لذلك كنت ما أن أقبل عليهم حتى أسمعهم يقولون براحة ولهفة(خلص الدين، جاء الحزب) كنت مبتلى بأسئلتهم الكثيرة. كان أكثرهم يتأتئ ويفأفئ حين يتكلم لكنه يغدوا طليقاً حين يغني أو يجود القرآن، وكانوا يقضون وقتاً حتى ينطقوا كلمة الاستعمار، أو البروليتاريا، والإمبريالية والديالكتيك، التي كنت أنطقها أمامهم دون حاجة لها، فقط متباهياً، ودون أن أفقه معناها، صرت أقول لهم، لا تضيعوا وقتي الثمين بالتأتأة والفأفأة، غنوا لي الشيوعية والماركسية والإمبريالية وكل ما تريدون قوله اختصارا للوقت! صاروا يغنون ويجودون كلمات لينين وماركس وستالين وفقرات من ديالكتيكية أخرى مقلدين أصوات المقرئين المصرين! فكنت اسمعهم يرتلون آيات الشيوعية بدلاً من آيات القرآن فأحس بنشوة مضحكة. سألني أحدهم وهو يتلمس عينيه العمياوين:

ـ ما هو الديالكيتك؟

اكتشفت إنني لا أعرف ما هو الديالكتيك، تجاهلت سؤاله عدة مرات، لكنه ظل يسألني فأماطل بإجابته. حتى التقيت مسئولي الحزبي وسألته: ما هو الديالكتيك يا رفيق؟ تصنع الدهشة والغضب كمعلم اكتشف جهل تلميذه. قال: أنت عضو في الحزب منذ سنتين ولا تعرف ما هو الديالكتيك؟ يبدو لي إنك حمار حقاً، الديالكتيك هو مفكر سوفيتي عظيم كان نائباً للرفيق لينين. ذهبت إلى الرفيق الأعمى وقلت له بذلك. قال: ولكنني سألت شيخي عنه فقال:

ـ الديالكتيك هو ملاك عظيم. يصعد وينزل بين السماء والأرض. وردت أوصافه في اللوح المحفوظ، ولا يدركه إلا من شاء الله له جنته ورضوانه. جعلتني في حيرة. نعم إنه نائب الرفيق لينين، متى ترسلونني إلى موسكو ليردوا لي بصري؟

كانت حكاياته تدفعني لتأمل عماي الذي اكتشفته متأخراً، وكيف أن موسكو، أخذت مني ومن آخرين سمعنا وبصرنا وجعلتنا صم عميٌ، نرى ونسمع بعيونها وآذانها فقط ! حتى كاكا قادر، هذا الرجل اللطيف، انقطع عن زيارتي، خضع أخيراً لتوجيهات الحزب بمقاطعتي، هو الآن معي صامتٌ ونحن نتجه إلى مقبرة الشهداء، ماذا سنقول للشهداء؟ نحن رفاقكم القدامى، صرنا يقاطع بعضنا الآخر، يعزله، يسجنه، يذله، ينفيه، يقهره، هذه، مع مقبرتكم، كل منجزاتنا! كاكا قادر خضع أخيراً لقرار الحزب، الذي صار تابعاً لسلطة المنطقة وابنه ضابط فيها، أخذ ينشد خبزته، ومستقبل أحفاده، افهم صمته، كما علي أن أفهم جوابه، فقد كان بليغاً وحزيناً، فحال الديالكتيك عندنا كحال ساعة القشلة في بغداد؛ فهي لا تزال متوقفة منذ عشرات السنين! أليس من حقي ان أقول في كل مكان يعمل الديالكتيك؛ إلا عندنا نحن الشيوعيين! والمصيبة إننا ندعي ملكيته بالطابو!

(9) أرض معلقة بأجنحة الطائرات!

تلكأت السيارة قليلاً حين مرت ببناية محافظة أربيل المحاطة بحراسة شديدة، وأبراج مراقبة. استدارت وظلت تسير متمهلة. كان يونس قد زار أربيل مراراً في عمله الحزبي، ومكث فيها فترات متفاوتة، قبل أن يأتيها بهجرته الطويلة الأخيرة. حين وجد له المسؤول عن صلته مع الحزب سكناً في قلعتها القديمة، أدرك أنهم اختاروا له هذا السكن الشاهق المنزوي البعيد، لكي يحولوا بينه، وبين الخروج كثيراً من البيت والاختلاط بالناس والترويج لأفكاره. بيته الصغير الرث منفى محلي غير معلن، أو سجن لطيف بفضاء، وارتفاعات مضيئة. في البدء وجد عزاءً وأملاً في شبان يزورونه ويتقربون منه ويرونه رائداً لهم، ومجيباً متواضعاً على أسئلتهم الكثيرة! دون خوف من قيادة الحزب، أو من رجال في سلطة المنطقة، وأحزابها بعد انسحاب حكومة بغداد.

كان يتأمل المدينة من القلعة، تتسع مبتعدة عن نواتها الأولى الشامخة؛ مكونة أحياءً حديثة وبيوت جميلة راقية، ويجد في تجواله النادر القليل في المدينة راحة وسكينة، الآن الشوارع تعج بالسيارات المختلطة، آخر موديلات السيارات، تجاور عربات خشبية يجرها الرجال أو البغال. الدكاكين والأرصفة تعرض آخر ما وصلها من خيرات جبالها ووديانها الخصبة، ومستورداتها، أو البضائع المهربة من إيران وتركيا. أرصفة عليها تلال من البطيخ الأحمر والأصفر، وعربات محملة بأكوام الفاكهة يشم نكهتها الشهية، ممتزجة برائحة البنزين. الناس يرفلون بأزيائهم المتنوعة، الشروال الكردي، والبدلة الأوربية، المرأة الملفعة بثيابها الطويلة، والفتاة المتبرجة، يبدون له هادئين متحفزين فما يعيشونه لا يعرفون أهو نصر نهائي ثابت كما يوحي لهم به قادتهم، أم هو مجرد هدنة ستنفجر بخطوة هوجاء من السلطة في بغداد، أو من القادة الكرد، أو بتخل مفاجئ عنهم من الأمريكان! كثير من رفاقنا استشهدوا هنا، منذ الستينات، أتوا إلى هنا تخلصاً من ملاحقة الحكومات، أو منخرطين في كفاح مسلح ضدهم، مندمجين أو على مسافة مع المقاتلين الكرد في مشروعهم القومي! الحياة في المدينة تبدو الآن متدفقة مغمورة بشمس كثيفة، هواء حار رغم فوات الظهيرة، صيف الشمال لا يغدوا جميلاً رائقاً إلا في سفوح الجبال المكسوة بغابات الجوز، والتين والتوت، والزاخرة بالينابيع والشلالات. قطعت السيارة مركز المدينة، وانعطفت إلى طريق خارجي باتجاه الجبال. ومضت عبر سفح مرتفع ممهد تحفه أشجار تين وبلوط وأشواك، انفتح أمامها فضاء رحيب لأرض مستوية، تحملها هضبة واسعة، يمتد أفقها بعيداً لتلوح في نهاياته صفوف أشجار تلفها عتمات وأجواء مغبرة في قيظ صيف هو في منتصفه. لاح تجمع لرجال ونساء وصبايا وصبيان وصفوف من السيارات الصغيرة والحافلات.

كان أصدقاؤه الكهول والشبان يأخذونه بسيارة إلى مركز المدينة، أو ضواحيها للجلوس في مقهى، أو مطعم أو بار، ورغم إنه لم يعد يستطيع الشراب كذي قبل لكنه كان يجاملهم، أو يستجيب لنزوة الشراب القديمة في نفسه؛ فيحتسي كأساً من العرق، كان يقول وهو يرفعه بيد مرتجفة:

ـ في العرق شيء من جنون العراق ونشواته!

ويرفعون نخبه ضاحكين :

ـ في صحتك، وكم عرقت من أجل العراق!

يستمتعون بأحاديثه وحكاياته الشيقة، ويحاورونه بعمق ومتعة، يقولون ذلك يضيء عقولنا! في الآونة الأخيرة قلت لقاءاتهم معه، ضغط قيادة الحزب عليهم لعزله كان حثيثاً ومتواصلاً، هو أيضاً لم يعد في صحة ومزاج يستطيع بهما مجاراتهم، لكن ظلت ثلة من الشباب تقاوم عزل الحزب وتخترقه، وتصل إليه!

صار أكثر انكفاءً في بيته في القلعة، ملتحماً بذاك الكلام السري الذي صار يحفه مع هواء الأعالي. عبرت السيارة بوابة أو قوس كبير أشبه بقوس النصر، علقت على واجهته لافتة حمراء تحمل كلمات كبيرة (ضحى الشهداء بأرواحهم من أجل وطن حر وشعب سعيد) برزت خلفها صفوف قبور وكومة من الصور المؤطرة والمزججة، مركونة في زاوية مع لافتات من القماش الأحمر، وقد خطت عليها الشعارات بكلمات عربية كردية، وهجير ترابي أخذ يتسلل من نافذة السيارة ويجعل تنفس يونس صعباً، أخذ السائق يبطئ سرعة سيارته متحاشياً إثارة الغبار. توقف بها في نهاية صف سيارات صغيرة، تقدم رجل وساعد يونس في النزول، وراح يسنده حتى يتوازن في وقفته. آخر ساعد قادر على النزول، وما أن وطأت قدماه الأرض حتى توارى عنه. تقدم رجال وراحوا يصافحون يونس، وهو يبتسم بوهن مرحباً بهم. اقتادوه إلى سرادق كبير سقفه من القماش، وقد انتظمت تحته كراس بلاستيكية بيض بمساند، جلس على معظمها رجال ونساء يبدون من جلستهم الصامتة الواجمة أنهم عوائل الشهداء وذووهم، أقبل عليه أشخاص يحيونه ويعانقونه قائلين ضاحكين "ما زلت شاباً أقوى منا". رغم إن أكثر الذين سلموا عليه هم ليسوا من الحزب، هم أما مستقلون، أو من جماعات أخرى، ولكن ثمة شعور راوده؛ أيكونون اليوم، وبمناسبة افتتاح مقبرة الشهداء قرروا فك طوق العزلة عنه، وإطلاق سراحه من سجنهم الغريب هذا؟ لا!؛ ثمة كثير من الشيوعيين هنا، ممن يعرفهم، ويعرفونه، لم يتقدموا للسلام عليه، ومن يرحب به الآن هم ممن يسمونهم عرفاء الحفل، يقومون بواجبهم مع جميع الضيوف. كسرت الصمت أغان وأناشيد عربية وكردية أخذت تنطلق من مكبرات الصوت، رغم حزنها كانت أقرب لرقصات ودبكات، ميز بينها أغنية كانت تصرخ من شريط تسجيل قديم " مثل المطر للكاع دم الشيوعي" كان يغنونها في احتفالاتهم أيام الجبهة في بغداد، كان يونس يتذمر أنهم لا يعدون الأرض بمطر السماء، بل بمطر من دماء الشيوعيين، أية نبوءة نحس هذه؟ وها هي اليوم بعض من ثمار ذلك المطر، مقبرة ستفتتح بعد قليل! دخل شاب على صدره شارة حمراء، عريف الحفل، يتكلم العربية قال، مشيراً إلى الكراسي، كأنه يعتذر عن بقائها خالية:

ـ من المؤسف، كثيرون لم تصلهم دعواتنا!

عقب آخر معه يسنده:

ـ حب الناس لحزبنا، لا يحدده حضورهم لاحتفال أو مظاهرة!

نهض يونس، شعر إنه يكاد يختنق، مضى خارج السرادق، كنت أريد أن أقول له: " المقاعد الخالية هنا لا تعني أن جماهير الحزب قد أدركوا حقيقة الفكرة وغسلوا أيديهم منها، مثلما لم تعن مظاهرة المليون شخص التي كان الحزب يخرجها أواخر الخمسينات في بغداد أن الناس التحموا بالفكرة إلى الأبد" كان العطار يقول ويكتب آنذاك: نحن في هذه الأيام نعيش سكرة مجانية عامة، خمر مجاني، في بلد أضحى حانة للثوريين، يقدم خمرتها لهم بكؤوس من الجماجم، والثمن الحقيقي سيدفع لاحقاً، ليس في داخل الحانة بل خارجها. الحزب الشيوعي يقيس حجمه بعدد الناس الملتفين حوله، لا بحقيقة فكرته وشعاراته، ما سيبقى منها على أرض ملتهبة، لم يكن يريد أن يقر أن ما سيبقى من فكرته الهائلة هو ما يمكن أن يبقى من جبل ثلج وضعته في صيف بغداد، وهجيره اللافح، هذا ما كان يقوله العطار دائماً، جروا الكثيرين على طريق اللهيب والثلج، لعبة الحديد الأحمر المحمي، والماء البارد، وقعت كوارث، ومذابح، رجال ونساء تحطموا في السجون وفي المنافي في مسيرة طويلة صاخبة، أليس من حق بعضهم أن يقف ويسأل عن حقيقة ما جرى وينقض عليه صوت السكرتير:

ـ صرت مع أعدائنا تنتقد الحزب!

وينتفض بوجهه:

ـ ما دام الأعداء ينتقدون الحزب، فيجب على الناس أن يمدحوه، ما هذه المعادلة؟

أحس بوحشة وهو ينأى بخطواته، عاد للتجمع دون أن يدخل السرادق. بدا الرجال الكرد وكأنهم ليسوا أمام مقبرة، وهم يمضون بتعليقات، ونكات مرحة وقهقهات، كان يعرف حبهم للمزاح والضحك حتى في الظروف الصعبة، وكأنه تكيف غريزي أمام أخطار مستديمة، تداهمهم، أو يداهمون بها غيرهم! شاركهم ضحكهم بابتسامة صامتة، ثمة غموض يشغله، هؤلاء ممثلو أحزاب كردية، قتل لهم كثيرون في حروبهم مع السلطة، وفي حروبهم مع بعضهم، وفقدوا عشرات الآلاف من أبنائهم وأخوتهم، لا يدري كم من الألم والذنب في أعماقهم حيالهم، هم اليوم يقفون على أرض كبيرة استطاعوا انتزاعها حقاً أو باطلاً، نهائياً أو مؤقتاً، لديهم شبه دولة وحياتهم الخاصة، وتنظيماتهم الكبيرة المسلحة بالبنادق والشعارات الممتدة من ذرى الجبال حتى دماء أتباعهم التي عرفوا كيف يبقونها في حالة غليان قومي دائم، ربما لا وقت للحزن لديهم، فأرضهم لا تزال معلقة بأجنحة الطائرات الأمريكية، لا يدرون أيتخلى الأمريكان عنهم؛ فيهوون إلى أعماق الوديان السحيقة، أم يفون بوعودهم فيبقون واقفين على الأرض، وآنذاك يسورون قبوراً شهدائهم، أو يبحثون عنها في المقابر المجهولة حيث غيب الآلاف من الكرد في أماكن مختلفة . حزبنا هنا ضيف ثقيل يشتم طائرات الأمريكان، وينعم بظلال أجنحتها الوارفة، يفتتح تحتها مقبرة للشهداء، ماذا لو انسحب الأمريكان أو الكرد؟ طبعاً ستستلم جرافات السلطة قبورهم، لو بقيت قبورهم شاردة نافرة كغزلان وطيور في البراري؟ خرج من اشتباكه مع نفسه وأفكاره حين جاء مجموعة شبان وفتيات يحملون لافتات قماش بيض وحمر طويلة خطت عليها بحروف كبيرة عبارات: "حزب الشهداء، على طريق الشهداء " " استشهدوا ليعيش الوطن سعيداً " "نعاهد الشهداء؛ أننا على العهد ماضون " "قروا عيناً، النصر حليفنا" "كلنا مشاريع استشهاد" "الشهيد؛ أفضلنا جميعاً" " لكم المجد؛ عبدتم طريق الحياة بأجسادكم ودمائكم" "زهورنا الحمراء التي سقيتموها بدمائكم؛ لن تذبل، ولن تموت" " دماؤكم زيت لقاطرة المستقبل" ثمة شبان وفتيات يحملون أكاليل وباقات ورود، موسيقيون يعدون أوتارهم ودنابكهم وصناجاتهم، بينما البعض يتنحنح ويتجشأ ويسعل منظفاً رئتيه وحنجرته استعداداً للمنازلة بالغناء، أو الهتاف والخطابة، أعدو لها الكثير كالعادة! تذكر يونس كيف إن السكرتير حمه سور كان يفاخر دائماً بكلمات قالها له صدام بعد خروجه من احتفال في عيد الحزب في بغداد في عز شهر العسل الجبهوي، حضر على ما يبدو فقط ليقول له "رغم أننا نمتلك الإذاعة والتلفزيون لكننا نعترف لكم أنكم أفضل منا في الأغاني والأناشيد والرقصات، وإعداد الاحتفالات" لم يدرك السكرتير أن هذه سخرية مريرة منه، ومن الحزب،(احتفالات وهتافات وشعارات، هذا ما تجيدونه، انتم فقط كلام وأغان وموسيقى وأناشيد، ولا شيء غير ذلك) هذا ما أراد قوله لهم، بينما السكرتير وجماعته انتشوا بها حتى أن أحدهم قال :

ـ البعث يستقدم فرق غناء ورقص من لبنان ومصر وموسكو، ومع ذلك تبقى احتفالاته أدنى مستوى من احتفالاتنا!

مصير البلاد أضحى مباراة بين الحزبين المتحالفين على الأغاني الرديئة! واليوم يدوخون بها رؤوس الشهداء، بعد أن استراحوا منها سنوات تحت التراب. أدهشه الشريط الأحمر ممتداً بين عمودي باب المقبرة منتظراً مقص قائد الحزب، إذاً هو لم يكن شطحة خيال من الشاب الذي بلغه الدعوة. بدا الشريط وتر قوس ما يزال مشدوداً، رغم أن سهمه كان قد انطلق منذ زمن بعيد، ليته أصاب الرمال وحسب، أصاب معها قلوب الكثيرين، فلذات أكبادهم ومصائرهم ! بعض الشبان يحملون كاميرات فديو، وآلات تصوير أخرى، ويأخذ مواضع دقيقة منتظراً قدوم السكرتير!

(10) شهداء طاروا كالحمام، يقتنصونهم اليوم من نوافذ القوميات، والأديان والطوائف!

 

راح يونس يجيل نظراته، عيناه رغم الوهن والشيخوخة وظلمات الزنازين القديمة تدوران في محجريهما بحدة. المقبرة تمتد واسعة رحبة تصل صفوف قبورها ذات الشواهد البيضاء حتى أذيال الجبل، وتتسلق في حضنه مدارجاً متعرجة، ثم تختفي وكأن ضباباً أو عتمة حزينة تبتلعها أو تحلق بها، أو عادت بها مرغمة للتو من فضاء بعيد! عاد يحدق بالشريط الأحمر ذي السنجاف الذهبي. ثمة شاب وفتاة بملابس احتفالية يقفان أمامه، قالت الفتاة برقة وهي تشير لجمهرة المنتظرين:

ـ سيأتي الرفيق السكرتير قريباً!

ابتعد عنها، وقف عند حافة السياج، راح يطل على القبور الهاجعة، أحس إن لا مبالاتها هي هذا اللمعان الساطع من صخورها. قدر أن القبور المبعثرة كانت هنا في هذا المكان، والقبور المنتظمة بصفوف نقلت رفاتها من أماكن أخرى، هكذا نظموا المقبرة، بينما كان الشهداء ينظمون قبورهم بطريقة أخرى، ليس من الضروري أن نفهمها! لماذا تدخلوا بها؟ لم يدهشه تأخر السكرتير الرفيق راضي سعيد فهو يعرفه منذ شبابه في الحزب محباً للظهور والفخفخة متعلقاً بنزعات وتطلعات لقادة في الحزب تسربت إليهم من معاشرتهم لفترة طويلة رفاقهم في الأحزاب الشيوعية الحاكمة، وقد تشبع بتقاليدها وممارساتها أيام الدراسة في معاهدهم التربوية أو الحزبية! وهي مهما اختلفت تبعاً لخصالها القومية لكنها تظل تشترك بالأبهة والتعالي والغطرسة، مع حديثها عن التواضع الثوري وتمثيلها للكادحين والمعدمين، أضافوا لها في العراق ما اكتسبوه من طبائع وعادات مبتذلة في مخالطتهم لأعضاء في حزب البعث الحاكم، حين عملوا معهم حلفاء لهم. أو عبر مشاهدتهم في التلفزيون. سأل نفسه: هل هو متحامل على السكرتير الحالي وطاقمه القيادي، رغم إن ليس هو الذي دبر وصمه بالخيانة وعزله؟ ربما هو كان مشاركاً لهم، هذا لا يهم، لكنه جاء بصفقة مساومات للإبقاء على كل شيء كما كان، افلت السكرتير السابق وكمتار بيس، من أية حساب، أو تصفية لركائزهم ومصالحهم، أو مراجعة لسجلهم، لم يحدث في الحزب أي تغيير، تسلم السكرتير الحالي عربته صدئة مخلعة بلا بوصلة، وأبقاها كذلك، المهم أن يجلس وراء المقود.

(11) جلبة تبدد نعاس الشهداء!

تقدم من يونس رجل كردي من حزب البارزاني، كان يعرفه منذ فترة طويلة، سلم عليه بحرارة، لا يدري لماذا شعر يونس أنها مفتعلة، كان قصيراً، أعجف، وقف بجانبه، قال وهو يحاول السيطرة على أنفاسه:

ـ أسمعت؟ هنا محمد البيرماني!

كاد يونس يقول له "كان عندي البارحة" لكنه توقف لائماً نفسه، كفاك تبسطاً، حيث لا تفهم، أو يساء فهمك عمداً، استمر الرجل:
ـ لديه عرض مغر من بغداد، فصدام يعتقد أننا أصبحنا حلفاء أمريكا، وأصدقاءها المؤثرين عليها، عرض علينا أن يلبي مطلبنا، ويتنازل لنا عن كركوك؛ مقابل أن نقنع الإدارة الأمريكية بفك عزلته! خطر ليونس إن صدام رغم زجه البلاد في حروب؛ أدت أن يفقد بها الكثير من أرضه، وهو مستعد لتنازلات كثيرة من أجل أن يبقى في السلطة، لكنه لن يصل في التهاون إلى حد التنازل عن مدينة تقع في قلب العراق، وتضم سكاناً هم خليط من قوميات وأديان مختلفة. هذا الرجل يروج لأحلامهم وطموحاتهم . قال محاولاً معرفة مقصده:

ـ لا أعتقد أن القادة الكرد يتخلون عن شعارهم الوطني (الديمقراطية للعراق، والحكم الذاتي لكردستان)

قالها رغم معرفته إن هذا ليس سوى شعار عابر لدى قادة الكرد، تلاحقت أنفاس الرجل:

ـ اعتقد أن مصالحنا الآن تقتضي أن نؤمن حدود كردستان، ثم نناضل من أجل الديمقراطية!

صمت يونس متفكراً، وهل يعرف أحد أين تقف حدود كردستان؟ خرائط القادة القوميين الكرد تقول أنها تضرب في شواطئ الفاو جنوباً ملتهمة في طريقها نصف بغداد والجنوب، قال يونس:

ـ وهل تثقون بصدام؟

مال الرجل عليه، وجهه كان يفيض بفرح صبياني رغم الشيب الكثيف على حاجبيه:

ـ لقد تغيرت أشياء كثيرة، أقام صدام معنا علاقات طيبة جداً، بأذني سمعت كاكا مسعود يقول: أن صدام أبونا جميعاً!‍

أضاف وهو يتحرك بعيداً عنه:

ـ سيحضر محمد البيرماني إلى هنا، هكذا عرفت!

تطلع يونس خلفه متمتماً؟ ما هذا الذي يحدث؟ رغم كل ما أعرف، يبدو إنني لا أعرف! وعاد لذهوله. وجد نفسه يفكر مرة أخرى بالبيرماني، يبدو أن السكرتير راضي سعيد في لقاءات طويلة معه، منخرطاً بلعبة التسريب والإشاعات أو اللعب بالوقائع، والأنصار المساكين منهمكون وراء الجبال بقتال الجيش، السادر أيضاً بحروب، أو هدنات أخرى. الجميع ليس لديه شيء غير ذلك، لا شيء يسر القلب. ولكن ألا يدرك السكرتير أنه بدعوته البيرماني إلى هنا يؤذي الشهداء؟ يجرح مشاعر أهلهم؟ أتراه بذلك يمهد لإعادة التحالف مع صدام؟

لا أريد أن التقي البيرماني ثانية، هو مهما أسقطت عنه من قضايا تثار حوله، مهما أهلت عليه من ذهب الذكريات الجميلة التي جمعتنا في أزهى سنوات العمر، يظل مبعوث رجل طائش، خرب الوطن وكل شيء، حتى حزبه نفسه، والسكرتير مهما أسقطت من علاقاته الخفية مع السلطة، فإن جلبه له إلى مقبرة الشهداء يعني تبرئته القاتل من دم قتلاه.

جر يونس قدميه المكدودتين باتجاه جدار المقبرة الأمامي المبني بالحجر الجيري الأبيض. ود لو يدخل المقبرة لوحده يطوف قبور رفاقه. ينحني على الشواهد يتهجى أسماءهم ويتذكر وجوههم، ابتساماتهم، أيام نضالهم ومراحهم في سوح الجبال، يستذكر نكاتهم، تعليقاتهم، شتائمهم لكل شيء، حتى قيادة الحزب وشعاراته ومقدساته! الوقائع التي استشهدوا بها بعيداً عن الصخب والضجيج والأبواق والمزامير! تخيل قبور ابنه وحفيديه بينها، لسع إذ أحس أنه يميزهم. ود أن يلمس القبور كما كان يربت على أكتاف أصحابها وأيديهم، ورغم إنه أحس أن المقبرة اصطناعية، لعبة سياسية، ولا تمت لتلك المقابر التي صنعها الشهداء لأنفسهم، بعفويتهم في سفوح الجبال، فهي الآن مغلقة بالشريط الأحمر، ولا يجوز لأحد أن يدخلها قبل السكرتير، وضيوفه، هل سيدخلها البريماني معه؟ طبعاً، وإلا لماذا دعاه؟ سيقول إنه يريد أن يعيد البيرماني إلى صوابه وضميره، ألم يكن هو رفيقنا؟ عمل في الحزب وضحى سنوات وسنوات. نعم هذا صحيح ولكن لكل شيء مكان حسابه، ولا تخلط السكر بالملح، سيقول ربما هو سينقل لسيده في القصر صورة عن عظمة هذه المقبرة. هذا كله هراء، ومن يستطيع أن يقنع السكرتير بشيء، هو وحده من يرتب وقائع الحفل ومباهجه أن أرادوه وجودها، السكرتير الآن ولي أمر الشهداء، هو من جعلهم يولدون، يصنعون ثانية في مقبرته، هو قائدهم، وحدهم بأب واحد، هو نفسه، أنساهم آباءهم الحقيقيين، لم يعد لدموعهم وحسراتهم معنى، فقط حين يقص شريط المقبرة يصير هؤلاء الموتى شهداء، قبل هذا هم مجرد رفات ذائبة في الأرض!

ابني الذي قتل في الحرب مع إيران لم تحتسبه السلطة من الشهداء، لم يأتوا بجثمانه ليدفن بين قبور عائلته. دفن في إحدى القبور الجماعية التي كانت تحفرها البلدوزرات الضخمة في الحرب، مئات الآلاف من الجنود قتلوا في الحرب، أين قبورهم الآن؟ يقولون إنهم ما يزالون هائمين في الصحاري وعلى ضفاف الأنهار، وفي مجاهل الأهوار، والخلجان البحرية، يأتون في الليالي بثياب مهلهلة، يقرعون أبواب الأهل والأصدقاء ومقرات الأحزاب المتسلطة، والمهجورة ويسألون عن أهليهم وأطفالهم وأحبتهم، الشهداء هم الذين يذكرون الأحياء ويعانون من أجلهم، الأحياء أنهكهم الجوع والإرهاب ودخلوا مرحلة الغيبوبة عن ذكريات الأموات والأحياء، قال لي سائق تكسي جلب لي رسالة من ابنتي في بغداد " ثمة عوائل يتذكرون المنفيين في الخارج؛ لأنهم يرسلون لهم دولارات، هم لا يتذكرون الشهداء؛ لأنهم ليس لديهم دولارات!" تلك هي الحياة! الشهداء تقاطروا من كل جهات العالم، بانتظار سكرتير الحزب ليقص الشريط الأحمر ويمنح كل منهم (شهادة ميلاد شهيد)!

اختلج جسد يونس، غامت نظراته، كفكف دمعه، وعاد يتأمل القبور بهدوء، لاح له جانب منها وقد برزت فيه صلبان حجرية، الآن برزت تصنيفات للقبور حسب الديانة، عندما كانوا مدفونين في شعاب الأرض، كانوا يشعرون أنهم روح واحدة، يقتسمون العيش والمصير، ولا يسأل أي منهم الآخر عن دينه، أو طائفته، أو عرقه وقوميته؛ إلا ما تشف به اللهجة، أو الكلام العفوي. حين يستشهد أحدهم ويكون هناك متسع من الوقت، يرتبك رفاقه، وهم يسألون عن دينه أو مذهبه لدفنه؛ وفق طقوس وشعائر عائلته. كنت أتصوره لو نهض من موته؛ يرفض أن يسأل له عن دين أو مذهب، فهو اخترق المعابد والثكنات والمصارف، إلى حريته العظمى! كنا نصمت،كأننا نقول، لقد تعبت روح الرفيق من الطيران في العاصفة، والآن تأوي لحضن سماوي غامض دافئ! كنا ندفنهم متجاورين: المسلم والمسيحي والمندائي واليزيدي والكردي والعربي والتركماني ونقول، لقد ذاقت هذه الأرض من قوس قزح الناس، أكثر من قوس قزح الغيوم؟ وارتشفت من قلوب ألوان البشر والطيور والزهور! هل يمكن أن يأتي يوم تتعرف فيه على إنسان دون آخر، زهرة دون أخرى؟

(12) التزموا الهدوء! السكرتير، وضيوفه قادمون!

سمع جلبة تقترب وتتوقف، رأى سيارة سوداء تتوقف مثيرة غباراً، ثمة شاب بثياب أنيقة، يفتح بابها بانحناءة،هبط منها السكرتير متمهلاً، سار بخيلاء ومسحة حزن على وجهه بدت ليونس مفتعلة، فهو لا ينسى ضحكاته البلهاء في مواقف تقتضي البكاء، حف به أعضاء من قيادته؛ كانوا ينتظرونه مع حرس ومرافقين، تقدم منه مرحبين رجال ونساء من ممثلي الأحزاب والمنظمات. توقفت سيارة أخرى سوداء فخمة، نزل منها محمد البيرماني، أحاط به حرسه مرتدين ملابس كردية تقليدية، شاب بملابس مدنية وجسم رياضيي ووجه كالح ورأس حليق يلمع مثل كرة، يضع على عينيه نظارة سوداء غامقة يقف وراءه. تذكر يونس إنه لم يكن معه حين زاره، أشاح يونس عن السكرتير حين صار قبالته، سابقاً لم يكن يهتم لكونه الأكبر سناً والأطول نضالاً، كان يبادر للسلام والحديث مع الأصغر منه سناً والأقل درجة حزبية، ويولي السكرتير احترامه وحفاوته. اليوم يحسب كل شيء، ويقابلهم بجفاء، معتزاً بكرامته، وموقفه، ولكي لا يفسر تبسطه معهم إنه يتوسل عطفهم. ظل يبادر بالسلام على من هم في القيادة ويعرف أنهم طيبون، ولكن لا قوة ولا تأثير لهم في سياسة الحزب، ويأخذ عليهم أنهم ساكتون وراضون بنصيبهم! ولا يتقرب منهم أكثر من ذلك! فلا يحرجهم ويعرضهم للمساءلة، ولا يرفض من يبادر لتحيته بما فيهم السكرتير "تلك مرونة وثقة في النفس لا أريد التفريط بهما، مارستهما في صراعات حقب طويلة من النضال" لم يتحرك من مكانه، قرر أن لا يقترب من البيرماني، وان يصد عنه حتى لو تقدم إليه. رأى كثيرين يقبلون عليه مصافحين مرحبين ضامين أيديهم إلى صدورهم، بعضهم راح يعانقه فيقف هو متحصناً ببروده المعتاد. رأى آخرين يتهامسون، سمع من يقول (مبعوثه هنا، هل هذا معقول؟) رأى بعضهم ينسل تاركاً الحفل، السكرتير راضي يصافح من يتقدم إليه، يعانق بعضهم متبادلاً صيحات الاستبشار والضحكات الخافتة، والعالية! راح يونس يدير بصره على الوجوه، يريد أن يعرف هل حضر السكرتير السابق حمه سور، لو كان هنا لكان بجانب راضي والبيرماني ومع ذلك دار يونس ببصره بين الحاضرين باحثاً عنه، لم يجده. في عهده سقط آلاف الرفاق شهداء، لا أريد أن أقول إنه هو وحده المسؤول عن ذلك، فأنا أيضاً مسؤول، ولكن الرجل الأول في الحزب يوجه له سؤال آخر، هو الآن لا يريد أن يكون هنا فيواجه السؤال من عيون أمهات وآباء الشهداء. هو على ما يبدو يريد أن ينسى كل شيء، ألقى البدلة البروليتارية الزرقاء جانباً،وارتدى شرواله الكردي، الآن كما قيل يعالج من مرضه العضال، في بيته الكبير الذي منحه له قادة الكرد، لقاء خدمات حزبه؛ لقضيتهم القومية!

(13) لا تنكروا بيدر القمح المنخور؛ فهذا بذارنا وحصادنا جميعاً!

ثمة مظاهر حداد، ممزوجة بمظاهر بهجة وسرور، على وجوه منظمي الحفل، همس يونس لنفسه: لو لم نكن في موقف ملتو، لقلت لابد من إبداء القوة في حومة الموت، ذلك سر الصراع الأبدي، كنه الروح المصرة على البقاء في وجود صعب، لكنهم قلبوا المواقف؛ فلم يعد للشيء معناه. رأى السكرتير يتبختر بزهو من أدى واجبه كاملاً نحو الشهداء! لو كان العطار هنا لتذكر ما كتبه في إحدى رواياته (تنوء صدور الجنرالات بالأوسمة، تنوء صدور الجنود بدود القبور، وصدور الأمهات بالحسرات، هل هذه قسمة عادلة؟ مضى زمن الكلمات الضخمة يا جلال) حاول أن يصرف انتباهه بتأمل مقرنصات الإطار الرخامي لباب المقبرة المزخرفة عليه أوراق شجر وزهور، علا الضجيج،فما أن خطى السكرتير وبجانبه البيرماني وعدد من الأعضاء القياديين في الحزب باتجاه باب المقبرة حتى تعالت هتافات، وانطلقت زغاريد نسوة، يستعدن الزغاريد التي تطلقها النساء العراقيات عند تشيع جنازات الشبان غير المتزوجين، فيحولن الجنازة عرساً يزف به الشاب لحورية من الجنة. انبعثت من الآلات نغمات حاولت أن تكون لحناً جنائزياً. كان السكرتير قد رأى يونس، وتظاهر إنه لم يره، أراد منه أن يتقدم للسلام عليه، ظل يتلفت لا يريده أن يغيب عن نظره، لكي يتجه إليه مسلماً إذا يأس من مبادرته، هو يعرف عناده، تمنى لو تكون العزلة التي أحكموها عليه قد ألانت رأسه! سار باتجاه المقبرة متظاهراً إنه لا يراه، سار ونظرته مرفوعة إلى الأفق لكنها ترقب يونس، رآه يستدير ليذهب بعيداً، فاندفع نحوه فاتحاً ذراعيه يعانقه " لماذا يا رفيقنا العزيز؟ أهكذا تنقطع عنا فلا تزورنا وتحرمنا من لقاك"

راح يونس يرد عليه بهدوء وتعال : " أنا؟ " ولم يشأ أن يبد أي احتجاج أو استنكار أو عتب أو رفض. راح يرد على أسئلته عن صحته وحاله:

ـ كل شيء جيد!

وجد أن هذا أقصى ما يستطيع قوله، وهما جنب القبور، لم يشأ مناقشته بقضية المقبرة فالأمر قد حدث، وهو الآن في لجته، ولم يشأ ان يناقشه في طوق الحصار المضروب حوله، فالأمر قديم وهو يعيشه بكبرياء، ولا يليق بهذه اللحظات سوى الصمت. كل ما كان قد حضره في ذهنه وأراد قوله، وجده الآن غير مناسب، لا شيء سوى الصمت، الصمت دائماً! هكذا مضت الحكاية كلها منذ زمن طويل! أحاط بهما الجمع وبدا البعض مستغرباً أو متفكراً وأخرجت آلة موسيقية نغمة غير مقصودة، عدها يونس أنة أو صرخة مكتومة! تذكر أن كثيراً من الشهداء كانوا نزقين، أصحاب أراء ومواقف حادة، شكاءون، اعتراضيون، متبرمون، متمردون! اغتنم التفاتة من السكرتير لأحد الضيوف، فانسل من أمامه بخفة واختلط بالجمع. لمح أن البيرماني قد رآه جيداً، لم يتقدم إليه، حسناً فعل، أدرك إنني لا أرغب في لقائه، ليس بسبب ما حدث يوم أمس، هو يعرف مزاجي :استقبلته صديقاً قديماً، وأبلغته رأيي بما عرض علي، وانتهى كل شيء، لم الإطالة؟ سمع يونس السكرتير يقول :"قبور الشهداء هي رحم المستقبل " فأحس بقشعريرة، ما هذا التعبير البشع؟ عاد يرقب ما يجري متحفزاً، قال في نفسه إذا دعاه السكرتير للوقوف إلى جنبه فسيصده، ويفجر غضبه في وجهه،" أتمنى أن لا يحدث ذلك فالمناسبة هي للشهداء الذين أحببتهم وبكيتهم في ليالي الطويلة، ولا ينبغي أن أخدش أي أمر يتعلق بهم، هنا أهلهم وذووهم ويصعب إيضاح الأمر لهم. ينبغي أن أتنحى جانباً، أرقب الحفل من بعيد، أجوس في المقبرة خلف الحشد، ربما أتخلف بعد ذهاب الجميع لأتجول بين قبورهم أتحدث معهم، عل صاحب السيارة يوافق أن يمر علي بعد ساعة، أو أكثر ليعيدني إلى البيت، وإذا لم يكن ذلك ممكناً؛ أستطيع أن قف على الطريق، وأجد واسطة نقل إلى البيت. أو إلى وسط المدينة. أحاول أن استعيد قدرتي على صعود القلعة مشياً، .فهذا الخمول يكاد يقتلني.

(14) لير المقيمون في المنافي المظلمة، الحزب مستلقياً على ظهره في الربوع المشمسة!

اصطف الحشد أمام المنصة التي أقيمت أمام باب المقبرة محاطة بسنادين الورد، ارتفع صوت عريف الحفل بكلمة شرقت وغربت حول الشهداء أنهاها قائلاً :

ـ يتفضل الرفيق السكرتير بإلقاء كلمته القيمة!

وقف وراء المنصة الخشبية البنية الصقيلة متطلعاً بوجوه الحاضرين!

ثمة شاب يحمل كاميرا فيديو وقف بها أمامه مركزاً عدستها عليه، وآخر أتي من الخلف مسرعاً، كاد يصطدم بيونس حاملاً كاميرا أصغر يقول لزميل له يحمل أسلاكاً وأدوات:

-         ـ لا تنس،اظهر الأسماء على شواهد القبور، ستوزع أشرطة الفيديو،منظمات الخارج!

-         لم يدهش يونس، أن توزع أشرطة افتتاح المقبرة في الخارج كمنجزات عجيبة، يدعو العراقيون معارفهم من الأجانب لرؤيتها، أو مقارنتها بما لديهم حدائق ومصانع!

سمع صوتاً يوهوه في الريح خلفه فتلفت مصغياً، كأنه يخرج من احتكاك شاهدة قبر، بشاهدة أخرى، صوت طير عابر حط مستوحشاً :

ـ المنفيون نصف موتى فوق الأرض، يتعرفون على رفاقهم نصف الموتى تحت الأرض، هكذا يتوازن الوطن!

عاد الضجيج فأحس بوحشة، هل روع الطير فحلق بعيداً، لكن الصوت جاء مرة أخرى:

ـ صوروا جيداً! اضبطوا الألوان! لير المقيمون في المنافي المظلمة، الحزب مستلقياً على ظهره في الربوع المشمسة!

في اجتماع للمكتب السياسي عقدناه بعد خروجنا الأخير من الوطن، ثمة أعضاء بيننا كانوا واجمين عصبيين يكثرون من التدخين، تحدث عضو المكتب المسؤول عن تنظيمات الخارج، عن ظاهرة تخلي رفاق وأصدقاء لنا في الخارج عن الحزب وانشغالاته، بعضهم صار يختلف معه، وينتقده ويسفه أفكاره ومسيرته ويختط لنفسه طريقاً آخر، منصرفاً لحياته الخاصة. قال أحدهم بغضب وعلى وجهه اشمئزاز وازدراء:

ـ صارت مغريات الخارج تجتذب البعض للثروة والملذات، ليذهب أدعياء النضال، قصيرو النفس هؤلاء إلى الجحيم!

رد عضو قديم بهدوء :

ـ الناس ظلوا لأكثر من نصف قرن يتطلعون بأمل إلى الحزب، وناضلوا معنا بنزاهة ومشقة حتى ابتلعتهم المنافي، ماذا نريد منهم أكثر ذلك؟

رد عليه العضو الغاضب:

ـ نصف قرن ليست فترة طويلة في حياة الشعوب!

ـ ولكن نصف قرن تكفي لمعرفة ما هو ممكن، وما هو غير ممكن!

انبرى له عضو آخر، كهل أقرب للشيخوخة، كردي، يقول أنه مهندس، لكنه لم يمسك أداة رسم هندسي في حياته، يتظاهر بالتقشف فهو رث الثياب خشن الملامح، عرف بجموده وثقل دمه، والكثيرون يتحاشونه لفظاظته وغبائه قال :

ـ أعظم خصال حزبنا أنه طويل النفس!

قلت وقد اعتراني غضب كنت أجاهد لكبحه كي لا ينفجر:

ـ هل الحزب غواص في البحر؟ هاوي اكتشاف كهوف وآبار؟ أم هو مجموعة بشر، لديهم رئات وخلايا، أعصاب وأعمار محدودة!

كان السكرتير يرقب النقاش، ومن الواضح في نظراته أنه منسجم مع رفاقه الغاضبين على المتخلين عن الركب، تدخل حاسماً النقاش منقضاً على الرفيق مقترح مناقشة قضيتهم :

ـ رفيق أنت تبدد وقت اجتماع المكتب السياسي بقضايا ثانوية!

ـ الحزب يصغر، والمنافي الآن تكبر، وثمة مشاكل وصراعات وتمزقات كثيرة تحدث، كل يوم، هل هذه قضية ثانوية؟

قال بجفاء وحدة ملتفتاً إلي :

ـ لدينا قضايا أهم، أنت دائما تسفه قراراتنا ونظرتنا الهادئة!

ـ دائماً لديك قضايا أهم، ولكن لم نر منجزاً هاماً!

أشاح عني بعجرفته المعهودة، وبهروبه من المواجهة حين تصير جادة وحقيقية ودامغة!

في تلك الأيام كانوا يحضرون لإخراجي من المكتب السياسي، ربما هي إحدى القضايا الأهم لديهم، فأنا طيلة تلك السنوات لم أر قضية هامة واحدة قد أنجزت من هذا المكتب الذي كان قد أحيط بهالة سلطوية،مرعبة ومقدسة أيضاً!

-         أحس يونس بنبضه يتسارع، وبأنفاسه تتقطع ولم يقلق على وضعه، يعرف إنه مغتم لما يجري، ويود لو يستطيع أن يفكر أعمق وأبعد دون أن يفقد انتباهه لما يجري أمامه.

-         عاد الصوت يختلج في الريح، أهو صوت السكرتير هذه المرة، ولا يسمعه سوى يونس:

ـ اكتبوا للمنفيين على أشرطة الفيديو " تبرعوا من أجل كفاحنا المسلح، لا تصدقوا من يقول لكم أن أنصارنا يقاتلون، ولا يجدون من طعام سوى حساء فيه حصى أكثر من حبات العدس! ثم حين يموتون ندفنهم في قبور كبيرة ونتاجر بها، يصفها شعراؤهم: نجوم هوت تلثم الأرض، تذكر يونس أن أحد رجال السلطة قال عن قتلى حروبهم: لقد أتعبنا هؤلاء القتلى، لا نريد أن تصير قبورهم بثوراً في وجه وطننا الجميل، أنهم نجوم في سمائنا! لم يكن ذلك مجرد سوء تعبير، كانوا يتخلصون من قبورهم فعلاً: لم يعودوا يجلبون جثامينهم إلى ذويهم، بذلك يكسبون الصمت أيضاً، صاروا يدفنونهم في حفر كبير كالأغنام النافقة في وباء، ويسوون الأرض فوقهم، كانت البلدوزرات الهائلة المستوردة من ألمانيا لا تشبع من التهام جثث قتلى الحرب! أحس يونس كأن ثمة مباراة بين السلطة، والمعارضة في اللعب بالشهداء،ثم التخلص منهم بخلطهم بالنجوم، أو الشموس!

مضت برهة والسكرتير واقف يجيل بصره، هدر فجأة:

ـ لن أقول سوى أنكم أيها الشهداء أكرم منا جميعاً!

عبارة عتيقة، يرددها صدام كلما قتل آلاف الجنود في معارك فاشلة يخطط لها ويديرها من مخبئه، يقتلون، ومن يتراجع تتلقفه فرق الموت خلف الخطوط، ويوصم بالجبن. ويعود راضي يردد:

ـ حزبنا العظيم حزب الشهداء! دائما يجترح المعجزات، أهنئكم أيتها الرفيقات والرفاق بهذا الإنجاز التاريخي العظيم! العالم كله يرقب مقبرتنا، ويرى من يدخلها، ومن يخرج منها!

ما هذا الهراء؟ من يخرج منها؟ هل يقصد زوارها الآن؟ أم سكنتها الموتى؟ هل هي مجرد زلة لسان، أم هو يقصد أن له ولقيادته قدرة طرد الشهيد من المقبرة، وشموله بالنبذ والمحاصرة ووصمه بالخيانة، هي رسالة للأحياء، لنا سلطة على الأموات، فكيف عليكم؟ وهو الذي يعطي للشهداء حق الخروج من قبورهم لنزهة، أو لزيارة أهلهم، وأصدقائه في البلاد والمنافي.

قبل أن يترك المنصة تلكأ قليلاً، أحس بالمصور يقترب منه أكثر فوقف بوضعية جديدة فهي ستأخذ لغلاف مجلة، أو الصفحة الأولى في جريدتهم التي لا يقرأها حتى أعضاء الحزب!

عاد عريف الحفل إلى المنصة بصوت أوجع رأس يونس، اقترن بزعيق حاد لمكبرات الصوت، هو يتشاءم من عرفاء الاحتفالات، يتعجب كيف تتدفق الكلمات على ألسنتهم، متنافرة مختلطة لا يوحدها غير نبرة الرعد، سيل جارف يرفع في طريقه من الأرض أشياء كثيرة أي شيء يصادفه، كلام الناس، سدادات القناني، الدموع،الأوراق، الأوساخ، هم أحفاد خطباء الحماسة في حروب القبائل، ألسنتهم تصنع الانتصارات وتلغي الهزائم: نصب العريف الحفل قامته كرمح قديم قائلاً:

ـ الشاعر الكبير هاني الديواني، ابن الشاعر العظيم الراحل راشد الديواني الذي رافق حزبنا بكل انتصاراته وبطولاته، يلقي إحدى قصائده العصماء!

هز يونس رأسه بأسى، وهل من حفل للشيوعيين دون شاعر وقصيدة موزونة مقفاة؟ فرقة خيول وسيوف تنفلت من جيوش الفاتحين والغزاة القدامى؟ وللشاعر الديواني أو ولديه؟

برز الشاعر راشد الديواني الديواني عشرينات القرن الماضي، يمدح رجال العهد الملكي حيناً، ويهجوهم حيناً آخر؛ وفق حسابات خاصة يتقنها جيداً، بعد أن أغلقوا أبوابهم بوجهه، اتجه إلى المعارضة، تقلب بينها؛ حتى استقر مع الشيوعيين خاصة عندما برزوا قوة صاعدة بعد سقوط الملكية، ولكثرة تردد الدم في قصائده طالب خصومه ساخرين منه تعينه مديراً عاماً للمسالخ، أو لمصرف الدم لتهدأ نفسه الدموية. أفلح في أن يكون زبوناً جيداً للمصارف المالية، ومكاتب الطيران والسياحة، رغم ادعائه العوز دائماً؛ ليتلقى الهبات والمنح وجوائز المناسبات. له عشرون من الأبناء فتيان وفتيات من زوجات متعددات ظلوا كلهم سالمين معافين، بخدود متوردة وكروش ضخمة رغم كل ما تفجرت من حروب ومصائب، برز منهم شاعران. أكدا قاعدة أن الشعراء الدجالين كالطغاة يتناسلون ولا يغادرون الدنيا إلا بعد أن يخلفوا أمثالهم! الابن الأول هو هانئ الذي ينظم شعراً فصيحاً، والثاني: منتصر الذي ينظم الشعر الشعبي، وقد افلح في توريثهما كل عاداته السيئة: عطالته وتهالكه على المال والجنس والخمور كما أورث شعرهما كل عيوب شعره: قصائد مناسبات متكلفة فضفاضة طافحة بالمديح والذم والدعاية، والتهييج الدموي! ظل حتى وفاته عن عمر طويل مرافقاً للحزب في رحلات الشتاء والصيف، لا حباً به أو أيماناً بمبادئه، فهو يقول صراحة أنه لا يؤمن بها، إنما لأنه يوفر له ضيافة أبدية مفتوحة في الدول الاشتراكية، لا شاغل له فيها سوى الفتيات الصغيرات، والفودكا! كان الديواني يحث بقصائده الشباب على تلقي الرصاص بصدورهم، من أجل التمتع بالمجد في القبور، بعد أن ينتهي من قصيدته في ساحة أو شارع في بغداد يهرع إلى زاوية في بيت أو ملهى يجد فيها كأساً مترعة وراقصة وسجائر أجنبية فاخرة!

-         تقدم الشاعر هانئ إلى المنصة، تخيله يونس أباه راشد، بجسمه الطويل النحيف تعلو رأسه السدارة الفيصلية، يتكأكأ على المنصة مندفعاً كقذيفة منجنيقُ عتيق من جيش مهزوم، يشير بيديه الطويلتين كمجذافي قارب إلى القبور يريد شقها، هذه المرة جاء هانئ بقصيدة عمودية:

بهذي الجماجم نبني قلاعا يصير بها كل خير مشاعا

لهذي الجموع نرسي نظاماً يصير به كل أمر مطاعا

وجد يونس نفسه في مدينة الجماجم، بيوت، حدائق، طرقات أعمدة، كلها جماجم تحدق عيونها الفارغة في الناس حين يأكلون، يشربون، يعشقون، ينامون ويستيقظون، حمامات بحنفيات من الجماجم تسكب ماءً، دماً، كحولاً، دموعاً، تغتسل به الناس، تشربه، تطبخ به طعامها، تمتصه عروقها، عليها أن تتلقى ما تجود به هذه الجماجم وتصمت، وكم تحتاج هذه القلاع من الجماجم؟ يريدون النساء جاهزات يفرخن أكثر من الأرانب في الحقول! هل الديواني يقول هذراً أو هذياناً؟ أم هو ترديد لقانون قيد التنفيذ لقوى ثورية كثيرة، وفي نهج الشيوعيين هنا أيضا؟ سمعت صيحة، وتعالى صخب وضجيج، وصوت يقول:

ـ امرأة أغمى عليها!

نظر الديواني جهتها باعتداد، قصيدته تعطي مفعولها: إصابة أولى بين الجمهور، هدف رقم واحد يهز الشباك، ربما هي أم، أو أخت شهيد، مس قلب المرأة الواهي كالعادة صوت شاعر ساحر فأذابه كقطعة حلوى في فنجان قهوة، حقق الديواني نصره مقدماً‍‍‍!

حملوا المرأة وسمع صوت سيارة منطلقة، عاد يلقي قصيدته، ناظراً جهة القبور، لاحت في عينيه نظرة مشعة مبتهجة بنهم، فهذه القبور هي المائدة الشهية، البيدر العالي، رصيده المصرفي، والأسهم الآخذة بالصعود، كان الاستثمار جيداً، تعب والده كثيراً في صنع الشهداء، ثمة دائماً شعراء عصابيون نشيطون في صنع الشهداء، شرط أن لا يكونوا أبناءهم، يجدونها مهنتهم الأولى، يفخرون بها،ويتحدون من ينافسهم بالإنتاج! الشاعر هانئ يقول دوماً: ـ إنه مجد صنعه أبي وساهمت في زيادته وتحسينه، وسيستمر في صنعه أبني "محسد" الذي أخذت مواهبه تتفتح عن قصائد عمودية،وحرة طويلة! شلال الدم يتفجر وسيكون حوضاً للسباحة، يعيد للجسد عافيته وبشرته الناعمة، بدا الكثيرون مبهورين بهذه الكلمات المرصوفة كحلي مزيفة تبرق بيد بائع جوال، والديواني يتلفت مستغرباً: لماذا لا يغمى على امرأة أخرى؟، رجل، طفل، غراب، قطة ضالة؟

تقدم المصور وأخذ يلتقط صوراً له، رمقه بسرور فهي الصور التي يريدها بعد كل هذا المسار الطويل، وسيعلقها في صالون شقته في بيروت، أو الأخرى في لندن! وتنشرها صحيفة الحزب وربما صحف أخرى، وستقتطعها المناضلات المعجبات، ويعلقنها في غرف نومهن!

أعلن عريف الحفل عن بدء الحفل الفني،موسيقى وأغان كالعادة، انسل يونس بعيداً عن الجمهور. جلس عند سفح التل. أحس نفسه مرهقاً. كان يلهث. لا يدري كم مضى عليه هنا. سمع العريف يعلن: يتفضل قائد الحزب؛ لقص شريط مقبرة الشهداء!

نهض يونس مقترباً من الحشد. حرص أن يرى سلوك، وتصرفات السكرتير عن كثب!

(15) مقص يهرب من المقبرة؛ ليقص ثوب مولود جديد!

سار السكرتير باعتداد بجانبه البيرماني، بقامته اليابسة المتوترة، يسيران معاً في إيقاع تناغم فجأة باتجاه الشريط الأحمر ذي السنجاف الذهبي. ثمة فتاة كردية جميلة بثياب شعبية مزركشة موشحة بنقشات سود تحمل صينية مذهبة في وسطها منديل أحمر عليه علبة مقص سوداء، تقدمت من السكرتير مبتسمة وبانحناءة من رأسها مدت الصينية، وهمت بفتح علبة المقص، لكنه بحركة حازمة من يده أوقفها فجذبت الصينية، ووقفت ترنو إليه منتظرة إشارته. تحدث بشيء لأحد مرافقيه، فخف هذا وجذب برفق وهو يبتسم امرأتين مسنتين من بين المتجمهرين حولهم. كانتا قد تجاوزتا السبعين من عمريهما، إحداهما بثياب كردية سوداء عدا عصابة على الرأس تحمل لوناً زاهياً، والأخرى من الواضح أنها عربية وبثياب مدنية، وتبدو أقرب لموظفة أو مدرسة متقاعدة، وبثياب سوداء ووشاح خفيف على الرأس. كانتا حزينتين واجمتين وعيونهما الواسعات ذابلات من بكاء متحجر طويل، كانت المرأتان قد جرتا نفسيهما بعيداً عن الشريط، وقد شعرتا بثقل أن يكون بينهما وبين أبنائهما شريط وطقوس، لكن المرافقين عادوا ودفعوهما برفق وابتسامات مرتبكة إلى حيث يقف السكرتير أمام الشريط. حفت بهما فتيات صغيرات جئن بثياب بيض ذات حواش مزخرفة وهيئة ملائكة صنعت اجنحتهم من الورق الأبيض. شد السكرتير قامته المتوسطة الممتلئة، ورفع صوته قائلاً:

ـ اسمحوا لي أن أقدم لكم امرأتين عظيمتين قدمت كل واحدة منهما خمسة شهداء في مسيرة حزبنا المقدام، أطلب من إحداهما أن تقوم بقص الشريط،حيث ليس هناك أجدر من أم الشهيد تفتتح مقبرة الشهداء!

أشار إليهما بحركة من يدعو لمائدة لتتقدم واحدة منهما وتحمل المقص، راحت كل واحدة منهما تدعوا الأخرى لتقوم بذلك. قالت المرأة الكردية بعربية طليقة:

ـ أنت ضيفتنا، وأنت أجدر بقص الشريط!

كانت الأم العربية قد فقدت أربعة أبناء، وليس خمسة كما قال السكرتير زيادة في المبالغة، وكأن الأربعة شهداء قليلون، استشهدوا في كردستان بينما استشهد زوجها عندما اعتقلوه في بغداد ومات تحت التعذيب، كان معلماً معروفاً بشدة أيمانه بالشيوعية، وحرصه على تربية أولاده عليها، أضافت المرأة الكردية:

-         ـ أنت فقدت كل أبنائك مع زوجك، وأنا مازال لدي ثلاثة أبناء هم الآن رجال!

-         وأشارت إلى الجمع حيث يقفون.

لكن المرأة العربية ظلت تصر أن تقوم المرأة الكردية بقص الشريط وبدت خجلة محرجة، ومحطمة. أراد السكرتير أن يظهر كصاحب نكتة دائماً، فاجأ الجمع، قال مطلقاً ضحكة قصيرة:

ـ يبدو أن على أن أجري القرعة. لنرى على أي منهما سيقع الحظ فتنال شرف افتتاح هذه المقبرة العظيمة!

ظن كثير من الواقفين أن ما قاله مزاح وحسب، لكن يونس الذي يعرفه جيداً قال في نفسه " ما يزال على غبائه .. " راح السكرتير يبحث في جيبه مفكراً أنه سيبدو للحاضرين دقيقاً عادلاً وديمقراطياً، أخرج قطعة نقد معدنية كبيرة براقة، يبدو إنه كان قد وضعها في جيبه لهذه القضية، قال بصوت عال كساحر متمرس مشيراً إلى إحدى المرأتين:

ـ الصورة لك، والنقش لها!

ظلت المرأتان تبتسمان بحزن مستسلمتين رغم امتعاضهما، وإحساسهما بسخافة ما يقوم به، كانتا ضجرتين وتريدان الانتهاء من هذا الأمر التعيس بأي شكل.

أطلق السكرتير القطعة النقدية المعدنية في الهواء بحركة من كان لعبها كثيراً في صباه، أو في هذه الأيام. راحت القطعة تدور في الهواء وتلتمع في الضوء مثل حشرة بأجنحة فسفورية، تلقفها وأطبق يده الأخرى عليها، وفتحها واطل منها وجه صدام، ياللهول، هو هنا مرة أخرى؟ وعلى يد السكرتير؟ وفي هذا اليوم؟ وعند باب مقبرة الشهداء؟ ماذا يفعل هنا؟ قتلهم هناك، ألم يكفه ذلك؟ المهمة لم تكتمل بعد! أطل صدام جارحاً قلوب الأمهات بابتسامته البلهاء، ربما طائرة الأواكس أيضاً رأت وجهه يلتمع على يد السكرتير، نساء ثكالى تحجرت الدموع في مآقيهن وقلوبهن وينتظرن انتهاء لعبة سخيفة سمجة، لكن السكرتير، لم ير شيئاً من ذلك، سوى الصورة، ولتكن وجه صدام،ثم ماذا ؟ وهذا يعني أن قرعة قص الشريط قد وقعت على الأم الكردية، قال ضاحكاً مستبشراً:

-         ـ هيا يا رفيقة! وقعت عليك القرعة، تفضلي قصي الشريط!

حاولت مرة أخرى أن تهدي دورها للأم العربية، قائلة:

-         ـ أنت ضيفتنا، وأرجوك قصي الشريط!

-         لكن هذه جرت نفسها ولم تتمالك نفسها وراحت تبكي واضعة منديلها على وجهها، لم تعد تطيق أن ترى شيئاً، كانت تريد الانتهاء من هذا الأمر الآن وفوراً، وتدخل المقبرة وتقترب من قبور أبنائها الأربعة رغم أنها لم تكف عن زيارتهم مذ تسللت إلى كردستان قبل سنين، وأقامت هنا لتقضي ما تبقى من عمرها قريباً من قبورهم، بعد أن لم يتبق لها في بغداد سوى قبور زوجها وأهلها. التفتت الأم الكردية إلى البنت التي تحمل صينية المقص، ثمة مفاجئة أخرى تفجرت، لم تخطر على بال الفتاة الصغيرة المسكينة فحين فتحت علبة المقص شحب وجهها، وجدت العلبة فارغة!

-         كانت قد تعهدت بجلب المقص للحفل بصفتها عضوة في لجنة الاحتفال، وتذكرت أنها قبل خروجها من البيت طلبت منها أختها الحامل مقصاً؛ لتستعمله قليلاً في قص قماش حيث كانت تخيط ثوباً لوليدها الذي تنتظر قدومه بعد أيام، وقد خرجت من البيت مسرعة ناسية أن تستعيده، وربما المقص لم يزال بيد أختها تقص به ثياب الوليد الجديد، بينما الرفيق السكرتير يريده أن يؤدي به مهمة هنا بين القبور. نظر للفتاة شزراً قائلاً بلهجة مؤنبة:

ـ هذه لم تدبريها أيضاً!

صار يتلفت طالباً من مرافقيه أن يحضروا مقصاُ على الفور! لكي يذهب أحد إلى المدينة ويجلب المقص فإن ذلك يستغرق وقتاً، يبرد فيه الاحتفال. انهمك الشبان يدورون سائلين؛ إذا كان ثمة من يحمل مقصاً. راحوا يفتشون في محتويات سياراتهم وجدوا مقصات كبيرة جداً، تصلح لقص الحديد والمطاط لا لقص أشرطة رقيقة على أبواب المقابر. صاح بعضهم إن كان هناك من يحمل مقصاً. لزم الجميع الصمت، ومن هذا الذي يخطر على باله أن يأتي لمقبرة الشهداء حاملاً مقصاً؟ ماذا؟ أهو ذاهب لحفلة تنكرية تقص بها الذيول والقرون والشوارب؟ أم لحقل كروم لقص العناقيد الناضجة؟ لعل أحداً يحمل مقصاً من تلك التي تستعمل في تشذيب الشوارب، لكن هؤلاء عادة يخشون أن تستعمل في مهمة جنائزية فهي للأناقة والجمال والغزوات الغرامية! ومع ذلك فتش بعضهم في جيوبهم ولم يجد أحد منهم مقصاً، أو لم يكشف عن وجود مقص لديه! ما هذا المأزق الذي وضعنا السكرتير به عبر تعلقه وهوسه بمسألة قص الأشرطة؟ كان الرفيق يونس يرقب ما يجري وقد جف ريقه، ويجد صعوبة في تمالك نفسه، ملقياً خطبته داخل نفسه (ما هذا الهراء؟ أتعتقد أنك بهذا تقنع الأمهات؟ ماذا تضنهن؟ بائعات دجاج وخراف؟ حتى من تبيع خروفها أو دجاجتها يرتجف قلبها، ولا تتلفت لكي لا تراه يذبح؟ توقفون الأم لتقص شريط قبور أبنائها وهي التي حلمت أن تمسك مقصاً لتخيط ثياب أعراسهم وثياب أطفالهم! من يلومهن لو بصقن بوجوهكم؟ كل مزيتكم الآن، هو أن السلطة في بغداد الآن يقودها أوغاد، وأنذال لصوص، وقتلة) كان هو يعجب لماذا بلغ به الغضب هذا الحد ولم ينسحب، قر في نفسه أن عليه قضاء ما تبقى من عمره شاهداً يرى عن كثب ما يجري، خطر له أن المرأة الكردية التي يعرفها سيدة فاضلة حين وافقت على حمل المقص لقطع الشريط؛ كانت في الحقيقة تؤدي مهمة تعتقد أن أبناءها يطلبون الامتثال لها ما دامت بتكليف من حزبهم، ولكنها مازالت تنتظر المقص الذي اختفى بينما ضجت الأبواق والمزامير واللافتات والثياب الملائكية للصبايا وشريط باب المقبرة، بدا الشريط ليونس امتداداً لأشرطة كثيرة أخرى، حمراء دائماً، رسمت دروب الآلام ومنذ عهد بعيد! صاح أحد الحاضرين بصوت غاضب:

-         ـ هاتوا مقصاً، سكيناً، سيفاً، أنياب ذئب!

الرجل المجهول الذي انطلق صوته من الزحام كان في عمق اللجة المعذبة. معروف لدى يونس، إنه رفيق طيب قدم شهيدين من أبنائه الثلاثة، وهو الآن يقف على عكازة بعد أن فقد أحد ساقيه في هجوم شنه على موقعه أحد فصائل القيادة الكردية الحالية. يستطيع أن يسمع نبضه الغاضب عبر اللغط والضجيج.

عاد يونس يلقي خطبته كعادته على نفسه دون كلل، منعزلاً عن الحشد، عابراً الجماهير الواجمة المنتظرة،محدقاً بأكوام حجارة متناثرة : (لماذا إطالة الآلام؟ دعوا الأهل يلقون همومهم على كاهل الشهداء، دعوا الشهداء يلفظون أنفاسهم الأخيرة في أحضان أمهاتهم، لماذا تشنقونهم بأشرطتكم وشعاراتكم، افتحوا باب المقبرة على الفور) أفاق يونس على صيحة زاجرة غاضبة موجهة للسكرتير:

ـ اقطعه بأسنانك!

تلفت الجمع لم يعرف مطلق الصيحة، كأنها انبثقت من أحشاء الأرض، انطلقت ضحكات مكتومة، وعبارات مؤيدة وشامتة، والسكرتير يتظاهر أنه لم يسمع شيئاً!

(16) مقص من راعي الغنم، لراعي الجماهير!

انطلق أكثر من شاب هنا وهناك يبحثون عن مقص محدقين حتى في الحيوانات والعصافير العابرة علها صارت في هذه الأيام تحمل في رقابها مقصات! انطلق شاب إلى راع تمدد على الأرض بشرواله الفضفاض متوسداً كوعه بين قطيع من الغنم، انتشر يبحث عن الكلأ المتيبس في القيظ بين شجيرات السفح، سأله إن كان لديه مقص. كان هذا الشاب قدم من بغداد قبل سنوات، التحق مع أخيه بالفصائل المقاتلة، كان في مهمة في مكان آخر حين استشهد أخوه، ودفن دون أن يراه، والآن هو بلهفة للوقوف عند قبره، وقد أزعجته قضية هذا الشريط الذي يريد الآن مقصاً، ولعل المقص الآن عند الراعي. الرعاة يحملون المقص في مواسم جز الصوف، أو لقطع حبال الكباش الشرسة عند التلقيح، مقصات ضخمة بعض الشيء، تكلم معه بالعربية التي تتكسر كلماتها تحت أسنان الرعاة والفلاحين الكرد كما يتكسر تحتها الجوز والبلوط، ولكن عادة كلمات العرب لا تعطيهم ذلك اللب اللذيذ دائماً، سأل الراعي:

ـ بماذا تريد أن تستعمله؟

قال الشاب على عجل:

ـ سنقص به شريطاً صغيراً.

ضحك الراعي وقال :

-         ـ ماذا فعلت بكم المدينة؟ تعجزون عن قطع شريط قماش؟ ولا أدري بماذا تستعملون أصابعكم الناعمة؟

أضاف :

ـ كم شريط لديكم؟

رد الشاب بضجر وسرعة :

-         ـ شريط واحد، مقبرة واحدة!

لو فتش الراعي الكردي ذاكرته كلها حتى قبل نهوض الجبال في هذه الأرض، لما وجد ثمة علاقة بين المقبرة والأشرطة والمقص، إلا إذا كان الأمر يتعلق بسرقة الأكفان، وهذا ما استبعد حدوثه هنا، لذا فقد ظنه يمازحه فقال :

-         ـ إذا كانت لديكم أشرطة كثيرة فدعني أعيرك أكبر مقص عندي طوله حوالي المتر استعمله مع الأكباش، ويمكنكم أن تقصوا به حبالاً غليظة وأشرطة لألف سنة‍.

أحس الشاب بالرعب أن يظلوا لألف عام يقصون أشرطة وحبالاً على أبواب المقابر، ما هذه النذر المشؤومة التعيسة التي صار يزجه بها هذا الراعي الذي يريد أن يزجي وقته الطويل بالكلام؟ قال أريد مقصاً صغيراً، دهش الشاب حين أخرج له الراعي مقصاً جديداً وإن كان من معدن رديء، لكنه أقرب في حجمه لتلك المقصات التي يستعملها الرؤساء والوزراء في بغداد في قص الأشرطة عند افتتاح مشاريعهم في خطط التنمية المسماة بالخمسية والعشرية والانفجارية، والتي لا تنفذ عادة، أو تنفذ ثم تصيراً طعاماً للحروب، هذا ما يريده السكرتير، خطف الشاب المقص:

-         ـ سأعيده لك حالاً!

سمع الراعي يقول :

ـ أرجو أن ترفق به، فأنا استعمله في قص شعر أطفالي أيضاً، مع خرافي الجميلة التي تراها الآن!

قال الشاب في سره (ونحن أيضاً لدينا خراف جميلة، أكل الكثيرون لحمها مقدما، نيئاً ومطبوخاً) . كان الشاب متلهفاً أن ينتهوا من لعبتهم السمجة في قص الشريط، فهو يريد أن يقترب من قبر شقيقه الشهيد، وقبور أصدقاء ورفاق يحمل لهم في قلبه حناناً دافئاً، وذكريات جميلة، ولهؤلاء الذين بنوا لهم مقبرة أسئلة ومآخذ كثيرة، ليس وقتها الآن، وحين خطر له أن السكرتير سينزعج ويعترض ؛أنه أتى بمقص من راع للغنم، قرر أن ينفجر في وجهه ويقول له ما كان يتردد في قوله منذ وقت طويل، ويجد له متنفساً في أحاديث ونقاشات مع رفاق وأصدقاء (وماذا في الأمر؟ أردتم مقصاً، لم أجد لكم غير مقص راعٍ، غنم أو رفاق، كلها قطعان تسوقونها أمامكم إلى مراعي العشب أو الأيدلوجيات، لا فرق). لمس نظرات

حزينة مرتجفة من المنتظرين المتململين في وقفتهم، سمع من بعضهم ضحكات مكتومة، وضع المقص في صينية الفتاة الصغيرة، كان قد استعد للرد على السكرتير إذا تفوه بكلمة معترضة، لكن السكرتير تظاهر أنه لم ير، ولم يسمع شيئاً، كان متلهفاً لمقص أي مقص، وشريط يقص برعايته!

أمسكت الأم الكردية المقص بيد مرتجفة ناتئة العروق، وقد علت وجهها مسحة حزن كامدة، مترددة كأنها غير متأكدة أن عليها أن تقص شيئاً في هذه اللحظة، التي يقص بها قلبها، وإذ باغتتها عاصفة من التصفيق والهتاف، وزعيق الموسيقى قصت الشريط، وألقت المقص في الصينية، وتراجعت إلى الوراء باحثة عن رفيقتها الأم العربية ؛ تريد أن تتكئ عليها. وأخيراً دخل السكرتير المقبرة متقدماً الحشد، تعمد يونس إبطاء خطواته وسار على مهل منزوياً في آخر الناس، أحس بالراحة أن السكرتير قد أدرك نفوره منه، وامتعاضه مما يجري، وعرف إنه كعادته إذ يرفض عملاً أو أمراً، يحضره عادة؛ ليواجههم به ويدمغهم بخطئهم حيث كان هو بنفسه شاهداً عليه. كان هو أيضاً في أعماقه يعرف ما يدور بخلد يونس هذا المنشق المشاكس. لكنه لم يندم على دعوته؛ فهو بحضوره قد بارك خطوته، وأيدها أمام الحاضرين! بدأ السكرتير على أرض المقبرة مشية مختلفة وقبل أن يصل الصف الأول من القبور واجهته فرقة منشدين، فتريث أمامها وقد انفلتت حناجر أفرادها الشبان بنشيد صاخب بدو فيه مثل مجموعة من الديكة داهمها الفجر العظيم بأنواره ولم تفتح عيونها بعد، راحت تطوف حولهم فتيات بثياب بيض مجنحة موحية أن الملائكة قد التحقت بالحزب أيضاً؛ طاردة كل الشياطين التي تحوم حوله تريد القضاء عليه! وقبل أن يكملوا نشيدهم تجاوزهم رافعاً رأسه بشموخ وبنظرات مترفعة حاول جاهداً أن يلبسها حزناً وأسى، انفلت ليقترب من قبور الشهداء الذين ما زالوا أعضاء في حزبه. بعض النسوة أطلقن الزغاريد، تلك هي مزحة أخرى مع الشهداء، لكنها مغرية لهم : عرائس من حور الجنة الجميلات سيجعلن ليلتهم اليوم شبقاً وحباً وشهوات متفجرة حتى الفجر بعد جفاف الموت الطويل، محيلة غيوم الوحشة التي تغطى القبر إلى كلة بيضاء هفهافة في ليالي الصيف المقمرة الندية على السطوح. كان الركب يسير قوياً ثابتاً واثقاً من نفسه ومن كل شيء، وقد أتى حاملاً للشهداء أنباء عظيمة. أن كل ما ناضلوا من أجله ووهبوه أعمارهم اليانعة قد تحقق، طوبى لكم أيها المنتصرون، أكملنا شوطكم على أحسن وجه، وأفضل مسار، طريقنا منذ البدء كان صحيحاً، وحتى المنتهى سيظل الطريق الأوحد للجنة على الأرض، كل الطرق الأخرى لن تفضي سوى إلى الجحيم! وكلما نظر السكرتير للقبور أحس بالطمأنينة، فولداه ليسا بينهم، هما ليسا في العراق، انهما في الخارج، أحدهما يدرس الطب في إنكلترا، والآخر يدرس المحاسبة التجارية في ألمانيا!

كان البيرماني يسير بحذر، تختلط في ذهنه مشاعر كثيرة، غلب عليها شعوره إنه ضيف ثقيل هنا، وربما هذه القبور تكرهه، زاد من حرجه خطى حارسه ذي الرأس الرصاصي الكبير، تتوالى مسرعة، مستهترة، ضجرة. كان الحارس يكبت في بطنه الثقيلة ضحكة، يخشى البيرماني أن ينهره، فهو من رجال المخابرات في بغداد، كان يضحك في سره، قبل أيام حضر في الموصل حفل افتتاح قصر عظيم لصدام على نهر دجلة، كان مذهلاً، عجيباً، و"الشيوعيون لا تعجبهم قصورنا، يفتتحون هنا مقابر "!

(17) أيها الشهداء قفوا استعداداً، جاء القائد!

مضى السكرتير يسير بين القبور يرافقه حرسه على مسافة قصيرة. لم يفلت من عيني يونس اللتين امتلكتا هذا اليوم حدة في الإبصار كأنها تلقي شحنتها الأخيرة!

بدا له جنرالاً يستعرض جنوده، هم فقط شهداء، شهداء لا غير، يراهم منحنين خاشعين مبدين طاعتهم منتظرين أوامره، لو أوعز لهم بالنهوض من قبورهم؛ لوقفوا كجنود مبتدئين يؤدون له التحية! ولو أمرهم بتأدية مهمة جديدة لقاموا بها أفضل من ذي قبل، وسيفتشون عما هو أغلى من أرواحهم ليمنحوه، فقد كانت التضحية السابقة قليلة، ليبقوا ناعسين مرتاحين في ثراهم، فهم من أماكنهم الضيقة الصغيرة يؤدون مهمة صعبة جداً، لا يستطيع أن ينهض بها كل هؤلاء الأحياء الثرثارون من حولي، إنهم بعطائهم أرواحهم لنا، ثم الصمت دون المطالبة بشيء؛ يقنعون الناس بصواب فكرتنا ونهجنا وسياستنا وسلوكنا بدء من طريقتنا في إشعال السيجارة، إلى إشعال قلوب نسائنا، إلى إشعال الثورة في هذه الجبال الجرداء، من قال إن هذا مستحيل ؟ أكفان الشهداء، عبير عظامهم، كافور توابيتهم، هي النكهة المسكرة الأشد تأثيراً من رائحة الحاضر، بكل ما فيه من دول وجيوش وصناعة وزراعة وبورصات ومحلات عطور، ربحنا أم خسرنا الآن، هذا غير مهم، ولا يعني شيئاً، ألمهم أننا سندخل رحاب المستقبل حاملين دم الشهداء، رغم موتهم، هم الشغيلة المجدة الصامتة، النحل العامل الذي يملأ خلايا الحزب بعسل الذكريات المقدسة! بهم يغتني الحزب ويسمن ويقوى، ويبقى على فحولته، وبهم وحدهم يستطيع أن يسير متبختراً تياهاً على الآخرين، هم ثقله، ونواته العظمى التي ستخرج منها شجرتنا الخضراء العظمى، أستطيع القول بكل ثقة: (موتوا تصحوا!) ليترك حزبنا كل أعضائه الأحياء المشاكسين المتململين المتذمرين ويبقي على هؤلاء الموتى الصامتين دوماً، غير المطالبين بشيء، لا بنقد، ولا نقد ذاتي؛ فلا نضطر إلا للضرورة القصوى لطردهم أو عزلهم أو حرقهم معنوياً، من قال إن الشهداء لا يدفعون اشتراكات أو تبرعات؟ بذكراهم يجلبون العطف للحزب، فتزداد الاشتراكات والتبرعات ويكسبون أعضاء جدد للحزب! ‍

وبثقلهم تصلنا عطايا التوازنات الإقليمية والدولية، فهي تدفع على عدد الرؤوس الهالكة. نحن حزب الشهداء، تلك هي المعجزة الكبرى التي تجلت على أيدينا، والمنسجمة مع قانونا الجدلي: الحياة تنبثق من الموت! سنبني الحياة الجديدة بأيدي الأموات، وأيدي الأحياء معاً، ولابد من توظيف المزيد من الشهداء، كم هو مريح العمل معهم، إنهم بلا رواتب أو متطلبات كعصافير النوافذ، وكفراشات الحقول، اليوم أنا لا أفتتح مقبرة بل مزرعة شهداء يصير فيها كل شهيد سنبلة شهداء، وذهب وعملات صعبة، بذور نادرة من أرقى مادة في الوجود! العدم الجميل، حيث كل زهرة في هذه الأرض أخذت حمرتها وريها من دم شهيد، وكل نغمة طير هي آهة أخيرة لشهيد! هذا حصاد نضالنا، أكبر شهادة ووثيقة أرضية لنضالنا وانتصارنا، كثيرون قتلوا في حروب الدولة وذهبوا سدى، عندنا فقط بقي الشهيد حياً لأنه مات من أجل فكرة عظيمة، صحيحة، كلية القدرة، نحن لم نجبر أحداً على الانخراط في نضالنا. هم الذين تقاطروا علينا، هم الفراشات التي تساقطت على نور فكرتنا، هم الذين أجبرونا بعزيمتهم المتأججة على وضعهم في فصائل القتال والحرب! كانوا شباناً أغراراً يبحثون عن تحقيق الذات؛ فساعدناهم على تحقيق أرقى تجسيد للذات المتسامية!

أحس يونس أنه يسمع نبض عروق السكرتير، وإنه في أعماقه مشتبك معه، أحدهما ينطق الآخر في حوار أليم مكتوم، أحدهما يسمع ويعرف الآخر، ماذا يفكر، وماذا يقول الآن، وكلاهما يسمع الآخر مع الريح المدومة بينهما " لا يا راضي سعيد أنتم تبذلون أرواح الرفاق كما يبذل الأثرياء أموالهم على موائد القمار، تقامرون بأرواح الناس وهذه أتعس برجوازية، تزجون بالجموع في مسارات طويلة قبل التأكد من صحة الطريق، الفكرة لديكم أغلى من الإنسان، والوهم أقوى من الحقيقة، لم تتفحصوا الفكرة، حتى الفلاح البسيط يتأكد من صلاح أرضه قبل أن يلقي فيها بذوره، ومن سلامة بذوره قبل أن يهدر مائه. ومن صحة طريقه قبل أن يركب حماره، أنتم سرتم وراء أدلاء واهمين؛ فكانت الكارثة، وكان الخراب، اتركوا الأرض ترتب زهورها وناسها وطرقها، واخرجوا من المشهد، فأنتم فائضون عن الحاجة!"

ويهم يونس أن يقترب منه ليقول: وما جدوى الموت إذا كان اتجاه السهم في البندقية، هو عكس اتجاه السهم في بوصلة التاريخ، وعكس اتجاه القلب! ومرة أخرى يتعلل، إنه لا ينبغي أن يقلق راحة الشهداء، فيصمت!

أحس يونس بقدميه تميلان به ويكاد يهوي على الأرض، وأنفاسه تتسارع، تذكر أنه مجهد وإنه أرهق نفسه بالمجيء، ولكنه لم يندم، كان سيندم لو لم يأت، كثير من الشهداء أصدقاؤه، وهم أحبته جميعاً، والأهم إنه ساهم في مصيرهم، ولا يبرئ نفسه من جريرة موتهم، ومصيرهم كله! لكنه أرهق نفسه بالتفكير، أثقل على قلبه بهذه الأفكار والمشاعر التي لم يستدعها بل انثالت في عقله كأنها من سماء تجمعت فيها سحب حياته. صار يحس بدوار وبالأرض تميد من تحته، خطر له أن الشمس صارت تصفعه،تعاقبه، ترنح قليلاً،،تهاوى متلقياً الأرض بصدره، تنبه له بعضهم، تراكضوا إليه، صاح أحدهم:

-         ـ وقع الرفيق يونس، أسرعوا!

دخل يونس غيبوبته بهدوء، كمن يدخل حديقة قديمة له فيها ذكريات عشق ولهو وجد بعد غياب طويل، في غشيته لم يكن منقطعاً عما يجري، كان في حدة وعي وإبصار، لكنه لا يقوى على الحركة، ولولا إنه كان شاحباً، غائم النظرات متسارع النبض، وقد تركت السقطة ندوباً على حاجبيه وخديه؛ لظنه من يراه نائماً منسرحاً مع حلم عذب طويل. وبينما بدا للبعض أنه أغمي عليه، بدا لآخرين أنه مات، وما بدا على وجهه من مسحة حبور كان يشي أنه يحلق في عالم أحبته الأموات!

 

باب النهوض

 

لا تظلموا الموتى وإن طال المدى إني أخاف عليكم أن تلتقوا

أبو العلاء المعري

أخذكم الغياب يا أحبتي طويلاً.

سراب علت أمواجه الغيوم!

صار البحر كله قارباً إليكم!

من أين أتيتم ؟

من الأرض التي ما تزال أيامنا القديمة تتطاير عليها مع الغبار وأوراق الشجر؟

تلك الشواطئ التي أبحرت منها قواربنا؟

من بقايا القلب، وكسرات قنديله المنطفئ؟

الشاعر المجهول من أيس

 

(18) خيل للأمهات أن الأرض تلد أبنائهن ثانية؛ نيابة عنهن!

في اللحظة التي هوى فيها يونس على الأرض؛ اهتزت المقبرة. ومع تواصل ارتجاجها أفاق يونس من غشيته. ظن بعضهم أن ثمة زلزالاً يرج الأرض، جحظت عيونهم، رأوا شقوقاً ومهاوي وثمة برق ورعد يقصف ويدفعهم إلى الهاوية السحيقة، لكنهم وجدوا أنفسهم لا يزالون في أماكنهم، ظن قسم منهم أنهم سيلتحقون بعالم الشهداء الذين كانوا قبل قليل يتغنون به، ويعلنون أمنيتهم أن ينالوا شرف دخوله معهم، لكنهم أحسوا أنهم في هذه اللحظة أكثر تمسكاً بالحياة، وتشبثاً بها بأي شكل تكون، ندموا على أمانيهم التي يبدوا أن السماء قد أخذتها مأخذ الجد واستجابت لها. ما هذا الذي يجري؟ عاصفة من الغبار تشق الأرض، وتنهض منها موتاها، وتملأ الجو برائحة الكافور الخانقة، وعطن الأكفان. صرخات غاضبة تنبعث من الأعماق تحيل صمت عشرات السنين وكبتها إلى عويل هائل هادر مرعب، وجانب من السماء ينشق ويهوي في وهدة سحيقة من الأرض. أهو زلزال؟ بركان؟ انهيار أو انخساف أرضي؟ عاصفة ترابية عنيفة هزت جذور الجبال، ولا تلبث أن تمر؟ صاروخ أو قنبلة سقطت سهواً أو عمداً من إحدى الطائرات الأمريكية التي تجوب فضاء المنطقة؟ قصف مدفعي من الجيش العراقي؟ لا.. لا شيء من هذا، فالدوي والتفجر يأتي من الأعماق لا من الخارج! أدركوا أن مقبرة الشهداء تزلزل وتثور، وقفت الأمهات صامتات مصغيات بينما بعضهن رحن يولولن ويصرخن بانفعالات غامضة شتى. كن كثيرات، بعضهن فقدن ولداً أو ولدين، أو ولداً وبنتاً، بعضهن فقدن ولدين مع الزوج والشقيق، وربما أكثرهن فجيعة هي التي فقدت وحيدها مع زوجها، فظلت تدور في فراغ مريع، تشعر بالذنب أنها ما تزال تعيش. رحن يصغين لدوي الرعد المنبعث من الأرض، وبإلهام الأم شعرن أن كل قبر يتفتق الآن: زهرة وحشية مفصحةً عن مكنونها، دافعة من رحمها جسد الشهيد محدثة صوتاً كطلق النساء حين تلدن. يأتي الصوت مضاعفاً صاعداً، أحست الأمهات بغريزتهن أنهم أبناؤهن، وقد أخذوا ينهضون، رحن يشَمن الهواء: ذات الرائحة التي كانت لهم حين كن في الأزمان البعيدة يرفعنهم من المهود بعد نومة طويلة، خطر للأمهات أن الأرض تلد الأبناء والأحبة من جديد نيابة عنهن، لا عجب إنها أمهم الكبرى، تلدهم ثانية؛ فهم أولاد طيبون غير عاقين، ماتوا من أجل الناس: الأمهات النساء، والأرض معاً، الآن تلدهم وهم أقوى وأجمل؛ يستعصون على الموت والعذاب، وسوء الفهم. الأمهات يصغين وقد ارتعشت قلوبهن وصفت عقولهن، لم تصف يوماً طيلة الأزمان المليئة بالكدر والشقاء. الأرض تعيد لكل واحدة منهن كل صرخاتها وآهاتها وهي تلد ابنها الذي أضحى شهيدا قبل أن يجف حليبها على شفاهه. ترد الأبناء الشهداء الآن سالمين. يا لذكاء الأرض الطيبة، ودقة ذاكرتها! تعيد كل تفاصيل الوضع والولادة التي لا يمكن لأي أم أن تنساها حتى لو هرمت، أو شاخ الابن، أو صار عاقاً أو جلفاً. كل أم تذكر هذه الصرخات والأنات كأجمل نشيد للروح، وكآهة كبرى في هذا الوجود الأليم الذي لم يطلبه أحد، ولم يسع إليه، جلبه إليه الآخرون، الآباء والأمهات والأسلاف، الآن تعيدها الأرض لهن مضاعفة النبرة والمدى، تقرع بها أبواب السماء التي ردت النداء سابقاً قسوة وموتاً ودموعاً، وكأنها من صخر وليس من زرقة لازوردية فاتنة. رحن يصغين منتشيات وقد ملأت عيونهن دموع صافية، لآلئ دافئة لها أنغام خفية تداعب الجفون! كانت الأجساد المنبعثة تكتسب هالتها ليس من أسمائها وحسب؛ بل من الدموع المتفجرة في القلوب المكلومة المتطلعة، ومن المفاجأة التي قلبت الموت إلى وجود جميل باهر!

أدرك يونس مع الأمهات وبإلهام لم يكن مفاجئاً له، أنهم الشهداء ينهضون من قبورهم، ويثبون كالنمور بغضبهم المعهود، يمزقون ِشباك العدم التي نسجت حولهم، يكسرون صخور الصمت، وخدر رفاقهم الناسين لهم، يأتون من أعماق الماضي، ومن لحظة الأزل الأولى ورماد العصور، وربما من المستقبل أيضاً،،ليس فقط في زيارة حب، فهو كما عهدهم غير عاطفيين، وهذا عيبهم وحسنتهم معاً، في مهمة غامضة لا يعرفها، لكنهم أطيب من أن يلحقوا الأذى بأحد! كأنه لم يسقط، ظل واقفاً في مكانه بينما تبعثر الجمع، رأى السكرتير يلوذ بحلقة حراسه، الذين باغتهم دوي رعد الأرض، ظنوه قصف مدافع جيش السلطة، جذبوه إلى الأرض وغطوه بأجسامهم. التف حراس البيرماني حوله، وحاولوا جره إلى السيارة مسرعين لكنهم بوغتوا بهياكل عظمية تقف قبالتهم وتنتزع من أيديهم أسلحتهم بالسرعة التي تحدث فيها الأشياء في الأحلام، انطلقت رصاصات أصابت أجنحة الأطفال الورقية، لكنها لم تصب أي منهم بأذى، فر بعض حراسه، واسروا الآخرين وجذبوه منهم، قال أحد الشهداء للبيرماني:

ـ هذه أول مرة تلتقي فيها بقاعدة الحزب، لا شك أنك قد مللت الإقامة في القمة!

كان يرتجف، مولولاً :

ـ أنا مريض، وأدويتي ليست معي!

قال الشهيد:

ـ لدينا الكثير من الأدوية المناسبة لك، ستشفى على أيدينا حتماً!

سار أمامهم خانعاً. قال شهيد لحارسه ذي الرأس الرصاصي والنظارة المخابراتية:

ـ سنأخذك معنا، نريد أن نسمع منك كيف تعملون في جهاز المخابرات، لديكم قصص أكثر إثارة من قصص أشباح القبور!

لكن هيكلاً عظمياً لشهيد برز فجأة، وكان قيادياً، قال:

ـ أطلقوا سراح الحراس، محكمة الشهداء غير مختصة بالمجرمين العاديين!

أخلى سبيلهم، ركضوا كذئاب تخرج من المصيدة!

توالى اهتزاز الأرض، قصف من الأعماق، سمعوا صوتاً يقول :

ـ لا تخافوا نحن رفاقكم الشهداء، جئنا لمحاسبة قادة الحزب!

راح حراس السكرتير ومن معه ينظر أحدهم بوجه الآخر مستفهماً، البعض أدرك بسرعة ما يحدث، آخر ظل مستطلعاً لا يفهم شيئاً، تخلوا عن السكرتير وأعضاء قيادته ممتثلين لأمر الشهداء، وجدوهم قادتهم الأعلى. أخذ حراس وضع انبطاح وراحوا يطلقون الرصاص بشكل عشوائي، أصابوا هياكل شهداء، لكن الرصاص مر بها حزماً من الضوء. وجد السكرتير وأصحابه أنفسهم مكشوفين، ساروا متعثرين ممتقعي الوجوه، وثمة قوة مجهولة مبهمة ثابتة تجتذبهم للفوهة التي انفتحت بوابة إلى أعماق الأرض، كان السكرتير أكثرهم فزعاً وارتجافاً ممسكاً صدره؛ متصنعاً أوجاعاً في القلب! ثمة تيارات حرارية تخرج من مسامات الأرض وكأنها تعاني من حمى، ورغم إن الحرارة المنبعثة كانت عادية؛ إلا أن البعض شعر أن لظى جهنم صار يلفح وجهه فوضع يديه على عينيه،معتقداً أن أبواب الجحيم قد انفتحت، ولم يعد يدري في أي اتجاه يسير ليخرج من هذه الحومة المرعبة.

(19) قضية اختمرت في قبورنا، وأيقظتنا!

غمر يونس استبشار وأمل، تذكر إنه منذ زمن بعيد، على موعد مع هذه اللحظة، وجدها حقاً وعدلاً، لكنها تأخرت كثيراً. ما زالت الأرض تزلزل بعنفوان، أصيب جمع بالرعب فسقطوا مغشياً عليهم، لاذ آخرون بالشواهد فوجدوها مقتلعة، والقبور مفتوحة، بعض بقي ثابتاً في مكانه يشاهد ما يجري هادئاً منتظراً ما سيحدث بلهفة. الشهداء المتمرسون بالمعارك والاشتباكات القتالية اتخذوا تدابيرهم، وقفوا عند البوابة، وانطلق صوت في مقدمتهم:

ـ نعتذر للضيوف، ما قمنا به، كان محتماً علينا! لقد أفسحنا لهم الطرق للخروج إلى حيث يشاءون!

لم يكن الضيوف السياسيون بحاجة لنداء ليعودوا أدراجهم، أحسوا باهتزاز الأرض؛ فأخذوا ينسلون إلى سياراتهم، شاحبين مرتبكين، لا يجرؤن على التلفت وراءهم، غير مصدقين أن القبور تفتحت أمامهم وخرج أمواتها أحياً، استقلوا سياراتهم الحديثة، سمعوا أصوات محركاتها الخافتة، بعضهم راح يضحك، قائلاً:

ـ ألم أقل لكم؟ الشيوعيون غريبو أطوار، في حياتهم ومماتهم، والأفضل الابتعاد عنهم!

كان جميع الشهداء قد نهضوا دفعة واحدة، وكأن بوق النفير القتالي أيقظهم من نوم ثقيل لانتفاضة حامية كبيرة هائلة، وجدوها بشكل ما معركتهم الحقيقية الأولى والأخيرة! معظمهم بملابسهم القتالية التي دفنوا بها، بينما البعض الآخر، وهم القدماء غير المقاتلين بأكفانهم، بدت عليهم ثياباً مهيبة لا تزال ناصعة البياض، وتراب القبور عليها مجرد غبار طريق، ووعثاء سفر! أحاطوا بقادة الحزب وبمرافقيهم، تقدم أحد الشهداء، وكان على ما يبدو ناطقاً باسم الانتفاضة، قال بهدوء لقادة الحزب المرتجفين ذعراً:

-         ـ أنتم معتقلون، وعلى ذمة التحقيق!

أشار إلى درج كبير عند حافة البوابة يفضي إلى الأعماق وسط المقبرة لينزلوه، أحد أعضاء قيادة الحزب أراد أن يظهر أنه أكثرهم شجاعة سأل بصوت مرتجف:

-         ـ من أنتم؟

-         قال الشاب:

-         ـ نحن شهداء الحزب، كيف لا تعرفوننا، وكنتم قبل قليل تتغنون بأسمائنا ومآثرنا!

رد الرجل متراجعاً:

-         ـ معذرة، فأبصارنا كما تعرفون أضحت كليلة، فرصة سعيدة أن نلقاكم ثانية!

-         أجابه وهو يشيح عنه:

-         ـ ما كان للقاكم أن يكون فرصة سعيدة؛ لولا إنه لحساب مع العدالة!

-         عقب أحد الشهداء ضاحكاً:
ـ من المؤكد أن أبصاركم لم تكل من كثرة القراءة، فأنتم لا تقرأون، ولا تكتبون!

-         ـ وهل يترك لنا النضال فرصاً للقراءة أو الكتابة؟

-         قال الشهيد وهو يعتدل في هيكله العظمي:

ـ نضال السفرات واللهو، والدوران حول الطاحونة فارغة، والخرقة على العينين!

أراد عضو القيادة أن يقف ويواصل الكلام؛ فأمره الشهيد أن ينزل قائلاً:

ـ لك أن تقول ما تشاء أمام المحكمة‍.

أحس يونس كما في مرات نادرة قليلة أن الدنيا مهما بدت له مختلة غير متوازنة، لكنها تخبئ توازنها تحت ستر كثيرة. وإن الحقيقة لن تظل خافية، والعدالة لن تظل مهدورة! انحنى إلى الأرض، حمل كسراً من عظام شهداء نسوها، رافقهم، ودخل فوهة الطريق الجديد الذي انفتح إلى الأعماق!

فجأة انطلق شهيدان بهيكلين عظميين منخورين؛ جائلين بين من تبقى ممن كانوا مع السكرتير؛ باحثين عن كمتار بيس، وحمه سور، لحق بهم شهداء آخرون، عاصفة عظام بشرية تلاحق شبحين لكمتار بيس وحمه سور، كانا يظناهما قد جاءا مع المدعوين، بينما هما لم يأتيا، هما الآن لاهيين في مكان آخر. كانت عيون الشهداء تدور زائغة هنا وهناك، وقد توغلا بين الناس يبحثون عنهما فأصيبوا بالذعر، كانت صرخات الشهيدين ملتاعة غاضبة تنغرز كالنصال في الآذان! سقط الكثير من العظام، وأهيل كثير من التراب تحت أقدام الناس المتراكضة، والصيحات تتلاحق " أيها الجبان كمتار، أيها الجبان حمه، تعالا هذه ساعة حسابكما" . لم يأخذ الشهيدان موافقة قيادة الانتفاضة للانطلاق خارج مجالهما؛ بحثاً عن كمتار وحمة. اندفعا لوحدهما. وجذبا خلفهما الكثير من هياكل الشهداء. كانا يضمران حقداً عميقاً لهما، ومن عرفهما أدرك السبب، ولم يلمهما. فهما قد أوذيا منهما كثيراً. أحدهما، بعد أن غادر بيروت ملتحقاً بالأنصار, تاركاً زوجته "أمانة" لدى الحزب كما قال، زحف كمتار كالصل السام إليها مسلطاً عليها كل أساليبه الخبيثة حتى أوقعها في حبائله. والشهيد الثاني كان قد ترك زوجته وأطفاله في دمشق في عهدة الحزب أيضاً، فعملت عشيقة حمه في دمشق إلى جرها إلى لياليها وسهراتها مع حمه وأصحابه، وورطتها في علاقة مع أحد رجال المخابرات العراقية، الذي تركها لتتردى في حياة بائسة مبتذلة؛ فتفقد أبناءها. انطلق خلفهما حسن طلقة صائحاً:

ــ اطمئنا سنحاسبهما، لن يفلتا من كلمتنا! توقف فجأة: هي وأسفاه، كل ما لدينا! لم يستطع طلقة إيقافهما، ولا إيقاف عشرات الهياكل العظمية المنطلقة تبحث عن كمتار بيس، وحمه سور. كل منهم له قضية معهما! تدافع الناس هاربين من هذه المقبرة، وجدوها في كل لحظة تريهم بدعة وأعجوبة . كانت الأصوات تنبعث قوية غاضبة صارخة: كمتار بيس، حمه سور، تعالا، أيها الخسيسان، تعالا لمواجهتنا! كانت صيحاتهما تتلاشى بين صيحات الناس وزوابع غبار وأزيز محركات السيارات. بعض الهيكل هوت تحت أقدم المتدافعين، وتحت عجلات السيارات الحديثة الفارهة وقد اندفعت هاربة مولية أدبارها البراقة المزوقة، اختلطت تحت عجلاتها سيقان أحياء وموتى، اختلط دم جديد، برماد عظام قديمة على تراب أرض قاسية مشققة. لحقت بهم هياكل شهداء يريدون إرجاعهم: لا تتعبوا أنفسكم، هما لا يساويان ذرة رماد تتساقط من عظامكم! قال بعض من الذين لا يزالون يتمالكون رشدهم بين الحشد الخائف المذعور يعيدونهم: لا تتعبوا أنفسكم أيها الشهداء، كمتار بيس، وحمه سور لا يزالان هاربين من وجه العدالة، هما أجبن من يأتيا لمواجهتكم! التقط بعض الشهداء عظامهم المسحوقة، وحفنات من رمادهم وعادوا إلى فوهة المقبرة: سنمسك بهما يوماً، أين يوليان؟

كان السكرتير راضي سعيد ومن معه شاحبين مصفرين، يتلمسون طريقهم في عتمة الأعماق شاعرين أنهم مهددون بالسقوط في أماكن سحيقة، أمسك الشهداء بهم يقودونهم، ريثما توازنوا على أرض العالم الأسفل، واعتادت عيونهم العتمة، راحوا يغذون السير!

-         قال لهم قائد المجموعة :

ـ لن نقول لكم كما كان رجال السلطة يقولون لنا أمام ذوينا لحظة اعتقالنا ‎" تفضلوا معنا لمكان قريب،نصف ساعة وتعودون " ثم لا نعود أبداً، الآن سنقولها لكم صريحة :"تفضلوا معنا إلى مقرنا في العالم الأسفل، ولا ندري كم ستطول محاكمتكم، هذا يتوقف على صراحتكم، وشجاعتكم في الإقرار بالخطأ، وعلى كل حال ستعودون إلى بيوتكم، فنحن لا نعذب ولا نقتل"

خف ارتجاف السكرتير وجماعته، وشعروا ببعض الطمأنينة، الشاعر هانئ الديواني أمسك صدره متصنعاً الألم قائلاً بصوت لاهث:

ـ إنها نوبة قلبية، خذوني إلى المستشفى!

قال شهيد أمسك به من كتفه ضاحكاً:

ـ طيلة حياتك ثعلب ماكر، أما معنا فلا تستطيع‍! ستجد كأسك عندنا، ولكنها ستكون غير تلك التي تحتسيها في أنخاب لياليك البيروتية واللندنية!

جاء شهيد شاب، عظامه تومض وساعده في النهوض قائلا:

ـ هيا! اغتنمها فرصة لتشفى عندنا من إدمانك الكحول، والمال، والأيدلوجيا!

اقتادوه مع السكرتير وأعضاء قيادته وواصلوا السير، تقدم أحد الشهداء الشبان ليضع في أيديهم أصفاداً، منعه الشهيد المسؤول عنهم؛ قائلاً :

ـ لسنا جلاوزة سلطة، نحن طلاب حقيقة، لا نستعمل أصفاداً، ليس لدينا سوى الكلمات وهي أصفاد إذا شئت، وأجنحة، إذا شئت!

انطلق صوت شهيد بنبرة هادئة يطمئن الذين فوجئوا بهذا الحشر:

-         ـ لا تخافوا! ما نهضنا من الموت لنشر الموت! استيقظنا من أجل الحقيقة التي أخفيت عنا في حياتنا، وعلنا نكشفها في موتنا!

-         شهيد آخر قال:

-         ـ قضية اختمرت طويلاً في قبورنا وأرواحنا وتفجرت اليوم، نرجو أن لا نزعجكم بها!

تواصل نداء الشهداء قويا لا يحتاج لمكبرات الصوت:

ـ نشكركم لزيارتكم لنا، القينا القبض على قيادة الحزب، المتهمة بتضليل العدالة، والضمير الإنساني! وإذا أرد أحد من الأهل والأصدقاء القدوم لرؤيتنا، أو حضور المحاكمات فهذا يسعدنا، لا بد من التنويه أن المحاكمات ستكون كئيبة ومملة، لكن ستكون فيها فصول مثيرة على كل حال! يمكن لمن يشاء أن يكون محامي دفاع، أو شاهداً، أو مدعياً بحق شخصي، أو مدعياً عاماً، هذا سيساعدنا للوصول إلى الحقيقة والعدالة، كما لا بد من تنبيهكم: الطريق طويل، أرضنا موحشة وكئيبة، ومن يأتي قد لا نستطيع أن نوفر له طعاماً أو شراباً، لكننا نضمن له التنفس في عالمنا السفلي والحصول على هواء صحي!

-         جاء صوت آخر:

-         ـ كان بودنا أن يلقى رفاقنا الشهداء أمهاتهم وآبائهم وأحبتهم، ولكن للأسف نحن أمام حالة محزنة: فقد يوجد الشهيد هنا ولا وجود لأهله أو أحبته، وقد يوجد الأهل والأحباب ولا وجود للشهيد هنا، الأمر كله لقاء قصير عابر ثم غياب إلى الأبد، تاركاً وراءه حزناً ولوعة جديدين، لذا نطلب منكم أن تعودوا لبيوتكم لترتاحوا، انسونا إن استطعتم، ذلك أقرب لمنطق حياتكم الصعبة المريرة!

توقف إطلاق الرصاص، وهدأ الجو بعض الشيء، أخذ الأحياء الكثيرون المتبقون في المقبرة ينهضون، على وجوههم ابتسامات مرتجفة، نافضين الغبار، وشظايا الحجارة عن ثيابهم، كان قد تبقى بعض الشهداء لحماية ظهور المنتفضين، راح الصبية، أعضاء فرقة الغناء يصطفون محدقين بوجوههم وهياكلهم دون خوف أو نفور، ظهروا لهم أكثر امتلاءً ومهابة. راحوا ينظرون لبعضهم متفاخرين، لا شك أنهم عادوا مستجيبين لأغانيهم وأناشيدهم التي ترنموا بها مع دقات الدنابك مؤكدة أن الشهداء أحياء خالدون، وسيعودون لعالمنا الجديد حتماً، أجمل وأسعد، سمعوا أغانيهم وعادوا، لا بد أن عالم الأطفال أضحى سعيداً أيضاً، وحين سيعودون إلى بيوتهم يجدون الحلوى والطعام الشهي، وكل ما حرموا منه، الصغيرات أحسسن بأجنحتهن الورقية البيض المركبة على أذرعهن تصير أجنحة حقيقية من ريش طويل ناعم، وإنهن يطرن لجنات الأحلام؛ ملائكة حقيقيات، خطر للأطفال وبغموض تقديم أغنية ترحب بالشهداء القادمين من عالم الخلود، لن ينتظروا قائد فرقتهم ليوعز لهم بالغناء، في قلوبهم أغنية لهذه اللحظة العظيمة، سيتفجر الكلام واللحن من صدورهم دون تلقين وإعداد، فكل شيء أصبح ممكناً، حل العهد الجديد السعيد المنتظر، نحن الذين أعدنا الشهداء لهذه الدنيا من جديد! أغانينا وأناشيدنا، أحلامنا وتوسلاتنا أعادت آباءنا وأمهاتنا! وقف أحدهم قائلاً بابتهاج: بعد قليل سأعود للبيت مع بابا وماما،سأقبلهما، كانا صادقين حين كتبا لي ولأخوتي:" اعذرونا، تركناكم لوحدكم، استشهدنا من أجل عالم سعيد لكم" تحقق الآن كل شيء بسرعة، تحققت الجنة في الدنيا فجاءوا، لماذا لم يفتحوا المقبرة قبل عام، أو عامين؟ كنا لم نجع طويلاً ولم نحرم من الحنان واللعب، وأشياء كثيرة! شهيد أحس بما يدور في خلد الأطفال والصبيان، فخرج يخاطبهم:

-         ـ فرحنا بأصواتكم، ما زلنا نحملكم في قلوبنا حتى لو صارت رماداً، استشهدنا من أجلكم، أردنا لكم حياة أخرى، لكن ما حصل شيء آخر، لذلك انتفضنا اليوم، اعذرونا، فقد سببنا لكم الألم مرة أخرى! تفهموا عدم سماحنا لكم بالدخول لعالمنا وحضور المحاكمات الطويلة المعقدة،لا نريد لذاكرتكم الطرية أن تجرح، آسفون لترويعكم! عودوا لبيوتكم وربما حين تكبرون ستقرأون محاضر جلسات محكمتنا! أخذ الأطفال والصبيان يلوذون ببعضهم كزغب الطيور، وقد أحست بخطر، بعد أن طاروا بأجنحتهم الفتية إلى عالم زاخر بكل أمانيهم : لفائف طعام شهي في حقيبة مدرسية زاهية، بذلة جديدة دافئة في برد الشتاء، أقلام ملونة، معلم لا يعبس في وجوههم أو يقول لهم إنه جائع بسبب الحصار ويأكل من اللقيمات التي في حقائبهم، أخذوا يتلفتون ينظرون بوجوه بعضهم وقد أعتمت، يريدون أن يعرفوا ما هذا الذي يحدث الآن؟

رأى يونس أن ثمة حكمة مبكرة لدى الإنسان تسعفه في طفولته، وهي التي تعبر به المواقف الحرجة حيث يفشل الكبار، أدرك معظم الأطفال والصبيان أن حلمهم بالذهاب مع آبائهم وأمهاتهم الشهداء إلى بيوتهم ما زال مستحيلاً، فأخذوا يتوسلون أن يذهبوا هم إليهم حيث يكونوا، يحضرون المحاكمات. علهم يعرفون لماذا تيتموا وتعذبوا، تقدم صبي من الشهيد، وقال كلاماً أطول من قامته:

ـ نريد أن نعرف، نريد أن ننقل للمستقبل شيئاً من غرائب هذا الزمان!

أصر الشهيد القيادي على عدم السماح للأطفال بالنزول لعالمهم:

ـ أقبلكم جميعاً، ومعذرة لن أسمح لكم بالدخول، رغم إن قلبي كما ترون قد مضى في التراب لكن ما فيه من حب لكم لا يزال نابضاً، عالمنا السفلي سينفركم، أرجو أن تخرجوا من زمنكم بذاكرة أقل بشاعة، وتبنوا عالمكم بعيداً عن عقدنا ومصائبنا، والآن وداعاً، ولا أقول إلى اللقاء!

اندفعت الأمهات إلى البوابة متمتمات "نريد أن نكون معكم، حتى لو استحلنا رماداً" تراجعت بعض النسوة هلعات، ومعهن آباء وأشقاء، بعضهم يتمتم مع نفسه، أو يقول لمن يسير بجانبه:

ــ يجب أن أعود إلى البيت،لدي عائلة كبيرة أنهكها الجوع والخوف!

كثير من أمهات الشهداء وآباءهم وزوجاتهم وأخوتهم وشقيقاتهم أصروا على أن يتبعوا الشهداء، لقاء الأبناء والأحبة يستحق عناء قطع طريق العالم السفلي مهما طال؛ فخفوا يدخلون البوابة تحت الأرض، غير مبالين بما يعرفون عنه أنه عالم الاختناق والدود، والظلام المطبق، والحساب العسير!

-         مضت مجموعة الشهداء، في قبضتها قيادة الحزب، تتبعها مجموعات من الأمهات والآباء وغابت تحت الأرض، غادر المكان كثيرون، لكن آخرين دفعهم حب الاستطلاع، أو عدم إدراك ما حصل إلى السير مع الحشد المندفع يخب في طريق العالم الأسفل. كان البعض قد جاء لتأدية واجب عائلي، أو اجتماعي للشهداء، الناس هنا يزورون مباركين من ينتقل من بيت إلى بيت جديد، فلم لا يزورون الشهداء وهم ينتقلون من قبور قديمة إلى قبور جديدة؟ خاصة وأن بعضهم لم يكن يعرف عن أي شهداء يتحدث الناس، فكلمة شهيد وحدها تذكر بالجنة والثواب الجميل، وبطهارة ونقاء مفقودين، كان بين هؤلاء من ترك طريق النضال فعاد شخصاً عادياً، بعضهم انكفأ حزيناً محتفظاً بنقائه مستعينا على ذلك بالكحول أو التدخين أو الأغاني وذرف الدموع، أو كتابة الشعر جيده ورديئه، بعضهم اشتغل في المقاولات، أو التجارة فصار غنياً فاحش الثراء، لاشي يناضل من أجله سوى خزنته وكرشه اللذين لا يكفان عن الانتفاخ. آخر صار صاحب فنادق ومطاعم، متدينا ومتعصباً يدعو لتأسيس جمعيات للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. آخر احترف القوادة كهواية أو تجارة في بيوت فخمة للضباط وكبار المسؤولين، أو لأمراء الحرب من الكرد والعرب، آخر مارس قراءة الفنجان أو الكشف عن البخت في البيت أو المقهى أو خلال عمله موظفاً وفي أوقات الدوام الرسمي. بعض أصبح موظفاً كبيراً اشد تعصباً للحزب الحاكم من أعضائه السابقين. قسم من هؤلاء وجدوا أنفسهم ينزلقون مع الجموع التي ضلت طريقها بفعل رجة الزلزال، مدركاً ما حدث فقرر أن يرى الشهداء أصدقائه القدامى، ويستعيد معهم ذكريات قديمة، أو وجدها نزهة طريفة، يكسر بها رتابة أيامه الخاوية الهامدة!

عاود يونس هدوءه وهو يتأمل انتفاضة الشهداء براحة وسكينة، شاعراً بالسرور والفخر " هذا ما كنت أحلم به، هذا ما كنت أنتظره منذ وقت طويل، ما يتوارى، ونظن أنه قد ضاع إلى الأبد، هو هناك في مكان ما، ولا بد أن ينفجر بوجوهنا يوماً، ولكن أن ينفجر بهذا الشكل، فهذا ما لم أتصوره!"

يجب أن أصل بوابة الشهداء قبل أن تغلق، يجب أن أكون هناك بينهم، رائع إنني أتيت، ولم أحرن كحمار في بيتي أعلى القلعة!

-         عند البوابة قابل الشهيد المسؤول عن الانتفاضة يونس رحيم فعرفه على الفور، كان يكن له حباً خاصاً، مد يده له مصافحاً، ود يونس أن يعانقه، لكنه خشي أن يتفتت هيكله العظمي، قال الشهيد:

-         ـ أهلاً بك يا رفيق نحن نتابع موقفك الشجاع، ومعاناتك من أجل الحقيقة، ورغم أن الكثير من رفاقنا مشتاقون لرؤياك والتمتع بأحاديثك العميقة الصادقة لكنا نقدر وضعك الصحي، ويمكنك أن تذهب إلى بيتك لتستريح، لو شئت، فأنت برئ مما اقترف هؤلاء القادة!

أصر يونس أن يكون معهم:

-         ـ لم يتبق الكثير لي في هذه الحياة وليتني لقيتكم قبل سنوات، فالعيش معكم كان دوماً أمنيتي، يمكنني القول إنني كنت أعيش معكم فعلاً!

طوق الشهيد بعظام يده كتف يونس ودفعه برفق ليتقدمه وبقية الشهداء، في المسير، تواروا عميقاً. استدار الشهداء وتواروا خلف بوابة عالمهم التحتي، واستدار الأطفال والشبان ولحقوا بالحشد المغادر صوب المدينة، وأسرعوا بالخروج من المقبرة. كانت تسمع بين وجوم البعض، ووقع هرولتهم:

ـ حمداً لله على السلامة!

هدأت أرض المقبرة، وزال جوها المكفهر، كأنما لم تحدث عليها هذه الواقعة الغريبة الخاطفة!

(20) طائرات الأمريكان، تحرث قبور الشهداء!

كانت مجموعة من حرس السكرتير راضي سعيد، وأعضاء قيادته، قد انطلقت إلى المقر المركزي للحزب الشيوعي في أربيل. أعلموا من كان هناك من أعضاء القيادة؛ بما حدث في المقبرة. أجرى حرس البيرماني بأجهزتهم الخاصة اتصالات سريعة مع رؤسائهم في بغداد، انطلق قسم آخر إلى مقر القيادة الكردية في أربيل وطالبوهم بالعمل بسرعة لإطلاق سراح البيرماني من أيدي الشيوعيين، قال أحدهم:

ـ لقد غدروا برفيقهم القديم، استدرجوه إلي المقبرة؛ وخطفوه متنكرين بملابس تظهرهم كهياكل عظمية، وأشباح!

قيل أنهم حين أبلغوا صدام بخبر خطف مبعوثه، أطلق ضحكة، وردد المثل الشامي:

ـ فخار يكسر بعضو!

لكنه تذكر أن ذلك يشكل إهانة له، فأمر بإرسال إنذار لقادة الكرد، يحملهم مسؤولية ما حدث، وإن يأتوا بمبعوثه "حتى ولو من تحت الأرض"، مشيراً إلى إن وجود الشيوعيين بينهم يتناقض ودعاواهم بأنهم مخلصون له وحريصون على العمل والتنسيق المشترك مع الحكومة المركزية. من كانوا في مقر أربيل من قادة الحزب الشيوعي قالوا عن الذين بلغوهم بما وقع لسكرتيرهم وجماعته :" انتم تخرفون " " بسطاء سذج " " لديكم لوثة وخلل في قواكم العقلية" أهدأهم قال " رؤيتكم السياسية سطحية" . لكن الأنباء توالت عليهم مؤكدة أن سكرتير الحزب، ومن معه من أعضاء قيادته، والبيرماني وحمايته اختطفهم مسلحون مجهولون يقولون أنهم شهداء الحزب، ونزلوا بهم إلى العالم السفلي، اعتبروا كلمة (شهداء) مجرد اسم لعصابة مسلحة، وترجموا تسمية "العالم السفلي" على أنها تعني دهاليز وكهوفاً ومغارات لهذه العصابة المرتبطة بالسلطة وبالإمبريالية والصهيونية، وبأعدائهم الآخرين الكثيرين!

استيقظت فجأة، لدى بعض أعضاء اللجنة المركزية طموحات وتطلعات شهوانية! تمنى لو أن السكرتير لا ينجو من أيدي خاطفيه، ويختفي إلى الأبد، فيحل هو محله، وراح يجمع في ذاكرته كل ما يعرفه من سيئات شخصيته، وسلوكه وسياسته، يجد المبررات لسكوته عنها طيلة فترة قيادته الحزب، وينظر المرآة مكتشفاً في وجهه ملامح جاذبية جماهيرية عارمة تخوله أن يكون سكرتير الحزب، وربما رئيساً للعراق وقريباً أيضاً، حيث وجد أن ساعة الحتمية التاريخية قاربت أن تدق؛ معلنة وصول الحزب الشيوعي دست السلطة! اضمر ذلك، ومضى متصنعاً الحرص على السكرتير، ومن معه مزايداً في ابتكار خصال فذة له، مشمراً هو ومن معه عن سواعدهم، لكتابة بيان عما حدث. استدعي أعضاء الطاقم القيادي المتبقي على عجل، تأكدوا من الاختطاف، مهملين ما أسموه " خزعبلات تتزايد متحدثة أن الشهداء خرجوا من قبورهم وقاموا بذلك!" حدث نقاش حاد بينهم؛ إن كانوا سيشيرون في بيانهم إلى اختطاف البيرماني. تغلبت وجهة النظر القائلة بتجاهل موضوعه، لأن وجود مبعوث لصدام مع السكرتير، يثير فضيحة مفاوضاتهم السرية السابقة مع النظام في بغداد؛ في الوقت الذي يتحدثون في أعلامهم وويعلمون رفاقهم بأن قطيعتهم مع النظام الدكتاتوري نهائية، ويضر بسمعة الحزب كثيراً. وجدوا أن ليس بوسعهم تجاهل ذلك في التنسيق مع قادة الكرد للبحث عنهم مؤكدين على أن السلطة أرادت التخلص من البيرماني فافتعلت هذه المؤامرة الدنيئة في محاولة يائسة للخلاص من قيادة الحزب، وقد أضحت خنجراً في خاصرتها، وقاربت يوم تخليصها الشعب من هذا النظام. وبعد نقاشات استغرقت طويلاً كالعادة، خرج بيانهم:

"قادة الأحزاب الشقيقة والصديقة!

أحرار وشرفاء العالم!

قادة الرأي العام العالمي!

كافة رفاقنا وجماهير حزبنا المقدام، حزب الشهداء!

بينما كان الرفيق راضي سعيد سكرتير حزبنا، وبعض من رفاقنا أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية، يفتتحون هذا اليوم مقبرة لشهدائنا الأبرار في ضاحية من أربيل، باغتتهم مجموعة من عملاء الإمبريالية والرجعية والصهيونية والسلطة الدكتاتورية، بهجوم غادر جبان، مستغلة كونهم عزلاً بين قبور رفاقهم الشهداء فاختطفتهم، واقتادتهم إلى جهة مجهولة! نحمل هؤلاء المعروفين لنا جيداً؛ مسئولية الحفاظ على أرواح رفاقنا القادة الميامين، ونعد رفاقنا وجماهير حزبنا وشعبنا البطل أننا سنلاحق هذه المجموعة الباغية؛ ونطلق سراح رفاقنا ليعودوا إلى مواقعهم في القيادة، وهم أشد إصراراً على النضال! لقد ملأ قادتنا مواقعهم بجدارة واقتدار وحكمة ومضوا بحزبنا من مأثرة إلى مأثرة، ومن انتصار إلى انتصار، من أجل المستقبل الشيوعي الزاهر، ما أرعب الأعداء وأفقدهم صوابهم؛ فأقدموا على فعلتهم الشنيعة هذه، إن حزبنا الذي قدم الآلاف من الشهداء لن ترهبه أو تفت في عضده مؤامرات الأعداء والعملاء والمأجورين، نحمل قيادة القوات الأمريكية في انجرلك التركية مسؤولية هذا الحادث الأثيم، ونطالبها بالكشف عن الجناة الأوباش، وإنقاذ رفاقنا!

نحمل السلطة في بغداد، وعملاءها من الجحوش في كردستان المسؤولية عن هذا الاعتداء الغادر ونطالبهم بإطلاق سراحهم فوراً!

عاش الحزب الشيوعي العراقي، حزب الشهداء!

عاشت الشيوعية!

والموت للإمبرياليين!‍

نسى كاتب البيان أن الاتحاد السوفيتي قد انهار وتلاشى فكتب بحكم العادة، "عاش الاتحاد السوفيتي العظيم"، لكن رفيقه تنبه لذلك فشطب العبارة! تناوب الأعضاء القياديون الخافرون في المقر الاتصال بالمسئولين الكرد في أربيل، لم يستطيعوا تحصيلهم، كان القادة الكرد في أربيل في حالة استنفار، خابرهم رئيس جهاز المخابرات من بغداد موبخاً:

ـ ما هذا الذي يحدث في مناطقكم؟ الشيوعيون العملاء، يتصدون لمبعوث السيد الرئيس؟ سنضطر لقطع كافة الإمدادات الحيوية عن مناطقكم، وأقفل الخط!

ألقى المسؤول الكردي سماعة التلفون، وقد اشتعل صدره غضباً على الشيوعيين الذين لم يعد من الممكن احتمالهم، يتمتعون بأجواء اتفاقاتنا مع المخابرات العراقية، ويزايدون علينا بشعاراتهم ضد السلطة، يتمتعون بحماية الطائرات الأمريكية، ويزايدون علينا بالوطنية، ويشتمون الأمريكان، من أية طينة هؤلاء؟ وقرر أن يرسل قوة لتطويق مقر الحزب الشيوعي، وإطلاق سراح مبعوث الرئيس، ويغلق المقر ويأمر من فيه بمغادرة كردستان على الفور! فهو يعتقد أنهم خطفوه وافتعلوا هذه المسرحية. كل يتهم الآخر، صار الوضع كخيط السمك الطويل، وقد عبثت به الريح فجعلته مشربكا معقدا، والسمكة لا وجود لها!

دخل غرفته أحد معاونيه يعلمه أن وفداً من قادة الحزب الشيوعي في صالة الاستعلامات يريدون مقابلته، قال بنبرة غضب:

ـ أجلبهم، هؤلاء المجانين!

ظل جالساً وراء مكتبه، لم ينهض لاستقبالهم، رد تحيتهم بزمجرة من أسنانه، مضيفاً:

ـ أطلقوا سراح مبعوث السيد الرئيس، وأغلقوا مقراتكم، وارحلوا فوراً!

كان الوفد مكوناً من أعضاء في المكتب السياسي، واللجنة المركزية، جعلتهم كلمات القيادي الكردي يبهتون، يفكرون أن من اختطف السكرتير؛ هم قادة الكرد، وليس غيرهم كما ورد في بيانهم الذي أتوا به. ومع ذلك مضى عضو المكتب السياسي الشيوعي، وهو كردي وحديثه باللغة الكردية جعل المسؤول الكردي يهدأ قليلاً ويصغي له:

ـ أرجو أن تستمع لنا، يبدو أنتم ونحن ضحية مؤامرة كبيرة تدبر لنا جميعا، ولا ندري كم من القوى تشترك بها، لقد سمعنا أن بعضها مختبئ تحت الأرض!

وأعربوا عن اعتقادهم أن مبعوث صدام قد أختطف من قبل عصاباته السرية في المنطقة والمنظمة من قبل ما يسمون بالجحوش، بهدف التخلص منه، بعد أن كثرت الوعود التي أطلقها باسم صدام، وهذه أفضل طريقة للتخلص منها!

وراح يشرح له كيف أن سكرتير الحزب، ونخبة من قيادته اختطفوا، مع مبعوث الرئيس!

أصغى له على مضض، قال بازدراء واضح:

ـ المهم عندنا العثور على ضيفنا الكبير مبعوث السيد الرئيس، فهو أمانة خطيرة في أعناقنا!

شاعراً في أعماقه بقوة الضربة، فالأمر يتعلق بمستقبلهم في حشد الكرد خلفهم وقيادة دولتهم المقبلة التي صار ثمة تعبير شائع يتداولونها حولها باشتهاء ونهم (دولتنا صارت قريبة جداً تلوح كامرأة جميلة عارية، خلف ستارة شفافة)، مستعيداً في نفسه كلام قائده: كنا على وشك الحصول على تنازلات كبيرة من بغداد، صلاحيات سياسية كبرى، وتنازل عن كركوك، هذه مؤامرة كبرى!

ظل الوفد الشيوعي يردد:

ـ ولكن المنطقة ما تزال ملغومة بعملاء السلطة الدكتاتورية في بغداد، وعملاء إيران بنفس الوقت!

فجأة خطر للمسؤول الكردي أمر هام، سكت برهة، وجدها فرصة رائعة، فهو لكي يبحث عن مبعوث الرئيس يحتاج أن تقوم طائرات بمسح المنطقة، والقيادة الكردية لا تستطيع مفاتحة القيادة الأمريكية في المنطقة لتقوم طائراتها بذلك، ستسألهم: كيف تتفاوضون مع رجال صدام على أرض هي بحمايتنا؟ ورغم أن الأمريكان يعرفون بكل علاقات الكرد مع أجهزة أمن ومخابرات صدام، وقادة قطعات جيشه، ومساوماتهم وألاعيبهم، ويغضون الطرف لاعتبارات تتعلق بخطط المستقبل، لكنهم يريدون أيضاً أن يسجلوا نقطة على القادة الكرد حتى لو كانوا حلفائهم، تلك هي السياسة، شيء ممتاز أنهم اختطفوا سكرتير الحزب الشيوعي معه، سنقول للأمريكان أننا نريد مساعدتهم في البحث عن السكرتير الشيوعي وجماعته، حلفائنا الثورين في هذه المرحلة القصيرة، مبعوث من صدام إليهم، والشيوعيون لم يعودوا مخيفين، فهم يتامى مساكين مذ سقط آباؤهم في موسكو. بذلك نجد البيرماني أيضاً!

تغيرت لهجة المسؤول الكردي وكلماته:

ـ همنا أيضاً ..العثور على رفيقنا، وحليفنا سكرتير حزبكم الشقيق!

وراح يصغي متظاهراً باهتمامه بتفاصيل موضوعهم ومطالبهم، لكنه فجأة فكر أن الشيوعيين لا ينتهي استرسالهم بأحاديثهم ومطالبهم، متذكراً قول مسئوله عنهم " إنهم أساتذة اللغو، يتحدث أحدهم سبع ساعات عن سبع قطرات مطر نزلت في اليمن الجنوبي الماركسي فقط لا غير " فقطع، كلام أحدهم قائلاً:

ـ قواتنا الآن تقوم بتمشيط منطقة المقبرة، سنخبر مركز الاتصال الأمريكي بما حدث، ليساعدونا في البحث عنهم من طائراتهم الاستطلاعية، ولكن هذا يقتضي تنسيقهم المباشر معكم، هل أنتم على استعداد لذلك؟

صار القادة الشيوعيون يتمتمون ويغمغمون مشتهين مستحين، كيف يشتمون الإمبريالية والصهيونية في بيانهم ثم ينسقون مع الإمبرياليين الأمريكيين بحثاً عن قادتهم؟ كيف يعيشون تحت مظلتهم الجوية؟ وكيف يحملونهم المسؤولية في بيانهم ويرفضون مواجهتهم لمتابعة البحث معهم في حقيقة ما حدث؟ طلبوا من المسؤول الكردي إمهالهم حتى يعودوا لاجتماع الكتب السياسي، والتداول في الأمر، قال المسؤول الكردي لهم وهم يخرجون، بلهجة لا تخلو من سخرية:

ـ الأمر مستعجل، ولا يحتمل اجتماعاتكم الطويلة!

وينقل لجماعته ما دار في اجتماعه بهم،فيهز المسؤولون الكرد رؤوسهم متعجبين أيضاً، ويقول أحدهم، وكان يوماً شيوعياً، وتحول للفكر القومي:

ـ ولماذا تستغربون ذلك؟ كل تاريخهم سلسلة تناقضات، وموقف ينسف آخر، ثم يعودون ليمجدوه كانتصار! يريدون من الناس إلغاء عقولهم ليروا مواقفهم صحيحة وأخلاقية، وأن يغنوا لهم!

ويعقب آخر مؤيداً :

ـ نعم هذه مواقفهم دائماً؟ يشتمون الإنجليز ونوري السعيد، ويتحالفون معهم عندما اقتضت مصلحة ستالين في حربه مع هتلر! ويشتمون البعثيين الذين ذبحوهم، ويتحالفون معهم إذا اقتضت مصالحهم كقادة ومصالح السوفييت! ويحاربوننا خدمة للبعثيين، ويثقفون أعضاء حزبهم وأنصارهم على أننا عشائريون وإقطاعيون وبرجوازيون وقوميون متعصبون! ثم بعد أن يلفظهم البعثيون ويلاحقونهم، يتحالفون معنا اليوم ويسموننا بالثوريين!

قال آخر:

ـ انتظروا بعد ساعة سيخابروننا يطلبون أن يهب حلف الأطلسي كله للبحث عن سكرتيرهم العظيم!

(21) اعتقلوا الراعي وأغنامه، والانذار يستدعي الأطباء والممرضات من اجازاتهم في ألمانيا!

قام المسؤولون الكرد بإرسال مفارز كبيرة من رجال حاملين أسلحة ثقيلة وخفيفة وانتشروا في أرض المقبرة ومحيطها لكيلومترين تقريباً، كان هدفها الأساسي البحث عن البيرماني وحارسه، قائلين أنهم يبحثون عن قادة الشيوعيين المخطوفين. عادت المفرزة بقبضة هواء، ووريقة صغيرة كتب عليها:(مشطنا المقبرة وما حولها. كان كل شيء عادياً وهادئاً، كنا قد اشتبهنا بشيء ظنناه قنبلة، ولكننا وجدناه علبة صغيرة سوداء فيها مقص، وقد ادعى أحد الرعاة إنه يعود له؛ لكننا احتفظنا به كدليل جرمي، واعتقلنا الراعي وتحفظنا على غنمه ..إلخ)

بعد وقت قصير، وصل عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي إلى مقر القيادة الكردية مبدياً استعداده للقاء مع الضباط الأمريكان، وتقديم كافة المعلومات المطلوبة التي تسهل عمل الطائرات والقوات الأمريكية في التدخل السريع، لمسح المنطقة بحثاً عن "الرفيق السكرتير، والطاقم القيادي الذي معه،وانتزاعهم سالمين من أيدي خاطفيهم" مضيفاً بلغة حماسية جديدة:

ـ لا أعتقد أن حلفاءنا الأمريكان سيتوانون في البحث عن قائد شجاع استهدفه أعداؤنا المشتركون في سلطة بغداد؛ بغدرهم وخستهم!

مضيفاً:

ـ لتكن هذه المأثرة عربون أعمال مشتركة، بل وتحالفات مشتركة في المستقبل!

وحين وجد قائداً كردياً مندهشاً من كلامه قال:

ـ وماذا في ذلك؟ ألم يتحالف رفيقنا ستالين مع روزفلت ضد هتلر؟ لنتحالف اليوم معاً لدحر هتلر بغداد!

راح القائد الكردي الذي توقع قدومهم بعد ساعة يقهقه وهو ينظر في ساعته قائلاً لزميله

ـ جاءوا بعد أقل من نصف ساعة، لقد راجعوا سجلات الحركة الأممية بسرعة! ألم أقل لكم إن وطنيتهم تعني عدم مخالفة الأممية حتى لو خالفوا العراق كله، وهكذا الوطنية وإلا فلا!

استجاب الجنرال الأمريكي قائد مركز الاتصال المسؤول عن المنطقة الآمنة بسرور لطلب الحزب الشيوعي، قائلاً لضابط آخر حاوره في الأمر (لم تعد الشيوعية تشكل خطراً علينا، لقد هوى الحوت الشيوعي كله في شباكنا، واعتصرنا زيته كله) وقام بالاتصال بدائرة الأركان في قاعدة أنجرلك التركية ليعرف إذا كانت طائرات الاستطلاع قد سجلت حركة أو حدثاً غريباً في منطقة المقبرة! جاءه الرد بعد قليل أن (أجهزة الرصد الزلزالي في الطائرات سجلت هزة خفيفة في سفح الجبل الذي يحتضن المقبرة, وقد فتحت كوة صغيرة إلى أعماق الأرض، انغلقت بعد فترة قصيرة، وثمة صخور هي الآن في حالة انزلاق!)

تحدث الضابط الأمريكي بذلك لعضو المكتب السياسي الشيوعي مضيفاً:

ـ ربما حدث خسف في الأرض، وقد غارت الأرض بقائدكم وجماعته!

اعتبر عضو المكتب السياسي ذلك تجديفاً، وافتراءً، وسخرية، إهانة أمريكية قذرة! ومع ذلك كظم غيظه وقرر مجاراته، فهو وحزبه يحتاجه الآن في هذه المحنة التي حلت بحزبهم،

القائد الكردي وجد ذلك مضحكاً ونكتة يحتاجها وأصحابه في هذه الجبال الجرداء التي عادت للصمت بعد اقتتال طويل، فقال:

ـ اطمئنوا، لا أعتقد أن سكرتير حزبكم وجماعته قد خطفوا، ربما هم دخلوا صوامع الدراويش الذين يكثرون في جبالنا؛ لكسبهم إلى صف الشيوعية، فأغووهم بما لديهم من حوريات الجنة!

أضاف ضاحكاً:

ـ ليلة حمراء، ليلتان، ويعودون!

أشاح القيادي الشيوعي عنه، وراح يتابع الضابط الأمريكي وهو يجري اتصالاته، كان الضابط يخرج من حجرته، ويمضي في ممر طويل إلى مقر قيادته، مرات عديدة، في المبنى الكبير المشيد على هيئة جمالون داكن الاخضرار في أرض واسعة، من الجدران الكونكريتية الجاهزة، وجاء ليقول :

ـ أوعزنا لطائرات الاستطلاع المسؤولة عن المنطقة الآمنة هنا، ولطائرات الأواكس عبر قاعدتنا في السعودية على الفور؛ لمراقبة صفوف قبور شهدائكم، والجبال المحيطة بها، كما أعلمنا مراكزنا الصحية في ألمانيا وفي السعودية والكويت بالحدث، وطلبنا منهم وضع مستشفياتهم وغرف العمليات الجراحية في حالة إنذار، واستعداد لقبول الحالات الطارئة، وانهم استدعوا الأطباء والممرضات من اجازاتهم وتحوطاً للطوارئ وضعنا قطعاتنا الجوية والبحرية المتقدمة في حالة إنذار متوسطة الدرجة!

كان هم القادة الكرد، إنقاذ مبعوث صدام. راحوا يتابعون الإجراءات الأمريكية بارتياح وحذر، وقد طمأنهم أن الأمريكان قد اتخذوا هذه الإجراءات الكبيرة إكراماً لعيونهم.

فأوعزوا من جانبهم لكتيبة مدججة بالأسلحة الثقيلة باحتلال السفوح الواطئة المحيطة بالمقبرة، ولمجموعة من المشاة تحمل البنادق والرشاشات بالانتشار بين قبور الشهداء ترقب التراب والحجارة بحثاً عن أية كوة أو حفرة أو ثقب يفضي لما قيل أنها سراديب تحت الأرض اقتيد إليها المخطوفون. كان مسلحوهم متوترين ممتلئين غضباً وتأهباً للقتل الفوري؛ معتبرين أن ما حدث مؤامرة كبيرة على الحكم القومي شبه المستقل في هذه الأرض. التي يشكك الأعداء بحقهم بها مدعين أنها آشورية وأكدية آلت للعراقيين. توالت أرتال مسلحة صاعدة سفوح الجبال المحيطة، ودخلت مجموعات أخرى المقبرة من جديد، وراحت تجوس بين قبور الشهداء بحذر وترقب. وجدوا المقبرة هادئة والقبور تبدو كمهود أطفال نائمين بعمق، وقد غمرتهم أشعة الغروب. لم يجدوا سوى زهور ذابلة، وبذور مختلطة لخشخاش وشقائق نعمان وشعير بري ونرجس جاف وأشرطة حمراء مقصوصة عند مدخل المقبرة، وفتات من هياكل عظمية مع قطع معدنية عليها أسماء شهداء، وبقايا رسائل وصفحات منتزعة من كتب نظرية وروائية وشعرية، وصور لفتيات ونساء ورجال وجمجمة منخورة منسية في كيس نايلون، وقد اعتبرت من بقايا الشهداء. عندما عرضت على عضو المكتب السياسي الشيوعي رفض استلامها، اعتبرها تعويضاً نهائياً عما حدث أو تمهيداً لغلق الموضوع؛ فبقيت مركونة في حجرة مسؤول كردي. لكنه تقبل بتأفف وعوداً من الضباط الأمريكيين والمسؤولين الكرد بالعمل الجاد والسريع للسيطرة على المكان، وكل شيء، وإنقاذ القادة المختطفين بأسرع وقت! ما كان يزعج المسئولين الكرد اختفاء البيرماني، وعدم عثورهم على أثر يدل عليه، وعجزهم عن تقديم تفسير لرئيس المخابرات في بغداد، كان يخابرهم متسائلاً وموبخاً، بين فترة وأخرى! ومن بين ما كان يقول لهم: أهكذا تكافؤننا بعد أن أنقذناكم من قوات الطالباني، والجيش الإيراني؟

ورغم تصاعد الاستطلاعات الجوية الأمريكية حارثة قبور الشهداء، مقلبة لها في السبر الشعاعي، وتوسع التحريات الأرضية الكردية، لم يعثروا على شيء، جاءت تقاريرهم تقول: لا شيء هناك، الوضع هادئ، لا يوجد ما يدل على عمليات خطف أو اعتداءات، وقد ضحك أحد المسؤولين الكرد لتقرير كتبه ضابط كردي أو كل إليه مراقبة وضع المقبرة يقول فيه (وجدنا قبور الشهداء في غاية الهدوء والانضباط) و(سنبقى نشدد الحصار على المقبرة الخالية ونراقب بابها ولن نسمح لأحد بالخروج منها إلا بموافقتنا وعلمنا)

لكنه عاد إلى كآبته ووجومه وهو يسجل الأمر الآتي من قائده الأعلى: أعملوا المستحيل للعثور على مبعوث السيد الرئيس!

(22) حذار أن تمسك بثيابك صرخة العالم الأسفل!

يتندرون، أن جو العراق الحار القائظ اللاهب، كون مزاج العراقيين القاسي، ومصائرهم المريعة؛ وجعلهم لا يخشون جهنم؛ فراحوا يرتكبون المعاصي، صاروا متمردين دائما حتى على الله! هنا في العالم السفلي تنحى طقس الأنواء العنيفة المكشوفة، عكس هواء الفوهة الحار بعض الشيء، ليحل جو يحرص على حياديته، لم يكن بارداً ولا ساخناً، نسماته تهب رخية منعشة تارة، ساكنة خانقة تارة أخرى، لكنها في هذه الأحداث لم تعد مضجرة أو مخيفة، ثمة رطوبة وجفاف، رائحة ترقب وانتظار، منذ عقود وفي أرض العراق حتى رائحة الولادة تحمل رائحة موت وشيك مفاجئ قبالة سماء فارغة! في هذه الساعات الغريبة صارت تحمل نكهة مواسم مختلطة، لا تخلو من بهجة!

ظل الشهداء،والمختطفون، والأمهات والأصدقاء،يسيرون في طرق قاحلة، وأرض ملحية غبراء، كلما عبروا بوابة خيل للبعض من الأحياء أنهم وصلوا رحاب العالم الأسفل حيث يقيم الأموات، فكانوا يتوقفون متحيرين، فيسحبهم الشهداء قادة الموكب ويطلبون منهم الصمت، يروحون يخبون في صحارى شاسعة مظلمة لا تضيئها سوى نجوم معلقة تحت سقف الأرض، قناديل منسية منذ بدء الكون، ويحفها صمت مدوي مهيب، قلب الأرض ينضج نفسه على نار هادئة أخرى غير نارنا الدنيوية ليتفتق عن حلم أزلي جديد، راح يونس يعد البوابات، وجد إنهم قطعوا ست منها، ولازالوا يغذون السير، وينزلون دون قرار، تذكر في تلك اللحظة ظلمة غابرة، هجس أنها ظلمة الرحم القديم الغامض، وفكر بأسى كم كانت سريعة تلك اللحظات المضيئة فوق سطح الأرض التي تفصل بين هاتين الظلمتين، كأنها جسر من زبد البحر،فقاعات، نغمات،جناح نسر عظيم كسرته العاصفة، كلمة حالمة لسكران شريد، ظهر أفعى وحشية تبدو ثابتة، بينما هي تدب خالعة جلدها، فتخلعنا معه، وتلقينا للريح! يا لتلك الأيام العسيرة، لا تخلو من عذوبة، كيف انقضت بسرعة، ولم تخلف وراءها سوى دفء ذكريات حزينة، ومعضلات لم تحل، وها هو الآن يواصل المسار الطويل، ليرى مع الشهداء فصلها الأخير! حاول أن يتذكر بعض ما يعرفه عما أشيع عن العالم الأسفل،وجد أن عليهم عبور البوابة السابعة؛ ليكونوا قد وصلوا نهاية المطاف، حيث الشمس في مغيبها تأوي وتطفئ جدائلها بدموع الأموات، وتستريح من شعلتها قبل أن تنهض في اليوم التالي، لتطل على الدنيا أماً حنونة مخلصة عليها أن تعد النار، والضوء لصغارها المساكين في الدنيا الزائلة، لينضجوا عليها غذاءهم، ويأكلوا ويواصلوا لعبهم الغافل قبل الموت! ما جعله يتيقن أنه في عالم الأموات الحقيقي وليس في وهم! رؤيته للكلب الأسطوري سربروس، ذا الرؤوس الثلاثة الذي يأكل جثث الموتى، ويربض عند باب المقابر يمنع الموتى من الخروج للحياة، ويمنع الأحياء من لقاء ذويهم الموتى. سمعه يزمجر بغضب مكتوم دون أن يجرؤ على مهاجمتهم، ربما لكونهم يسيرون موكباً كبيراً موحداً، ظل يهز بذيله، ويكشر عن أنيابه! كان يونس صامتاً طيلة الطريق، لم يكن يسمع مع الصمت سوى وقع أقدام مفرزة الشهداء، والقافلة الكبيرة التي هبطت معهم لتواصل شوطها الأليم العاثر ولكن تحت الأرض هذه المرة. سمع رجلاً يميل على شهيد كان يقود المفرزة المقتحمة ويسأله:

ـ أعرف أن حراس البوابة السابعة لا يسمحون لأحد أن يمر منها إذا كان يحمل سلاحاً، أو يرتدي ملابس نظيفة، أو نعلاً،أو يتمسح بعطر!

لم يستغرب يونس،وهو يغذ الخطى في العالم السفلي، ومنخرطاً في الحالة نفسها، إنه هو نفسه يكاد يعتقد بهكذا توقعات ومخاوف، عزا ذلك إلى طول رحلة الظلام التي تجعل أقوى العقول نهباً للأشباح والظلال الثقيلة العكرة، فهو الآن في عالم آخر طالما أنكره في تلك الحياة القصيرة الفانية، لم يستطع أن يهدئ وجيب قلبه! كان أسير حيرة: أهو في حلم أو كابوس؟

ظل الشهيد القيادي صامتاً، ولكن الرجل الغريب أضاف محذراً:

ـ يقولون أن من يخالف ذلك تمسك به صرخة العالم الأسفل، لتسلمه لجيش من الثعابين والوحوش والعقبان الجائعة!

قال القيادي بصوت ناعس وكأنه أفاق لتوه من نومة عميقة استمتع بها وهو يسير، وأراد مجاملة رجل قريب لرفيق له شهيد:

ـ هذه إجراءات قديمة ترجع إلى زمن انكيدو، وفي العالم الأسفل يطورون قوانينهم وتقاليدهم أسرع من العالم العلوي!

أحد القادمين من ضيوف الاحتفال، ظن الشهداء الخارجين من الأرض؛ مردة من الجان، فهو يعتقد أن هذه الأرض تعج بنوعين من الجان، نوع كفرة يعملون لحساب الشيطان، وجان مسلمون يتلون شهادة: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يعملون لخدمة المسلمين ومضايقة الكفار، أو أبادتهم وتخليص المسلمين مما يضمرون لهم من شر! قدر أن هؤلاء من الجان المسلمين، وقد هبوا ليعاقبوا الشيوعيين على إلحادهم وكفرهم ودعوتهم لسلب أموال المسلمين بحجة توزيعها على الفقراء، بينما هم يريدون منحها للروس المسقوف الكفرة حلفاء الشياطين، قال في نفسه: الآن صدق وعد الله، وما يقوله الأئمة عنهم في الجوامع والبيوت! كيف سهى عن ذلك، وجاء يؤدي واجباً لقراءة الفاتحة على قبر أحد أقاربه وهو ملحد عميل للشياطين وللروس؟ خاصة والشيوعيون لا يوزعون في احتفالاتهم لا كباباً ولا حلوى، ليس لديهم سوى أناشيد، أناشيد وأغان سخيفة لا تجلب سوى الجان والشياطين الكافرة! لن يغفر الله له ذلك، بماذا سيعاقبه الجان المسلم؟ شل تفكيره، وارتعدت فرائصه ووجد نفسه منساقاً مع التيار المندفع نحو فوهة العالم السفلي مع السيل الغائر في خسف الأرض، تذكر أن ثمة دعاء لطرد الجان والشياطين غير المسلمة، ومنح القياد للجان المسلم ليوصله حيث شاء له الله من أمان وخير. لكنه نسيه الآن وهيهات له أن يتذكره وهو يرتجف، أخذ يسمع كلام الرجال الذين يقتادونهم وتخاطبهم بكلمة: رفيق، استغرب فما سمعه عن الجان يقول أنهم يتخاطبون بلغة القرآن، ما هذا؟ هل نظم الجان أنفسهم كالشيوعيين أيضا؟ هل هناك جان شيوعي، وجان برجوازي، مثلما هناك جان مسلم وكافر؟ سار خانعاً يحاول عبثاً تهدئة نفسه ومحاولة تذكر آية الكرسي،" كنت أقرأها كلما صعدت السرير وقمت بتأدية حقي الشرعي مع زوجتي، كيف أنساها في هذه اللحظة الحرجة التي هي أخطر بكثير من الجماع، اللعنة، لماذا لا أتذكر آية الكرسي، إلا حين تخلع تلك البقرة ثيابها وتفتح ساقيها، وتدعوني للصعود عليها حيث ألهث كأني أصعد جبلاً " وجده أحد الشهداء متلكئاً فسأله:

ـ أتريد الخروج أم البقاء معنا؟

ـ أريد الخروج، من أين الطريق؟

أشار له إلى ممر ملتوٍ، فمضى نحوه متمتماً:

ـ لعنة الله على الشيوعيين الملحدين، أنسونا آية الكرسي، سأحملها في حجاب تحت أبطي، بل سأحمل الكرسي معي لأستريح عليه حيثما حللت وارتحلت، ولن أجلس على كراسي للشيوعيين أبداً!

هز يونس رأسه مستوحشاً، لم يكن يتوقع طبعاً أنهم حين هبطوا من المقبرة سيدخلون الجنة، فيرون غابات أشجار وارفة، وأنهار خمر أو عسل، تتفرع منها سواق وغدران تحفها مجالس حوريات وغلمان ناعمين بأنس وعشق ونشوة وطرب، لذا لم يستغرب أنه لا يرى سوى عماء، وغمر مديد، تضج منه رائحة ملحية، على العكس كان مستغرباً أن الشهداء ما زالوا أحياء يدبون في عالمهم بينما المعروف فوق الأرض وفق نظريته العلمية أن الموت هو نهاية كل شيء، وإن الحياة الأخرى هي من ادعاءات وخزعبلات أصحاب الأفكار الغيبية، صار يحتمل رائحة الملح الأبدي بهدوء، سمع الرجل الغريب يقول:

ـ ها نحن نجدكم في العالم الأسفل، بينما الناس يتغنون بكم معتقدين أنكم في الأعالي؛ تسكنون قصور الجنة، ترفلون بالحرير، تأكلون وتشربون الطيبات، وتعاشرون الحسناوات!

رد الشهيد بصوت مرح :

ـ حتى لو أرسلت لنا السماء من يدعونا للعيش في جنتها، كنا سنؤثر دفء رحم الأرض، نحن كما تعرف تعودنا على الحرمان والتقشف، ونخشى أن نفسد في الجنة!

-         ـ ظننت أن السماء غاضبة عليكم لأنكم أنكرتم إلهها، وغرستم عيونكم في الأرض ولم ترفعوا رؤوسكم إليها!

-         ـ لا،السماء التي لم يصنعها المبشرون البشر، لا تحقد ولا تثأر!

شعر يونس بالقلق عليهم، كيف اختاروا مرة أخرى طريق المكابدة والعناء فسأل:

-         ـ وهل أنتم مرتاحون هنا؟ قال الشهيد بهدوء:

-         ـ لقد اكتشفنا أن النوم تحت شغاف قلب الأرض لا يقل جمالاً ومتعة عن النوم في حضنها تحت غلالة القمر في ليالي الصيف، خاصة إذا لم تكن مهددة بزوار الفجر!

فجأة تلاشى الغبار وانجلى الجو صافياً، وهبطوا درجات عريضة لكنها هادئة الانحدار تحفها أنوار وعبير حزين، كاد يونس يسقط من الإعياء لكن الشهيد القيادي أسنده قائلاً:

ـ ها قد عبرنا البوابة السابعة!

(23) لكل إنسان غيمة في السماء هي قبعته، ستهبط على قبره باكية!

سمعت أصوات أبواق، وصيحات غامضة. الحراس المغمورون في الظلام يحيون موكبهم. دخلوا باحة كبيرة مغمورة بنور شمس غريبة، شعاعها يميل للخضرة، يومئ لربيع لن يأتي أبداً، مشبعة بهواء عذب رغم أنها تحت أسفل طبقات الأرض. كان قادة الحزب المعتقلون يسيرون بينهم مخذولين، وعلى سيمائهم ذهول ورعب، والسكرتير يتلفت محاولاً أن يجد بابتسامات الشهداء ما يطمئنه، لكنه مازال غير مصدق كيف نهضوا من موتهم الطويل، وهو ورفاقه القياديون معتقلون بأيديهم الآن، يريدون محاكمتهم. ترى ما الذي جعلهم يثورون؟ من حرضهم؟ أهو يونس رحيم؟ هذا العجوز المرتد الحاقد عليُ وعلى الحزب والشيوعية، إنه الآن يسير معهم طليقاً، ويبدو منتصراً. لابد إن ما قيل عن خيانته وتواطئه مع السلطة صحيح، إنه يستحق أكثر من الطرد والنبذ. لو عدت للحياة العادية على رأس الحزب لأجريت له محاكمة حزبية سريعة ولجعلته يلقى مصير الخونة والجواسيس الذين أرسلتهم السلطة من بغداد ليخربوا عملنا النضالي. رصاصة واحدة في الرأس تكفي. لا معنى للوقوف عند كونه شيخاً هرماً، وله ماض حزبي طويل! ولكن ألا يكون ما يحدث نتيجة لتراكمات أعمال وممارسات القيادة السابقة؟ ينبغي أن أركز في دفاعي على ذلك، لن يجدي القول لهم أنه تحريض من يونس، فهم يحبونه ويقدرونه كما يتضح لي الآن، وسيعاندون ويصيرون أكثر غضباً وشراسة ضدي! في عتمة النفق الملتوي أحس البيرماني بذله وعذابه، فهو ما كان ليتعرض لهذه المهانة لولا أن صدام زجه في هذه المهمة العسيرة دون ضمان، فعندما كان يرسل وفداً لمفاوضات مع قادة الكرد في مقراتهم الجبلية؛ يشترط عليهم أن يرسلوا له بعض أبنائهم أو أفراد من عائلتهم ليبقوا لديه وديعة؛ ريثما يعود الوفد. هم أيضاً حين يذهب أحد قادتهم إلى بغداد للتفاوض يطلبون أن يودع لديهم أحد أبنائه وديعة لديهم. كانوا يسمون عدم الثقة هذه أصول الضيافة، لماذا لم يشترط لحمايتي شيئاً كهذا؟ هل أنا رخيص لديه إلى هذا الحد؟ لماذا قبلت أن آتي بهذه المهمة دون ضمان أو عهد ملزم؟ هل صرت رخيصاً أمام نفسي إلى هذا الحد؟ في الباحة السفلى كان هناك جمهور كبير من الشهداء ينتظرون واقفين، عظام وجوههم تشع متوهجة، وقد استعادت فجأة رواءها القديم. ثمة سماء لكنها واطئة تحنو بنور مفاجئ، تتخللها سحب منخفضة تكاد تلتصق برؤوس الشهداء، حيث يلوح لكل شهيد قبعة من غيمة شاردة، تختزن أمطاراً مؤجلة دائما، لا تدري من أي بحر صعدت، من دموع أحبتهم، أم من سراب قديم طويل! سحابة رائعة طيرتها عن رؤوسهم ريح عاصفة عاتية، ولا بد في يوم ما أن تهبط فوق رؤوسهم باكية، ربما تبللهم بعرقهم في حمى الليالي الطويلة، أو بعرقهم من خجل أنهم فشلوا في قضيتهم المبالغ في ضخامتها، وكانوا سيئي التقدير! لم يجد يونس ذلك غريباً لأنه في الحياة الدنيا، التي لم يعد يتذكر متى فارقها، توصل في تأملاته: لكل رأس بشري غيمة في السماء، هي قبعته التي ستهبط عليه عند رحيله باكية!

كم رأى في الحياة من وجوه، كل وجه كان يختفي وراء سحابته الخاصة التي كان يحار في صخبها، أو نداها. لا يتذكر من جموع البشر الصاعدة أو النازلة إلا كتلاً من الغيوم تبعثرها أنواء السماء، الشهداء يبدون بملامح واضحة، رغم غياب وجوههم! سمع من يقول:

ـ ها قد وصلتم المكان المقصود، حطوا رحالكم!

وقف يونس متفحصاً المكان. كان أرضاً موحشة، معتمة أو قليلة الضوء، لا يعرف من أين تتسرب حزم نور خفيف من شمس أو نجوم أو عيون كائنات مشعة تحدق بهم، ربما هو كهف كبير، باحة واسعة هي قاع لتجويف بهواء يكفي لعدم الاختناق، رغم ذلك استمد من الحركات الطبيعية الهادئة لمن حوله من الشهداء والأحياء القدرة على تنفس عميق يتمسك بالحياة بمحاذاة هذا الموت القديم، ربما قاعات الوجود الأزلي، هكذا لا ترى جدرانها، ولكنها تحس بشكل غامض، ومع ذلك شعر براحة فها هو، أخيراً، يصل للمكان الذي يريده الشهداء، وما عليه إلا أن ينتظر، ويرى ما سيحدث! هب الشهداء بهياكلهم العظمية حين شموا روائح أمهاتهم وآبائهم. حدثت جلبة وقرقعة كأنها لم تكن تصدر عن عظام خاوية، بل عن معادن تصلبت بعد أن صهرت طويلاً! بدا ليونس أنهم في الجو المعتم تعرفوا على بعضهم بالرائحة والنبض الخفي، وليس بالنظر أو السمع، أدرك الآن أنهما ليسا أقوى الحواس مهما تباهى البشر بهما.

-         الأمهات أول من اندفعن باكيات من فرح نحو الشهداء، نبتت أجنحة لقلوبهن المكلومة المنهكة؛ فعادت قوية معافاة تريد أن تصل لأحبتهن : ابن، بنت أخ، زوج، أم، أب، صديق،جار، تهفو قلوبهن لمعانقتهم،تقبيلهم، سماع أصواتهم! بصمت وسكون، اندفعن إلى صفوف الشهداء يحتضن من يصادفن دون أن تميز الأم إن كان من تعانقنه هو ابنها، بنتها! كانت أذرعهن المفتوحة تتلقف هياكل الشهداء، كلهم أحبتهن! هنيهة صارت كل أم تدور بعينيها، تريد أن ترى ابنها أو بنتها وتتأكد من عودته للحياة سليماً معافى. لم يفطن إلى أنهن كن يعانقن هياكل عظمية؛ تصفر بها الريح، ليس فقط لأنهن كن مغشيات العيون بالدموع بل لأن بعضهن غمرتهن قناعة وسكينة : سيكسين عظام أبناءهن لحماً وعصباً من أحلامهن ورفيف أكبادهن! أخريات أدركن أن أبنائهن هياكل عظمية فقط، صرن يخففن من ضمهم إلى صدورهن خشية أن يتهشموا، وقف الرجال والشبان ينتظرون ريثما تنتهي الأمهات من العناق والبكاء والتقبيل الذي لا يردن أن ينتهين منه، ليتقدموا ويبحثوا بين هذه الهياكل العظمية المنتصبة، أو المنحنية، الدائرة بخفة، عن أبنائهم وأشقائهم بكامل أجسادهم وقوامهم. كانت النساء يشعرن أن ما رأينه وعانقنه هو تقدمة، وجبة أولى، مزحة فقط،والحقيقة الجميلة السعيدة؛ ستأتي فيما بعد، وقريباً وراء هذه الهياكل العظمية التي مهما حوت من رائحة أحبتهن، لكنها لن تكون هي أحبتهم! فالرائحة والعظام غير الجسد، ظلت عيونهم تدور في الفراغ دون جدوى، فعدن يعانقن الهياكل العظمية ويبكين! وما كان لأحد بينهن في تلك اللحظة ليعجب كيف تتعرف الأمهات على أبنائهن الشهداء، وهم دون لحم ودم، هل أن حبل السرة الذي يقطع لحظة الميلاد هو في الحقيقة يكسر السكين، ويظل موصولاً كخيط من النور، أو العتمة، أو الوهم؟ أم أنهن يختزن في قلوبهن الرائحة الأولى للأبناء فتجتذبهن إليهم أينما حلو أو ارتحلوا، ومهما مضى من الزمان أو امتدت المسافات؟ بينما الرجال يظلون مرهقين تعذبهم عيونهم المرتعشة الزائغة، يتمنون لو تساعدهم مخيلة الأمهات الجامحة! بدا الشهداء بهياكلهم العظمية المنخورة، المشعة أكثر رقة وسمواً، أطياف نور متخففة من نزعات الدنيا ومطامعها، بلا أحشاء وغدد، ولا بطون، ولا جيوب، ولا حقائب، ولا أوسمة أو ألقاب، دون أوراق وأسرار الحياة الحزبية الخانقة، يعودون من سفر طويل منحهم المزيد من الحكمة واللطف، لا بد إن شيئاً طيباً سيحدث، هفت قلوبهم كرجال لهذه الثورة في المقبرة كما لم تهفوا حتى أيام ما أسموها بثوراتهم الوطنية، وتراقص آمالها الكبيرة الخائبة! رأى يونس بشراً وسروراً على وجوههم، فشعر بنشوة عارمة تكتنف جسده فتعود قواه الغابرة وحماسه للحياة! طفقوا يتعانقون، لم يكونوا يكترثون أن يحدث لديهم سهو أو خطأ في التلاقي، لا يشغل الأحياء أن تحتضن أذرعهم الممدودة هيكلاً عظمياً لشهيد لا يعرفونه، ولا تعبأ الهياكل العظمية أن تحتضن جسداً يضج بالحياة وأحلامها وآلامها لا يمت لها بقربى أو معرفة! انزوت الأمهات والأخوات اللواتي معظمهن عانسات شاحبات الوجوه مترهلات البطون، والآباء بوجوههم اليابسة المجعدة المليئة بشوك الشيب مع هياكل الشهداء. ثمة أمهات أجلسن هياكل أبنائهن في أحضانهن وعكفن عليها يقبلنها ويهمسن لها ويناغينها وكأن الشهيد عاد رضيعاً غافلاً عن مصيره! حرص يونس أن يقف في زاوية لا لكي يرقب ما يحدث بهدوء، بل لكي لا يشغل الشهداء الذين قد يتعرفون عليه فيقبلون معانقين له متحدثين بما بينه وبينهم من شجون وحكايات، فالأهم الآن أن يعانق الشهداء أمهاتهم وأحبتهم وقد فارقوهم طويلاً دون وداع، ألا تبكي الزهرة غصنها، والغصن زهرته بقطرة نسغ، حين تفرق بينهما الريح؟ فكيف بالبشر؟ انشغل عن السكرتير المعتقل وجماعته، كانوا مفردين منبوذين لا أحد يقربهم، قال في نفسه، كم يكون السياسيون متطفلين زائدين مقحمين، أمام عواطف البشر ولهفتهم وتطلعاتهم، كانوا مهملين غير مراقبين ولو لم يكن المكان في القاع الأسفل من الكون، ومحاطاً بجدران ثقيلة معتمة؛ لهربوا دون أن يلتفت لهم أحد من الشهداء.

تعجب يونس كيف كانت محاجر عيون الشهداء الخاوية تدور وترسل أشعتها الكاشفة، عرف أن أشعة النظر هنا تجري بصورة معكوسة إذا تنطلق من العينين، وليس من الأشياء المنظورة. خشي وهو الحي أن لا يرى، لم يلبث أن اطمئن إذ وجد نفسه يرى وأفضل مما كان في حياته على الأرض، وعزا ذلك إلى طيبة الجو كله وغناه، كان قائد المفرزة التي نفذت عملية جلب قيادة الحزب قد تنحى جانباً إذ أدرك بسرعة أن مهمته قد انتهت. تقدم شهيد آخر، وقف وراء منصة من الصخر، لوح بيده مطمئناً الجميع بما فيهم المعتقلين، ثم انبعث صوته قوياً صافياً يدعو الحاضرين للجلوس في أماكنهم؛ فعم الهدوء، وأشار إلى بقعة كانت في وسط الباحة الكبيرة سلطت عليها دائرة من الضوء، وطلب من المعتقلين أن يبقوا فيها، قال موجهاً كلامه للسكرتير المعتقل ومن معه:

-         ـ أعتذر لكم، ولرفاقنا الشهداء؛ أننا استعملنا معكم أسلوباً فظاً مارسه الجلادون معنا، لكن ما حصل كان إجراءً اضطرارياً، ومعذرة إذا كان رفاقنا قد عرضوكم لشد أو إيذاء بدني، ومن جانبنا نستطيع أن نعدكم أنكم لن تتعرضوا لتعذيب، أو إهانة، أو إذلال، وستتركون في كامل إرادتكم للإجابة على أسئلتنا. لم نعتقلكم؛ لننتقم منكم؛ أو نؤذيكم، كل ما نريده منكم هو أن تتعاونوا معنا؛ لنصل إلى الحقيقة، بعد أن يئسنا من الحوار معكم طوعاً!

-         تقدم شهداء كثيرون يحدقون بحلقة قيادة الحزب، ويتمعنون بوجوههم تحت النور العكر، بعضهم أخذوا يهزون رؤوسهم، ويصفقون أكفهم، فتتساقط عظامهم ورمادهم، أدرك يونس على الفور عم يبحثون، ولم يتأسون، سمع أحد الشهداء، يصيح ملتاعاً:

-         ـ كنت أنتظر كمتار بيس؛ لي حساب عسير معه!

-         عرفه يونس، كان هذا الشهيد قد دفعه كمتار بيس للذهاب إلى كردستان، ليراود زوجته التي كانت شابة جميلة، بقيت لوحدها في بيروت مع طفلها!

-         قال شهيد آخر مخاطباً حسن طلقة: أتيتم لنا بتلاميذ في الفساد والضلال، أين الأستاذان كمتار بيس وحمه سور؟ رد حسن: انتظر لن يفلتا من قبضتنا! ثمة فتاة شهيدة لم تنجو سمعتها من لوثة كمتار بيس قالت: ستكون محاكمة فاشلة؛ لو أفلت منها كمتار بيس وصاحبه!

-         آخر قال فرحتنا في المحاكمة ستظل ناقصة ما لم نضع جميع المتهمين الكبار أمام العدالة!

-         آخر صاح غاضباً بوجه أنور: صيدكم أيها الرفاق هزيل، أفلت منه أخطر المتهمين!

-         ظل كثير من الشهداء يسألون عن حمة سور: وأحدهم يولول: ثلاثون سنة على رأس الحزب، يقوده من هزيمة إلى أخرى، ومن نكبة إلى أخرى، متستراً على كمتار بيس الذي حول الحزب إلى شركة لجمع ثروته، وممارسة فضائحه المدمرة، كيف يفلتا من حساب وعقاب؟ لم يحس يونس برغبة في الانتقام من كمتار وحمه سور، ليس له أي عداء شخصي معهما، لكنه كان مقتنعاً إن هذين الشخصين هما من يجب أن يمثلا أمام الشهداء للحساب، قبل غيرهما، ولكن هذا صعب جداً، فحمه سور يعيش أخريات أيامه في أربيل غير بعيد من كهف الشهداء، محاطاً بحماية سلطة الحكام القوميين الكرد، مكافأة له على وضع خدمات الحزب الطبقية والأممية في مصلحة مشروعهم القومي، رافلاً برعاية صحية ونفسية أجلت موته وأبعدته عن هكذا مزعجات، لذلك هو لم يأت لحضور افتتاح المقبرة متجاهلاً الدعوة التي وجهت له. وكمتار بيس منهمك الآن بإدارة تجارته واستثماراته الكبيرة وعقاراته، من أمواله المسروقة، الممتدة بين دمشق وبيروت ولندن، سيضحك كثيراً إذا سمع بما يجري هنا: أية محاكمة ؟ ومن هؤلاء المعتوهين الذين يرطنون بها؟

-         لكن أنور وعد الشهداء المتسائلين عنهما: سنبلغهما بموعد ومكان المحاكمة، وإذا رفضا الحضور سنحاكمهما غيابياً، وسنعمل بل طاقتنا على جعل محاكمتنا لهما عادلة وسليمة الإجراءات، ثقوا ان حكمنا عليهما؛ سيكون موضع ارتياح الناس وتضامنهم!

(24) على طريق الآلام، هل تظل الكلمات.. كلمات؟

ليس الناس فقط يسألونني، أنا أيضاً أسأل نفسي؛ ما الذي أتى بي إلى هذه القلعة؟ لماذا ارتضيت عزلتي واستسلمت للأحزان والصمت؟ سأتحدث فيها الآن وعلى مضض. أفلح سكرتير الحزب "حمه سور" وصاحبه "كمتار بيس" في السيطرة على قيادة الحزب، وقاما بإبعادي عن مكتبه السياسي، وفرضا عليّ طوقاً من العزلة والحصار. بحجة غريبة، أخرجوا لي أوراق قضية قديمة. ادعوا إنني حين اعتقلت قبل سبع سنوات، لم أجابه المحققين بصلابة، وإن موقفي أمامهم كان ضعيفاً منهاراً، وإنني فرطت بأسرار الحزب، ووشيت برفاقي وخنتهم. وهذا محض كذب وهراء، وظلم فادح لي سأتحدث عنه لاحقا! رغم أن تفصيلاته أليمة وقاسية! أسكنت قسراً في هذا المكان؛ فأنا لا زلت عضواً في الحزب، ويجب أن أخضع لقراراته مهما كانت جائرة. شيئاً فشيئاً ارتضيت وارتحت لعزلتي. ثم أين أولي وجهي؟ والمنطقة كلها مشتعلة صراعاتٍ وحروباً. لو عدت إلى بغداد لقتلت بقسوة أو مسخت. لا أريد أن ألجأ إلى بلد بعيد. لا أستطيع العيش في أي بلد في العالم، مهما كان جميلاً ومرفهاً؛ فأنا مغروس في العراق، ربما أنا مشطور من النخلة، التي هي شجرتي المفضلة منذ صغري. رحت أعذب نفسي أيضاً، تارة بالذكريات، وتارة بالأحلام. مرة بقذيفة من الماضي، ومرة بركلة من المستقبل. ولكي يكون الأمر واضحاً لا بد من حديث طويل يجرني إلى التاريخ، أحاول أن أجد فيه سر ما جرى. تاريخنا هو كعكتنا الكبيرة التي صنعناها جميعاً، ومهما رأينا عليها من عفن وتفسخ، يجب ان نتقدم لنأخذ قطعة منها؛ ولو على سبيل التذوق. سأضطر ان أتفحص العفن والجيف أيضاً. ما كنت أريد ان أتحدث عن تلك الواقعة المخزية، وما جرت خلفها من نكبات كما تجر العقرب خلفها حلقات من الهوام والثعابين! اعتقال مئات الرفاق وقتلهم، أو تشويه أرواحهم وعقولهم، وتدمير حياة عوائلهم، ثم اعتقالي؛ وما جر عليً من تداعيات حتى عزلتي الأخيرة في هذه القلعة. أقل ما توصف به تلك الواقعة أنها قذرة ووحشية وبشعة، ولكن لا بد من المرور عليها سريعاً، والتوقف عند خلفيتها السياسية قليلاً، فأنت لا تستطيع الحديث عن رحلة السمكة، ما لم تتحدث عن الموج والريح والبحر. لا بد من كلام تعيس في السياسة لمعرفة ما جرى في تلك الليلة المشؤومة، وكيف سارت الأمور، وآلت إلى نهاياتها المريعة! سأرويها باختصار فهي مقرفة تثير غثياني، وتجعل نبضات قلبي المنهك تتسارع مقاربة الموت!

بداية السبعينات، تصاعدت ملاحقات السلطة لرفاقنا: اعتقالهم وإخفاءهم، تعذيبهم وقتل الكثيرين منهم. سحق تنظيماتهم الشبابية والطلابية. كان تعامل قادة حزب البعث معنا في ذلك الزمن يسير في خطين متوازيين. الأول: يفاوضوننا فيه للتحالف معهم، مؤكدين أنهم لن يكرروا ما فعلوه بنا، وبغيرنا في الماضي، وأنهم الآن على استعداد؛ لنقد ماضيهم المثقل بالخطايا وتجاوزه! كنا نعرف أنهم يحتاجون التحالف معنا؛ ليس من أجل تحقيق الوحدة الوطنية، وإطلاق مسيرة تقدمية في البلاد كما يدعون، بل ليستعملوه ورقة تزكية لهم لدى الاتحاد السوفييتي، والدول الاشتراكية، والأوساط اليسارية في العالم، ولجعلنا عيون حراسة لهم في الداخل والخارج! والخط الثاني: كانوا يواصلون فيه حملة ملاحقات واغتيالات لرفاقنا بدءاً من أعضاء اللجنة المركزية، حتى أعضاء أو أصدقاء لنا في القاعدة. هم لا يريدون قتل الحزب ودفنه تماماً، لأنهم يحتاجونه. كانوا يريدون إيصاله إلى أضعف، وأتعس حال؛ ليوافق على شروطهم، ويتحالف معهم لا كند، بل كتابع ذليل، وجزء من ديكور ثوري مزيف، مستكين لقيادتهم الشمولية المطلقة لبلاد! هكذا كان الحوار معهم يجري: مرة بالجلسات الأنيقة المهذبة، يتبادل فيها قادة حزبنا معهم الابتسامات، والعناق وكؤوس الليمون والتفاح، وأحياناً جلسات ويسكي وكونياك، وسيجار كوبي للاسترخاء العميق في المساء، في قاعات القصر الجمهوري الفخمة. وبنفس الوقت وغير بعيد من تلك الجلسات الحضارية الودودة واللطيفة، ثمة حوارات كئيبة رهيبة تجري في السجون والمعتقلات بينهم وبين رفاقنا ورفيقاتنا، وهم بأجسادهم العارية الضعيفة، تتولاها مراوح سريعة تدور بهم لتوصلهم إلى نشوة الموت القصوى، سكاكين تقتلع أظافرهم، مثاقب تغوص في أكبادهم ورؤوسهم، فلقات وصعقات كهربائية! ومع ذلك قررنا المضي في لقاءات كؤوس التفاح والكونياك والحوارات العجيبة الطويلة المضنية والفارغة. كانت تنقطع لتعود، وقد قاربت الخمس سنوات دون جدوى. ونحن أيضاً كان لدينا في اللجنة المركزية والمكتب السياسي، اتجاهان. واحد يدعو لعدم التحالف معهم، امتثالاً لرأي غالبية أعضاء الحزب وأصدقائه والناس القائلين

 بضرورة عدم نسيان جرائمهم وشرورهم، ومذابحهم للشيوعيين وأصدقائهم، من مدنيين وعسكريين بانقلابهم الوحشي في 8 شباط عام 1963. والآخر يدعو لنسيان الماضي والسعي إلى الوحدة الوطنية، والعمل المشترك لبناء البلاد بروح الرفقة الثورية الواسعة والتسامح، ولم شمل كل التقدميين لمواجهة صعود القوى الدينية الطائفية الرجعية. كنا نحاول عبثاً أن نبصر البعثيين الذين رغم كل شيء عدنا نسميهم بالرفاق. أتعرفون أية هوة من الظلام والفساد والتخلف سيجر هؤلاء الرجعيون البلاد إليها لو انتصروا؟ ولكنهم يقابلوننا بضحكات السخرية، قائلين بصوت واحد كما النشيد: "أية يد تمتد إلى ثورتنا سنقطعها! جئنا لنبقى!" "وهل هناك من يستطيع أن يتقدم، لنعطيها له؟ كان الحزب أمام خيارين، إما التحالف معهم وبقاء الحزب على قيد الحياة لفترة قصيرة أخرى نتلمس فيها طريقنا أين نمضي، أو الاستمرار بالرفض فيقومون بسحقنا! وفي ظل التطورات والتقنيات الحديثة لا تجدي حكاية السراديب التي كان يلجأ لها رفاقنا القدماء المؤسسون. كما إن جبال الشمال صارت حكراً للمتعصبين من القوميين الكرد الذين لا يقلون كرهاً للشيوعيين عن البعثيين، وهم مستعدون لبيعنا للبعثيين أو لشاه إيران أو غيرهم في أية صفقة حتى لو كانت عابرة! كان السوفييت لا يتوقفون عن الضغط علينا للتحالف مع البعثيين؛ ليحصلوا على غطاء شرعي لتوثيق علاقاتهم معهم؛ فهم الآن يتربعون على قيادة دولة نفطية كبيرة.

(25)  ليلة مقمرة ملوثة كالوحش؛ غيرت مصيره، ومصائر كثيرين!

حدث ذلك أوائل حزيران عام 1973. في أصيل نهار حار لكنه رائق في بغداد، لا مؤشر فيه إنه مكفهر، عكر سياسياً. خرج شاب يدعى سنان من بيته الفقير في البياع جنوب بغداد في مهمة حزبية محفوفة بخطر الموت. كان عضواً نشطاً يفيض تفاؤلاً، جميلاً أبيض البشرة، بملامح أنثوية حزينة، عرف بحبه للحزب، بساطته وطيبته، وقدرته على إخفاء سيماء وجهه عن الآخرين في المواقف الحرجة. هذه مواصفات جيدة للمراسل الحزبي. فاختير لحمل بريد المكتب السياسي! ذلك المساء ذهب إلى مدينة الثورة في بغداد. يحمل بريداً هاماً لرجل كادر متقدم في الحزب، نائب ضابط متقاعد منذ فترة طويلة، يدعى " حميد"، بدين متوسط القامة داكن السمرة، ضيق العينين، غليظ الشفتين، قارب الخمسين. كان يقود تنظيماتنا في هذه المدينة الكبيرة، وأجزاء من شمال بغداد، الآخذة بالتآكل والتشتت. من سوء حظ سنان، وسوء حظ الحزب، ومئات الرفاق الأبرياء الذين دمروا نتيجة ما حدث، إنه قبل دعوة "حميد" لقضاء ليلته عنده، ولم يغادر البيت، كما تقتضي قواعد العمل، خاصة في هذه الأيام الملتهبة. كان حميد في تلك الليلة وحده في البيت. ذهبت زوجته وأطفاله، كما قال إلى أهلها. مد مائدة الشراب، ومضى يغدق على سنان بكؤوسه وسجائره وكلامه الناعم الذي عرف به. لا يعرف بالضبط تفاصيل ما فعله ليقتاد سنان إلى فراشه! وقد لا يكون التطرق لتلك التفاصيل ضروري الآن. صحا سنان صباحاً على سطح البيت الصغير، وتلمس روحه المنهكة من خلل الدوار، والصداع الشديد. وجد نفسه إنه قد اغتصب، ولوث كما لم يلوث كلب أجرب في هذه المدينة، كما راح يهمس لنفسه. كان حميد غير بعيد عنه يغط في نومه. شخيره يعلو على أصوات السيارات، والباعة القادمة من الشارع، وقطعة شمس طويلة مثل سيف نحاسي تقترب من فراشه! وقف يتأمله مهتاجاً غاضباً مدمراً، يجد صعوبة في السيطرة على جسده، وقد أخذته قشعريرة وارتجاف! قرر أن يقتله. سيقولون إنه قتل رفيقه، ليقولوا ما يشاءون، هم لا يعرفون ما فعل بي، هو الذي قتلني! جالت عيناه بين الأشياء المتناثرة حولهما. فهما، كما يتذكر، رغم إنه أفرط في الشراب؛ قد حملا أغراضاً مختلفة إلى سطح البيت، ليكملا شرابهما في هواء الليل الطلق، وإنه تحدث أن لديه مسدساً له لا يفارقه حتى في ساعة نومه. نظر حول فراشه المتسخ، لم يجده. أيكون قد وضعه تحت مخدته؟ لو مد يده هناك فسيوقظه، وينقلب كل شيء. فكر أن يأتي من المطبخ بسكين. يتذكر إنه حين أعد معه طعام العشاء، شاهد سكيناً كبيرة تكفي لذبح ثور. حميد أيضاً كان ليلة أمس ثوراً هائجاً. أيتخطى الخجل، والخوف، ويشكوه للحزب؟ لا يفيد! لا يفيد! راح يردد مختنقاً ببكائه. لا بد من قتله، لا بد من قتله! أيذبحه؟ أم يكتفي بغرس السكين في صدره؟ الصداع يفجر رأسه. لم يسبق له أن شرب بهذا القدر. كان هذا اللعين يزقه بالشراب ليصل إلى فعلته القذرة. نزل الدرج، وهو لا يزال يترنح. مال جانباً وكاد يسقط؛ فالدرج دون مسند. دخل المطبخ مسرعاً يبحث عن السكين. فجأة توقف. وقعت عيناه على كيس النايلون الأحمر الفارغ الذي أتى البارحة يحمل به الأوراق الحزبية تحت خضار وفاكهة، ملقى على الأرض. قرر أن يفعل ما هو أسوء من قتل حميد. أيكون الكيس التافه؛ هو الذي عطف اتجاهه لذلك العمل الفظيع الذي سيقتل به كثيرين، أبرياء لا علاقة لهم بما حدث؟ حمل الكيس واتجه إلى حجرة حميد، رآه أمس أين يضع الأوراق التي أتى بها، وهناك وضع في الكيس كل ما وقعت عليه يده من الأوراق الحزبية، قديمها وحديثها، أدار المفتاح الذي لا يزال في الباب، وخرج مسرعاً إلى دائرة أمن كبيرة يعرفها وسط بغداد. أعطاهم الأوراق وراح يحكي عن كل شيء! كان لا يزال ثملاً تفوح منه رائحة نتنة من الكحول والثوم، حتى أن ضابط الأمن دفعه من صدره؛ ليجلسه على كرسي بعيد عنه بعض الشيء. كان في الأوراق أسماء ثلاثة أو أربعة أشخاص كانوا جنوداً، وآخر عريفاً، ولم يعودوا عسكريين عندما انضموا للحزب، بين مئات من الأعضاء في تنظيم مدني يضم عمالاً وطلاباً وموظفين وفقراء معدمين. ادعى رجال الأمن إن الأوراق تتضمن أسماء تنظيم عسكري كبير يعد لمؤامرة شيوعية لقلب الحكم. هللوا لأنفسهم على هذا النصر، فهم قد حصلوا على هدية عظمية لقادتهم؛ يجب رفعها لهم فوراً! نسى الضابط رائحة العرق والثوم النتنة المنبعثة من الشاب. أجلسه بجانبه على الأريكة الجلدية السوداء، وراح يربت على كتفه ويوقف بكاءه " صار خير، صار خير، ولا يهمك، كل شيء يهون، أنت بطل". وجده كنزاً جاءهم يسعى على قدمين مرتجفتين في هذا الصباح الحار! هذا الشاب مهم، خطير جداً، زودهم بمفاتيح أوراق ومعلومات تكفي لتعرية هؤلاء الشيوعيين أدعياء النقاء، والصلابة الثورية. ويميل عليه ثانية: "شكرا لك يا بطل، حسناً فعلت؛ سنقتص لك من هذا المجرم القذر". خلال ساعات كانت القضية على مكتب صدام. ما أن تصفحها حتى أطلق ضحكة مجلجلة مهاتفاً مدير الأمن " عفية، هيج الشغل، عفية، عفية رجال، والله، رجال، أمرت الكم بإكرامية، تستاهلون"! كيف لا يستأهلون وقد تلقفوا هبة السماء هذه؟ فضيحة أخلاقية مخزية لهؤلاء المكابرين الذين يرفضون التحالف مع حزبنا متحدثين عن أمجادهم القديمة. أية أمجاد عند هؤلاء الشواذ؟ كان يقود بنفسه سير العلاقة مع الشيوعيين على الخطين: الدموي الطافح بصرخات الموت، والحضاري المترع بالكونياك والابتسامات والسيجار الكوبي ! وجد القضية من عيار ثقيل فعلاً، ملائمة لمزاجه وشهيته. بسرعة وعبر مكالمات مرحة وجولة طويلة في قصر النهاية. طغى ما هو مخز وسافل، هنا وهناك، على كل شيء! انتفخت فجأة إضبارة باسم " قضية رقم 1889 لسنة 73 " مؤامرة الشيوعيين الشاذين جنسياً". صدقوا هم وبقوة المؤامرة التي اختلقوها. شنوا حملة اعتقالات لكل من وجدوا اسمه في هذه الأوراق، أو لم يجدوه. مهما قيل فينا كقادة شيوعيين آنذاك، لا يمكن أن نكون بسذاجة التفكير بانقلاب في تلك الفترة. الحزب لم يغتنم فرصاً جدية للانقلاب في عهد قاسم؛ عندما كان لديه آلاف الضباط، والمراتب العسكرية في مواقع هامة، ومؤثرة في الجيش، وبعضهم مرافقون لقاسم. فكيف يقدم عليه الآن وهو لا يكاد يؤمن اجتماع لجنته المركزية أو مكتبه السياسي؟ صارت الآن جراحاته في يد عدوه. مئات الرفاق الأبرياء الآن هم في قبضة قيادة تضغط لتحويل ما هو مبتذل وقذر إلى مجد حزبي وطني. ومحققون مسعورون دون كفاءات يتقاضون رواتب عالية وامتيازات ومكافئات كثيرة، ويجب أن يتفننوا في التعذيب والسحق، ويحصلوا على المزيد!

مراوح سقفية متينة وفلقات كثيرة كأنها جزء من أدوات تلك الليلة الملوثة، ظلت تدور ليلاً ونهاراً تنتزع من تحت الأظافر ومن ثقوب الأكباد والصعقات الاعترافات الملفقة والانهيارات المريعة. مئات الأبرياء الآن يعاقبون ويوصمون بالشذوذ والاغتصاب، وهم لا يعلمون بما فعله حميد حتى بعد موتهم تحت التعذيب. وصل الأمر إليُ. فقد تحدث ضابط صغير متقاعد منذ فترة طويلة، كان سنوات الستينات في القوة الجوية، إنه كان على صلة حزبية معي لعامين. اعتقلت ثم بدأ التحقيق والتعذيب! كانوا يريدون مني أن أعترف على تنظيم عسكري لا وجود له، ومؤامرة لم تخطر يوماً على بالنا!

اعتقد "صدام" الذي لم يكن قد برز كثيراً بعد كرجل دولة، إنني مسؤول الخط العسكري؛ فقام بالتحقيق معي بنفسه، وأشرف على تعذيبي. بدأوا بقلع اثنين من أظافري، أي سحب الروح من كل خلية في الجسد، وضعوا رأسي بماسكة حديدية يستعملها الحدادون عادة في كبس المعادن. ثم توقفوا دون تحريكها؛ ربما خشوا أن تموت معي معلومات مهمة. كانوا عادة يحققون معي ومع غيري ونحن معصوبي الأعين، لكنهم هذه المرة تعمدوا رفع العصابة عن عيني، وجدت صدام أمامي، أعرفه جيداً، التقيته في حوارين من حوارات القصر الجمهوري ذات النكهة الثورية الرفاقية الممزوجة بدخان السيجار. يبدو هو تعمد هذا الحوار، جمع فيه بين عصير الفاكهة، وعصير الجراح. حاول في البداية استمالتي لأقوم بإقناع رفاقي في المكتب السياسي بالتحالف معهم. قلت له: أنا أسير عندكم؛ وتعهد الأسير لا يعتد به، لا من قبل قومه، ولا من قبل عدوه إذا كان نبيلاً! استثير، نهض، وراح يعربد. قال أنت لم تر منا شيئاً بعد؛ سيقوم رفاقنا هنا بأداء الواجب! وهو يتضاحك. حثهم على المزيد من جولات التعذيب معي، قررت أن استفزه احتقاراً له وطلباً للموت:

ـ تدعي أنك مناضل وسياسي، كيف تقوم بتعذيب السجناء؟ لم لا تترك المهمات القذرة للصغار؟

صرخ هائجاً، وضع يده على مسدسه المعلق بحزامه ثم سحبها فجأة قائلاً:

ـ لا، لا، لن أمنحك راحة الموت!

أتذكر يده حتى اليوم، كانت صفراء شاحبة بأصابع نحيفة وطويلة، وتحت أظافرها وسخ أسود، ربما من دماء ضحاياه. كانت وسامته، وموقعه المتقدم في الحزب والحكم، تجعلانه الأكثر بشاعة وقبحاً بين أصحابه المحتفين به بثياب مدنية أنيقة وسط أدوات التعذيب التي لا تقل أناقة وعجرفة عنهم! أومأ لهم بإشارة ليطيلوا تعذيبي محذراً: "لا تدعوه يموت!"

(26) عطش تحت التعذيب، وبرجينيف بنفسه يأتيه بطاسة ماء بارد!

في كل مرة كنت أقول: لا توجد لدينا مؤامرة إلا في أذهانكم! لكنهم كانوا مصرين على أننا تآمرنا عليهم؛ ليكون بيدهم المبرر لسحقنا، مع فتح باب لتحالف مذل معهم! قلت لهم حتى لو وجد عندنا عسكريون فهذا لا يعنى أننا نعد لانقلاب! كان لدينا آنذاك رفاق عسكريون مبعثرون متناثرون، كنا نحاذر أن لا يرتبطوا ببعضهم، لا بخلايا، ولا بصلات فردية؛ سوى معنا؛ لكي لا يحسبوا يوماً كتنظيم عسكري. قبل أشهر اغتالوا رفيقين في اللجنة المركزية؛ اعتقدوا أنهما يقودان تنظيماً عسكرياً لدينا. في الواقع تخلى الحزب عن تنظيمه العسكري؛ مذ تخلى عن طموحه في الثورة؛ وأدرك أن من المستحيل عليه الوصول إلى السلطة. كانت ثمة خيبة عميقة مضمرة وغامضة تعشش في أعماق الكثير من قادة الحزب من أشياء كثيرة، النظرية، والمسار، والمستقبل، والعلاقة مع السوفييت، لكنهم لا يجرأون على التصريح بها؛ وإلا سينفض عنهم أتباعهم ويسألونهم: إذاً ما هي دواعي وجود الحزب؟ وهذه الجعجعة حول الشيوعية؟ لم يتبق لدينا في خلايانا العادية سوى ضباط متقاعدين كهول ومسنين(بعضهم قضى سنوات طويلة في السجون) أمضوا شبابهم وكهولتهم شيوعيين ويريدون البقاء في الحزب، حتى الموت (على سبيل الذكرى، وتنسم عبق الماضي، كما قال لي أحدهم) فجعلنا صلتهم موزعة هنا وهناك بعلاقة فردية غير خلوية عرفت اصطلاحاً (بالخيطية)، مع أشخاص مدنيين. ربما نسبة للخيط الذي ينتظر سمكة بعيدة لاهية في الماء، أو بالطائرة الورقية المرتجفة في الريح، أو الخيط الذي يحاول شد عرى ثوب متهرئ. كان رجال الأمن في التحقيق فرحين منتشين بوصمة العار التي لحقت بالشيوعيين الذين طالما أشاد الناس بأخلاقهم ونقائهم. قال أحدهم متصنعاً الاشمئزاز: كنا نتصور الشيوعيين فقط يبيحون زواج الأخ من أخته وأمه! لم نكن نعرف أنهم يتزوجون من رفاقهم الشبان الحلوين أيضاً! أقول لهم: أنتم تتجاهلون آلاف المناضلين الشيوعيين، والشهداء الشرفاء، وتمسكون بقضية قذرة لاثنين أو حتى عشرة من المنحطين الذين لا يخلو منهم حزب أو تنظيم في العالم. يتضاحكون هازئين. أحدهم ينهال عليّ بالضرب قائلاً: أتقصد حزبنا بكلامك الدنيء؟ رأيت أهوالاً وآلاماً فظيعة في (قصر النهاية). كان قصر العائلة الملكية، لقيت فيه نهايتها برصاص ضباط الانقلاب. تحول في العهود الثورية إلى سجن لخصومهم السياسيين، من يدخله لا يخرجه منه؛ إلا ميتاً أو مثخناً بجراحات، وتشوهات نفسية تعجل بموته، أو يظل يعاني من آلامها طيلة حياته! سجن عميق يتوزع بين الظلمة المطبقة، والأنوار الساطعة الحادة! كان دائماً يغص بنزلائه من مختلف الأحزاب والجماعات. كانت جولاتهم تبدأ معي في آخر الليل حين يأتي الجلادون من البارات سكارى متعتعين. وما كانت تنتهي نوبة آلام حتى تبدأ أخرى. يعتصرون ما تبقى من جسدي محاولين انتزاع اعترافٍ، سٍر، اسمٍ، أو أية كلمة؛ ليبنوا عليها قضية مهلكة. كان نطقي باسم واحد ممن اعرفهم يعني إعدامه، وربما مع أفراد أسرته! يقولون: نحن نعرف كل أسرار حزبكم، لقد اخترقناكم، أنتم نائمون على آذانكم، لدينا ركائز حتى في لجنتكم المركزية، ومكتبكم السياسي! قلت مستجمعاً ألمي: أيكون " حميد" إذاً هو واحد منكم غرستموه في حزبنا؛ ليقوم بهذه المأثرة النضالية؟ صعقوا. صمتوا لحظات. ثم انهالوا علي بجولة تعذيب فظيعة! دخلت فيها غيبوبة طويلة، صحوت لأجد نفسي ملقى في زاوية من قاعة السجن القصر مهشماً. كنت أريد الموت، لكنني أعرف أن الجلادين لا يجودون بهذه المكرمة على ضيوفهم، هم يريدونهم يبقون متأرجحين لمزيد من العذاب. رحت استفزهم لينهوا حياتي. حين أعاد أحدهم قوله لا تتعب نفسك نحن في داخلكم، نعرف كل شيء، لم أقل لهم ما يقال عادة وفق هذا المنطق " ولماذا تريدون معلوماتي البسيطة مادمت تعرفون كل شيء؟ كنت فعلاً أريد الموت؛ لأرتاح من عذابي، ومن رحلتي الطويلة الخائبة كلها، قلت وأنفاسي تتقطع حنقاً وغضباً: "ليس أكثر من الركائز التي غرزتها المخابرات الأمريكية في حزبكم عندما أدخلتكم القصر الجمهوري كأنكم مدعوون لحفلة ساهرة، لا لثورة 17 تموز المجيدة!".

في تلك الليلة صبوا عليه كل ما في عروقهم من حقد. أغمي عليه، فتركوه، ظل يلهث، ويتشنج، اعتقدوا إنه يحتضر، لكنه انتقل من غيبوبته؛ لنومة طويلة عميقة. حلم إنه عطشان، كل خلية في جسده تطلب نهراً من الماء، كان يصيح ويتوسل ولا أحد يمد يده له بكأس ماء، وفجأة رأى بريجنيف. نعم الرفيق ليونيد بريجنيف قائد الحزب الشيوعي السوفييتي نفسه، يقبل عليه بطاسة فضية تطفح بالماء، لمح في مقدمتها شعار المطرقة والمنجل، ورغم إنه رأى قلبه يرتجف بينهما؛ لكنه فرح وهو يرى بريجنيف يتقدم إليه قائلاً:

ـ أشرب أيها الرفيق البطل، لقد رفعت رؤوسنا!

كاد الظمأ يلقيه على الطاسة فيسقطها من يد الرفيق الكبير؛ إلا إنه تريث ليقول له:

ـ أنت بنفسك أيها الرفيق العظيم تأتيني بالماء؟ هذا كثير! هذه مأثرة شيوعية عظمى، لماذا لم تدع وزير الخارجية الرفيق غروميكو يأتي بها، أو ترسلها مع السفير مثلاً؟

وقبل أن يسمع إجابته تناول الطاسة الكبيرة؛ وراح يعب ماءها الصافي البارد العذب. ما أن نزل ماء الرفيق بريجنيف في معدته؛ حتى أحس بوجع حاد في أحشائه، ظن إنه قدم له طاسة من الفودكا الحارقة وليس ماء نهر الفولكا البارد. فتح عينيه، ووجده أمامه! أراد أن يقول له: شكراً رفيق برجنيف، لكن الذي أمامه عاجله بصفعة قوية، هل من المعقول أن الرفيق بريجنيف يصفعه؟ حدق من خلل جفونه المتورمة؛ رأى الجلاد الذي يعذبه! كم يشبه برجنيف! لكنه ليس هو، لماذا طار الرفيق برجنيف؟ لماذا لم يبق في قصر النهاية؟ فهو كان قصراً ملكياً، يليق ببريجنيف أيضاً، فقط يشهد التعذيب على سبيل التضامن الأممي! كم مر عليه في إغفاءته أو غيبوبته؟ ترك السائل الغريب وجعاً كدراً في روحه ومعدته. كان الجلاد يكشر ضاحكاً، كانت تلك آخر صفعة، أطلق سعار المدفع، قبل أن يتوقف في هدنة:

ـ أهكذا؟ كلما اعتقلنا واحداً منكم تركضون باكين إلى أولياء أموركم، برجنيف، قردييف، حماريف، كلبييف، بزونيف، وبسطاليف؟

أخذ معذبه يضحك ويقهقه؛ مكشراً عن أسنان صفر منخورة. ألقى السوط من يده، قدم له كأساً من الماء. مفاجأة غريبة حقاً. ماذا يحدث؟ تركه دون تعذيب. جلبوا له قدح شاي أيضاً. جاءه طبيب فحصه وضمد جروحه وكدماته. أعطاه دواءً، ونقله من الأرض الباردة العارية إلى سرير حديدي عليه فراش في غرفة دافئة. ضمد رضوضاً في ساقه اليسرى، دلك ندباً على وجهه بماء دافئ. جلبوا له طعاماً وعصيراً. كان هذا غريباً، لكنه لم يجد صعوبة في تفسيره. كان يعرف أن رفاقه في الخارج سيقومون بحملة احتجاج، وسيطالبون السوفييت والدول الاشتراكية للضغط على السلطة، لإطلاق سراحه. كانت موسكو بحاجة لقناع تقدمي تصنعه بعلاقة تحالف بين الشيوعيين والبعثيين مهما كانت مختلة. لذا كان من غرائب المصادفات الكابوسية، أن يونس كان يحلم ببريجنيف يحمل له طاسة ماء، في نفس الوقت كان مكتب بريجنيف يبرق رسالة للقصر الجمهوري في بغداد يطلب فيها إطلاق سراحه "رفيقنا، وحليفكم الضروري". كان العراق في تلك الأيام بحاجة لصفقة سلاح مع السوفييت؛ صدر القرار بإطلاق سراحه. ابقوا على المعتقلين الشيوعيين البسطاء، زادوا عليهم مئات آخرين في مختلف المدن كتعويض عن "يونس". قال له ضابط بملابس مدنية في سجن قصر النهاية: " سنطلق سراحك. إكراماً لرفاقنا السوفييت. لا نريد أن نسمع منك كلاماً يسيء لنا ولتجربتنا". رغم إنه استفاد من علاقة السوفييت الطيبة مع البعثيين لكنه ظل ينتقدها، أنها قفزت كثيراً على التضامن الأممي. هل هم لا يعرفون أن صدام يلعب ويضحك عليهم؟ هو الحاكم الحقيقي وليس البكر الملقب بالأب القائد. يعتقل قيادياً وينتظر استرحاماً من السوفييت ليطلق سراحه، ويسجل عليهم نقاطاً موحياً أنه اعتقل من قبل البكر وجماعته. صار كثيرون، شيوعيون ويساريون، يتحدثون، "أنه يساري ماركسي، يريد أن يكون كاسترو العراق، لكنه محاط ومكبل ببعثيين رجعيين". السوفييت في السنوات الأخيرة تعبوا من مشروع الشيوعيين الذي لا تلوح في الأفق نهاية مثمرة له، فصاروا مستعدين للتضحية بهم عبر تحالف شكلي مع البعثيين، يجنون منها صفقات أسلحة وبضائع افتضحت رداءتها؛ يشترون بثمنها قمحاً من أمريكا!

(27) كان الدكتاتور البعثي؛ يريد ان يكون شيوعياً، أو دينياً، والعكس صحيح، واللعبة واحدة!

كان صدام الممسك بكل الأجهزة الأمنية لا يفوت يوماً إلا ويزور قصر النهاية. يجد فيه متعته ولذاته كلها. تلك نزهته المفضلة. كان في ليالي سوداء حالكة يقوم بتعذيب المعتقلين بنفسه، وفي أوقات أخرى (لا نعرف أهي ليل أم نهار، لا شيء سوى الظلام الدامس، أو النور الباهر الموجع للعيون، لا توجد إنارة عادية إلا في قاعات وحجرات "عمل" المحققين. نشاهده يتجول في ممرات وأقبية السجن متطلعاً إلى زنزانات المعذبين الذين انتزعت منهم اعترافات، أو ما زالوا يلتزمون الصمت. لا تطربه ولا تؤنسه سوى أناتهم وحشرجاتهم وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة! يبدو منتشياً مستمتعاً. لا يقترب منا (متظاهراً بترفعه عن المهام القذرة). لكنه يحقق مع معتقلين يراهم خطرين من جهات سياسية مختلفة، وعليهم قضايا ثقيلة! هو يتابع أبسط التفصيلات (في العمل) وهو صاحب القرار الذي يحيي ويميت! في الأيام الأخيرة قبل انتهاء جولات التعذيب الفظيعة. وضعوني في حجرة كان فيها موقوفون من انتماءات سياسية مختلفة إسلامية وقومية. كان بجانبي المحامي المعروف المسن " أمين طه". أعرفه من زمن بعيد، كان زميل مهنة، من بقايا الديمقراطيين المسحوقين، مثقف جيد، كان مهشماً يتحدث لاهثاً، كأنه يحتضر، همس لي: أتعرف إن "صدام" في شبابه وقبل انتمائه للبعثيين، كان في حزبكم الشيوعي؟ كنت أعرف ذلك، ولكنني تركته يتحدث، لينفس عن كربه وغضبه! واصل كلامه: أحد أقاربه في تكريت المدعو سعدون كان يشرح له مبادئ الشيوعية ويحدثه عن ستالين وأمجاده ومنجزاته. أفلح في إقناعه وضمه مرشحاً للحزب. كان فرحاً فخوراً به فهو يتفجر حيوية ونشاطاً. وهو فقير معدم، سيكون حتماً قائداً شيوعياً مخلصاً للفقراء والكادحين. لكن البعثيين استطاعوا بعد فترة قصيرة جره إليهم، أخذ يقول: " الشيوعيون لن يصلوا للحكم إلا بعد ألف سنة". تخلى عن حزبكم وراح يقارعه بشراسة. كانت أولى تمارينه على القتل مع قريبه سعدون. أرسله إلى القبر مع ماضيه الشيوعي برصاصة في عنقه. ثم تطور عمله، استخدمه البعثيون،في محاولة اغتيال قاسم. ربما ما كان ليترك حزبكم لو أنكم أفلحتم في الوصول إلى السلطة في وقت يناسبه! قلت ربما من حسن حظنا، ومن سوء حظ حزب البعث، إنه تركنا، والتحق به. هو سيدمره، بدلاً من بنائه كحزب علماني ثوري لديه شحنات تقدمية لا بأس بها في واقعنا المتخلف. قال الرجل وهو يتأوه من كسور في فقرات ظهره وكتفيه. سوف لا يدمر حزب البعث وحسب، سيدر العراق كله! اسألني عنه! فأنا أعرفه منذ أحيل للقضاء في مقتل سعدون. كنت محامي الحق الشخصي للضحية، وقد لعب خاله طلفاح، مزوداً بالمال من أشخاص مرتبطين بشركات النفط والسفارة الأمريكية، في تضليل القضاء وإطلاق سراحه! وأحد أسباب اعتقالي هو إنني أعرف الكثير عنه، ولا أظنه سيبقيني حياً! حاولت طمأنته، لكنه ابتسم بحزن، قال: لا يوجد ديمقراطيون سوفييت ليطالبوا بإطلاق سراحي! أضاف: الأفضل لي الموت قبل أن أرى ما سيحل في العراق على يديه! وفعلاً قضى تحت التعذيب بعد أيام قليلة. عزائي به إنه لم يرى خراب العراق على يديه! كنت ألاحظ أن البعثيين مولعين بكلمة (التجربة)،أسمعها كثيراً عند التحقيق والتعذيب. وفي لحظات الهدوء، يجرون نقاشات يفتعلونها لما يسمونه الإقناع السياسي، " أنتم الشيوعيون تريدون إفشال تجربتنا" إذا كنا هذه المرة قد جاملنا السوفييت وعفونا عنك، في المرة القادمة لن نفعل ذلك، ثورتنا وتجربتنا ومصالح أمتنا فوق كل شيء"

قلت لأحدهم: ما هي تجربتكم ؟ في غدركم بالعهود؟ إدخالكم رفاقنا في حزبكم بدق زجاجات الويسكي في أدبارهم؟ كانت لحظات إطلاق سراحي قد تحولت فجأة لديهم إلى حوار سياسي. لم يتوقف ضابط الأمن الكبير عن وخزي وهو يودعني(كما قال) عند باب الحجرة، قال متضاحكاً لكي يمرر إهانته لي:

ـ اعتنوا بالأخلاق الثورية للرفيق قبل ضمه لحزبكم، اعتبروا قضية "حميد" درساً مفيداً لكم، لا مجرد وصمة عار!

أحسست بدمي يصعد إلى رأسي، هذا السفاح الذي أدمى جسدي وروحي، والذي يوجه رجاله ليغتصبوا الشبان المستعصين عليهم، والنساء أمام أبنائهن وأشقائهن وأزواجهن كوسيلة مجربة ومضمونة لانتزاع الاعترافات والتخلي عن المبادئ، والذي دولته تقوم على الاغتصاب، يأتي ليعلمني الأخلاق الثورية! هو ينسى أن للشيوعيين آلاف من المناضلين والمناضلات قضوا أو سجنوا طويلاً، تحت التعذيب اليومي ولم يخونوا رفاقهم، وما يؤمنون به من أفكار، وكان الكثير منهم مثالاً في الأخلاق الحسنة. ويقف عند حالة قذرة. ورغم عدم تأكدي من حقيقة شخصية حميد، والدافع المجنون الذي جعله يغتصب رفيقه الصغير، داهمتني كلمة، وجدت أنني من أجل قولها؛ مستعد للعودة إلى السجن، وتلقي كل جولات التعذيب مرة أخرى:

ـ من الذي يغتصب النساء والرجال بالجملة، وتحت علم البلاد؟ دعني الآن أذهب في سبيلي، أنصحكم حين تدسون في صفوفنا مخربين وجواسيس أن لا يكونوا بلهاء مثل " حميد"!

جفل من كلماتي، وقد اربد وجهه، وزاد دمامة. بالتأكيد إنه ود لو يعود بي إلى آلات التعذيب والموت هذه المرة، لكنه صمت وتراجع دون أن يكمل توديعه لي كما قال، كان يعرف ان أمر إطلاق سراحي جزء من مصلحة "استراتيجية" للحزب. ضرورة يجيدون من اجلها ابتلاع كل شيء، وليس الإهانات فقط! رغم إن كل كلمة قلتها تلقيت عليها تعذيب ليلة أو ليالي طويلة، إلا إنني اليوم مرتاح إنني واجهتهم بحقيقتهم؛ وأنا ضعيف عار بين أيديهم! لست بطلاً، فأنا أيضاً لدي ضعفي وخوفي وارتجافي وتخبطي في أفكاري، ولكنني خضت معركتي وصراعي غير المتكافئ معهم بما أستطيع من الصدق والنزاهة. لا أشك أن الكثيرين من رفاقي في الخارج عملوا على إنقاذي من براثنهم، وسواء مساعيهم هي التي أنقذتني، أو ألاعيب ومصالح صدام مع قادة الدول الاشتراكية، فالمهم بالنسبة لي هو أن صمتي أنقذ رفاقي العسكريين المتقاعدين المتعلقين بذكريات ماض ثوري غابر صار ثمنه بالنسبة لهم الإعدام رمياً بالرصاص لو اكتشفوا، كم ثمن هذه الذكريات باهظاً حتى لتصير مضحكة فعلاً!

القاني رجال القصر من سيارتهم المارسيدس السوداء، في الشارع غير بعيد عن السجن. صرت كالغريق الذي أخرج في اللحظة الأخيرة، وألقي على الشاطئ، أتنفس ما تبقى من حرية في هواء بغداد، سائراً ببطء وصعوبة شديدة، متحاملاً على أوجاع جسدي المخلع العظام والمفاصل. ساعدني صاحب التكسي على صعود السيارة، لم يتفوه بشيء، وكأنه عرف ما حدث لي، أو إنه من زبانية القصر، يتوازعون الأدوار بينهم؟ لعنت روح الشك التي تلبستنا، فالتزمت الصمت، لكن الرجل الكهل المكلل بالشيب من رأسه، حتى وجهه المهمل الحلاقة، ظل صامتاً؛ فخمدت شكوكي به. تذكرت ما حدثني به الشهيد أمين طه، أكان يريد أن يقول لي أن الشيوعية وجدت هوى ومزاجاً لدى صدام، وإنها كان يمكن أن تستوعبه في كل أطواره حتى حين يصير دكتاتوراً، كما استوعبت ستالين من قبل؟ ولصار الشيوعيون كما البعثيين اليوم، يمجدونه، ويحاربون من يصفه بالدكتاتور، وإنه كان يمكن ان يصير إسلامياً متعصباً، دكتاتوراً بلحية وسبحة ومحابس ووصمة على الجبين وكل عدة الشغل الديني، المهم اية فكرة توصله إلى السلطة، حتى لو كانت فكرة العصافير أو المردة والشياطين، المهم الكرسي الكبير، من أجله تتفجر في النفس كل نزعات التسلط والقسوة والدجل! كم شخصاً داخل حزبنا لا يختلف عن صدام في شيء، أليس حميد الذي اغتصب رفيقه، وسبب له ولنا هذا العذاب والدمار، هو مشروع طاغية قذر؟ وإننا قد نفلح في إزاحة طاغية، ثم ننجب طاغية أتعس، ربما! رؤى لم أكن أراها آنذاك بهذا الوضوح، والآن فقط في الشيخوخة والعزلة، وما أسفرت وجوه رفاق لي في القيادة عن نزعات متوحشة، وميول جشع وتسلط، أخذت تعاودني في يقظتي ومنامي. تعذبني كثيراً كلما زادتني معرفة بهم! توقف السائق قرب بيتنا كما وصفته له، عندما أعطيته الأجرة، رفض أخذها، لكنني ألححت عليه فأخذها شاكراً، وهو يساعدني على النزول، ويقتادني حتى باب البيت.

لم أجد أحداً في البيت، خرج علي بعض الجيران، لم يفقدوا طيبتهم وشجاعتهم، حيوني بلطف، أعلمتني جارتنا أن أخي اصطحب عائلتي إلى بيته، خاف أن يعتقلوا زوجتي أو ابنتي وابني ليهددوني بهم! قالت الجارة أنها ستخابر زوجتي وتعلمها بقدومي، دعوني إلى بيتهم، لكنني اعتذرت وجلست على الدكة الكونكريتيه للحديقة. هذا البيت كم عذبت ساكنيه، زوجتي وأبنائي الصابرين على غيابي وإهمالي منغمساً بالعمل الحزبي الذي لا يتوقف ساعة واحدة. هل انخرطت في صف القساة والجلادين أيضاً؟ كان أحد أصدقاء طفولتي الذي لا ألتقيه إلا لماماً، مصادفة أو مناسبة اجتماعية ضرورية جداً يقول: متى ينتهي عمل الحزب؟ هل أنتم منشغلون تشقون بحراً، أم تبنون سماءً أخرى؟ ثم حين يودعني يقول: أتمنى أن لا أسمع بعد الآن جعجعة ثم لا أرى طحناً. ازداد حزني وشعرت بالدوار. رحت أشم رائحة شجيرات الورد والثيل والحشائش المهملة. جلب جارتنا لي شاياً وماءً وفطائرَ. عاد لي هدوئي، كأني أخلق من جديد، مع براءة ونظافة الدنيا.

(28) الاغتصاب مرة أخرى: أو الزهرة بين الريح والغصن!

التقيت برفاق من المكتب السياسي. سلمتهم تقريراً بوقائع اعتقالي، وتفاصيل ما حدث لي في السجن. وكما عرفت سابقاً وتوقعت أكدوا لي إن الحزب بحادثة الاغتصاب، وحملة الاعتقالات والملاحقات الواسعة هذه قد مني بأضرار ساحقة. فقد المئات من الرفاق، وعشرات التنظيمات والخلايا. قالوا لي إن قادة البعث قد تعالت لهجتهم وزادت شروطهم، هم الآن يبتزوننا، بل يغتصبوننا! والاغتصاب السياسي لا يقل بشاعة عن الاغتصاب الجنسي! هم مصرون ويهددون بأن نقبل التحالف معهم وفق شروطهم ومواصفاتهم! كلما التقيناهم يقولون: سنلتزم الصمت عما حدث، لن نعرض سمعتكم للتشويه. هم في الواقع يهددون بشكل مبطن، ثم قالوها صريحة في لقاء هم دعونا إليه: إذا لم تحددوا موقفكم الأخير من التحالف،سنعتبركم لا معارضين سياسيين، بل متآمرين تريدون إسقاطنا بالقوة المسلحة، لذا سنضطر لإنزال العقاب السياسي والجنائي بحق كل من شارك بمؤامرتكم مهما كان موقعه في حزبكم، سننشر تفاصيل الفضيحة في كل مكان! ومع ذلك ظلوا لا يقصدون قطع رأس الحزب وسحقه تماماً! يريدونه قناعاً لإحدى لعبهم الكثيرة، إطالة عذابه، قال لهم أحد رفاقنا وقد بلغ به الغضب منتهاه: أنتم لم تقصروا! ماذا أبقيتم من الحزب؟ أجهزوا على ما تبقى، لا يهم! نحن سننشر ما تعرض له رفاقنا ورفيقتنا من اغتصاب على أيديكم منذ انقلابكم الدموي عام 1963 وحتى الآن، لا تزايدوا علينا بالشرف! سابقاً كانوا يقرون بجرائمهم في ذلك الانقلاب الوحشي. الآن صاروا يرونه أبيض منزهاً. عادوا يسمونه عروس الثورات. لا يسعني ألا ان أتذكر ان العروس في بلادنا تغتصب ليلة عرسها أيضا، لكن هناك من تحدث ساخرا، بألم :عروس استقدموها من نساء حفلات شركات النفط والسفارة الأمريكية، ولم تكن عذراء نظيفة كما يدعون؟ دم العذرية الذي سفح؛ فجروه من دماء فتيات بريئات انتهكن في سجونهم. بعد فعلة "حميد" القذرة، وما جرت من مصائب؛ صرنا أكثر ضعفاً وارتباكاَ، واستعداداً للانحدار الحقيقي، أو الصعود الزائف، وكلا الأمرين مريع، ويحتاج لأشياء كثيرة!

بعد اجتماع طويل لنا في المكتب السياسي، توصلنا بالأكثرية إلى قناعة واقعية: أن حزبنا قد وصل إلى أدنى درجات الضعف والإنهاك والهوان، جراء ضربات متلاحقة تلقاها على مر العهود، والضربة الأخيرة كانت مدمرة إلى حد كبير جداً. بينما حزب البعث بعد استلامه السلطة، وتدفق أموال النفط إلى حساباته السرية والعلنية؛ لم تعد أبوابه تتسع لأفواج القادمين إلى صفوفه في الداخل والخارج. اتسع الاتجاه الثاني الداعي للتسامح أو التساهل والتحالف مع البعثيين رغم كل ما فعلوه بنا وبغيرنا، ورغم كل مكابراتهم وغرورهم وأنانيتهم! وإن طريق الصراع الدموي إذا لم نوقفه الآن فإنه سوف لن تكون له نهاية! وسيضع بلدنا على صخرة مذبحه! أنا بقيت مؤيداً للتحالف مع البعثيين. رغم ما أنزلوه في جسدي وروحي من جراحات؛ لم تطغ على قناعتي بضرورة وحدة التقدميين. وما رأيته من فظائع وأهوال السجون وأقبيته السحيقة المظلمة؛ زادني إصراراً على أن تكون صراعاتنا سلمية تحت الشمس، وودية قدر الإمكان!

في هذا الاجتماع تحدث السكرتير ورفاق في المكتب السياسي عن صمودي تحت التعذيب الشنيع، وأشادوا بما أسموه "شجاعتي وأمانتي". وهكذا وقعت قيادة الحزب في الذكرى الخامسة لثورة البعثيين، وفي القصر الجمهوري على ميثاق جبهة (سميت بالوطنية والتقدمية). كانت البنود أو الشروط تلزمنا بأقسى التنازلات والالتزامات حد التبعية، أو ما سمى دخول بيت الطاعة. لم يكن تحالفاً. كان وثيقة اغتصاب؛ لم يتبق لدينا شيء من الحزب، صرنا كذلك الفارس القديم الذي سلب من حصانه وسيفه، لم يتبق ما يذكره بحصانه سوى معلفه، وما يذكره بسيفه سوى جرابه! قلنا لو وقعنا تحالفنا قبل هذا؛ لحصلنا على وضع أفضل، ولكن حتى الأفضل هو الأسوأ في مسار الآمال الكبيرة المستحيلة، التي هي جوهر فكرة الحزب ! اليوم نحن معهم بوضع عذراء اغتصبت وتريد الستر من مغتصبها؛ بالزواج منه! وكما سكت البعثيون عن قضية الاغتصاب الجنسي، سكت الشيوعيون عن قضية الاغتصاب السياسي؛ فقاد شيئاً فشيئاً إلى اغتصاب الوطن وتحويله إلى ملكية مطلقة للحاكم وعائلته وأنصاره الذين اغتصبوا حزبهم نفسه، فسكت على جرائمهم وحروبهم، كنت أقول دائماً لأصدقاء مقربين من البعثيين : ومن يسع لإذلال حلفائه وشعبه، يضع أولى خطاه على طريق تدمير نفسه أيضاً! وكانوا يوافقونني صامتين حزانى. كنت أرى الوطن يرتجف، زهرة بين الريح والغصن، ولا يسعني سوى الصمت أيضاً، والسير مع التيار!

بر ضابط الأمن بوعوده لسنان، ضمه إلى جهاز الأمن، وأرسله في دورة للتدريب في ألمانيا الديمقراطية، فقد كانت بعثات دوائر الأمن والمخابرات تترى إلى موسكو وصوفيا وبرلين الشرقية وهافانا، مع لندن وباريس أيضاً، هناك يدرسون خبرة أجهزة أمن ومخابرات الأنظمة الشيوعية والرأسمالية في التعامل مع خصومهم. عاد سنان ضابط أمن برتبة ممتازة. صار شديد الحقد على الشيوعيين. كل همه تعذيب من يقع بيديه منهم مطلقاً عليهم الكلاب الجائعة المسعورة، والرجال المتخصصين بالاغتصاب. يجلس يعب الويسكي ودخان السيجار متلذذاً باستغاثاتهم ودموعهم! سجن حميد فترة قصيرة، خرج وهو يلهج بحسن رعاية وتعامل رجال الأمن معه. عينوه موظفاً في وزارة النقل، قتل بعد أشهر قليلة في حادث غامض؛ اصطدام سيارته بشاحنة على طريق الرطبة.

(29) في الليالي السود؛ يظهر الثعلب الأسود!

بغض النظر عما حدث بيننا وبين البعثيين لإقامة هذه الجبهة، أردناها ميداناً لعمل مشترك من مختلف قوى الشعب لبناء وطن، عانى كثيراً من النكبات والصراعات! لكن قادتهم أرادوها منذ البدء فخاً لاصطياد أكبر قدر من الشيوعيين وقتلهم جسدياً أو معنوياً! قادوها إلى نهايتها المحتومة، انهيارها الدموي. لا شيء لديهم إلا ويمتزج بالدم. بعضهم قال أن رسالتهم الخالدة مكتوبة بالدم، وستظل تنضج دماً حتى النصر. حققوا انتصاراً كبيراً، على من؟ على أبناء وطنهم؟ صارت لدي قناعة أن من يكثر انتصاراته على أبناء وطنه؛ تقل انتصاراته، بل وينهزم بسرعة، أمام الأعداء الخارجيين! في ما سمي بأيام الانفتاح الجبهوي؛ برز بيننا كثيرون، وتوارى كثيرون. بعضهم تواضع وعمل بصمت تماما مثل جذور الشجرة المثمرة، كما يقولون، وبعضهم طغى وجال وصال حد الاستهتار، وسعى ليكون نجماً مشهوراً في زمن لم يكن ينتج سوى الأفلام الرديئة. من هؤلاء كادر حزبي يدعى كمتار بيس! كان سلوكه مريباً، تسلل إلى الحزب كالثعبان، وصعد من شخص نكرة متهور لا يحمل مؤهلات دراسية أو أخلاقية إلى مواقع قيادي متقدم؛ أثار استغراب ودهشة الكثيرين، كان متوسط القامة، ممتلئاً، على شيء من الوسامة، وخفة الحركة، يتمتع بقدرة كبيرة على الادعاء بكل شيء: القوة، الثقافة، التاريخ النضالي، سلامة النية، يوحي لمن يلقاه إنه يحمل شهادة عالية، بينما هو طرد من المدرسة قبل ان يكمل الثانوية؛ ولأسباب غامضة. يقول إنه طرد لأسباب سياسية، البعض يقول إنه طرد لأسباب أخلاقية، ويسكتون عن التفاصيل! كان بارعاً في ابتزاز من حوله، يستلبهم رافعاً نبرة صوته الزاعقة، وحركة يده المهددة، بينما تربد بشرة وجهه الداكنة وتضيق عينان البنيتان! وكان يصل إلى مآربه الخاصة في أغلب الأحيان! لا يكترث لأي ضرر يلحقه بالحزب والناس، لا يعرف كيف اقترب من السكرتير حمه سور؛ فاتخذه له صديقاً ملازماً له، زادت الحميمية بينهما إنها يتحدثان لغة أخرى غير العربية، عرف نقاط ضعف حمه في تهالكه على النساء والخمور، فأخذ يوفرها له في شقة خاصة له!

كان كمتار كادراً حزبياً متوسطاً، لكن حمه سور؛ بإحدى طلعاته الفردية الكثيرة قدمه مرشحاً للجنة المركزية، واسند له موقع مدير تحرير جريدة الحزب المركزية، رغم ضحالة قدراته الصحفية، فهو عادة يكلف صحفيين محترفين ليكتبوا له مقالات يوقعها باسمه. يعود اسم كمتار الغريب إلى أن عائلته قدمت إلى العراق في الأربعينيات من إحدى قرى كشمير، ويقال إن كلمة كمتار تعني في لغة قومه الدارجة: "الثعلب الأسود".

في الأيام الأخيرة وبينما الجبهة تحتضر، وترتطم أصوات أناتها بجدران قصر النهاية، وآذان قادة البعث، أعتقل كمتار بيس، وليومين فقط، وأطلق سراحه. أثار ذلك استغرابنا في قيادة الحزب، فالرفاق المتمسكون بمواقفهم ومبادئهم، يعتقلون عادة لفترات طويلة؛ يجوعون، ويعذبون أو يقتلون؛ فكيف يطلق سراح كمتار وهو الذي يعرف الكثير من خلال عمله في الجريدة، وتنظيمات أخرى؟ هكذا أمر يثير شكوك حتى أصحاب القلوب المطمئنة. قمنا بالتحقيق معه، تبين لنا إنه كان متخاذلاً أمام رجال الأمن، أراد استرضاءهم بأي شكل، فوعدهم بان يسعى لدى قيادة الحزب للتفاوض مع قادتهم للقبول بشروط جديدة للتحالف أكثر إذلالاً، لتستمر هذه الجبهة التي صارت أكثر تعاسة من خيمة ممزقة ملطخة بالدماء! عرفنا أن رجال الأمن قد أولوه عناية خاصة. لم يعرضوه للتعذيب الذي ما كان يفلت منه أي شيوعي يقع في قبضتهم. أعطوه حجرة خاصة بفراش وثير، وطعاماً جيداً. ذلك يشير إلى كوامن كثيرة غامضة، كان من الصعب جعله يفصح عنها، لكن من المكن معرفة فحواها، والاستغناء عن تفاصيلها! أتفهم قدرات الإنسان، وحدود احتماله لنهش الوحوش، ولا أبالغ في الدعوة إلى الصمود الأسطوري، ولا أجد مثلبة في أن يفلت رفيق أو صديق من أنيابهم بمراوغة، وبأقل التنازلات غير الضارة بالآخرين الأبرياء. لكن بنفس الوقت من حقنا أن نفكر كيف يفلت قيادي في الحزب من مخالب أعدائه بسهولة ويسر، ثم يعطيهم وعوداً تزيد من حرج موقف الحزب! حاول كمتار إقناعنا بضرورة التنازل للبعثيين أكثر فأكثر فوق ما قدمنا من تنازلات كثيرة. طلبت طرد كمتار بيس من الحزب، ليس فقط لموقفه المريب عند اعتقاله؛ بل لصلاته السابقة بدوائر الأمن ولتراكم جناياته ومباذله! لكن حمه سور وآخرين وقفوا إلى جانبه! لم تمض سوى أيام، حتى سمعنا أن كمتار قد سافر إلى بيروت، بعضهم عد الأمر طبيعياً، من حقه أن يحمي نفسه كالآخرين، لكن قلبي لسعني. تبقت وراءه حكاية رويت لي، ولم استغربها: عندما سمع كمتار أن السلطة أعدمت صباح اليوم، ثمانية عشر رفيقاً في سجن أبي غريب بتهمة انتمائهم لتنظيم عسكري للحزب الشيوعي، كل ما فكر به هو كيف يخرج من العراق، فهو مهما مالأ قادة بعثيين أو عمل معهم وخدمهم؛ قد تأتي لحظة ينقلبون فيها عليه، كما انقضوا على الكثيرين من عملائهم، ومن قدموا لهم خدمات هامة ليدفنوا معهم أسرارهم! في اليوم التالي ذهب إلى مقر جريدة الثورة، جريدة البعثيين، قرر أن يودع رئيس تحريرها، فهو زميله في قيادة نقابة الصحفيين، بينما هو يريد أن يشعره إنه سيسافر بشكل عادي من المطار، بذلك يضمن خط رجعة له إذا ساءت الأمور مع الشيوعيين، واضطر لنفض يديه منهم تماماً. عند باب الجريدة صادفته سيارة على سطحها جنازة، توقفت؛ ونزلت منها امرأة ملفعة بالسواد، راحت تهتف غاضبة ملوحة باتجاه صور الرئيس ونائبه، والشعارات المعلقة عند واجهة البناية، مرة تصرخ ومرة تجهش بالبكاء؛ ومرة تلوح بيدها لاعنة متوعدة. ومرة تضحك بهستيريا، كانت أم أحد الشهداء الذين أعدموا أمس، جاءت بجنازة ابنها إلى جريدة الحزب صارخة متحدية! كانت السلطة قد سلمت جثث المعدومين لذويهم محذرة: "لا نريد أن نسمع منكم شيئاً، لا بكاء، لا صراخ، لا كلام، لا مجلس فاتحة، ادفنوهم بصمت، أي كلمة أو صوت نسمعه منكم، يجعلنا نرسلكم خلفهم؟" أحاط رجال الأمن بالمرأة، وسائق السيارة، جروهما، حملوهما بخفة، اختفيا بدهاليز الجريدة في لحظات. ظلت الجنازة فوق السيارة مركونة أمام الجريدة، سيتولى رجال الأمن دفنها، أو إلقاءها في النهر. وقف كمتار لحظة أمام المشهد كأي متفرج ممن صادف وجوده أو مروره. انفتح باب الجريدة، دخل مسرعاً، كأنه لم يسمع ولم ير شيئاً، لقد أخرته هذه المرأة المخبولة عن موعده مع رئيس تحرير الجريدة، يجب ان يطمئن على ذهابه، لكي لا يتصور إنه ذاهب إلى لبنان لأمر ما. بذلك يضمن إيابه أيضاً! بدأنا نسمع تصريحاته لصحف لبنانية وإذاعات مسموعة في بغداد. يبدو إنه وجد أن الأوضاع مواتية له للعمل مع الشيوعيين، ويستطيع ان يشق طريقه عبرهم إلى غاياته. قال إنه يقود الآن في بيروت جانباً علنياً من الحزب، مدعياً أن الحزب قد انتقل في الداخل للعمل السري بينما مقراتنا لا تزال نصف مفتوحة. وتحدث عن نشاطات له في بيروت باسم الحزب، وقيادته لبدء حملات سياسية غير مدروسة ولا محددة ضد السلطة موحياً أن الحزب سيرفع شعار إسقاط السلطة بينما كان لا يزال الكثير من رفاقنا مكشوفين. كان ذلك مثار دهشتنا في المكتب السياسي، سألت صاحبه حمه سور عن تصرفاته هذه، راح يتمتم ويتبلعم، أخيرا قال: وما الضير في ذلك؟ قلت لدي شكوك جدية كثيرة على مساره وعلاقته بدوائر الأمن، وموقفه المتخاذل الأخير عند اعتقاله، حلقة متوقعة منه، ومن التهور وعدم الشعور بالمسؤولية أن يكون تنظيم لنا بين يديه. وقف معي رفيق آخر. حمه راح يدافع عنه، وعن وتنظيمه الذي شكله في بيروت دون علمنا، منوهاً بقدرات كمتار على قيادته بين الصراعات الحادة هناك. مضيفاً " تشاورت مع رفاقنا السوفييت حول ذلك" . حمه سور إذا أراد أن يمرر قضية؛ يأتي بذكر السوفييت بشكل ما. ذكر اسم السوفييت أمام قيادي شيوعي عراقي يحدث حمرة على الخدود كتلك التي يفعلها ذكر اسم الحبيب على خدود مراهقة عاشقة! شعرنا أن ثمة حزباً جديداً يريد حمه وكمتار بيس تأسيسه في الخارج، لأمر غير بعيد عن أهوائهما ونزواتهما، وكما في كل مرة سكتت أكثرية المكتب السياسي عن هذا الخرق لحمه. لم تجد معارضتي ورفيق آخر معي. ماذا يفيد الكلام ونحن الآن في وضع قبيلة تحل خيامها في الصحراء للذهاب إلى الشتات، كل في سبيله؟ كنت مقتنعاً إنه سينقل فساده إلى ما سيبني من تنظيم هناك! صار له تنظيمه الخاص، لعبته المثيرة، حظي بدعم ومساعدة قادة في منظمة التحرير الفلسطينية؛ ما كانوا يعرفون حقيقته، ولا مجريات صراعاتنا الداخلية معه، وفي ما بيننا. كانت أغلب المنظمات على خلاف مع النظام في بغداد؛ وتريد دعم خصومه، كل لهدف خاص بها. كانت في كل أسبوع، وأحياناً كل يوم تلعلع الراديوات والجرائد: " رسالة مهمة من القادة السوفييت؛ إلى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات". استطاع كمتار بشكل ما، أن يجد حصة له في هذه الرسائل! جعل كمتار تنظيمه هو الحزب كله، وصار قائد الحزب الشيوعي كله من بيروت. راح يتغلغل في علاقات كثيرة ومتشابكة مع أحزاب ومنظمات لبنانية وعربية ودولية، ويؤسس لمصالحه الخاصة، وقد خدعوا به إلى حد بعيد، حتى أن احدى المنظمات الفلسطينية استخفت بمعلومات ووثيقة تثبت تورطه بعلاقة مع الموساد الإسرائيلي صنعها عبر شخصية كردية كانت ترافق مصطفى البارزاني في أحدى زيارته لإسرائيل في الستينات، ولم يبدأوا بالوقوف على حقيقته، إلا حين لم يعد ثمة جدوى!

(30) الخروج إلى المنفى، ليس دخولاً إلى الفردوس!

لم أدخل بتلك المماحكة التي كان بعضهم يتحدث فيها عمن "كان في بغداد أيام الوجاهة والشهرة والرقص والحفلات العامرة، وفر ساعة قلع الأظافر والتعليق بالمراوح وكي الأعضاء الحساسة، وضغط الرأس بالكماشات الحديدية" كانت هكذا مقارنات تؤلمني. فأيام التعذيب وفنونه المتطورة دائماً، لم تنقطع في العراق، خاصة بعد أن استولى البعثيون على السلطة. كنت أجد الأعذار لكل من فر بجلده إلى الخارج، فبعد أن غدر بنا قادة البعث، وحطموا تحالفنا الذي أردناه مفيداً للوطن، وشنوا علينا حملة ملاحقات واسعة.كنا في جحيم متصل وبشكل رسمي، بعد أن كنا نعيشه على وجبات، وبشكل غير معلن! صار التأخر عن الخروج ساعة واحدة، يعني ملاحقة واعتقال الشيوعي وتعريضه لأقسى صنوف التعذيب والموت، وربما حجز زوجته أو شقيقته أو أمه وأولاده وإخضاعهم للانتهاك، والاغتصاب، ومع ذلك كان على سكرتير الحزب ومجموعة من القياديين وأنا معهم أن نبقى في العراق؛ علنا نستطيع إنقاذ ما نستطيع. ِلا حصانة لنا مع حلفائنا الغادرين، والسوفييت والدول الاشتراكية قد تخلوا عنا، وصارت علاقاتهم مع رجال الحكم وثيقة وعميقة، ولم تتأثر بما جرى لنا قيد أنملة، حتى أخذنا نتساءل هل صار البعثيون سوفييت؟ أم صار السوفييت بعثيين؟ لكن بقاءنا كان ضروريا، فلا يجوز التخلي عن رفاقنا في القواعد ليقتلوا وينتهكوا، ونفر نحن! بالطبع لم نكن نستطيع ان نفعل لهم شيئاً، سوى إشعارهم أننا معهم، ولم نكن هنا فقط في أيام المباهج والاحتفالات، كما يقال! حمه سور اغتنم دعوة وصلته لحضور مؤتمر الحزب الشيوعي اليوناني؛ فسافر إلى أثينا من مطار بغداد، وبقى في الخارج. وجدت أن في ذلك شيئاً مفيداً. فمن يدري ماذا سيكون موقفه لو أعتقل. فقد ينهار ويفرط بكل شيء لديه؛ فيؤذي الكثيرين! كما إن وجوده في الخارج سيسهل محاسبته وإخراجه من القيادة بصورة شرعية، وتطوير فكر وعمل الحزب! كان حمه سور في العهد الملكي، قد قضى في السجن عشر سنوات متصلة. وتلك صفحة مؤثرة تحسب له، ولكن حمه اتكأ على قضية سجنه الطويلة، وبدا كأنه يريد التعويض عن سنوات فقره وحرمانه الطويلة فمال إلى إشباع أحاسيسه، مهملاً عقله وفكره، وكلما تقدم به العمر، ازداد إقبالاً على الخمور والنساء، وعدم كتراثه للفكر أو الثقافة، حتى إنه لم يكن يقرأ جريدة حزبه! انشغل بالسفاسف، وتقريب الأشخاص الفاسدين منه، وفي مقدمتهم كمتار؛ ليحققوا له شهواته؛ ويتولوا عنه المهمات التي ترهقه. صرت اشك في استعداده وقدرته على تحمل التضحية الكبرى في سبيل قضية صعبة؛ خاصة وهو قطف الكثير من ثمارها الشهية مقدماً! كلما كان الموقع الذي سعى الشخص لأخذه كبيراً، سيما إذا صار قائداً، يقل تسامحنا معه في الامتثال لنزعات الضعف البشري، ولا نرضى له بغير التضحية القصوى في سبيل حماية من تعهد بقيادتهم، ومنحوه الثقة والإكبار! توجست خيفة، وتفاقمت شكوكي أن ما أسسه هو وكمتار في بيروت باسم الحزب؛ سيكون أشبه بشركة مساهمة لهما. سينسقان ويعملان للإجهاز على ما تبقى من الحزب بعد افتراس السلطة له. كما توقعت صار حمه سور على اتصال يومي مع كمتار، لا يكتفيان بالمكالمات التلفونية، يلتقيان في منتجعات اشتراكية على شواطئ فارنا البلغارية، وشواطئ البحر الأسود السوفييتية. وفنادق اللجان المركزية في العواصم الشيوعية؛ مستغرقين في احتساء آخر ما تبقى من كؤوس رفاهيتها الثورية، قائلين أنهما: "قادا الحزب في أحلك الظروف" أية قيادة؟ ليتهما يلهوان صامتين! كمتار لا ينفك يطلق تصريحاته الحماسية التي يبدأها عادة :"ليست لدينا أوهام" ثم تأتي طافحة بالأوهام والادعاءات والأكاذيب؛ وتجعل السلطة رفاقنا يدفعون ثمنها من أرواحهم ودمائهم! كالعادة وكما في كل الضربات الساحقة التي واجهها الحزب لم تكن لدينا في القيادة خطة تراجع منظمة. في الأقل لدرء المزيد من الخسائر واحتواء الضحايا ومداراتهم. تقهقر آلاف الشيوعيين مع عوائلهم وقد أضحوا فجأة غرباء في وطنهم، لا يحق لهم البقاء فيه؛ ما لم يوقعوا على ورقة يتعهدون فيها بالولاء كعبيد لقادة البعث إمعاناً في إذلالهم. كثيرون وقعوها كقدر لا مفر منهم. كثيرون رفضوا، وغامروا بالخروج إلى المنافي، وتشتتوا على غير هدى مع عوائلهم، أو تاركيهم وراءهم متخلين عن وظائفهم وأعمالهم وبيوتهم! الذين بقوا في الوطن، ظلوا يحاولون؛ بشتى الطرق، وعبثاً، مداراة جراحهم مستسلمين لمصير مجهول. أمسك كمتار بنشاطات الحزب في الخارج. سيطر على مراكز تجمعات رفاقنا وأصدقائنا الذين راحوا يتدفقون على دمشق وبيروت وبلغاريا واليمن الجنوبي وغيرها، بموجات كبيرة، هرباً من ملاحقة السلطة لهم! عاملهم باستعلاء وعنجهية مستغلاً آلامهم وتيههم! ازداد زخم تدفق رفاقنا وأصدقائنا على البلدان المجاورة والبعيدة؛ هائمين على وجوههم، بقايا جيش مهزوم! لا أنسى ما قاله لي أحدهم " لم نخرج إلا حين صار بقاؤنا في وطننا يعني الموت، وبأيدي أعداء لن يمنحوننا الموت الرحيم. الخروج إلى المنفى لم يكن دخولاً إلى الفردوس!

فجيعتنا كانت في إهمال قادتنا في الخارج لنا. كمتار قال لنا دون خجل: إذا كلكم خرجتم من سيبقى في الحزب، ويسير عمله في العراق؟ لم يسعني رغم حزني، سوى أن أطلق ضحكة مريرة، سألته: ولماذا لم تبق أنت؟ قال أنا شخصية معروفة. عدت للضحك المر، قلت: والسراديب القديمة، لمن بقيت؟ استثقل قادة الدول الاشتراكية وجود الشيوعيين المشردين في بلدانهم رغم أنهم ينفقون مما حملوا من نقود قليلة، ولم يكلفوهم شيئاً. سعوا بمختلف الأقنعة والأساليب؛ لإخراجهم. كانوا يخشون أن يفقدوا مصالحهم مع حكام العراق. لقد توسعت علاقاتهم الاقتصادية معهم بعد الطفرة النفطية الكبيرة. أخذ رفاقنا المشردون يتذكرون ساخرين من أنفسهم كيف أنهم طالما دافعوا عن الدول الاشتراكية، تحملوا الكثير من الأذى وهم يدعون لتحسين علاقات العراق معها، صاروا دعاة وشهود زور لمنتوجاتها السيئة، وبضائعها الرديئة. واليوم يقابلونهم بهذا الجحود. أين ما يسمونه التضامن الأممي؟ كان حمه سور وكمتار وأصحابهما يجدون دائماً المبرارات والأعذار لهم! ظلوا يرددون مصطلحات وشعارات تطبخ في ما يسمى معاهد دراسات ملحقة بدوائر عليا في موسكو، والدول الاشتراكية، وتفصل النظريات والمبادئ على قامات وكروش قادتهم. كانت بالطبع بعيدة عن هموم وآمال هؤلاء المشردين وتزيد الهوة بيننا وبينهم! بقيت في بغداد. ما أبقاني بالدرجة الأولى هو صدق ونبل الكثير من الرفاق الشبان الذين ظلوا مؤمنين بقضيتهم رغم فظاعة إرهاب السلطة وإحساسهم بأن ثمة خللاً في عمل قادة حزبهم. خدمتني ظروف خاصة للاختفاء والعمل؛ رغم كبر سني وتداعي صحتي.

استطعنا التواصل مع من تبقى من خلايا ورفاق مبعثرين هنا وهناك، اخطر ما واجهناه، هو الشك والخوف من اندساس عملاء السلطة بيننا. بعضهم من رفاقنا الذين انهاروا ولم يتحملوا العذاب والتهديد بهتك أعراضهم؛ فارتضوا العمل مع أجهزة الأمن. صرنا نشك ظلماً أو عدلاً برفاق كانوا رائعين وجيدين. كان من تبقى صامداً من رفاقنا يعرفونهم من مسحة الحزن والارتباك على وجوههم، أو من صفاقة واستهتار بعضهم ووقاحتهم. صرنا ما أن نبني تنظيماً صغيراً وبصلات فردية عادة حتى يتحطم أو يخترق، ويصير العمل معه صعباً أو مستحيلاً. كانت حملة شرسة مكثفة تلاحقنا أينما وجدنا. وصلت إلى قناعة؛ إذا قدر لقطعة ثلج أن تبقى في ماء ساخن؛ فإن تنظيمنا هنا سيبقى! عملوا الكثير لاعتقالي حتى وجدتني مضطراً للمغادرة. وصلت المنفى بعد حمه سور بما يزيد على الثمانية شهور. لا أعد ما فعلته في بغداد شجاعة أو مأثرة لي. فعلت ما اعتقدت إنه واجبي رغم ما كان يعتمل في ذهني من تهافت فكرتنا واستحالتها، كان أملي أن اصل مع التنظيم لفكرة صحيحة صائبة جديدة، ولكن تبين لي ان هذا مستحيل آخر، مع كمتار وحمه، ومن معهما!

(31) حمه سور يلقي بمهمة الإدلاء بإفادته على صحفي مسكين، والماعز السائب من بين الشهود!

على مدى ما يفوق السنتين، لم ينقطع تدفق الشيوعيين العراقيين لاجئين على البلدان المجاورة والبعيدة. تجمع كثيرون منهم في اليمن الجنوبية، احتضنهم اليمنيون الاشتراكيون بود وسخاء يفوق طاقتهم. زارهم حمه سور في عدن فقابلوه؛ يريدون منه رأياً أو إيضاحاً في ما حدث، أسبابه ونتائجه، وإلى أين سيكون مسارهم! كانوا يعتقدون أنه قائدهم ويعرف أكثر منهم سر هذه المأساة، ولديه تحليل عميق وشامل ومقنع، والأهم خطة عمل للخروج من هذه المحنة. استمع بضجر لأسئلتهم وتعليقاتهم، قال كلمة هنا، وجملة هناك، كانت يداه ترتجفان تطلبان الكحول، صار يختنق من رائحة تعرق ودموع هذا الجيش المندحر المشتت الذي لا يزال يريد ان يحارب، أو يفهم أسرار المعارك الاستراتيجية والقضايا التكتيكية التي فوق مداركه! أنهى الاجتماع على عجل متمنياً لهم طيب الإقامة، والعودة القريبة. أسرع إلى مطعم الفندق الجميل المطل على البحر، حيث في انتظاره رفاق ورفيقات من الشيوعيين العراقيين، والاشتراكيين اليمنيين، ومائدة طافحة بالفودكا والبيرة المثلجة، والأطعمة البحرية، وهناك من يحمل عود وطبلة وسيغني مرة أخرى للسلام وللشيوعية ومستقبلها الوضاء. بعد جرعات عميقة منعشة هدأت يداه، وامتثلت ساقاه لحركته وانطلق لسانه؛ فنهض يترنح قليلاً. انتحى على مائدة أخرى بصحفي شاب في الحزب. يدعى نائل مطشر، قال له:

ـ اخترتك لتكتب تقييم الحزب بكل ما حدث لنا مع البعثيين! قل كل ما يعن لك، وما يخطر على بالك. اذهب به إلى جريدة "الاشتراكي"،سأعلم الرفيق رئيس التحرير ليستلمه منك، وينشره على الفور حتى دون مراجعتي له، ثقتي بك كبيرة! المهم أن نسكت هؤلاء الثرثارين اللجوجين المطالبين بالتقييم! قال الصحفي المسكين: لو أعطيتني يا رفيقي الخطوط الرئيسية، والمحاور الأساسية. خطر له ان يقول: إفادتك في هذا الجناية المشتركة الكبيرة، لكنه قال " هذه قضية خطيرة كما تعلم!" أجابه حمه :لا وقت لدي، لا وقت لدي! وعاد إلى مائدة الشراب، وقد تألقت بالسامرين، والسامرات، انطلقت الأغاني "عمي يا بو جاكوج" "اليمشي بدربنا شيشوف" "مكبعة ورحت أمشي يمه" وتلتها الرقصات، وسمعت صيحة "الشيوعيون نصر دائم، لا خسائر، ولا هزائم!". وجد نائل، بأمر من حمه سور، إن عليه الحديث في قضايا ينبغي أن يتحدث بها أصحابها الحقيقيون، أو أن يجلس بعضهم معه؛ يشاركونه في صياغتها؛ فهي تتعلق بأرواح الناس ومصائرهم وآلامهم. مع ذلك ذهب مسرعاً إلى مقهى اعتاد أن يجلس فيها يكتب مقالاته للجريدة التي يعمل بها. استعان بقبضات قات تعلم مضغها من اليمنيين، ومضى متفكرا ماذا يكتب. ظل لساعات يمضغ ويدخن ويكتب. يمزق ويمضغ ويكتب. ثمة أشخاص يدخلون ويخرجون من المقهى يسلمون عليه أو يريدون الدردشة معه على عادة اليمنيين حين تحرك ألسنتهم لسعات القات فتحولها إلى ما يشبه مضارب الطبل. فيقطعون أفكاره! كانت أعداد من الماعز تسرح حوله. تبحث عن أي شيء تأكله. الأرض القاحلة هنا لا ينبت فيها عشب أو شوك! والهواء راكد ثقيل، تظل الماعز تدور تأكل الخرق وأوراق الجرائد، وكم ابتلعت من افتتاحيات وأخبار لم تقرأها سوى مجسات أمعاؤها! ثمة صحفيون يمنيون يتندرون؛ نحن نكتب للماعز، لأمعاء الماعز، لا أحد يقرأ جرائدنا المكررة الصور والمانيشات سوى الماعز، نحن نأكل مقالاتنا مع اللحم الرديء للماعز! قطعت مثانته المتضخمة أفكاره؛ فدخل المقهى ليتبول! عندما عاد وجد الماعز وقد تقاسمت أوراقه بعدالة تامة! في فم كل معزى ورقة من تقييمه الباكي الحزين من جهة، والمتفجر غضباً وثورة من جهة أخرى! راح يطاردها محاولاً استرداد ما أبدعت قريحته في هذه الأوراق التي لا يدري أي قدر أهوج وضعها في أفواه الماعز! استطاع أن ينتزع من الأسنان الدائرة كالآلات الحادة بعض أوراقه. كانت ممزقة ملطخة بلعاب حيوانات جائعة؛ لم تجد ما تأكله منذ أيام. ثمة ماعز برك بعيداً على الأرض، وأخذ يمضغ بهدوء. وجد نفسه يضحك؛ ويمضغ القات قبالتها، هل وجد الماعز في التقييم لذة أو طعماً شهياً؟ أحس بالفزع من نفسه ومن عالمه، ومع ذلك جلس مرة أخرى يكتب تقييمه، أو تقريره محاولاً بصعوبة استعادة ما تبقى من السطور الممزقة بأسنان ولعاب هذا الماعز اللعين. جاء التقييم اكثر سوءاً من ذي قبل. لا يعرف على من ألقى باللائمة؛ على البعثيين؟ على الحزب؟ على الظروف؟ على العرب؟ على الكرد؟ على أمريكا على السوفييت، على إسرائيل؟ على الله؟ على أم اللبن؟ ومع ذلك تنفس بعمق، عله قد تخلص من هذه الورطة. ركض به إلى جريدة الاشتراكي، لسان الحزب الاشتراكي اليمني. دفع رئيس التحرير بالتقييم إلى المطبعة على الفور. ظهر في اليوم التالي يحمل عنواناً طويلاً، كتب بحروف حمراء كبيرة: "الرفيق حمه سور سكرتير الحزب الشيوعي العراقي الشقيق: يقيم بكل هدوء وموضوعية، وبروح ثورية عالية، وبصراحته المعهودة، مجمل الأوضاع في العراق بعد انفراط الجبهة الوطنية!" وبجانبه صورة حمه سور وعلى وجهه إمارات إرهاق وتعب وخمول، أعطاها جو الجريدة والتقرير مسحة تعب ثوري مقدس! على الماعز الجائع أن يأكلها من جديد. عندما عرفنا ذلك في المكتب السياسي ردد أحد الأعضاء: عقل تهرأ بالكحول!!ماذا ترجون منه؟ قلت: أي ضمير هذا؟ أضاف آخر يدعى هوشيار: إنه ابن مدينتي، كل تحصيله الدراسي شهادة المدرسة الابتدائية، وكل خبراته العملية إنه عمل فراشاً في بلدية أربيل، قلت: ليته بقي فراشاً لأمتلك نبل الكادح وصدقه! ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه! كنت أعرف أن هذا العضو في المكتب السياسي يكره حمه سور، لا عن مبدأ أو قيم؛ بل لاعتقاده أنه الأجدر بموقعه وهو يسميه دائماً (العرقجي القحبجي)، وكلما ذكر اسمه قال أتعرفون لماذا سميناه حمه سور؟ لقد ظهر في إحدى قرى أربيل في الستينات، رجل اسمه حمه سور، وقد ادعى النبوة. غرر بكثير من النساء والرجال، تزوج من صبيات كثيرات، وجمع ثروة طائلة. حتى القي عليه القبض وأودع السجن، وهدمت صوامعه التي وجدت مليئة بالحريم منتظرات القداسة، ودنان اللوز والعسل والخمور. لم يجد كثيرون ما ينطبق على سكرتيرنا سوى اسم هذا النبي الدجال! رفيقه صديق صباه الذي يتحدث بذلك لا يختلف عنه كثيراً، لا في خلقه ولا في سلوكه! لكن الاسم الذي أطلقه عليه طمس اسمه الحقيقي.

صار اسم كمتار يتقدم على اسم حمه. كان حين يسير مع حمه، وثلة أصحابهما في شوارع بيروت يتبخترون في مشتهم منتشين متغطرسين، كأنهم هم الذين بنوها، وذادوا عنها! كانوا قد نسوا أولئك الرفاق الشبان الذين تأرجحوا على أعواد المشانق في سجن أبي غريب ببغداد. ونسوا آلاف البيوت التي أطفأ فيها النور، وخيمت عليها سحب الحزن والفقدان.

(32) دولاب هوى وهواء: إزاحة طاغية؛ بطاغية آخر!

الشيوعيون الذين جمعتني بهم سنوات العمل الطويلة، لازلت أسميهم رفاقي. كلمة رفيق بعيداً عن الاستعمال الحزبي؛ بريئة جميلة، لها نكهة الطريق، والسفر والمقهى والبحر. شوهتها أحزاب ثورية بصراعاتها السياسية والدموية، ومطامع قادتها بالسلطة والثروة. حتى الآن ورغم كل ما جرى أحب رفاقي القدامى، مبتعداً قدر الإمكان عن الهيكل الحزبي الذي جمعنا. الحزب كإطار، وهيكل معنوي أضحى شيئاً ميتاً يستدر الشفقة والرثاء، لكن الناس الذين كانوا فيه لا يزالون يثيرون شجني وعطفي ومودتي. إذا ما سميتهم رفاقي فهذا لا يعني وجود علاقة حزبية، أو حتى سياسية لي معهم. لم تعد تربطني بهم سوى علاقة إنسانية وروحية. بالطبع هذا لا يعني أنهم يبادلونني نفس الشعور، أو إنهم ملزمون بنفس المشاعر نحوي، فكل إنسان يمتح من البئر الذي لديه، لكنني وبعد هذه الفرقة والعزلة الطويلة؛ صرت أخشى من نفسي على رفاقي القدامى، مثلما أخشى من بعضهم على نفسي، فالشيوعي،: متعِب ومتعَب، صعب في التعامل، متوتر، متشنج من الداخل، يدعى الفرح والتفاؤل؛ بينما هو ينطوي على كآبة تعيسة، كثيراً ما يطفئها بالكحول والتدخين، وأحياناً الجنس، فهو يحس بشكل غامض، أن ما يناضل ويضحي من أجله، ويدفع الآخرين للمعاناة والموت من أجله؛ مستحيل تحققه، أو هو بعيد المنال تماما، باختصار شديد: الشيوعي عبثي في أعماقه وسعيه، بينما هو يعتقد، أنه ينشد أرقى نظام للبشرية جمعاء، ولكي لا نذهب بعيداً أقدم لك نفسي لا غير نموذجاً له، فقط أتمنى أن تمتلك الصبر والأناة الطويلة لمتابعتي في رحلتي الطويلة بين البيوت والقبور، ولا أريد منك أن تجد المبرر لأخطائي، ومصائبي، وحالتي كلها، فقط أرجو منك أن تفهمني!

في أول اجتماع للمكتب السياسي نعقده في الخارج بعد تلك الضربة الهائلة التي سحقت الحزب وهشمت أرواح الكثير من رفاقنا، وإن بقي بعضهم أحياءً يعانون، قلت: هذا أوان التحول، لتكن هذه المأساة هي كما يقال " رب ضارة نافعة" لم لا نعترف أمام أنفسنا، أن فكرتنا وحزبنا لم يعودا ملائمين لعصرنا ولقضيتنا، وينبغي أن نعد لفكر آخر، وتنظيم آخر! ران صمت ثقيل، كمتار صار بشكل تلقائي عضواً في المكتب السياسي، بل وأبرز أعضائه، ويجلس إلى يمين حمه، ونحن نجتمع في شقته الواسعة الفاخرة، في بيروت، وفي حماه وتحت رحمته. نظر هو وحمه إليَ بتحفز ووجوم، وجدا في ذلك دليلاً سيسوقونه ضدي على ما أسمياه ضعفي، وانهياري. قال حمه سور،بلهجة مفخمة متعالية:

ـ لو أحسنت النظر في الأفق؛ لوجدت، أننا منتصرون!

ـ عن أي أفق تتحدث يا رفيق؟ سور الصين، أم جدار الكرملين؟ دعنا ننطلق من أرض بلادنا! حدث لغط وضجيج وكانت الكلمة الفاصلة: نحن بأي حال؟ عدونا قوي وشرس، وصار يلاحقنا بمسدسات كاتمة الصوت إلى بيروت ودمشق، لا وقت للمماحكات الفكرية أو التنظيمية، دعونا نلم صفوفنا ونلعق الجراح! ... ودخلنا في دوامة تفاصيل العمل اليومي التي لا تفضي سوى إلى الركود والاستسلام للواقع، والصمت الطويل!

في بيروت حاول كمتار في البداية استمالتي، وكسب صداقتي، أو سكوتي على ممارساته. حين وجد مني انتقاداً، واعترضاً ثابتاً على معظم تصرفاته السيئة؛ أضمر شيئاً في نفسه؛ دون أن يخفي ابتسامته كلما لقيني، وتلك عادته قبل الوقيعة بخصمه. لم ألجأ إليه للحصول على سكن، سكنت وحدي شقة صغيرة في منطقة الكولا. ساعدني في الحصول عليها بإيجار معقول فنان سينمائي عراقي لجأ إلى بيروت وعمل مع منظمة مقاومة فلسطينية منذ أوائل السبعينات بعد ان اعتقل قبلي في قصر النهاية، كان يردد ضاحكاً:" نزفنا معاً فيه من جروحنا، تجمعني وإياك قرابة دموية". كان صديقي الفنان يسكن بناية تقابل معمل الكولا المغلق، فحصل لي على شقة إلى جواره في الطابق الخامس. كنت قد تركت عائلتي في بغداد، برعاية شقيقي الذي لم يكن قد انخرط في السياسة، وقد نجح في عمله التجاري، ورعى من خلاله الأسرة حتى أقاربه البعيدين. كان علي ان أواجه سلوك وممارسات كمتار. كما توقعت؛ كانت مشينة مقززة ويصعب السكوت عليها. وجدته أخطر من جلاد في السلطة؛ فهو يعمل داخل الحزب، وبصلاحيات واسعة. كان في أيامه الأولى في بيروت قد تحدث مع صديقنا الفنان قلقاً أن كل ما لديه من مال هو مبلغ، حصل عليه من بيع سيارته الروسية،(لادا)، وكان متذمراً لأنه باعها بثمن بخس "بعد هجوم السلطة علينا صار الناس يخافون شراء السيارات الروسية! هم يشترون السيارات الألمانية واليابانية!" اليوم وبعد اقل من عامين صار يتربع على ثروة، لا يعرف حجمها، لكن البعض يقدرها بملايين الدولارات!

كلما طلبت في المكتب السياسي الانتباه لحالته ووضع حد لتصرفاته الضارة بنشاط وسمعة الحزب؛ كان حمه سور يقف مدافعاً عنه ويطوي أية شكوى ضده، وقد ظل يتستر عليه ويحتضنه؛ مهما كانت جناياته كبيرة وخطيرة! قال رفيق لي في المكتب السياسي: لا تتعب نفسك إنه توأمه؛ فكثير من الصفات المشتركة بينهما، الأنانية والجهل والضحالة والتهالك على الجنس والملذات! ساهم كمتار مع حمه سور وبقوة في تبني الحزب للكفاح المسلح في جبال كردستان. ولم تجد معارضتي، وعضوين في المكتب السياسي، لهذا النهج في الصراع مع السلطة. قلنا: إذا كنتم تريدون الانتقام لرفاقنا الذين أعدموا وعذبوا وشردوا، وهم كثيرون، فالرصاص الذي سيطلق من الجبال لن يصيب القتلة والجناة الحقيقيين، سيصيب الجنود الفقراء القادمين للقتال تحت الأوامر العسكرية. والعراق صار الآن في حالة حرب دفاعية ضد إيران التي رفضت دعوته، ودول كثيرة في العالم لوقف الحرب، ولا ينبغي إضعاف الجيش فهو يدافع عن الوطن! وعلينا أن نفكر بالوطن لا بالحاكم! وإذا كنتم تعتقدون أنكم تستطيعون إسقاط النظام بالسلاح، متحالفين مع أحزاب قومية ودينية طائفية متحالفة من طرفها الآخر، رأسها أو دبرها، مع الإيرانيين؛ فكم سيكون تأثيركم في صياغة نظام حكم جديد بين هؤلاء الضواري التي ستدخل بغداد دخول المنتقمين والجائعين المزمنين على مائدة عامرة بالأطباق الشهية؟ على كل حال ستكون تضحيات الشيوعيين كالعادة من حصة الآخرين، أو مجرد هباء! لكن لكمتار وصاحبه حمه سور، حسابات مختلفة تماماً، ومرتبطة بترسبات ومصالح قومية وطائفية. كما إن كمتار حين يريد التخلص من رفيق أو رفيقة لغاية في نفسه، يدفعهما بطريقة ما إلى كردستان! استغل تشتت عوائل الشيوعيين وتمزقهم وما يعانونه من عذاب وحاجة وراح يجوس بينهم لإشباع شهواته متحرشاً بالفتيات الجميلات؛ ليوقعهن في حبائله. كاتب لبناني قال: ما يفوح من مكتب الحزب الشيوعي العراقي في بيروت ليس رائحة النضال، بل رائحة الجنس والمال! ما جعل سمعته بين اللبنانيين والفلسطينيين؛ تنحدر إلى درك مريع! سيطر كمتار كلياً على حمه سور. استقدم له عشيقته الحسناء عميلة المخابرات من بغداد المدعوة أم جنان، وهيأ لها بيتاً مرفهاً في دمشق. أخذ حمه سور يقضي لياليه عندها غارقاً في السكر والعربدة مفرطاً بأسرار الحزب ووثائقه، متسبباً في موت رفاقنا، وسحق ما يجهدون لبنائه من تنظيم سري! تذكرت ما كنت قد سمعته في بغداد من صديق مطلع موثوق، انهم حين أعلموا صدام أن حمه سور الذي كان يجلس قبالته في قيادة الجبهة قد غادر العراق، أطلق ضحكته ذات القهقهات المتسلسلة قائلاً:

ـ فليذهب هو وأصحابه أينما شاءوا، فهم أسرى عندي!

وكان يقصد الحبال السرية التي تشدهم إليه، أسرارهم وعلاقاتهم وارتباطاتهم الغامضة، وها هي أم جنان تأتي من دائرة المخابرات في بغداد، وتلف حبائلها على عنق الحزب. أحكم كمتار قبضته على كل شيء: ماليته المتنامية من معونات دول اشتراكية، وعربية تساعد الحزب لا حباً به بل كرهاً بصدام. فصائل في المقاومة الفلسطينية متضامنة مع الشيوعيين العراقيين، لهذا السبب، أو ذاك. اشتراكات، وتبرعات أعضاء وأصدقاء الحزب العاملين في الجزائر واليمن الجنوبي وليبيا والبلدان الأخرى، وقد اشترطوا عليهم أن يدفعوا ما لا يقل عن ربع رواتبهم؛ فكانت تبلغ ملايين الدولارات، موارد مطبوعات ونشاطات مختلفة، تجارة جوازات السفر المزورة. كانت موارد كبيرة، وكلها تصب في حساباته الكثيرة في مختلف البنوك ويرفض الكشف عنها! كان أكبر قدر من الأموال يحصل عليه من استيلائه على نصف رواتب العراقيين العاملين في دوائر ومؤسسات المنظمات الفلسطينية. هذه المنظمات شغلت آلاف العراقيين في دوائرها المختلفة من معامل ومدارس ومراكز صحية وعسكرية وتجارية. لحاجتها لخبراتهم، ولمساعدتهم كمناضلين أيضاً مرتبطين بالحزب الشيوعي الذي كان ممثله لديهم كمتار بيس. فكان هو من يرشحهم، وهو من يستلم رواتبهم دفعة واحدة، حيث يقتطع نصفها، بحجة إنه سيرسلها لأنصار الحزب المقاتلين في كردستان. بينما هو يضعها في حسابه السري. صار يتحكم، وهو الذي لا يستطيع كتابة جملة واحدة صحيحة، بمكاتب النشر والإعلام، رابطة الكتاب والصحفيين الشيوعيين وأصدقائهم، وبالأسلحة ومواقع تدريب الأنصار. ولكن الأخطر من كل ذلك سيطرته على مركز الارتباط بتنظيمات الداخل حيث أخذت تتعرض لاختراقات وتهتكات غامضة، وضربات السلطة الرهيبة المحكمة، فقضي على الكثيرين من خيرة رفاقنا ورفيقتنا. لم تعد أفعاله في إطار الشك، صارت واضحة جلية، إنه كان قد وظف لدى سلطات كثيرة متعاقبة. وسكوت ما تبقى من قيادة الحزب عنه صار يثير استغراب الكثيرين وسخريتهم. وبينما كانت الحرب تحرق في لبنان كل ما هو جميل، والدماء تتدفق من منحدرات الجبال، ومنعطفات الشوارع، والغارات الإسرائيلية تقذف حممها فوق الناس وبيوتهم، كان كل هم كمتار بيس؛ هو كيف يحصل على عشيقة حسناء جديدة، وكيف يفتح حساباً مصرفياً إضافياً، وكانت شهواته وثرواته في تزايد. ما أشاعه كمتار من دنس في أوساطنا زاد قناعتي بأن فكرة عقيمة مستحيلة لا تستطيع أن تنتج سوى فاسدين مثل كمتار، ولا يستطيع المضي معها سوى المزيد من التدليس والفساد! حدث هذا في الدول الاشتراكية كثيراً، ولكمتار أصدقاء كثيرون هناك! كنت أتساءل مع نفسي كيف يمكن أن ننتصر بمثل هكذا شخص صار قائدنا بلعبة ساحر ماكر لا نعرفه؟ منذ فترة طويلة وأنا اسمع بعلاقاته المزدوجة مع الكي جي بي السوفييتية، والأمن العراقي، ومع أجهزة أمن البلدان التي يحل بها. وأخرى غامضة خطيرة. ما يقوم به ليس بمعزل عن ارتباطاته القديمة والحالية. الآن أدرك: لا تصلح مع الفاسدين سوى فكرة مستحيلة، حيث لا يوم محدد للتنفيذ يسألون عنه! أي وهم وخديعة نساهم كلنا في صنعهما للناس؟

سألني قيادي في الحزب الشيوعي اللبناني كيف تحلمون بالانتصار على صدام، ولا تستطيعون الانتصار على كمتار بيس، وقد اغتصب حزبكم ومرغ سمعته في الوحل؟ وثمة من يسمي مكتب حزبكم؛ (مكب) الحزب! حدثته بما لم يعد خافيا، من صراع حوله لدينا. رويت له كيف كان الرعيل الأول من الشيوعيين حريصين على طهارتهم ونقاءهم فيحرمون أنفسهم من كل شيء، حتى البريء والمشروع منه، لكنه يخالف تقاليد الناس. كان المحقق في دائرة الأمن في العهد الملكي يسأل الشيوعي: ـ تشرب خمر؟ فيجيب ـ لا ـ تروح للمنزول، تدور قحاب، تلعب قمار؟ فيجيب ـ لا، تقرا كتب؟ فيجيب ـ نعم!! فيهب المحقق من مكانه بهيئة المنتصر هاتفاً: خلص!! أنت شيوعي! إلى أي درك انحدرنا في عهد السكرتير حمه سور، وصاحبه كمتار بيس؟ ندت عن الرفيق اللبناني ضحكة حزينة، قال:

ـ رفيق، التلوث ليس في البيئة، التلوث في الإنسان!

نهض متعجلاً واجماً، فهؤلاء اللبنانيون، لديهم ما يكفيهم من الهموم والمصائب!

عشت في بيروت صراعاً مع نفسي أأبقى في الحزب وفي موقعي القيادي رغم اهتزاز الفكرة في ذهني، لكي أنازل كمتار وأصحابه، بقوة، ووجهاً لوجه، ربما سأفلح في إبعاد شرورهم عن الحزب والناس الأبرياء الغافلين قبل أن أغدو رماداً، رغم إنهم الأقوى. أم أتنحى مؤثراً الراحة، والهدوء خاصة وإنني تجاوزت السبعين، وأعاني من متاعب صحية؟ قد يبدو غريباً إنه رغم تهالكه على المتع لا يقرب الكحول، يقول انه حاول احتسائه فغرق في نصف قدح. لديه أن أعظم المتع في الدنيا تنحصر في ثلاثة أشياء فقط لا غير؛ المال والجنس والتسلط على الآخرين، كان أحيانا يجالس من يتحلقون حول مائدة شراب، يضحك من أولئك الذين تضج بهم آلامهم؛ فيبكون أو يعربدون، يتسلى بتوجيه نصائحه إليهم، ولومهم وتقريعم وأكل مزتهم. ثار يوماً شاب يعمل في المسرح بوجهه وصاح به: أتعرف لماذا أسكر؟ أنا أشرب زجاجة عرق كاملة لكي أنسى وجهك، وها أنت تلاحقني إلى مائدة الشراب، أين أول وجهي منك؟ مسكينة بيروت، أجمل مدن الدنيا، صارت اليوم حاوية لكل من أزاحته الأرض!

(33) ضربوا حوله طوق العزلة؛ بينما الروح تبعد في تجوالها!

في اجتماع للمكتب السياسي طلبت التحقيق في وضع كمتار، خاصة القضيتين الأساسيتين: سيطرته على مركز الارتباط في الداخل، لماذا كل من يذهب من رفاقنا إلى الداخل يعتقل عند الحدود، كأنهم كانوا ينتظرونه؟ ماذا تعمل أم جنان في دمشق؟ الثانية: بأي حق يستولي كمتار على نصف جهود ورواتب رفاقنا وأصدقائنا، والتي تبلغ في العام ملايين الدولارات. إضافة إلى الأموال الأخرى؟ بينما رفاقنا وأصدقاؤنا الآن يتضورون من العوز، حتى أن بعضهم وجد إنه لا يستطيع توفير الملابس في الشتاء أو الدواء لأطفاله. التزم حمه سور الصمت حول عشيقته، وأرغى كمتار وأزبد وتفوه بكلمات نابية، ثم فجأة سكت وراح يوزع الابتسامات، وهو كما أعرفه حين يصل إلى حالة الاسترخاء؛ يكون قد اضمر شيئاً فظيعاً في نفسه. حين وجدني لا زلت أصر على أن يرد على أسئلتي انسحب بهدوء. حتى إنني تصورته قد ذهب إلى الحمام، لكنه لم يعد للاجتماع. حمه سور قال وهو لا يزال يعاني من اثر سكره، والشبق الليلي: كمتار بيس مفخرة الحزب، والوحيد القادر على إثبات وجوده في السوق الثوري العربي الممتدة دكاكينه من بيروت إلى ودمشق! كان حمه سور وبعض أعضاء المكتب السياسي، ممن وجدوا مصالحهم أفضل من التمسك بمبادئ وقيم تجلب لهم المتاعب، هم الأقوى؛ فصاروا رصيده الشرعي وارتضوا لأنفسهم ان يكونوا ذيولاً وتوابع له. كان يقتفي خطى صدام وبشكل مضحك، صار يعرف نقاط ضعف اتباعه والمحيطين به، فهذا يرسل له ابنه أو ابنته للدراسة في دولة اشتراكية، وذاك يدبر له وظيفة شكلية براتب جيد في إحدى المنظمات الفلسطينية، أو في سفارة لليمن الجنوبية. وآخر يسلمه مفاتيح إحدى شقق لهوه الجميلة! فوقفوا إلى جانبه! بقيت أنا ومعي عضو أو عضوان من المكتب السياسي؛ نطالب بأن يكشف عن حساباته لنضعها تحت إشراف لجنة نزيهة منتخبة، ومضيت مطالباً بأن يحاسب على ما ألحقه بالحزب من أضرار ومصائب وإرجاعه إلى حقيقته: شخصاً سيئاً وضاراً؛ لا يصلح أن يكون بيننا! صار آخرون في القيادة معنا يطالبون على استحياء وخوف بالحد من مفاسده وطغيانه بنقله إلى مهمة أخرى في القيادة، حدث ذلك فقط حين صار يمس مصالحهم الخاصة! انتهى الاجتماع دون اتخاذ أي إجراء؛ ينهي مصيبة الحزب بكمتار! وبالتأكيد ركض حمه سور إليه، وابلغه بما دار في الاجتماع.

وجدت إن من الصعب جداً إزاحة كمتار عن موقعه، وتغيير فكرة الحزب التي بدونها لا يعود هذا الحزب بل حزباً آخر. قررت التنحي! تقدمت بطلب تحريري؛ كي يعفونني من مهامي وموقعي الحزبي. فلم يرد حمه سور، وكتلته عليه. ظلوا يماطلون، لا يريدون قبول استقالتي، ما أثار شكوكي، أنهم يدبرون لي أمراً آخر، وصح توقعي، فجأة طرحوا قضية موقفي في المعتقل. رغم ان ذلك كان صدمة آلمتني كثيراً، لكنني لم استغربه، وجدته منطقياً تماماً في مسار صراعي مع كمتار وحمه سور!

كانت دعواهم علي؛ إن موقفي عند اعتقالي في قضية "حميد"؛ كان ضعيفاً، وسيئاً، وإنني كنت قد انهرت واستسلمت للمحققين في قصر النهاية، وفرطت بأسرار الحزب، وعرضت الكثيرين للاعتقال والموت. أدركت أنهم انتقلوا للهجوم عليّ في قضية خاسرة بدلاً من يدافعوا عن أنفسهم في مطالبتي بتطهير الحزب من مفاسدهم! ومع ذلك؛ سألتهم: إذا كانت لديكم هكذا تهمة خطيرة؛ ما الذي جعلكم لا تثيرونها سوى الآن؟ لماذا خبأتموها طيلة هذه السنوات التي استغرقت عمر الجبهة مع البعثيين الذي قارب الخمسة أعوام، ووقتاً آخر في المنفى؟

كانوا يتمتمون: سنتحدث في ذلك في اقرب اجتماع للمكتب السياسي، ثم يلتزمون الصمت! كنت حال خروجي من السجن قد كتبت لهم تقريراً طويلاً ومفصلاً بيدي المصابة المرتجفة آنذاك من التعذيب؛ وصفت لهم كل ما تذكرته، أو وجدته مهماً من الذي حدث لي في المعتقل، تحاشيت تفاصيل التعذيب والإذلال والرعب كي لا أزعجهم أو أخدش مشاعرهم. في اجتماع المكتب السياسي، سألت كيف تتنكرون لذلك؟ ألم يكن حمه سور وفي أكثر من اجتماع في المكتب السياسي يقول: نكبر صمود رفيقنا يونس ونحيي شجاعته؟ إذا صح إنني قد خنت الحزب، وزودت العدو بأسراره حتى بعد خروجي من المعتقل كما تقولون، فأنا استحق عقوبة الموت لا العزل فقط، اليوم تأتون لمحاسبتي! من يحاسب؟ من؟ أين هي المحكمة الحزبية الموضوعية العادلة؟. أخذوا ينهشون لحمي أمامي. اصدروا قرارهم بالأكثرية بإخراجي من قيادة الحزب، وتنزيل درجتي الحزبية إلى عضو عادي! صار واضحاً لي، أنهم لم يخرجوني بإرادتي من قيادة الحزب كما طلبت في رسالتي لهم، بل أخرجوني بإرادتهم لكي يلطخوني بعار الخيانة! بذلك يسكتون من يتحدث عن مباذلهم ويتصدى لتصرفاتهم! كان قرار المكتب السياسي قد أبقى على عضويتي في الحزب، لكن كمتار وأتباعه راحوا يروجون بين شخصيات وقياديين في أحزاب أخرى عربية في بيروت ودمشق وحيث ما أكون معروفاً، أنني خائن، وأنهم كانوا مخدوعين بي، لذا طردوني من الحزب، وهم يحذرونهم مني. ابلغني صديق من حزب تقدمي عربي في بيروت أنه قال لمن جاءه بذلك: لو كان الرفيق يونس قد سكت على ممارسات وسلوك كمتار؛ لبقيتم تقولون عنه كذي قبل؛ "الرفيق البطل الذي واجه الجلاوزة بشجاعة نادرة في قصر النهاية!"

ومضوا بحماس وحبور يشهرون ويطعنون بي في منظماتهم وتجمعاتهم! متفننين في حرق اسمي وسمعتي. كنت أشم رائحة شواء لحمي والتزم الصمت، لكنني ازددت عناداً. لم أغادر الحزب كما أرادوا. قررت أن أبقى في داخله حتى أثبت براءتي ونقائي، وأكشف للناس حقيقة هؤلاء. حميد اغتصب رفيقاً واحداً؛وكان بشعاً جداً، هؤلاء اغتصبوا الحزب كله، ولا تزال جنايتهم تؤذي الأبرياء، خاصة شهدائنا! كيف سأحقق ذلك؟ فأنا لا طاقة لي على العمل التنظيمي، أو السياسي بعد الآن، ليس فقط لأن صحتي أخذت تخذلني؛ بل لقناعتي بعدم جدواه مع هؤلاء المتمرسين بالمكر والزيف. خطر لي أن أكتب مذكراتي وأنا داخل الحزب لا خارجه. وأن أغوص في تفاصيل ما حدث لي معهم, عندما كنت في العراق، وفي أيام الهدوء النسبي، كنت أطلب التنحي عن موقعي القيادي لأبقى في الحزب عضواً عادياً بسيطاً، متمنياً ان يتنحى رفاقي المسنون عن العمل ليفسحوا المجال للشباب يأخذون مواقعهم في القيادة، ويغذون الحزب بطاقاتهم، وأفكارهم الجديدة، لعل ثمة انقلاباً في الفكرة يحدث على أيديهم، ولكن الرفاق المسنين كانوا يقولون" أنت يا رفيق تجمع بين حكمة الشيوخ، وحيوية الشباب، وهذا ما يحتاجه حزبنا، وهو يقطع خطواته الأخيرة نحو النصر" كانوا يقصدون أنفسهم اكثر مما يقصدونني؛ ليتمسكوا بمواقعهم القيادية، بما تتيح لهم من لذائذ ومتع، وأبهة فارغة، وسفرات لأماكن الاستراحة والترفيه في موسكو، وغيرها من عواصم الاشتراكية التي أنا أيضاً تمتعت فيها مرات كثيرة في السنين الخوالي مع قادة حزبيين من شتى أنحاء العالم، وأحس بالخجل والعار كلما تذكرتها! ما كنا نرى سوى جناتها وحورها وأنهار خمرها ولبنها، أما أسوار السجون الكبيرة المحيطة بالشعوب، وشظف عيشها وذلها؛ فهي في نظرنا من أكاذيب الرأسمالية المحتضرة! مهما كبرنا، كنا كالأطفال تغرينا وتسكتنا شوكلاتة الشيوعية! وأنا أيضاً لدي جنايتي، كم أنشد الموت والموتى!

لم يقتصر الأمر علي. قاموا بانقلاب سري أطاحوا فيه بنصف أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي, والكوادر والأعضاء المؤيدين لهم، وهؤلاء جميعا عرفوا بنزاهتهم وتفانيهم وماضيهم الناصع. وتطلعهم لتبني فكرة جديدة. جاءوا بأعضاء في القيادة مستعدين لمسايرة حمه، وكمتار بيس والسكوت على مباذلهما. بذلك ترسخ النهج المنحط للحزب تماماً، وسقطت الثمرة الفاسدة، في اليد الملوثة! صار كمتار السكرتير الفعلي للحزب، وحمه السكرتير الرسمي، يجري خلفه لاهثاً كي يزيد راتبه الحزبي لينفق بسخاء على بيته في دمشق، ومتطلبات عشيقته عميلة المخابرات وحفلاتها الليلية، والتي كانت تدخر راتبها المخابراتي وتجبر حمه على امتصاص أموال الحزب!

انتصروا علي! هكذا خيل لهم! ومضى كمتار بيس يتحرك بشكل محموم مستغلاً علاقاته مع المنظمات الفلسطينية المسيطرة، فأفلح في إبعادي عن بيروت. أقمت فترة قصيرة في دمشق، اقترح علي رفاقي الذين أخرجوا من الحزب أن أكون في مقدمتهم لإعادة بناء الحزب ونزع الشرعية عن تنظيم كمتار في بيروت. قلت لهم: تستطيعون أن تقوموا بذلك بدوني فأنا لم يعد لدي لا العمر ولا الطاقة ولا الأمل في ذلك. وما جدوى إعادة بناء حزب على نفس فكرته العقيمة المستحيلة؟ قررت ان أتمسك بوحدتي، أعود لذاتي؛ أراجعها وأستبطن مكنوناتها القديمة. لا حقني كمتار إلى هناك! كان قد أقام علاقات وثيقة مع أعلى المسؤولين في أجهزة الأمن والمخابرات في دمشق. كان يهمس لأصحابه: تستطيع أن تضع ضابط المخابرات هنا في جيبك بكمشة دولارات! فأغدق على ضباط كبار في المخابرات والأمن الكثير من الأموال والهدايا الثمينة ينتقيها بخبرة المتمرس لزوجاتهم وعشيقاتهم كلما سافر إلى باريس أو لندن! صار نفوذه لديهم حاسماً، وكلمته تقارب الأمر؛ حتى صار البعض يسميه (والي الشام)! لكي أبقى في دمشق يجب أن أحصل على تزكية من كمتار بيس، وهو يقول لهم " إنه عزل من موقعه القيادي لتعاونه مع السلطة في بغداد". جاءني ضابط منهم لينذرني: الأفضل لك أن تغادر دمشق، وإلا نضطر لاعتقالك؛ فلدينا معلومات عن علاقة لك مع أجهزة الحكم في بغداد! لم يكن ثمة مناص من صعودي قلعة أربيل، انصعت لقرار قيادة الحزب بإدخالي إلى كردستان، استمر الحزب يدفع تكاليف سكني وعيشي القليلة كذي قبل.

رغم أن الفكرة التي جئت من أجلها إلى الحزب قد تهشمت في أعماقي، وتكشفت عن هباء, ورأس الحزب اكتنفه عته وجنون، والحزب كله صار تحت سلطة كمتار، لكن ثمة أسباباً جعلتني لا أتسرع في الخروج منه، بعضها غامضة، كقولي لنفسي إنه خيط يربطني برفاقي الشهداء، فأنا أحد الذين دفعوهم للاستشهاد، فكيف أتخلى عن بيت دعوتهم إليه؟ وربما أرواحهم لا تزال تحوم حوله، وإن طول الإقامة في تنظيم مهما لقيت فيه ومنه، تجعل له جاذبية البيت القديم ورونقه، مهما كان رأينا فيه، ثم أخيراً إنني لا أريد أن اتركه لكمتار وعصبته، وأحيانا ما يشدنا بغموض لشيء يصير أقوى من الأشياء الواضحة التي تفصلنا عنه! على أي حال، بقي ضميري مشدوداً بتلك الخيوط الواهية أو المتينة للحزب، وظل الماضي يملأ أعماقي، ويتفجر في روحي، وعقلي كل يوم، بل كل لحظة!

حللت في أربيل، كنت أعرف بعض قادة الكرد، وقد كانت لي لقاءات وأحاديث معهم عندما كنت لا أزال عضوا في المكتب السياسي في بغداد وكردستان، وفي بيروت ودمشق، ولكنني الآن عضو عادي، لا أسعى لهم، ولا يسعون إليَّ.

لم يحزنني إنني ابتعدت عن قيادة حزب أنا آخر من تبقى من بناته الأوائل، فذلك طبيعي وضروري، ولم ترهبني محاولتهم ثلم سمعتي، فأنا واثق من متانتها، آلمني إنني أخيراً خسرت معركتي مع حمه سور وصاحبه كمتار، قبل أن أستطع أبعاد شرورهما عن الحزب والناس!

أكثر من ثلاثين سنة وحمه سور يتربع على قيادة الحزب ويحاول أن يقنع الناس أن حكام بغداد قد استأثروا بالسلطة لسنوات طويلة، ما كان يريد التخلي عن موقعه كقائد رغم أن الشيخوخة وكآبة الكحول والجنس أثقلت لسانه وجعلته يلثغ كمن يعاني من شلل دماغي.أخيراً تدخلت خصيتاه فجأة وحلت المشكلة. فقد دب بهما فجأة ورم سرطاني استدعى خضوعه لعلاج طويل، استوجب تنحيه عن كرسي السكرتير! لم يتقدم كمتار بيس ليحل محله، هو في محله أصلاً، لا يستطيع أن يكون السكرتير رسمياً، فضائحه وآثامه تسد عليه الطرق، ظل في مكانه، فقط غير القناع! جاء براضي سعيد، شخصية ضعيفة هزيلة ليكون السكرتير الرسمي، كثيرون قالوا إنه لم يعد بحاجة للحزب، سيستثمر الأموال الطائلة التي جناها من دماء الشهداء في الأعمال الخاصة، فقد صار مليونيراً! هل سمعتم أن راتب التفرغ الحزبي يمكن أن يكون ملايين الدولارات؟ لو يعلم الرأسماليون بذلك؛ لصاروا شيوعيين أولاً؛ ليصبحوا رأسماليين أكثر مالاً!

 لم استغرب مواقف رفاق جهدت في تكوينهم ورعايتهم، تواطئوا أو صمتوا حيال ما وقع لي، بعضهم قفز إلى مركب كمتار وصاحبه. رأيت في حياتي الطويلة الكثير من العقوق والغدر، لم أعد استغربه، حتى حين يأتي من رفاق كنت أتوسم فيهم الصدق والوفاء، لعنة السلطة لا تظهر رائحتها وسمومها على الكرسي فقط، إنما في الطريق إليه أيضا، حتى ولو كان سراباً! فرحت كثيراً برفاق شباب جاءوني إلي بيتي في القلعة لا معزين بل كمهنئين لخروجي من ثلة قادة متفسخين! وما زلت أرى فيهم حتى اليوم رغم تباعد زياراتهم نواة فكرة أخرى تواصل طريق الثورة والتغيير الذي لا يصح وجود إنساني بدونهما!

مضى على ما وقع لي في بيروت قرابة العشرين عاماً، وأنا الآن قاربت التسعين. حين يتقدم بنا العمر، نكتشف إننا وحدنا، وإن كل الجموع البشرية التي قدناها، أو قادتنا لم تعد بحاجة لنا، ونحن أيضاً لم نعد بحاجة لها. خطوة صغيرة تفصلني عن القبر، هي كل عالمي الآن، لا أريد ان أعبرها راكضاً، أريد أن أفهمها، أتعرف على خريطتها المعقدة. أرى في قراراتها الأسرار التي لم يتح لي أن فهمها، خطوة قصيرة هي كل ما تبقى، أريدها أن تكون لي وجدي. أليس هذا من حقي؟ في القلعة ارتحت لعزلتي، وجدت حقائق كثيرة اختفت عن ناظري؛ وأنا في حومة العمل والركض الحزبي، كنت ألهث فيه حتى لو كنت جالساً، ذقت طعم الصمت، كان منعشاً كحلم قديم يعود إلى القلب بعد سنوات طويلة! وجدت أن علي أن أنسى تفاهات كمتار بيس وحمه سور، وأتأمل نفسي، وأعماقي،جراحاتها، وبقايا آمالها. كم شغلنا هؤلاء المستغرقون بالدناءات والأشياء المبتذلة، كم في ماضينا وجذورنا من حقائق عظيمة هي ما ينبغي أن تأخذنا للتأمل والتفكر والحلم. أنا في الأيام أو الساعات الأخيرة من عمري، ولم أعد أكترث، بما يدفعونه إلى قمة الهضبة من عفن المستنقع!

لكنني لا أغلق بابي بوجه من يأتي إلي، حتى ولو يأتيني لائماً أو مقرعاً ومحاسباً، لا شيء لدي أخفيه أو أغالط في الحديث عنه، جاءني رفيق قديم صاعداً القلعة سائراً على قدميه، كان يلهث قال ضاحكاً: الأجر على قدر المشقة، صرت يا رفيقي مثل قديس المعبد، والوصول إليك حج مغرٍ، ولا أدري هل سيكافئني الله عليه بالجنة أم النار! تحدثنا طويلاً، قال أنت محظوظ إذ عزلت في أعلى الجبل، أنسيت المستنقع؟ ورحت في ذهول كدت أنساه فعلاً، كان ذك في سجن باب المعظم، سجن بغداد المركزي، أواخر الأربعينيات، عزل شيوعيون مجموعة من رفاقهم الشيوعيين في حجرة أسموها المستنقع، قاطعوهم لا يسمحون لأي منهم أن يكلمهم، أو يقترب منهم، أو يمد يد المساعدة لهم حتى إذا مرض أحدهم أو احتاج لشيء ضروري. فقط يسمعونهم أناشيدهم الثورية، ولعناتهم، ووصمهم بالخيانة والعار، اتهموهم انهم وشوا بمكان اختفاء فهد وشهدوا عليه، وكانوا السبب في إرساله إلى المشنقة. عندما يقال لهم: إقامتكم لرفاقكم سجن داخل السجن أمر فظيع،وقسوة شديدة، ولا تليق بالمناضلين! يقولون هذا قليل ليتنا نستطيع أكثر! صار العزل والنبذ تقليداً يمارسه الشيوعيون مع كل من يختلف معهم أو يتركهم! كانت إدارة السجن تشجعهم على ذلك، ويضحكون عليهم "الشيوعيون قبل ان يستلموا السلطة صارت لهم سجون ومعتقلات، ماذا يفعلون لو استلموا السلطة؟ كم سيفتحون من السجون وينصبون من المشانق للمختلفين معهم؟" وتتعالى قهقهات الشرطة! صارت لديهم خبرة عميقة في عزل رفاقهم ومحاصرتهم ولأتفه الأسباب! هم كالمتدينين المتعصبين يعتقدون أنهم أفضل البشر، عمالقة زمانهم، وإن فكرتهم مقدسة كلية القدرة، كل الحقيقة لديهم، ولا حقيقة في مكان آخر، هم كل العدل، ولا عدل في مكان آخر، وهذا الهوس هو أساس كل طغيان وكل دكتاتورية!

هذه حكاية عزلي ومحاصرتي ولو دخلت في التفاصيل لاحتجت لسنوات، والعمر قارب الانتهاء! بعض ما يسري عني إنني في قلعة موغلة في قدم، لم تعد تنتمي لأحد رغم كثرة الأيدي التي تحاول جذبها، كلما ضيقوا علي الحصار تبعد الروح في تجوالها ونزهتها في الأعماق. وفي القلعة تنسكب السماء كما النبيذ العقيقي في قدح من الكرستال، وطبعا تمس القلب نشوة من هذا السكر الكوني!

-         (34) لدينا شهداء بالجملة والمفرد، والأسعار تتناسب عكسياً مع أسعار النفط!

لاحظ يونس أن بعض الشهداء غضبوا حين عرفوا لماذا نهضوا من الموت، سمع أحدهم يقول "أما كفانا أننا متنا ونحن في ريعان شبابناً محترقين بالسياسة، لم نذق من الحياة طعم يوم واحد، لم نعاشر امرأة، لم نذق كأس خمر، لم نشاهد فيلماً سينمائياً ممتعاً، ثم تأتون لتوقظونا من نعاس الموت الجميل لنخوض معمعة، وجدل السياسة." آخرون لم يعترضوا على إيقاظهم قالوا " كنا نرى كوابيس حقاً " وحين نهضنا توقعنا أن نرى وجهاً حسناً! ولم نتوقع أن نرى كابوساً آخر : "السكرتير والبيرماني والآخرين ".

تقدم رجل من عالم الأحياء، لشهيد كان يقف غير بعيد عن القادة المعتقلين:

ـ لماذا ثرتم على قادتكم وسمتوهم هذا الذل والهوان؟

رد الشهيد بنبرة واضحة وقد اعترت هيكله العظمي رجفة غضب:

ـ هم الذين تحرشوا بنا! كنا نائمين في قبورنا بسلام، قتلونا دون جدوى، وسكتنا عنهم، لكنهم جاءوا اليوم لينقلوا قبورنا، ويستعملونا مرة أخرى من أجل مواقعهم وأمجادهم الفارغة، فكان لا بد ان ننهض لنصفعهم، ونقول كلمتنا بهم من أجل من لم يقتلوا بعد!

ـ ولكن سمعنا أنكم كنت تحضرون لثورتكم منذ زمن طويل.

ـ أجل، كان هناك كثيرون بيننا متألمين غاضبين لا يستطيعون الاستغراق في النوم الأبدي، لما جرى لهم، وللوطن، يتحينون الوقت المناسب لثورة يعلنون فيها الحقيقة، لكننا في معظمنا كنا قد متنا واسترحنا من أعدائنا وقادتنا معاً، واستسلمنا لصمت القبور!

هز الرجل رأسه متحيراً، مضى محني الظهر وكأن أثقالاً أخرى فوق موت أحبته قد حطمت كاهله!

كان كثير من الشهداء مذهولين لهذه اليقظة المفاجئة، عودة للحياة وإن كانت رغم ما يتسرب من شعاع الشمس ما تزال تحت سقف غامض، أهو سقف القبور الدارسة المنسية؟ أم سقف قاعة في حياة قصيرة كحيات أهل الدنيا المساكين للأحلام والوعود في انتظار عقيم؟ سجن أبدي غابر مهجور؟ درس طويل آخر بلا عبرة ولا معنى؟ بيت كبير للفرح والأعراس تحيطه حقول من الياسمين والقرنفل غير المرئية؟ معميات، ومجاهل ولكن لا باس من عيشها، وانتظر يا يونس! تأمل، وسترى!

تهللت وجوه الكثيرين وهم يرون أمهاتهم وآبائهم وأصدقائهم وأخواتهم وزوجاتهم، وتمنوا لو كان أبناؤهم وأطفالهم بينهم، لم يفهموا سبب عدم مجيئهم وهم لباب قلوبهم! قالوا لمن استشهدوا قبل فترة قصيرة،"لم نشأ أن نعرض الأطفال لحزن المقابر" رغم إنهم كبروا سنوات، وقالوا لمن استشهد قبل فترة طويلة وكبر أطفالهم وأخذتهم مصائر شتى، "أنهم مشغولون"، بينما معظمهم قتل في الحروب، أو غيب في السجون انتقاماً من آبائهم. المقطوعون من الشهداء ممن لم تحضر له أم أو أب أو أي من ذويه، لكونهم موتى، أو أنهم لم يعلموا بموت أبنائهم حتى الآن ويحسبونهم مع الغائبين والمغيبين والمنفيين في الخارج، كانت فرحتهم ناقصة وجلة، فيها خيبة أمل، وترقب غامض حزين، يغرفونه من سواقي فرح تدفقت بين أيدي شهداء رفاق لهم جاءهم أحبتهم.

نسى بعضهم أهله وأحبته المنقطع عنهم طويلاً، وراح يتساءل ما معنى هذه اليقظة الأقرب إلى حلم حزين قلق يزيده اضطراباً هذا الجدل غير المفهوم بين الشهداء وقيادة الحزب التي جاءتهم معتقلة! أحد الشهداء قال كلمة جعلت من سمعها يتفكر في هدف وجدوى هذه اللحظة التي تفجرت بين قبورهم، معلقة متأرجحة كنغم حائر بلا كلمات: " شيء رائع أنكم بغضبكم فتحتم القبور، ولكن لا تبددوا وقتكم الثمين، استمتعوا بلقاء الأهل والأحبة ورائحة الحياة الدنيا، لا تسمحوا للحزبين من المنتفضين، أو قيادة الحزب أن تجركم لمهاترات، وتفسد موتكم كما أفسدت حياتكم!

قال شهيد متحسراً:

ـ قدر علينا أن لا نتمتع برفقة أهلنا وأحبتنا لا في الحياة، ولا في الممات!

جاءه صوت من هيكل عظمي آخر وهو يقهقه:

-         ـ كتب علينا الانضباط الحزبي في الدنيا والآخرة!

مع كل الهول الذي صادفه يونس هذا اليوم، ظل يرى أنه يستطيع التعرف على الشهداء من هياكلهم العظمية، ذلك أمر أدهشه في نفسه. كان يعرف أن ذلك اختصاص مختبرات علمية، لا جامعي ذكريات، وفراشات محترقة في الشموس مثله، ما هذا؟ إنه لا يتعرف عليهم من أصواتهم، فأصواتهم هنا هي غير أصواتهم في الدنيا، إنها تتفجر من ذرات عظامهم، تصعد من نواة الأرض وزلازلها القديمة المفجرة للأنهار والحقول المزهرة. لا علاقة لذلك بطول الهيكل العظمي أو حجمه، فهياكلهم وقد دارت في تراب النسيان، صغرت أو كبرت بالتحات والتراكم كحصى أعماق البحار! ثمة إشارات وإمارات كثيرة تقدح كالشرر حول عظامهم تجعله يتعرف عليهم، مستعيداً تلك الكثافة الروحية الدافئة التي هي شلالات من الذكريات والأشجان والأنغام الخفية الحزينة تربطه بهم، فيعرفهم من نبض خفي لا يدرك كنهه ثم يروح يستعيد حكاياتهم وتواريخهم، مواقفهم ومواقعهم النضالية الفاصلة ولحظات استشهادهم المترعة بالصدق والبساطة أيضاً، أو بالغش والكذب وموت الصدفة! أو بالورطة والندم غير المجدي في آخر لحظة، يتذكر أن بعض الشهداء في حياتهم معه كانوا يعجبون ويشيدون بذاكرته القوية. كان حين يسرد لهم حادثة عن اجتماع حزبي قيادي هام حصل قبل أربعين عاماً في بغداد، يتذكر تاريخ ووقت الاجتماع، وحالة الطقس آنذاك، وأشكال وألوان ملابسهم، بل يتذكر رقم سيارة التاكسي الذي استقله رفيق قيادي له، وقد حفظه لأنه خشي أن يقع له حادث مدبر. ذلك في سياق كل التحولات الأليمة التي انتهت إلى ما نحن عليه اليوم. لكنه الآن لا يتذكرهم بحافظته الباهرة بل بتجلياتهم الإنسانية البعيدة عن التحزب، وكل زوايا الأفق الضيق الأخرى. لمح من بعيد وجه شهيد تذكر كيف كان هو بين مشيعيه إلى قرية في أعلى الجبل: أتذكر ذلك المساء المعتم كيف جلسنا عند القبر نتحدث كأنما لنؤنس رفيقنا الذي سنتركه وحيداً في أعلى الجبل، أو بالأحرى لنؤنس أنفسنا التي تزداد وحشة كلما ودعنا رفيقاً إلى قبره قال أحدنا:

ـ ألا ترون كيف يتساقط الشهداء في الحرب مع إيران، يقولون أن الجانبين يستهلكون جنوداً أكثر من الرصاص، وأرغفة الخبز!

قال آخر:

ـ الخميني برفضه إيقاف الحرب، وإطالتها كل هذه السنوات، جعل الكثير من العراقيين يتسابقون للاستشهاد!

قال آخر:

ـ صدام الذي لا يمتدح أحداً، يكيل المدائح للشهداء في هذه الأيام، فهم لم يعودوا يخيفونه أو يهددونه بشيء، فقد صمتوا إلى الأبد!

قال أحدهم بجرأة أذهلتني :

ـ هذا يحصل في حزبنا أيضاً!

ـ بل في كل مكان في الدنيا، ثمة من يحض على الموت؛ طالماً إن الميت ليس هو أو ابنه!

قال آخر بنبرة محتجة:

ـ لكن لا بد من استنهاض الهمم، أتريدون مديح التخاذل والجبن؟

ضحك الشاب، قال:

ـ بل أمدح الجبن، فأنا لم آكل قطعة جبن هنا منذ سنتين!

ـ أتسخر؟

ـ لا! هذا موت لا ضرورة له، لو امتلك صدام العقل ولم يقدم على الحروب، ولو امتلك الخميني القلب وأوقف أحقاده، ولو امتلكت المعارضة العقل والقلب، وتوقفت عن حرب العصابات غير المجدية مع الجيش؛ لما احتجنا لهذا العدد الهائل من الشهداء!

ـ ولكن شهداؤنا يموتون بإرادتهم، فلم هذا التشويش؟

ـ لابد من تسجيل اعتراضنا، حتى فئران المختبرات لم يعد مقبولاً أن تموت، صاروا في أوربا يخرجون من أجلها مظاهرات ومسيرات!

أخذنا صمت شائك، صرت أتأمل قطرات الندى تتساقط من الأشواك كالدموع، قال الشاب بصوت فيه رعشة جارحة:

ـ بعد أن نفارق هذا الجبل، من يأتي لزيارة قبر رفيقنا؟ حتى لو كانت أمه ما تزال على قيد الحياة، كيف تستطيع تسلق هذا الجبل لتلقي نظرة على القبر؟

قال آخر :

ـ ستزوره الطيور والنجوم، وعبير وردة وحيدة مثله على قمة الجبل!

وكنت أعرف أنه كلام شعر وعزاء وتسرية، ولتطمين نفس معذبة محاصرة! وتشعب بنا الحديث إلى معنى الشهادة، قال أحدهم:

ـ أنها عطاء بلا حدود!

قال آخر:

ـ أنها غباء بلا حدود!

قال آخر:

ـ بل هي مزيج من هذا وذاك، إرادة خاصة صادقة طيبة، وخضوع وخجل من الآخرين!

والتفت إلى يريد رأيي قلت:

ـ إنه اضطرار، أتمنى أن لا يصل الإنسان إليه بخفة وطيش، ولا يكون حالة دائمة في حياتنا!

وعجبت من نفسي، كيف قلت رأياً سريعاً، توليفة حزبية سياسية أيضاً، في شيء هو من أعقد وأمر الأشياء في الحياة!

أضاف قائلاً:

ـ انظروا رفيقنا الذي واريناه الثرى قبل قليل، أعرفه جيداً، ولد وعاش فقيراً، لم يكن يملك من أرض العراق متراً واحداً، أمه تسكن خربة بإيجار، ومع ذلك طردوها منها كما سمع في آخر أخبارها، ها هو يقدم للوطن حياته وشبابه، لم لا يكون النضال والعمل من أجل الوطن وفق عقد مكتوب عادل، يعطي بقدر ما يأخذ، لم هو صفقة خاسرة مجحفة للشهيد؟

بقينا صامتين، كان ما يقوله صحيحاً، بنفس الوقت للوطن وللناس الغائبين صوت يلهب الهمم ويستلب العقول. أخترق الصمت الحزين صوت طائر معروف محلق، نادراً ما يعلو فوق جبل. قال شاب كان صامتاً بيننا طيلة فترة التشييع والدفن السريعة:

ـ لم يكن الشهداء في حياتهم بلا نواقص وأخطاء ونقاط ضعف، إنهم بشر، والشهادة لا تتطلب الكمال لكنها قد تمنحه، وهذا محير!

أجابه القائل بغباء الاستشهاد:

ـ تمنحهم الكمال بعد الموت، وولو منحتهم إياه في الحياة لتريثوا؛ كي تثمر حياتهم أكثر!

أضاف رفيق كان صديقاً حميماً أيضاً للشهيد الذي دفناه قبل قليل :

ـ الشهادة هي التفجر الأخير لصدقهم، ذلك الصدق الذي هو حب هائل، لم يجد الفتاة المناسبة التي تقابله بمثله!

وفهمنا ما يقصد فقد كان الشهيد يغني دائماً حبه الخائب!

عاد الرفيق الذي بدأ الحديث ليقول :

ـ من الغريب أن أكثر الشهداء الواعين لشهادتهم ما كانوا يحتاجون للاستشهاد ليثبتوا صدقهم!

عقب المتحدث بجرأة عن الاستشهاد:

ـ بينما أكثر الذين ثمة شك يتعلق بأرواحهم وضمائرهم وأخلاقياتهم؛ هم أكثر الناس دعوة للاستشهاد، ثم يفلحون في التهرب منه، وما زالوا هاربين من وجه الشهادة!

قال آخر وهو يطلق زفرة مريرة فوق القبر:

ـ ويتربعون فوق رؤوسنا؛ يتحكمون بمصائرنا!

الشاب الذي قال أن الشهادة غباء بلا حدود، كان مناضلاً جيداً مثابراً مقداماً، ربما لذلك تحدث بثقة كبيرة، وكان جريئاً في انتقاد قيادة الحزب دون أن يتخلى عن الحزب، استشهد بعد جلستنا هذه بحوالي ثلاثة أشهر، أتذكر الآن جلستنا الأخرى حول قبره؛ وكيف جعلنا أحد الرفاق المعروفين بنكاتهم وتعليقاتهم المرحة نضحك بينما دموعنا تسيل:

ـ وأخيراً صرت شهيداً قديساً رغماً عنك!

ألمح الآن هيكلي هذين الشهيدين الرائعين يتوهجان في طرف القاعة، وقد نهضا معاً، ولا أدري هل لمحاني، وقد انشغلا مع الشهداء في يقظتهم.

ما هذا الهراء يا يونس؟ هل أنت موشك على الموت، وذاكرتك تتفجر بكل هذه الحمم البائسة؟ هل تريد أن تخفف تابوتك على من يحملونه غداً إلى القبر؟ فلا يلقونه على الأرض ويولون هاربين من أثقاله، ورصاص وعظام ذكرياته؟ أخلد للصمت وتأمل ما يحدث!

تقاطر الشهداء على الباحة الواسعة المعتمة قليلاً بثيابهم التي دفنوا بها، بعضها كانت لا تزال كالجديدة. بعضها بالية ممزقة مهلهلة معفرة؛ برزت منها هياكلهم العظمية، وجلودهم الجافة المشققة المتساقطة كأوراق شجر أصفر تطايره الريح، يمكن الاستدلال من بقايا ثيابهم على لحظاتهم الأخيرة في الحياة: بعضهم كان بثياب السجن الخشنة المتهرئة، أو بثياب النوم التي اقتيدوا بها من بيوتهم، ويوحي أنه مات تحت التعذيب، وبعضهم بثيابهم المدنية حيث خطفوا من الشوارع، أو دهسوا بالسيارات، آخرون كانوا بثياب مختلطة غريبة لكنها تحمل بقع من الوحل المتيبس والمتشابه؛ يدل أنهم دفنوا بقبور جماعية وهم أحياء، إذ الزرقة الموحدة على جلود وجوههم الغائبة تشي باختناقهم في وقت واحد، بعضهم كانت برقاب طويلة تطاول حزم عتمة مما يشير أنهم أعدموا شنقاً، آخرون كانت ثمة ثقوب في أبدانهم تبعث حفيفاً غامضاً تشير إلى أنهم أعدموا رمياً بالرصاص. آخرون كانوا بثيابهم القتالية التي دفنوا بها، شراويل كردية عادية ولفات على الرأس، ارتدوها لكي يظهروا على أنهم من أهل المنطقة؛ بينما هم في معظمهم عرب من مدن العراق المختلفة، جاءوا للقتال مع الكرد فقتلهم قادة أكراد في صراعاتهم القومية في ما بينهم. آخرون يخطرون بأكفان، تشير أن جثثهم سلمت إلى ذويهم فقاموا بإجراءات دفنهم، ثمة من بدوا عراة على أجسادهم أغصان خضر ومزهرة تكشف أنهم استشهدوا في أيام كانت فيها الجماهير تستطيع أن تغضب أو تتحدى، وتشيع شهداءها وتكللهم بأغصان زهر أو سدر. بعضهم ألقى عنه ثيابه القديمة وبقي بهيكله العظمي ليتخفف من آخر بقايا الدنيا، وبهذا العري الجريء الحزين توحدوا وتقاربوا أكثر، آخرون بثيابهم العادية ما يشير أنهم قتلوا وهم في مظاهرات احتجاجية سلمية، تأكد ليونس أن الشهداء تقاطروا من كل أنحاء البلاد، وليس من قبورهم المتناثرة في الجبال أو الوديان القريبة وحسب! ربما ثمة شهداء جاءوا من المنافي البعيدة الكثيرة، فكم سمع من منفيين قولة "صار لنا تحت كل نجمة قبر". فرح يونس أنه رآهم في غدوهم ورواحهم والابتسامات الواهنة مرتسمة على محيا جماجمهم كالأطفال في يوم العيد، من المؤكد إن هذا ليس مزاج الشهداء في قبورهم مهما تحدثوا عن تحليقهم في سماء الخلود، أنهم فرحون لأنهم عادوا إلى الدنيا، التقوا بأهلهم وأحبتهم واستعادوا لقاءاتهم معهم، بعضهم وجد فرحته في إلقاء القبض على بعض من قادة الحزب والتي لهم معها حساب أساسي وعسير، كما أعلنوا وأكدوا. راح ينظر إليهم ساهماً وهو يردد في نفسه " انظر إليهم إنهم يسيرون متواضعين خجلين مرتبكين، كأنهم هم الشهداء، كم كانت مشيتهم في الحياة متعالية متغطرسة. مر بجانبه هيكل عظمي عرفه على الفور إنه ذلك الشاعر الذي استشهد قبل أن يكتب قصيدته. كان لطيفاً طيباً،مات يافعا، قال من ألقى كلمة عند قبرة "لقد نضجت روحه قبل أن تنضج قصيدته اللعينة، لقد غادرنا قبل أن نستمتع بقصيدته التي أرادها بشروط صعبة " بدا ليونس ضجراً من الموت مثلما كان ضجراً من الحياة، ولا يعرف إن كان قد كتب قصيدته في قبره أم لا زال يقلب كلماتها وأنغامها. اقترب منه، حياه فرد بوجل وتردد كعادته، قال يونس محاولاً أن يعرف سر هذه البهجة الغامضة العابقة في الجو:

ـ إنه يوم الحساب المنتظر!

نظر إليه الشاعر الشاب بشك وقلق واضحين:

ـ لا يا رفيق أنا ما استيقظت لحساب أو عتاب، أو مسألة حزبية ضيقة تافهة مهما كبرت، إن تجمعنا المتفجر هذا هو ليس سوى سؤال واحد: ما معنى مسارنا كله؟ ما كنه خيبتنا الكبرى، وانهيار آمالنا كبشر، لا كشيوعيين أو حتى كعراقيين؟ مأزق الإنسان في ركونه أو نضاله، حتى لو انتصر، ما معنى هذا كله؟ هذا ما يشغلني!

نظر إليه يونس وجد كلامه جميلاً وحقيقياً، هو أيضاً لم يأت في غمرة ضغينة حزبية ضيقة، ولا متحاملاً على قيادة الحزب في غبائها، وتجاهلها لخيبة الإنسان في حياته وموته، واشغالها العقول والحواس بانتصارات، وأوهام وتفاهات. بعيداً عن مسار ناضج صحيح.

تنبه يونس لصوت أحد الشهداء محمولاً على أكتاف شهداء وقد تشابكت عظامه بعظامهم! بين سلاميات كفه ورقة يقرأها بصوت مسرحي! عرفه دون جهد، إنه ذلك الشهيد الذي كان يقوم بأدوار هزلية أو كوميدية في فترات الاستراحة مقلداً بها شخصيات قيادية ليروح عن رفاقه الأنصار، اليوم يقلد شخصية من يصعد فوق أكتاف الجماهير في المظاهرات؛ يستحث الناس على الاستشهاد، كأنه يقول لهم تفضلوا هذا هو البيدر، حصاد بذارنا المنخور كله، صوته رغم الموت ما يزال جهورياً صافياً:

ـ لدينا شهداء بالجملة والمفرد، لدينا شهداء عراة كالحقيقة، وكالماء وكالنسمات، لدينا شهداء مغلفون بالسيليفون والأشرطة الحمراء، شهداء ثرثارون كالشلالات، شهداء صامتون كالآبار العميقة، شهداء يبكون بدموع اليتامى حين ينامون جوعى، شهداء يبكون بندى الورود إذ يمر بها عشاق خائبون، ونساء يتلهفن لحب بعيد المنال! شهداء أحكموا أزرار أكفانهم ومعاطفهم وحملوا أغصان أرواحهم المزهرة وراحوا يركضون في الشوارع؛ يسابقون باصات آخر الليل، والتكسيات التي لا يستطيعون دفع أجورها، بينما تلاحقهم سيارات السلطة الفخمة لتغتالهم دهسا. لدينا شهداء يلازمون البارات طويلاً ينتظرون أن تنبثق قصائدهم من القناني الفارغة فلا يطل عليهم سوى النادل يريد محاسبتهم وهم مفلسون، أو مسئولوهم الحزبيون يقرعونهم على صعلكتهم وهم يتعتعون. لدينا شهداء بأسعار، وشهداء لم يضعوا تسعيرتهم بعد. لدينا شهداء بأسعار تتناسب عكسياً مع أسعار النفط، وطردياً مع أسعار القوادين واللصوص! لدينا شهداء ذابوا في النسيان كالسكر في أقداح الأعراس. وشهداء تسلطوا علينا كسيوف الفتوحات القديمة، لدينا شهداء حاسرو الرؤوس، وشهداء بعمائم وبسدارات وقبعات وكوفيات وبشعور مدهونة ومغبرة وبصلعات وبدايات قرع وجذام، لكن ريح العالم الآخر تمس رؤوسهم فتمنحها جميعاً تسريحة واحدة! لدينا شهداء كثر؛ هم أنتم وأنا، وكل المجانين الآخرين!

أدرك يونس أن من كتب هذه الكلمات للشهيد الكوميدي هو ذلك الشهيد الشاعر المأساوي الذي مر به قبل قليل!

-         (35) يستشهد بالتقسيط، وساقه الخشبية تطفو فوق مستنقع الدموع!

أقبل على يونس شهيد أعرج كان يعرفه أيام وجوده بين المسلحين في الجبال. إنه حسين ميسان. استغرب كيف عرفه بهذه السرعة. حياه على عجل كأنه قد افترق عنه قبل يوم، وليس قبل أعوام طويلة، سأله:

ـ هل رأيت ساقي الخشبية في مكان ما؟

كان هذا الشهيد قد هب مع الشهداء بساقه الخشبية التي دفن بها وفي حومة ما حدث في المقبرة سقطت منه دون أن يشعر بها، لكنه الآن وقد وجد نفسه مثل جذع شجرة محترقة مائلة في الريح أخذ يبحث عنها!

كان يونس يستلطفه ويضحك معه ورفاقه الأنصار حين يمازحونه، ويسمونه:شهيد بالتقسيط! كان قد فقد ثلاثة من أصابعه تحت التعذيب عندما اعتقل في عهد البعثيين في بغداد. ثم فقد يده اليمنى في انقلاب سيارة كان يستقلها ليوصل البريد الحزبي إلى مدينه الناصرية. وبما إنه يستعمل يده اليسرى في العمل والكتابة منذ طفولته فقد قال إنه يساري بالوراثة، وشيء حسن أنه تخلص من يده اليمينية! ثم في معركة للأنصار مع جنود السلطة مرقت رصاصة قرب رأسه، ولم تأخذ منه سوى أذنه اليمنى أيضاً. فرح لذلك وعزز طبيعته اليسارية! صار يضحك مع رفاقه حين يقولون له: أنت تستشهد بالتقسيط، قال:،كثيرون يستشهدون بالتقسيط،بعضهم لا يدفع القسط الأخير لوقت طويل، فيظل مع الأحياء يتحمل الغموض والشك وسوء الفهم! وفي معركة بين الحزب وفصائل كردية فقد ساقه اليمنى. قال لقد اقترب موعد دفع القسط الأخير، حلم أنه فقد رأسه ولم يمت، سألوه:

ـ تتكلم دون رأس! قال: كلام الشهداء من قلوبهم، وليس من أفواههم! أضاف: من يمت بالتقسيط يستريح، لكن من يحيا بالتقسيط يتعذب: ساعة نقاش حزبي فارغ، وعود حزبية كاذبة، أفكار تتكشف عن هراء!

بعد عام تقريباً قتل بمعركة مع الجيش، جاءت الرصاصة أيضاً في الجهة اليمنى من القلب! آخر قسط: القلب،أكد يساريته في استشهاده أيضاً. رغم إنه كان طريحاً جثة هامدة مدماة، ادعى أحدهم إنه سمعه يهمس: لكن الجهة اليسرى من القلب لا تستطيع أن تعمل دون الجهة اليمنى! لا يمكن لجهة من القلب أن تعمل دون الجهة الأخرى،برر لهم معارضته لقيادة الحزب وتبرمه السياسي بينما كان يصارع السلطة ببندقيته، لا بالكلمات! سموه فيما بعد الشهيد الذي يدفعه الرصاص إلى اليسار رغماً عنه!

حضر يونس لحظة دفنه، أنزلوا في الحفرة مع ساقه الخشبية، قال له يونس:

ـ إنس ساقك الخشبية، سيجدها شاب من أهل الدنيا فقد ساقه!

رد هو بطريقته الضاحكة:

ـ حقاً ماذا أفعل بها بين حوريات الجنة اللواتي يرتمين بالأحضان دون أن نركض خلفهن! راح يونس يسند هيكله العظمي ويسيران بتأنٍ!

خطر ليونس أن ساقه الخشبية، تطفو الآن على دموع كثيرة ترد أرض المقبرة من أماكن كثيرة!

لا حظ يونس أن الشهيد قائد الانتفاضة يقوم بمهمته وعلى محياه ملامح أسف وحزن، لا بد إنه قد استيقظ من رقدته الطويلة مضطراً، وفعلاً: كان يود لو لم يكن هناك ما يستدعي هذا الإجراء الكبير، والحساب والأليم! لو كان نضالهم واستشهادهم قد أعطى ثماره الطيبة، أو حتى لو كان قليل النجاح أو فاشل، وإنه كان كمشروع قابلاً للتحقق، وفي الاتجاه الصحيح! قال لي: لو كان قادة الحزب قد راجعوا فكرتهم وسياستهم، وصححوا وغيروا وعدلوا واعترفوا بالأخطاء والضلالات، لو راقبوا سلوكهم وترفعوا عن الرذائل والدنايا، وأدركوا أن الطموح السياسي، لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن الوجود الإنساني وهمومه، أكان يستيقظ آلاف الشهداء من نومتهم العميقة ويقطعون دروب العالم الأسفل ويأتون إلى هنا لاعتقالهم وتعريضهم لكل هذا التوتر والشد والرعب؟ ويتعبوا معهم الأمهات والآباء والأخوات والزوجات والأصدقاء أيضاً؟ تقدم المسؤول من راضي سعيد والبيرماني ومن معهما، قال بهدوء:

ـ يمكنكم أن تستريحوا الآن، وتعتبروا أنفسكم ضيوفنا ريثما تبدأ المحاكمة، أعدكم أنها ستكون قائمة على المبادئ، بلا حقد أو نوايا مبيتة، ولن تتأثر بالعواطف!

تقدم أحد الشهداء منفعلاً وهيكله العظمي يهتز ويتساقط رماده، معترضاً:

-         ـ لم يعاملونا يوماً وفق المبادئ، إنما بعجرفة واستعلاء، كيف نعاملهم بلطف؟ رد المسؤول: نعاملهم بما يليق بنا، لا بهم! ثم التفت إلى يونس قائلاً بحزن:

-         ـ وهكذا ترى يا رفيق إن المحاكمة لن تكون سهلة؟

-         قال يونس مطمئناً:

-         ـ لي الثقة أنكم ستسيرون بها بعدالة وموضوعية!

-         ـ خلال موتنا كنا في محاكمة دائمة لأنفسنا وقياداتنا، طيلة هذا الغياب، وفي مجاهدة للنفس، ودود القبور، ناضلنا هنا أيضاً، وكان أصعب من نضال الحياة!

-         أحنى يونس رأسه احتراماً:

-         ـ لذلك هناك الآن على سطح الأرض من يصغي لصمتكم أكثر مما يصغي لخطب وصخب القادة والمنظرين!

-         عاد يونس يفكر: هل إن واجباً على هؤلاء المعذبين أن يناضلوا بعد موتهم بعد ما ناضلوا كثيراً في حياتهم التي لم يعيشوها مطلقاً، ولم يتذوقوها ولو رشفة واحدة على سبيل التجربة على الطريق؟

-         (36) يسألنيّ البطران: ليش حزبك أحمر؟

ارتفع صوت أحد الشهداء بأغنية عاطفية قديمة لناظم الغزالي، وقد حورها إلى أغنية خاصة له. الأغنية تقول" يسألنيّ البطران ليش، وجهك أصفر"، هو صار يغنيها: " يسألنيّ البطران، ليش حزبك أحمر" يبدو الأمر مضحكاً، لكن صوته الجميل الشجي ولوعته، يجعل من يسمعه يصغي له باهتمام متفكرًاً، أو مستمتعاً. كان يسرد فيها ببراعة وتركيز، وكلمات خاطفة، كضربات المطرقة المحكمة، مسار انجذابه للحزب، كيف يلومه رجل مستريح شبعان بطران، أنه انتمى لحزب احمر، وهو الذي قضى طفولته، وصباه، جائعا محروماً حتى من ثوب أو حذاء، كيف لا يغضب ويثور دمه ويجعله يبحث عما يشبهه؛ ليندمج به؛ فيتكون ذلك النهر الأحمر، ليجرف الطغاة والمستغلين والمتجبرين؟ في الحزب وفي قراءته وتأملاته يكتشف أن القضية ليست الثوب والحذاء، وإنما شيئاً آخر، لا يتجاهل الثوب والحذاء أيضاً، فيصف بكلمتين لحظة افتراقه عن الحزب روحياً وفكرياً، وقراره بالاستقالة منه، والعودة لدراسته الهندسة في لندن التي نالها بعصاميته ومثابرته، ولكن الرصاصة عاجلته من جندي على الجانب الآخر من الجبل. ربما كان الجندي أيضاً في طفولته وصباه محروماً من ثوب وحذاء. انتهى كل شيء! حكايته البسيطة الواضحة داخل أغنيته الحزينة أثارت في دمي حكايتي مع الحزب، فقط أن الرصاصة جاءتني على شكل قرار قيادة الحزب بوصمي بالخيانة، وحشري في عالم العزلة والنبذ! وأبقتني حياً؛ لأتعذب واقفاً في مكاني محاولاً إثبات براءتي!

لم أكن في طفولتي محروماً من ثوب وحذاء أو حتى لعبة. ولدت في بيت كبير بناه لنفسه أبي التاجر بالحبوب القادم من عانة، بحي قديم من الكرخ في بغداد. كان أبي سنياً، وأمي شيعية. لكنهما كما أتذكر عاشا سعيدين موحدين بأيمان وسكينة روحية مدهشة، جمعا طقوسهما الدينية في طقس واحد: الحب والاستقامة. كان لنا جيران وأصدقاء من اليهود والمسيحيين والمندائيين ولم يذكرانهم يوماً إلا كأقرباء. كان أبي يقول دائماً (كلنا عائلة الله) وربما ما كانا يتصوران يوماً، حتى في أشد هواجسهما غرابة أن يولد لهما ابن يكون شيوعياً، أو زنديقاً ملحداً؛ كما يراه كثير من معارفهما! مات أبي قبل انتمائي للشيوعيين، وحين عرفت أمي بانتمائي للشيوعيين عارضت وتذمرت، ثم سكتت. عرفت إنني مع عائلة الله، وهي تراني أجد وأسعى مع أصدقائي من الأديان والطوائف المختلفة. هدم رجال السلطة الجدد حينا القديم في بغداد، وأقاموا مكانه بعض قصور حكمهم، وكلما تذكرت ملاعب طفولتنا القديمة، ووطني كله رازحاً تحت ثقل أحذيتهم وسلطتهم؛ أحس بالاختناق، وبذاكرتي تتمزق مع ذاكرة تلك الأرض، وأعود أقول في نفسي إذا كان الدفق الأعمى لحجارة وإسمنت السلطة، قد دمر ملاعب طفولتي، وذكريات الناس فيها؛ فلا ينبغي أن أسمح لرياح العدم أن تدمر ذاكرتي، وتاريخي مع رفاقي وأصدقائي! سأظل أحمل في روحي وكلماتي، ظلال ذلك الحي، شذا شجره وبيوته وناسه، وأقاوم بها هذا الهجير المديد.

تقول أمي إنني ولدت في ظل نخلة، نصبوا لها خيمة تحتها وهي تلد؛ لتتنفس الهواء الطلق في صيف خانق، فصرت قرين النخلة. لم أبق ثابتاً مع النخلة. أبحرت مع كائنات غريبة في هذا العالم مع شجون غامضة لا تنتهي!

 عندما خرجت من ظلمة الرحم إلى نور الدنيا، كان ذلك مع شفق الغروب، هرعت أخوات أبي اللواتي حضرن ولادتي إلى أبي في حجرته يزّفن له الخبر السعيد. طلبن منه تسميتي، كان أبي كعادة كثير من المسلمين يستشير القرآن في تسمية أبنائه وبناته. وتتحدث والدتي عن ذلك ضاحكة، تقول: حين فتح المصحف طالعه اسم إبليس فاستعاذ بالله، وأعاد فتحه مكثراً من البسملة، فكان يطالعه اسم الشيطان في كل مرة، فأصيب بالفزع والغم، أن يكون أحد أبنائه من الشياطين. قرر أن يؤجل الأمر حتى اليوم التالي، بعد أدائه صلاة الفجر، صلى ثانية شاكراً لله على نعمه الكثيرة عليه من البنين، والمال والسمعة الطيبة، ثم فتح المصحف. طالعه اسم يونس، استبشر به وفرح، رغم ما يعرف عن محنة يونس وعذابه، منحني هذا الاسم، فهو على أي حال خير من الشيطان، آملاً ان لا ألقى ما لاقى هو من آلام!

الآن في شيخوختي، أسأل نفسي، ترى هل منحتني الصدفة أو القدر أو الله نفسه مأساة يونس ومصيره أيضاً وسلب مني استقرار النخلة؟ فيونس كما ورد في القرآن والكتب المقدسة، بعد أن ألقيت عليه مهمة إصلاح أهل نينوى،فنكص، وحدث له ما حدث، ابتلعه الحوت، ومكث في معدته أياما طويلة، ثم تقيأه عند شاطئ جزيرة في عرض البحر، يخيل إليً إنني لقيت نفس مصيره حين بلعني الحزب وأبقاني في معدته يهرسني، ويشبعني من مرارة أحشائه، حتى ألقى بي على سفح هذا الجبل! وجدتني أبحث عن القرآن لأول مرة في حياتي مذ انتهيت من دراسة الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق، وتدبيج مرافعاتي في المحاكم قديماً، مقتبساً منه، أو مستنداً على ما ورد فيه من أحكام، وأعدت قراءة سورة يونس(وإن يونس لمن المرسلين. إذ أبق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين. فالتقمه الحوت وهو مليم. ولولا إنه كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون. فنبذناه في العراء وهو سقيم، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين. وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا فمتعناهم إلى حين). وأجدني اقتفي خطاه في رحلته الأليمة كلها! أنا لا أؤمن بالأقدار ولا بالأساطير ولكن تدهشني توافقات الأشياء، وأرى فيها عزاء وإجلاء لقدرة الإنسان على تحمل مصائب الدنيا التي هي لم تتغير منذ بدئها، وإن اختلفت أشكالها وصورها! ولكن ما حجم خسارتي إزاء خسارة الشهداء؟ عذبوا، اقتلعوا أظافرهم، عيونهم، ثقبوا أكبادهم، أداروا بهم المراوح؛ فقضوا وهم يحلمون بغد سعيد وعدناهم به! أحس أن رماد كل الشهداء يسكن قلبي، أحيانا يثور عاصفة سرية تريد أن تخنقني، تقتلعني وتدفعني بعيداً، لكنها فجأة تتوقف وتصير هبة حنان ورأفة. دموعي تنساب في داخلي إلى ذلك الرماد المنسي، فتنهض أمامي منه ورودُ وزنابق في الطرقات المهجورة، وممرات القلعة، وعلى الجدران القديمة الآيلة للسقوط!

وكيف أنسى تلك الليلة التي ودعنا فيها صديقنا جميل جرجيس في رحلته إلى أسبانيا لنصرة الشيوعيين هناك؟ في تلك الساعات الحزينة المتوترة أحسست إنني صرت شيوعياً في داخلي، قلبي وعقلي معهم، لكنني خارج جسدي لم اتجه خطوة واحدة نحوهم، في سهومي وتركيزي على دراستي للحقوق، كنت أبدو كأنني لا شأن لي بهم، ولا بالعالمين جميعاً.

بعد تخرجي، صرت التقي جلال العطار، لندخل في أحاديث ونقاشات طويلة. لمس هو انتمائي الداخلي لهم؛ فراح يسفه فكرتهم محاولاً إبعادي عنها، لكنه دفعني باتجاه العاصفة، بينما كان يريد إبقائي على الشاطئ؟

رغم انصرافنا لساعات لهو ومتعة لكن حياتنا كانت مترعة بهموم السياسة والثقافة.

كان العطار يعد نفسه صاحب رسالة ثقافية وإنسانية لم تتح له ظروف ووسائط إعلام ذلك العهد أن يعبر عنها أو يوصلها كما يطمح، أو كما ينبغي، لذلك هو متبرم قلق في شك بمن حوله. أطلق في رواية قصيرة بعنوان(الأرض عطشى، والسماء جافة!) نظرية خطيرة آنذاك، مفادها: لن تقوم حضارة في العراق ما لم يتخلص مما أسماه الخرافة المقدسة، ولا جدوى من طرد الإنجليز ما دام الناس رازحين تحت احتلال الخرافة المقدسة، ورجالها المعممين! أعرض كثيرون عن روايته، ووصلته تهديدات من رجال دين، ورجال في السلطة؛ أرادوا إظهار أنفسهم على أنهم يناصبون العداء رجلاً لا يعادي الإنجليز. تراجع قليلاً، وقد سألته في حينها أتعنى بالخرافة المقدسة الدين؟ قال: طالما إن الدين يتحدث عن علاقة طيبة تربط الناس بروح عظيمة عليا فأنا معه، أخالفه حين يصير خرافة، أي مجرد أقاويل تربط الناس بنفوس مريضة ممسوسة لرجال دين أو كهنة قدامى يدعون القداسة، ويطلقون الطقوس البشعة! كان يردد: لا خلاص إلا بالانفتاح على حضارة العالم، لكنه ظل في حيرة: من يساعد العراقيين للخلاص من الخرافة المقدسة؟ هل هم الإنجليز الذين يمتصون نخاع العراقيين وثرواتهم، ويمعنون في إذلالهم؟ أم السوفييت حملة لواء دكتاتورية البروليتاريا التي لا تقل تدميراً للجسد والعقل من أشباح الخرافة المقدسة؟ صديقنا الجهنمي كان مهووساً بنظريته (في الجنس الرجاء، والشفاء). كان يروج لنظرية العطار مؤكداً أن في الاستعمار الإنجليزي محرقة الخرافة المقدسة. كتب في صحيفة الحاصد "الخرافة المقدسة يصعب اقتلاعها، فهي غائرة في لحمنا، وليست لديها لنا سوى صوتها وسياطها! أما الإنجليز فهم يدبون أمامنا على الأرض! يحملون مع بنادقهم شيئاً ما لنا أو لأطفالنا: مصباحاً، بذرة، كتاباً، كسرة خبز، وبعد أن نعتصرهم مثلما يعتصروننا، نستطيع أن نلقيهم جانباً!"

كثيرون انبروا للعطار وللجهنمي، رغم عدم تطابقهما مسفهين، متوعدين: بينهم سامر عبد الحميد الذي كان يتلمس طريقه آنذاك موزعاً بين السياسة والأدب، رد عليهما: الإنجليز ليسوا مغفلين ليساعدونا في الخلاص من الخرافة المقدسة؛ فنكون أقوياء: هم سيتحالفون ضدنا مع رجال الخرافة المقدسة المعممين منهم وغير المعممين، لكي نبقى قوالب إسفنج تمتص ما يلقى عليها! وهم سيحاربوننا حتى لو لم نتحالف مع رجال الخرافة ضدهم! هم يريدوننا نغوص في أوحال الخرافة أكثر؛ فنبقى في ظلامنا وعمانا، ما يمكنهم من نهب نفطنا وثرواتنا، وتصريف بضاعتهم في أسواقنا!

المحتلون في كلا الحالين شر لا يقل فتكا عن الخرافة المقدسة، وقدرنا أن نحاربهما معاً!

سألت العطار في حينها: إذا كنا نرتضي أن يحل أجنبي بأرضنا نستعين بمصباحه على تبديد ظلام الخرافة المقدسة، لم لا نستعين بالسوفييت ونظرتهم العلمية واسعة تشمل العلاقات الإنسانية ويعدون بمساعدة الشعوب على نيل حريتها؟

ضحك قائلاً:

ـ للسوفيت خرافتهم المقدسة أيضاً: وعد بجنة في ظلال ديكتاتورية ومطرقة ستالين، مساطر الحزب والمخابرات،هم مستعمرون باسم الثورة العالمية!

ويضيف الجهنمي :

ـ لدى الإنجليز جنة أخرى، خرافة أخرى إذا شئت، صحيح هي مسعرة بالنقود، لكنها بلون وطعم ورائحة ومن أسواق متعددة: لندن باريس واشنطن ولك الخيار!

وبينما العطار يطمح لمشروع كبير ثوري يغير به البلاد؛ إلا إنه لا يملك مشروعاً صغيراً يغير به نفسه من إدمانه على الخمر، وتهالكه على المومسات حتى اللواتي عرف إنهن مريضات وأصبنه مرات بالزهري، نبهته أن هكذا مرض قد يودي إلى الجنون، قال وهو يضحك ويرفع كأسه كعادته:

ـ وهل تظنني أو تظن نفسك عاقلاً؟ ما يلبي طموحي كأديب التعرف على امرأة أو شخصية غريبة؛ أكتب عنها يوماً رواية كبيرة!

كانت رواياته قد بدأت تظهر وتجتذب إليه الأنظار، في بلد يتعرف على الرواية لأول مرة على يديه، وأيدي واحد أو أثنين من كتاب كانوا يخطون برواياتهم، مبهورين متعثرين خائفين!

كان متدفقاً في حديثه صخاباً، خاصة إذا تناول حديثا سياسياً، أو عرج به على ما يسميه تخريف وادعاءات فهد، سكرتير الحزب الشيوعي آنذاك!

كان يحثني على الشك دوما، لكنني، ولرغبة في تأجيل عذاب الذات إلى مرحلة الشيخوخة المعذبة أصلاً جنحت لليقين، كنت اصنع جنايتي بحق نفسي وبحق من حولي، كان يقول:

ـ الشيوعية يقين أهوج، حلم تجمد في جمجمة، ويرفض أن ينسكب في القلب! أصغ لهواجسك، ابحث عن فكرة تقبل التغيير والتعديل، الحزب قطار يعبأ الفكرة والناس في عربات يضعها على سكة حديدية ولا يحق لركابه النزول سوى في المحطة الأخيرة، من ينزل منه وهو سائر يهرسه بعجلاته قبل أن تلتهمه الذئاب في البراري!

كنت أصغي له ضاحكاً ولا آخذ بكلامه، خاصة وكان هو نفسه لم يلبث أن خرقه، فقد انتمى للحزب الشيوعي وصار من الملقنين لأفكاره وشعاراته، في قصصه ورواياته:

ـ لم أسع كي أكون قائداً شيوعياً، أو حتى عضواً في الحزب، فهد هو من أرسل في طلبي ودعاني؛ لأكون عضوا في اللجنة المركزية معه!

بالطبع كان هذا مبرراً سخيفاً لم يكن يليق بالعطار، لكن من غير المفيد إهمال تجليه الذهني. كان من عادة فهد اختيار أعضاء قيادته، من المقاهي، البيوت، النوادي، والمعامل الصغيرة الناشئة، يفاجئهم بفرصة الحظ العظيمة معه بسرعة وخفة وبساطة، ودون تدرج أو إعداد مسبق، يلعب لهم الروليت الروسي نيابة عنهم، يطلق الرصاص ويؤجل وصول الرصاصة إلى رؤوسهم حتى إشعار آخر، إنه يتسمع عن بعد ممن يعملون معه عن رجال يتعاطفون مع الشيوعية، أو حتى هم في حوار جدي معها؛ ويروح يسأل عنهم مقلباً أمرهم من جوانب كثيرة أهمها عنصر القناعة وطاعته شخصياً، وهو برؤيته لنفسه عظيماً ومحبوباً من الجميع؛ يتوقع موافقتهم ولهفتهم للقائه والعمل معه. كثيرون يوافقون على أن يكونوا قادة بإشارة إصبع ودون جهد أو تحسب، كان يختار طاقم قيادته عادة من غير الذين في الحزب، يعتبر ضمهم للقيادة فرصة لزيادة عدد أعضاء الحزب، وهؤلاء سيكونون كما يعتقد رهن إشارته، فهو الذي أتى بهم، وهو الذي صنعهم فكيف يتمردون عليه؟ ثمة مثقفون والعطار منهم كانوا ينتقدون فهد وحزبه وفكرته لكنهم كانوا يتحرقون شوقاً لدعوته لهم للانضمام للحزب شرط أن يكونوا بموقع قيادي أمامي جاهز، ويعدونه بمثابة اختيار ووحي سماوي يسيرون معه، ومع الحزب فترة قصيرة يشبعون فيها نرجسيتهم وغرورهم، ثم يتخلون عن الحزب وفكرته، ويعودون ليتحدثوا عن مغامرتهم الثورية الكبرى، وقدراتهم القيادية العظيمة. لم اكن أكترث لأحاديث العطار وعن قدراته التنظيمية والقيادية فأنا أراها ضعيفة ومضحكة، ولكن تستوقفني ومضاته الفكرية، وقد ظل كثير منها محفوراً في ذاكرتي كنقش إزميل نحات ماهر على الصخر!

عاد العطار يناصب فهد العداء، فيقول :

ـ أتعتقد أن فهد جلب فكرة مفيدة للعراق؟ لا يا صديقي هناك مفكرون رائعون أرادوا الإتيان بجوهر الفكرة مصهورة بروح هذه الأرض الملتهبة، لكنه خرب جهودهم وتسلمها جاهزة متحجرة من مبشر أجنبي، يدعى بطرس فاسيلي، وهذا غباء لا يليق بسياسي عادي؛ فكيف بثوري؟

يجذب نفساً من سيجارة فاخرة ينفث دخانهاً جانباً كعادته:

ـ لا تجذبك الشخصية أو الحزب ببريقهما، فتش عن الفكرة، ادرسها جيداً، قالت العرب قديما: الصديق قبل الطريق، وأنا أقول لك: الفكرة قبل السكرة!

أضاف الجهنمي: والفكرة قبل الثورة وقبل العبرة!

آنذاك كان يتحدث عن فهد بقسوة، واليوم وهو يغتسل بمياه الأبدية،ناهضاً من الموت، هل ما يزال على تحامله عليه ؟ قال لي آنذاك:

ـ يصعب أن نغفر له أنه جاء إلى العراق بالفكرة مستنسخة باهتة مشوهة، آخر نسخة بالكاربون، وسخر الناس لكتابتها وشماً، على جسد وطنهم، وبحراب ستالين!

وبينما آنذاك لم أقره على ما يقوله، صرت اليوم أناقشه مع نفسي متفهما حرقته وجهده، وإن لا أتفق معه بكل ما يقول. وتشغلني مسألة الفكرة آنذاك لكنني لا البث أن أنساها، يجتذبني تأثيرها وبريقها دون أن أواصل التمعن بصلبها ومحتواها، تجاهلت نصيحة جلال العطار بعدم النوم في أرجوحة الشيوعية، بهجير العراق، ورياح سوافيه. لكنني في تلك الحقبة الموارة بمختلف التيارات والاتجاهات وجدتها هي الأفضل! أعرف في نفسي خصلة خطرة: سرعة تصديق الحلم، كان ذلك في زمن الوهم العذب، والأنوار التي تشع من وراء الأفق ونظنها بشائر الثورة العالمية التي لابد أن يصل دفئها في يوم غير بعيد إلى حياتنا الباردة. اليوم وقد تكشفت تلك الشموس عن أقراص نحاس تلتهب بزيت الدماء، صرت أسأل العطار وهو في قبره، ماذا كنت ستقول وأنت ترانا نختنق بدخان ألعابنا النارية؟ ليس من طبعه التشفي، سيقول كلمات أسف ومواساة،على الأكثر!

(37)  منحني عضويتي في الحزب، وصعد المشنقة، هل ثمة شك؟

حتى جاء الحدث الكبير في حياتي! اعتقال فهد. انبرى عشرات المحامين للدفاع عنه. كنت أنا ومحمد البيرماني وعزيز شريف وسامر عبد الحميد في مقدمتهم. أول لقاء لي معه كان في سجنه. وجدته غير ما حدثني العطار عنه. لم يكن العطار يتجنى عليه، أو يشوه شخصيته، لكنه كان قد فهمه على طريقته المتعجلة التي لا تخلو من هوى، ومزاج وإن ظلت مرتكزة على نقاء سريرة، وحب للحقيقة! صرت أكثر الحديث مع فهد قدر ما يسمح به السجانون، كنت أحياناً أحاول معرفته عبر أحاديث المحققين معه، وإدارة السجن. منذ البدء كنت مقتنعا بعدالة قضيته، متضامنا معه، لكن أحاديثه الهادئة المركزة الواثقة، جعلتني أكثر فهما للفكرة. أحسستها حميمية حنونة تحمل من الأمل والفرح قدر ما تحمل من الحزن. بذلك اقتربت في ذهني لحظة اعتناقها رسمياً والعمل من أجلها، ولم اعد أجد من المناسب تأجيل ذلك. زاد استغراقي بالمحاكمات الأولى التي نجا بها من الإعدام، ثم المحاكمات الثانية التي صدر بها الحكم بإعدامه. كيف أنسى تلك اللحظة الرهيبة؟ كنت وإياه جالسين على مصطبة السجن قرب زنزانته، لقاء الوداع الأخير، قبل تنفيذ حكم الموت، اغتنمت تشاغل الحارس عنا قليلاً همست له " ثق أيها الرفيق، الكثيرون سيسيرون على طريقك، وأنا أحدهم، لقد حسمت أمري، أرجو أن تكون أنت من يقبل عضويتي في الحزب!" لا أدري كيف خطر لي ذلك الأمر, الذي قد يبدو مضحكاً، فهذا القائد مكلل بجلال تحديه للموت، مغمور برهبة الرحيل الأبدي، وأنا منشغل بقضية مهما كبرت تبقى صغيرة حيال محنته الأخيرة، ترى بأي سجل سيدون اسمي؟ وأين هو الآن من جيشه وتنظيمه، ليدرجني فيه؟ لكنني رأيته لا يحدق في هوة القبر السحيقة؛ بل يرنو إلى العلا، ثم هي لحظة تجل وجيشان! هو فهم الأمر أكثر مني، عرف إنني أريد مباركته لا غير، وإنني أشعره بأن قضيته متواصلة تشق طريقها قدماً! رأيته يحاول رفع يديه المكبلتين بالقيود والأثقال؛ ليضعهما مثل كاهن على رأسي، اقتربت منه فمس بهما كتفي، ولمعت في عينيه ومضة غريبة، خيل إلى أنها ندى دمع! هيهات، هذه أوهامي، فهذا الرجل لا يبكي ولا يبتسم، وهذا ما يحيرني فيه. شعرت إنه بحركته العاجزة مع قيوده وأصفاده أودعني جزءاً من روحه، بل دمه كله وقد انتزعه من المشنقة، وضخه في عروقي، أمانة ووديعة! هكذا رأيت وقدرت آنذاك، أقنعت نفسي أنني آخر شيوعي قبله فهد عضواً في الحزب، وأول شيوعي يدخل الحزب في ظلال المشنقة، ربما كان اختياراً شجاعاً، وربما متهوراً، أو مضحكاً للناظرين. لكن هذا ما وقع تماماً، وظل يشحن روحي بشجن وعزم لا نهاية لهما! ودعته بصمت وهو يصعد المشنقة. مضيت، لا أجر خطى محام فشل في رفع الموت عن موكله، بل خطى الشيوعي الواثق بالمستقبل، الجندي الواثق بالنصر أمام قائده الذي سيموت قبله وأمامه! علقوا جثته على الأعواد في ساحة بالكرخ، ورغم إنني حدقت بها طويلاً مع آلاف الناس الذين قدموا إليها بين مرحب وغاضب، لكن صورته الأخيرة وهو يباركني ظلت رائقة ساطعة في بركة روحي، ولسنوات طويلة. في أحلامي استحال ثوب الإعدام ذو اللون الرمادي الكابي إلى غصن زهر أبيض يتراءى في ماء غدير صاف يحفه زهر ربيع خصب عاطر، وسلاسله ودرق الحديد الكبيرة العالقة بجسده الهزيل، فاكهة عجيبة شهية تتدلى من شجرة باسقة مسحورة وتساقط ناضجة فواحة مسكرة على موائد فقراء امتد جوعهم قروناً طويلة! يا لقدرة أرواحنا على تغيير الأشياء، كيف تلاشت تلك الأحلام؟ وكيف صارت رماداً تذروه الرياح، وكيف انتهى الحزب إلى مقبرة للأحلام؟

كنت في شبابي محامياً ناجحاً، أعيش حياة مرفهة سعيدة، أعب مع العطار والجهنمي، وأصدقاء آخرين من متع ومباهج كثيرة، وكانت فرص جميلة رائقة ومغرية للثراء والشهرة تعرض لي هنا وهناك. ثمة نساء جميلات، ومن عوائل ثرية صادفتهن، وكان بإمكاني أن اقترن بإحداهن، وأتسلق سلم عائلتها الذهبي إلى المال والسلطة، كما فعل كثير من زملائي، لكنني في كل مرة أشيح عن كل شيء، وأمضي خلف الحلم الكبير! انضممت للحزب؛ فبدأ عملي يتراجع ومكتبي يفقد زبائنه. كثير من أصدقائي دهش، أو استنكر ما اتخذت من طريق جديد لحياتي. قال لي أحد هم: عهدي بك ذكياً يقظاً مثلما أنت وسيم جذاب، كيف وضعت نفسك في طريق الشيوعيين الذي لا يفضي سوى إلى الشقاء، كيف ستحتمل أعباء عثراتهم، ومغامراتهم الطائشة؟

كان مكتبي، جميلاً ومعروفاً في شقة حديثة في شارع البنوك ببغداد. بدأ الناس ينفضون عنه، سمعتي كشيوعي صارت تخيفهم، ثم لم يلبث أن صار لغيري، بعد أن هجرته وتناوشتني المعتقلات والسجون. تزوجت في سن متأخرة. أخذت أعرف صعوبة، وشظف العيش. ما كنت أتألم لنفسي، بل لأطفالي وزوجتي. كان من حقهم أن يعيشوا بشكل أفضل. زوجتي وكفاحها وصبرها عليّ، كان يمنحني قوة وسعادة.

جاءني أولئك الأصدقاء، طرحوا سؤالهم مرة أخرى. غروب الشمس وراء القلعة أشعرني بغروب حياتي، ودنو الموت؛ فرحت أحدثهم: في البداية، رغم قناعتي بالفكرة وانتمائي للحزب في لحظة عاطفية جارفة على يد الرجل الصاعد للمشنقة، كما يصعد الرجل العاشق إلى حجرة عشيقته في الطابق العلوي! كنت وما أزال مقتنعاً أن الحوار الطويل مع الفكرة، مفيد ومنتج ومحفز للعقل! وجدت الفكرة في شبابي طيبة جذابة، تستلب العقل حتى لتشله زمناً طويلاً عن التفكير، فهي غامضة، من عيار ثقيل أيضاً! قلت هذا هو الغموض الجميل الذي يخفي وراء ستائره تجليات عظيمة أخرى. لكن الغموض لم يلبث أن صار لسعة في القلب، صوت خفي جارح يقول: هناك خلل ما،خطأ، أمر لا يستقيم، احذر، توقف، تأمل! فكر! لكنني مضيت، قلت هذه غصة عقل، ضيق مدارك، الفكرة أعظم من قدراتي، وإنني لم أقرأها جيداً، لم أحط بها ولم أفهمها كما ينبغي. فأنا مثلاً لم اقرأ كتاب رأس المال لماركس، ورغم إنه لم يكن آنذاك مترجماً للعربية كاملاً لكنني أزمعت على قراءته قائلاً لنفسي؛ لو قرأت هذا الكتاب لفهمت الشيوعية؛ ولآمنت بها إيمان متعبد حفظ كتب دينه وسيرة نبيه، أما لو استطعت فهم المعادلات الرياضية المتعلقة بفائض القيمة؛ لكنت قد وصلت في الشيوعية درجة الإفتاء! ورحت أقرأ، وأستفهم، ولا أخجل من سؤال من أتوسم لديه إلماماً أفضل بالفكرة، فكنت كلما توغلت بها اكتشف المزيد من ثغراتها وتناقضاتها، واستغراقها في حلمها الهائل المستحيل المحلق بعيداً عن الواقع! حتى قلت لنفسي، ترى لو إنني فهمت كيفية احتساب فائض القيمة وعرفت كم يسرق الرأسماليون من عرق العمال وكرامتهم ونقودهم، ماذا سيتغير؟ هل ستصير الشيوعية ممكنة، صائبة، نافعة؟ ومع ذلك صممت على مواصلة القراءة والبحث والسؤال والتجربة، وعدم نفض يدي وعقلي منها وهي التي تمتلك هذه الغايات الإنسانية العظيمة! وأخذت تعصف بحياتي هجمات السلطة، فداهمتني لسنوات طويلة مطاردات وتشريد وفترات اختفاء واعتقال وسجن وتعذيب وقهر وجوع وعوز. ورغم أن سنوات السجن لم تكن تخلوا من فترات نلتقي فيها نحن السجناء مع بعضنا في باحات وقاعات السجون لنتحاور أو نتبادل الرأي والخبرات، أو إقامة صفوف حزبية سرية لدراسة مختلف فروع نظريتنا، وتكوين مكتبات صغيرة تضم الكثير من الكتب المهربة إلى السجن، نحفر لها تحت الأرض، حيث كانت نقاشاتنا تهدف طبعاً لتعميق الفكرة في أذهاننا وتحسينها وزيادة إيماننا بها، لكنني حين أخلو لنفسي أجد أن نقاشات بعض الرفاق وأسئلتهم تقدم إضاءات تكشف الكثير من هشاشة الفكرة وتهافتها، بل وسذاجتها أيضاً، وأسأل نفسي أليسوا هم مثلي يحسون بارتجاف وقلق الفكرة في أعماقهم أيضاً؟ ألا تنم عن حجم الشك الذي يساورهم بها، وبجدوى عذاباتهم من أجلها؟ إلا إنني في تلك الفترة لم أعمل على دحض الفكرة أو تفنيدها في عقلي، صرت أكثر رفقاً بها، أتأملها بهدوء وتروٍ. ثم كيف أنسى لمسة فهد لي في ظلال المشنقة؟ صرت في السجن أكثر تمسكاً بالحزب، وبالتالي أكثر تمسكاً بالفكرة فهي روحه وطريقه، ليس فقط لأن من العيب التخلي عن الحزب في الوقت العصيب؛ بل لأن الفكرة مهما تحمل من خطأ؛ تصير صحيحة أمام أعدائها الجهلة من سجانين وحاكمين، وما يتخبطون به من سخف وغباء وفساد!

منذ طفولتي لم انقطع عن المدرسة، ولم أتغيب يوماً عن درس، فقبل أن ينتهي رنين الجرس أكون على مقعدي في الصف منتظراً المدرس لأقف له بكل خشوع. في المحاماة لم أتخلف عن محكمة، أو دعوى أو داع أو مدع. وفي سنوات عملي في الحزب لم أتأخر عن اجتماع أو لقاء أو مظاهرة، أو أي عمل حزبي مهما كان خطيراً يعرضني للموت. لم أخلف موعداً مع رفيق أو صديق. منحت كل شيء بكل صدق وإخلاص، وتغاضيت عن جحود ونكران الناس، وكذبهم وقسوتهم سواء كانوا رفاقاً أو أصدقاء، لكنني لم أستطع أن أمضي مع الفكرة بعد أن وجدتها خاطئة مستحيلة قاسية! هل أنا نادم على انتمائي؟ ولا زلت أراه عاطفياً حاداً متسرعاً؟ ربما، لكنني أبداً لم أندم على عهدي للقائد الذي صعد المشنقة أمامي، حتى وفكرته تتكشف عن خللها، فجوهر العهد صحيح صادق وعظيم، ويجعل افتراقي عن الفكرة بنفس جلال وصدق اعتناقها. وهذا يتحقق بالإمساك بجوهرها: نبل الحياة وعظمتها، سعادة الناس، ودرء الشقاء والشر عنهم؛ خاصة في الذود عن الكادحين، كرامتهم وأحاسيسهم، لكن لا بد من المصارحة،مهما كانت قاسية أليمة!

(38) لم نفسر عالمنا، وحسب، غيرناه، ونحو الأسوأ طبعاً، علينا الآن ان نفسره!

قبل سنوات وصلتني تلك الرسالة، التي كانت مفاجئة، فاجعة. كأن النبأ الذي تحمله لم يكن حديث الناس في كل مكان في الدنيا! كان رفيقي سامر عبد الحميد من بين أعضاء اللجنة المركزية الذي أطاح بهم كمتار بيس، وحمه سور، وقد حوصر وعزل لسنوات في دمشق. استطاع أن يذهب بجرأة لاجئاً إلى لندن. وقد كتب لي يومها قائلاً: ثمة أشخاص مرتبطون بأولئك الذين أخرجونا من الحزب، يشتمون من يلجأ إلى إنجلترا وألمانيا وفرنسا والدول الاسكندنافية، وغيرها، يتهمونهم بالخيانة والمروق والسقوط في مستنقع الإمبريالية. حين حللت في لندن، وجدت فيها زوجاتهم وأبناءهم لاجئين مرفهين، سبقوا الكثيرين بسنوات. يبدو أنهم أرسلوهم ليجسوا بهم نبض الإمبريالية، معتقدين إنها تقضي أوقاتها مهتمة مشغولة بهم، ثم حين حلوا بها قبلتهم كالآخرين ليعيشوا في رعايتها المادية غير مكترثة لهم؛ كما توقعت نرجسيتهم. رسالته الأخيرة هذا اليوم حول انهيار الاتحاد السوفييتي، والقضية التي بددنا أعمارنا من أجلها سدى، كانت جارحة للروح والعقل:

"وأخيرا سقطت الشيوعية حلمنا الجميل: وهل هناك أجمل من عالم بلا مظالم ولا حروب، زاخر بالخير والمساواة والجمال، تصير فيه الجيوش، والشرطة والدولة، مجرد ذكريات مضحكة؟ لكنه كان حلماً خلاباً كاذباً، سكرة بالكلمات المعتقة، شجرة هائلة مزروعة في برادة الحديد، تعجيز مطلق، حلم سعيد ضد طبيعة كل الأشياء. لا يتحقق منه سوى أهواله: استعباد وقمع ومحق لكرامة الإنسان! ما تحقق اليوم هو عقاب التاريخ الذي خالفه لينين بلجاجته، وهوسه الجنوني وهو يفجر ثورة البلاشفة، مخالفاً الاتجاه الحقيقي للتاريخ، والنبض الخفي الأصيل لفطرة القلب الإنساني. خالف من يدعي أنهما معلماه: ماركس، وبليخانوف! ما تكشف اليوم أثبت صحة مواقف وأفكار المناشفة،والاشتراكيين الديمقراطيين، المفعمين بالحكمة، قدر امتلائهم بالوطنية والثورية الواعية، وروح العدالة، منذ البدء حتى الانهيار كان كل شيء لدى الشيوعيين يسير معاكساً الحقيقة، واتجاه العقل! لا غرابة أن يخرج من القلاع الحصينة للاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية،بعد الانهيار؛ جيشان رهيبان: الأول جيش الفقراء والمعوزين والمعذبين من الطبقة العاملة، وقد خالطهم مدمنو المخدرات والمومسات، والمرضى بعقولهم وأرواحهم والذين كانوا في باكورتهم يمتازون بالجمال والذكاء،فسحقهم النظام المتحجر القاسي! والجيش الثاني: الأثرياء بشكل فاحش، رجال ونساء المافيات واللصوص والسماسرة وأصحاب شركات عابرة للقارات، وهم كانوا في قيادة الحزب وكوادر الدولة المتقدمة. أية كارثة صنعها لينين؟ الآن ينبعث ذلك الصوت الذي سمعته قبل سنوات طويلة ونسيته، صوت ذلك المغفل بادييف رئيس اتحاد الكتاب السوفييت الذي انتحر عام 1956 بعد ان اكتشف حجم الخديعة التي ولغ بها حين كان يرسل زملاءه الكتاب إلى معسكرات الأشغال الشاقة، ومصحات الأمراض العقلية،وجدران الرمي بالرصاص، لا لشيء؛ سوى إنهم رفعوا أصابعهم مؤشرين إلى الهاوية التي كان يسير إليها ركب الشيوعيين وخلفهم شعوب السوفييت، والشعوب الأخرى الرازحة تحت سلطة ستالين! لقد سحقه الندم وتبكيت الضمير؛ فأودع صرخته في رسالة وهو ينتحر: " كنت أظن إنني أحرس معبداً، واليوم اكتشف إنني كنت احرس مرحاضاً في ثكنة عسكرية" نعم يا صديقي يونس أنها خديعتنا جميعاً. ولكن مهلاً! لا يجدي الانتحار، الأجدى أن نطلق صرختنا بوجه أولئك الذين لا زالوا حراساً للسوفييت القدماء، يريدون مصادرة العقل والضمير والذاكرة" ونمضي لننسف مقدساتهم ومحرماتهم وأصنامهم كلها. لا سكوت، ولا هوادة بعد اليوم! يجب ان نفتح قبر الماضي كله، ونعرف من دم الضحية المتفسخ من هو القاتل.

حتى انتحارنا لا يكفر عن الخطيئة، ما بين 7 أكتوبر 1917 و25 ديسمبر1991،كم أزهقت من أرواح، وكم جرحت قلوب وكرامات لدى شعوب السوفييت؟ كم سفح الناس في العالم كله من عذاب ودماء ودموع وهم ينجذبون لهذا السراب العظيم؟ أية طيبة أو سذاجة كان عليها الشيوعيون البسطاء، وأية فظاظة وقسوة اقترفناهما نحن قادتهم؟ هل نحن براء مما جرى هناك بعيداً عنا؟ كيف كنا نجهل أو نتجاهل وحشية وبشاعة ستالين؟ صخب لينين وتسرعه وسطحيته والكثير من تفاهاته ومباذله؟ لينين قتل الكثير من البشر، والكثير من الحقائق، وستالين قتل الحقيقة كلها مع ملايين البشر، غيبهم في السجون وفي معسكرات الاعتقال والأعمال الشاقة على صقيع سيبريا. أمر شيوعيين أن يقتلوا بأيديهم رفاقهم وأصدقائهم.أوائل الثلاثينات، في جولة واحدة أعدم 52 عضوا من أعضاء الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب البالغ عددهم 72 عضواً، والتهمة جاهزة "التآمر مع أعداء الشعب"! عندما أعدم ستالين، بوخارين صديقه القديم والعضو البارز في القيادة، وضع ورقة قرار تنفيذ الحكم على رأسه، ووقعها وهو يضحك ليذله وزوجته التي كانت تشهد محنته. أرسل قاتلاً إلى المكسيك ليهشم ببلطة رأس تروتسكي، أحد أهم بناة دولته؛ رغم إنه أختار أبعد منفى! اقرأ ما كتبته الشاعرة آنا اخماتوفا في قصيدتها وهي تنتظر على أبواب السجن رؤية أحبتها، ولو للمرة الأخيرة، واحسب نبض قلبك ودموعك إن استطعت. لا بد أن نتحمل يا صديقي عار غفلتنا وجهلنا، صمتنا وتدليسنا، مؤلم ومعيب جداً أننا فقط الآن نقول ذلك،ولكن أن نقوله متأخرين خير من أن لا نقوله أبداً!

قضيت ساعات أقرأ رسالته، وأعيد قراءتها. في تلك الليلة بكيت كما لم أبك يوماً. حتى حين جاءني من بغداد خبر وفاة ولدي الوحيد، بعد أن سيق مجبراً إلى الحرب رغم كبر سنه، ومقتل ولديه الصبيين في ما بعد، لم أبك هكذا. في تلك الليلة فقط، بكيتهم مع بشرية معذبة ضاعت بعد أن اعتقدت أنها وضعت خطاها على طريق خلاصها،وسعادتها المطلقة! حلم عظيم صار تدريجياً كذبة كبرى، سراباً بسعة نصف العالم، نصف التاريخ، بينما هو كان وهماً وخرافة منذ البداية! ما حياتي الضائعة؛ إلا ذرة رمل في آلام وتضحيات هؤلاء البشر! طعنني عار تدليسنا الذي هربنا منه، ولا زال الكثيرون يهربون منه إلى المجد! وإلى الثروة! وفتات السلطة. ثمة هامش أسفل الرسالة؛ قال ماركس: إن مهمة الفلاسفة ليس وصف وتفسير العالم، إنما تغييره، والآن نحن تلامذة ماركس النجباء بعد أن غيرنا العالم، أعني العراق، نحو الأسوأ طبعاً، آن لنا أن نصف، ونفسر ما حدث! هل ثمة أمل؟ ما العمل؟ مرة أخرى!

كتبت لسامر: ومن غيرك أنت المثقف والمفكر المتمرس بالكتابة؛ يقوم بهذه المهمة؟ أتريد أن تلقيها على كاهلي أنا المرهق بأحاسيسي الأليمة، ولم يسبق لي الكتابة العلنية للناس؟ لم يعش سامر في لندن سوى فترة قصيرة، ألف فيها كتاباً عميقاً وجميلاً عن هذه الخيبة الكبرى، لكنه لم يفقد ثقته بالاشتراكية، مطلقاً ما يشبه الصرخة: لم تقتل الاشتراكية، سوى الشيوعية! لم يقتل ماركس سوى لينين!أضفت لها بقلمي المنفعل: لم يقتل الاشتراكية الصحيحة في العراق سوى فهد! مات سامر في شقته محترقاً في ظروف غامضة. دفن إلى جانب ماركس، معلمه القديم الذي صار يتجرأ على مناقشته!

صباح اليوم التالي لسهري مع الرسالة كتبت برقية: شكراً لك يا غورباجوف: لقد رفعت غطاء البالوعة، ورغم إن رائحة الجيف والقاذورات صارت تدوخ العالم، لكن زهور الربيع الإنساني ستنهض وتملأ الجو عطراً وأملاً" من يصدق أن شيخاً هرماً قارب التسعين قضى معظمها مناضلاً من أجل الشيوعية ينحدر من الجبل قاصداً دائرة البريد في أربيل ليرسل هكذا برقية؟ قال لي موظف البريد: ـ كاكا احنا برقياتنا ما توصل بغداد، شلون تريدها توصل موسكو؟

بقيت أتطلع إليه؟ هممت أن أقول له، ولكن برقياتكم صارت تصل إلى واشنطن! لكنني أحجمت، فهذا الموظف المسكين لا ذنب له، ينبغي أن أقول ذلك لمسعود البرزاني، ولكن كم من الأشياء يجب ان أقولها له ولغيره؟ زمن تتكشف فيه حقائق وتطمس أخرى، من سيربح؟ من سيخسر؟ الفقراء والمضحون المعزولون المحطمون، هم الخاسرون دوماً! في طريقي إلى بيتي في أعلى القلعة وجدتني أفكر بشيء آخر كأنما لأهرب من محنت الكبرى: كم من الزمان مضى على آخر لقاء لي مسعود؟ حسن إنه ساكت عن بقائي هنا، ربما نسيني، أو إنه يعيش بحبوحة مع بغداد فلم يجدني ورقة مفيدة له مع حكامها.

ويأتي أكثر من شخص ليقول لي أنت لم تتحدث عن خطأ الفكرة إلا بعد أن سقط الاتحاد السوفييتي، ورفع غورباجوف الغطاء عن بالوعة الخفايا والخطايا. قلت أنا لست في مباراة لتسجيل براءة اختراع فكرة مخالفة، ولا أحلم بمنافسة غورباجوف على المجد والشهرة، لكن من حقي القول أنني كنت أفكر وأهجس بخطأ الفكرة واستحالة تحققها مثل كثيرين في العراق وسوريا ولبنان ومصر، وقبل ثورته بوقت طويل. كان فساد الفكرة وعقمها يقلقني أكثر من فساد الرجال والنساء من حولها، هؤلاء سيموتون أو يزاحون، ولكن الفكرة الخاطئة الفاسدة باقية تنجب طرقاً معوجة خاطئة، ورجالاً ونساء فاسدين؛ فهي النخاع إذا فسد، فسد معه الدم والجسد، ولا يجدي معالجة الطفح على الجلد! غورباجوف كان على قمة سلطة عالية عظمى فكان يرى الأرض الشاسعة التي حاولت عليها شعوب كثيرة بأمزجة وثقافات مختلفة أن تصل بالشيوعية إلى الغايات التي حدثهم لينين عنها بهوس، وهو يروج لبضاعته، ولكنهم لم يصلوا سوى إلى البؤس والمزيد من الفظاعة والبشاعة؛ فكان لابد له أن يقول كلمته، ويتخذ موقفه بضمير إنساني نقي. ترى لو كنا أقمنا نظاماً في بلادنا على أساسها وبان خرابه، هل كان قادتنا سيعترفون ويقرون مثله؟ أم ينتظرون أن تطيح الناس عروشهم بأنهار من الدماء؟ قبل عقود من السنين، كان معي في السجن رفيق ينتظر أن يفرج عنه بعد أن تنازل عن الفكرة ووقع براءة منها وتعهداُ أبدياً بان لا يعمل في السياسة. قال ووجهه مستبشر:

ـ أتدري إننا قد حققنا النصر المبين، دون أن ندري؟

قلت مستغرباً متطلعاً إليه:

ـ عن أي نصر تتحدث؟

كنت وبعض الرفاق نعامله برفق وتفهم، بينما نبذه رفاق آخرون، وعاملوه بفظاظة، قال:

ـ بما أننا لم نستلم السلطة، ولم ننفذ فكرتنا، ونصب ما فيها من عنف وأوهام على رؤوس الناس، فهذا وحده انتصار، قل لرفاقك أن يكتفوا بهذا النصر، ويعودوا إلى بيوتهم!

تركني وهو يقهقه، جاءني في اليوم التالي ليسألني:

ـ هل ستبقى في الحزب؛ أم هل ستتركه بناءً على نظريتي؟

ضحكت بمرارة، قلت :

ـ نظريتك لا تعمل داخل السجون، قد تعمل في الهواء الطلق، هي مسألة كرامة كما ترى! قال بومضة جنون:

ـ أيهما أهم؟ كرامة العقل، أم كرامة الجسد؟

ـ كرامة العقل طبعاً، لكن لا عقل بلا جسد!

كانت الفكرة في أعماقي قد تحللت وذابت ونقضت جدلياً، بقيت في الحزب لأنه خطأي وصوابي معاً، فهو الخطوة الأولى التي اتخذتها قريباً من المشنقة؛ معتقداً أنها من أجل وطني! لكن الخطوة الأولى تظل تجذب الخطوة الأخيرة، وتحدد مصيرها وقرارها. ما وقع يستحيل إنقاذه. فتلك القلوب الطيبة، والوجوه الجميلة، والأيام الحالكة صارت رماداً، ولم يعد ثمة أمل لاستعادة ذرة منها. هل ثمة أمل في إنقاذ المستقبل؟ المناضلون من جيلي أغلبهم رحلوا عن دنيانا، ومن تبقى في الحزب من الجيل التالي؛ أغلبهم مثل شرطة في حالة استعداد لقمع عقولهم ومن حولهم، اتخذوا من الحزبية حرفة ومهنة ناجحة تمنحهم العيش والهيبة؛ ولوا سرحوا لما وجد أفضلهم، صالحاً لأبسط مهنة، سمعت أحد رفاقي القدامى يقول: لنمنح الفكرة فرصة أخرى! قلت له: ولم لا تمنح التغيير فرصة أولى؟ ثمة رفاق حوله، كانوا يرمقونني بغضب وحقد، رأيت سجانين كثر، ولم يخطر ببالي أن يكون السجانون من رفاقي!

(39) يا حيرة الإنسان، إذ يؤمن، أو يلحد، أو يجحد!

بعد إطلاق سراحي من آخر سجن لي في العهد الملكي عشت متخفياً، متنكراً. في تلك الأيام التقيت بشخص كان هو آخر من أتوقعه يحدث انعطافاً في تفكيري، ويجمد خروجي من الحزب سنوات طويلة‍. كنت أسكن بيتاً صغيراً في منطقة بغداد الجديدة. كان جاراً لنا، ورغم إنه رجل دين، تفكيره يبدو لأول وهله مناقضاً لتفكيري؛ لكن تقارباً تدريجياً حصل بيننا، وصرنا صديقين حميمين. كان كثير القراءة والتأمل. أثار استغرابي إنه يبحث عن الكتب الحديثة، أكثر مما يبحث عن كتب الدين والفقه. توطدت بيننا ثقة راسخة؛ فتبادلنا مصارحة ومكاشفة عميقة! أعلمني إنه يشرب أحياناً كؤوساً من العرق سراً في بيته؛ فدعوته ليشرب معي سراً أيضاً؛ صرنا أنا وإياه نجلس حول كأس، أو كتاب شعر صوفي، وخضنا نقاشات وحوارات طويلة. اعترف لي إنه بعد أن درس كتب الدين والفقه، وقرأ الكثير من العلوم والفلسفات الحديثة وجد نفسه، يفقد الله فجأة "طار الله من يدي، طير جميل يفر من يد طفل، آخر خيط من النور يفر من عيني رجل؛ فيستيقظ على ظلام العمى. صرت ملحداً، لم أعد أؤمن بدين أو نبي أو قديس، بقيت مذعوراً شهوراً طويلة. صرت يتيماً فقيراً بلا معيل، زنديقاً بنظر الناس لو علموا ويستحق القتل. صرت بحياتين، علنية آمنة مريحة، وسرية قلقة مضطربة، لكنني مضيت سعيدا باكتشافاتي السرية! قال كلمة لا أنساها أبداً "لقد اكتشفت أن الإنسان هو الذي خلق الإله، وليس الإله هو الذي خلق الإنسان" وأضاف ضاحكاً، وهو يصب لنفسه كأساً: بل إن العراقيين هم الذين اخترعوا الإله، وإبراهيم الخليل، صاحب براءة الاختراع،لكن من صنعه على نطاق تجاري وحربي هم أبناء فلسطين القديمة، والجزيرة العربية " تأملته طويلاً مدهوشاً، سألته:

ـ إذا لماذا بقيت تضع العمامة على رأسك، وتتأمم في الناس؟

أطلق ضحكة قصيرة حزينة وقال:

ـ ستعتقد أنها من أجل العيش أو المال، لا أبداً، هي من أجل الناس، لو جاهرت بأفكاري أو حثثتهم على ترك الإيمان بالله فأني سأجعلهم جميعاً يتامى دون أب، أو ولي أمر يعتقدون أنه يحميهم. أنا وصلت للإلحاد سراً بينما جعلت لي أباً وولي أمر: ضميري وثقافتي، وأحيانا كأس عرق اشربه بعيداً عن الأنظار، موسيقى وأغنية اسمعها أو أدندن بها. من أين أجد لكل فرد في هذه الجمع ثقافة بعمق ثقافتك وثقافتي؟ أو كأس خمر يشربونه سراً أو علنا! أو أحثهم على سماع الموسيقى، وكيف اضمن نتائج يتمهم وسكرهم ونشوتهم مع الخمر والموسيقى والرقص؟ نعم لا تقتل إله الناس إذا لم تكن قد منحتهم إلهاً آخرَ افضل منه! ‍وما دمت لا أستطيع ذلك يجب علي أن أبقيهم على أيمانهم بإلههم. أترك الله في أحضانهم يعانقوه ما استطاعوا من قوة، بل أساعدهم على التمسك به، يساعدهم على تحمل موتهم، فتح نافذة يتلمسون منها ضوءً في دهليز الوجود؛ ليخرج منهم من يستطيع للهواء الطلق!

تفهمت هذا الرجل الغريب، ازددت احتراماً وحباً له، كنا نبقى في جدل عميق وحوار هادئ جريء صريح، ينتهي بقوله، وهو يهز رأسه كصبي حائر جاء لتوه من دفن والده:

ـ أتعتقد إنني فرح بموت الإله؟ كم أتمناه لو كان حياً يرزق، ويرزقنا‍ معه!

كنا نسهر الليل أحياناً مع كؤوس عرق، وأحياناً على أكواب الشاي، حتى يبزغ نور الفجر؛ فيفارقني؛ لأسمع صوته من المئذنة القريبة يصيح: الله أكبر، حي على الصلاة، حي على الفلاح. كنت أتابعه أخشى أن يخطئ فيفصح عن مكنونه، فلا تعرف عاقبة ذلك! وقلت يومها، هو يبحث عن إله للناس في مساجدهم، وأنا أبحث عن إله للناس في سراديب الشيوعيين!‍

يومها وجدت إنني وهذا الرجل في نفس المركب المبحر وراء هدف غامض، وفي نفس البحر الهائج المترامي دون شاطئ، وقررت مثله الهروب إلى الأمام، وعدم تثبيط همم هؤلاء المناضلين من أجل الشيوعية؛ ما دامت كل الأفكار حولنا تتراوح بين القومية والدينية والرجعية والديمقراطية غير الناضجة، والانتهازية! قلت في نفسي وما الضير أن تكون الفكرة مستحيلة ما دامت لم يحن أوانها بعد؟ فكل نضالنا اليوم كحزب هي في قضايا وطنية عامة، وذات طابع مرحلي؛ لذا أسمانا الناس بالوطنيين، ونسوا ارتباطنا بالسوفييت، وفكرتنا المستحيلة! لكنني بعد أن بلغت من العمر عتياً؛ اكتشفت مرة أخرى؛ أن النضال من أجل القضايا العامة؛ لا يكون صحيحاً وصائباً، إذا كانت نواة الحزب فكرة مستحيلة، أو خاطئة، وتابعة لأجنبي، سواء كان من الشرق أو الغرب! كنت في البيت أخاطب فراشتي الغائبة داخل ضياء المرايا، مرآة هذا البيت الصغير، أو مرايا البيوت الكبيرة أو المقاهي أو الحلاقين الذين يتلمسون رؤوسنا بهدوء ولو عرفوا ما في داخلها لولوا الأدبار أو أغمي عليهم، نعم يا فراشتي ومع كل ما سردت، مما هو مقنع أو غير مقنع كيف أنكر أن الحزب كل حزب، أو تجمع بشري يعلم النفاق والمداهنة وقلب الحقائق والزيف. وفي حزبنا الشيوعي نتعلم النفاق الثوري، فنحن نعرف البشر الفاسدين، والفكرة الفاسدة، ونسكت عليهم، حالمين بثورة عظيمة تقلب كل شيء، وتعيد ولادة كل شيء متطابقاً مع النقاء الثوري، وهيهات هيهات! في خضم هذا الانتظار الطويل يصير الكذب الثوري كذباً أبيض مشروعاً ومستطرفاً وتقليداً تكتيكياً بارعاً! تمهداً لأكاذيبنا الكبيرة المقبلة. كنا نكذب حتى بأسمائنا المستعارة المغلفة بسلوفين سوفيتي، فيصير عبد الله: أبو فلاديمير أو أبا تانيا أو لينا!! وأبو سميرة، أبو ترشكوفا، وأم جميلة أم برافدا، كذب ناعم لذيذ، أحدهم سمى ابنته "لايكا"، دون أن يعرف من هي "لايكا"، فقط هو اسم قادم من السوفييت، وحين قالوا له أتعرف أن لايكا اسم الكلبة التي أرسلها السوفييت إلى الفضاء؟ ارتج عليه وسارع ليسميها "عمشة" ! كان كذباً بسيطاً لكنه يكفي لضلالة مؤلمة: فمسؤول تنظيم صغير لا يتعدى عشرة أشخاص في الحلة يسمونه مسؤول الحلة، وسكرتير الحزب في المجالس الشيوعية العالمية: مسؤول العراق، والفكرة التي هي محل جدل ورفض واستنكار الكثيرين هي فكرة العراقيين، نعم يا فراشتي كانت كذبة تجر كذبة، نملة تجر نملة، سرب من النمل نراه تحت عدساتنا الثورية المكبرة أسراباً من الخيول على ظهورها فرسان انطلقوا يفتحون العالم! كيف تريدينني في هذا الخضم الراكد الآسن أن أحاور نفسي وغيري بصراحة الريح مع أشجار الخريف؟

اليوم وقد حلت الشيخوخة حلول فجر بارد أخير، عدت للتفكير بها: وقلت لابد من إعلان قناعتي بخطئها وفسادها، لا بد من العمل على إلقائها بعيداً، لا بد من إيجاد فكرة جديدة صحيحة صائبة، إذا أردنا حقاً النضال من أجل بلادنا‍‍، وبدأت أنادي بضرورة التجديد، فحص الفكرة، ولم اقل على الفور إن الفكرة خاطئة، لكنني اصطدمت بحقيقة أن رجال القيادة لا يهمهم أن تكون الفكرة خاطئة، أو صحيحة؛ ما يهمهم أن يبقوا في مراكزهم، كان الجواب الأبدي حاضراً، يقوله كل متشبث بالسلطة على مر الدهور:

ـ نحن بأية حال؟ العدو يضرب أعناقنا، وتريدنا نفكر بالنظرية؟ ليس وقتها الآن!‍

وقال لي عضو مكتب سياسي من جماعة السكرتير:

ـ نظريتنا صحيحة، مجربة، كلية القدرة، كيف تتمتع بهذه السمعة العالمية الهائلة لو كان فيها خلل! ‍

قلت: كأنك تتحدث عن سيارة، أو حلوى بماركة مشهورة عالمياً!

رمقني بارتياب، وجدني ألح على مناقشة الأمر قال بنزق:

ـ ولماذا نتعب أنفسنا بالتجديد؟ الرفاق السوفييت يقومون الآن بإجراء دراسات وبحوث للتجديد، نحن سنقطف الزبدة معهم، من أين لنا باحثون ودارسون بمستوى ما عندهم؟

ـ كيف نقبل أن يفكر الآخرون نيابة عنا؟ هل هم يعرفون ظروفنا أفضل منا؟

ويأتي الجواب همهمات وغمغمات تشبه زمجرة النمور في الغابة!

أسطورتنا أننا جلسنا على جبل الفكرة، اعتقدنا أنه جبلنا نحن، بينما هو جبل في أوربا دفعناه بقوة الوهم إلى أرضنا؛ ليقف وسط الصحارى والسهوب، وتجرأنا وقلنا للناس: أصعدوه حتى القمة، وإذا حوصرتم القوا أنفسكم من قمته، تتلقفكم أغصان الغار حيث المجد والخلود! التراجع ممنوع؛ فهو الخيانة، صرنا موزعي فكر، لا نحن منتجيه حقاً، ولا مستهلكيه بتدبر وحرص، كيف ينزل القادة عن قمة الجبل، وهناك انتبذوا لأنفسهم المنتجعات الفخمة، حيث الحسناوات والخمور، وكل كتاب أو صحيفة ضيف ثقيل؟ أحس أن كثيراً من رفاقي في الصف المتقدم للحزب وصلوا مثلي إلى قناعة رجل الدين الذي تأكد له أن لا إله ولا جنة ولا نار، ولكن لا يسعه سوى أن يندفع مع التيار لا يلوي على شيء، كثير من رفاقي كما أعرفهم يأخذهم الخجل أو الخوف فلا يريدون الإقرار أن ما سفحوا من أجله العمر والروح يتكشف عن وهم وهراء وكذبة صارخة؟ عندما حسمت أمري وغيرت فكري؛ فاتحت رفيقا في المكتب السياسي وهو من قلة أثق بنزاهتهم، برغبتي في الاستقالة قال لي:

ـ لو استقلنا يا رفيق جميعا يجب أن تبقى، فأنت خميرة النقاء في الحزب ومقولة ضرورة تمازج حكمة الشيوخ، بحيوية الشباب، تنطبق عليك، وليس على أي واحد من هؤلاء المترهلين! باستقالتك أنت بهذا تمنح كمتار، وحمه سور هدية كبير، ابق شوكة في عيونهما، أنا أعرف أنت منذ فترة طويلة لم تعد تؤمن بالشيوعية، لكنك بقيت معنا ربما لأسباب أخلاقية، ابق معنا حنى نكمل بعضاً من المشوار علنا نستطيع تخليص الحزب من حمة سور، وكمتار بيس وحمأة الفساد التي جرا الحزب إليها. قلت له: أحس انهما يبيتان شيئاً لنا، قال: لن يستطيعا! لكنهما استطاعا! فقد أطاحا بهذا الرفيق أيضاً. بعد أن أنفق عمره في نضال طويل، وحياة شاقة مريرة.

لم أكن أحس بالملل والسأم من سؤال الكثيرين المشروع: لماذا لم تر خطأ الفكرة إلا بعد أن تجاوزت الثمانين من العمر؟

كنت في غمرة ارتباكي أجيب في كل مرة بطريقة مختلفة لكن بنفس الفحوى:

ـ لا بد من الاعتراف بأنني بطيء التفكير، إذا كانت كل قوانين الديالكيتك خطأ، فإن القانون الذي يقول أن التغيرات الكمية تتحول إلى تغيرات نوعية يظل صحيحاً، نعم لقد تحول تفكيري وتطور ذرة ذرة، وهذا اقتضى وقتاً طويلاً!

وفي مرة أخرى أقول: حين تكون في مهمة نضالية كبيرة، فكأنك في طائرة محلقة في الأعالي، هل يستطيع لمن يختلف مع الطيار أن يفتح أبواب الطائرة ويخرج؟ لا بد من تحقيق هبوط هادئ آمن أولاً؛ ثم نتحدث عن تغيير الاتجاه، ورحلة جديدة! لابد أن بعضهم كان يضحك مني في سره، لكن أحدهم فجر ضحكته قائلاً:

ـ يبدو أن الشيوعيين يركبون الطائرات، ويتركون عقولهم تتبعهم على ظهور السلاحف!

آخر قال مواسياً:

ـ لكنك عانيت آلاماً كثيرة! كأنك حشرت قلبك بين المطرقة، والمنجل في شعاركم العتيد!

قلت" الألم الأكبر هو الخيبة بالفكرة!"

وأنا الذي أتحدث عن خطأ الفكرة، وأخطاءهم، وأخطاء غيرهم هل كنت بلا أخطاء أو ذنوب؟ كلا طبعاً، فذنوبي وخطاياي كثيرة،أنا بأعمالي أو سكوتي قد ولغت معهم بالخطيئة الكبيرة، وجئت لفكرة وطريق ليس لي، طريق المندفعين الهائجين بلا روية، بينما كان ينبغي أن يكون طريقي مع المتأملين المتبصرين حتى لو عبروا عنه بالكلمة الهادئة فقط، لقد زججت نفسي بين أناس يرون الثورة صخباً وضجيجاً وهدماً، دون قدرة على البناء، ومثلهم رددت شعارات وهتافات فارغة، ومارست كذباً ونفاقاً وجدلاً وترهات، ومعهم تمتعت بخيرات ومسرات سفرات طويلة وقصيرة إلى موسكو وبراغ وبودابست وصوفيا وحتى كوبا على حساب المعذبين، وشربت حتى الثمالة من كؤوس مباهج وملذات فنادق اللجان المركزية حيث تقدم أشهى المأكولات والخمور بينما الشعب حولها يتضور حرمانا من حقوق كثيرة. أشياء كثيرة ارتكبتها معهم، لا يغفرها لي حسن النية. أشعر بالخجل والندم والعذاب كلما تذكرتها، لا تبرر لي معاناتي الآن أي شيء، ربما الفرق بيني وبينهم الآن إنني أعترف وأقر بخطأي وجنايتي بينما هم سادرون في رضاهم عن أنفسهم، وأوهامهم حول أمجاد ومآثر!

خرجت من المكتب السياسي، فشعرت بسعادة لاستعادتي حريتي، ولكن هل انتهى الأمر؟ ما واجهته فيما بعد كان مفجعاً. ضربوا عليَ طوقاً محكماً من العزل والنبذ! ظل السكرتير يتهرب من لقائي كلما جئته إلى مقره الكبير في أربيل لأسأله عما يجري حولي، كان يتهرب، ولما التقيته لم ينطق بكلمة، ولم يقل أصحابه شيئاً. كانوا في تكتلهم حوله قد كونوا عصبة للقسوة والغرور الأجوف. اعتادوا الاجتماع مسبقاً واتخاذ قراراتهم، وما الاجتماع الرسمي الكامل أو الناقص عادة؛ إلا للتبليغ بقراراتهم!

ذهب حمه سور إلى بيت فخم أهداه له حكام أربيل. جاء راضي سعيد؛ فتواصل عزلي، وحصاري. صاروا يقولون إنني أشوش على فكر الحزب وسياسته، لم يقولوا إن الحصار كله بتحريض من كمتار بيس انتقاماً مني؛ لأنني افضحه وأشير إليه إلى أنه شخص لا يؤمن بأي شيء في الدنيا سوى استعمال الآخرين، والحزب من أجل غرائزه وشروره ومنافعه الشخصية، وإنه سبب في خراب، وعذاب الكثيرين. وحين يسأل البعض السكرتير الحالي؛ عما ألاقيه منهم يصر على الإنكار:

ـ نحن لم نفرض عليه العزلة، لم ندعو لمقاطعته، لكننا نطلب منه أن لا يتحدث بأفكار تخالف فكر وسياسة الحزب! والناس أحرار في علاقاتهم!

صرت عجوزاً اسري عن نفسي بآمال بدت مقنعة لي بعض الشيء. قلت سأبقى في صفوف الحزب، لي أمل أن يقوم الشباب والطيبون في قيادته بمراجعة أساسية؛ ويتحقق التغيير.

ويسألني بعض الشباب: أتنصحنا الآن بترك الفكرة كلها؟ وأجدني انتفض، لا! أبداً ! الشيوعية بذرة مناسبة للبحث عن العدالة الإنسانية، خذوا منها جوانبها المضيئة، العدالة، التضامن الإنساني، الانتقال لاشتراكية صحيحة ممكنة، للتمسك بالحرية، بالديمقراطية الحقة، حاذروا المستحيل والتعجيز، أدركوا قدرات الإنسان، ولا تحملوه فوق طاقته، لا تطلبوا من البذرة الطيبة ان تكون غابة للحديد والإسمنت، ولعروش الطغاة! لا تلعنوا البحر والرياح إذا كانت خرائطكم خاطئة مشوهة! وأفرح كثيراً حين تلتمع على وجوههم ومضة مشرقة، أحس بشبابي الضائع ينهض من بين الأنقاض، ومن رماد العمر، وتأخذني نشوة عارمة، وأجدني أبكي. ولكن تلاحق الأحداث الساحقة، وضغط القيادة المتحجرة جعل هؤلاء الشباب ينحسرون ليس عني فقط، بل عن أنفسهم وضمائرهم الغضة التي كانت في البدء متوهجة متعطشة للتطور. لا يمكن طبعاً زرع الأفكار والقناعات بنقل الدم! ليخوضوا هم شوط الألم الطويل من بدايته، ربما غداً يلومون أنفسهم؛ أنهم لم يقتنعوا بما كنت أقوله لهم، وتلك طبيعة البشر؛ فهم يفضلون تكرار الألم والعذاب، على أن يأخذوا العبرة من أفواه عقلاء، أو مجانين! صرت أقول لمن ظل يزورني أو لا يشيح عني يحين يلتقيني ويقبل علي مسلماً، ويتجرأ على الحديث معي: هذا هو البحر أمامكم، خوضوا غماره، صارعوا موجه وكواسجه، ارفعوا ما شئتم من أشرعة وقلوع، اقطعوا العاصفة، أو اركبوها، اصعدوا الجبل الشاهق، في النهاية، إذا لم تنعطفوا في اللحظة التي غفلت أنا عنها، وتتداركوا ما فاتني، فلن تصلوا إلا إلى الجزيرة النائية الجرداء التي وصلت إليها، ولن تجدوا سوى حفنة الرماد التي في يدي الآن!

لابد إن فهد، هنا مع الشهداء، لا أظنه يقبل بما يجري، كيف يحسب هو، وكمتار بيس، وحمة سور من نفس الحزب؟ ولا أظنه بقي على فكرته، فالموت أستاذ كبير يقنع تلامذته الموتى للنزول عن مغالاتهم ومبالغاتهم، فيصيرون أكثر تواضعاً أمام الحقائق، حتى ولو كانت صغيرة بحجم دود القبور. أنا نفسي أحس بالخجل أنني لا زلت حياً في زمن يموت فيه الأطفال والشباب، وأتفهم من يرى في ذلك تهمة، تدعوا للريب والشكوك في هذا الزمن، لذا لن أستغرب إذا سألني:

ـ لماذا تأخرت علينا؟

سأجيبه:

ـ لا أشعر بدنو أجلي، ينتهي عمر المرء حين ينتهي ضميره عن المساءلة، ومراجعة الذات، وما زال ضميري في محاكمة دائمة لي، ولمن حولي!

لا بد إنه سيتفهم ذلك، وسيتفهم كل ما يجري في هذا الكهف، ربما سيقف مع الشهداء الشباب ليحاكم طغمة الفاسدين، هكذا أتوقع، أو هكذا أتمنى! ولكن هل من المعقول إن فهد الذي أتى بالفكرة سيكون هو يحاكمها اليوم؟ لا أنا ما زلت سادراً مع الأوهام، يبدو أن الشهداء ومعظمهم من الشباب، هو من سيأخذ زمام الأمر مهما كان صعباً وقاسياً!

الآن عادت أغنية الشهيد كما غناها الغزالي بصوته الرخيم، ولكن بتغيير، لا يريده، ولا أريده أنا؛ فالزمن يفعل بالأغاني كما يفعل بوجوه الناس، يملأها بالتجاعيد، أو يمسح ملامحها فيعيدها عجيبة بحاجة إلى نار جديدة لتخبز:

يسألني البطران، ليش وجهك اصفر؟

كل مرض ما بي، بس حزبي احمر!

أيقصد أن الحزب لكي يبقى أحمر يمتص دم الناس، حتى يجعل وجوههم صفراء هزيلة؟ أم هو أحمر، لا لشيء، إلا لكي يستفز ثيران الدنيا لمناطحته، دون جدوى؟ حانت منه التفاتة، واجهته نظرات صديقه ورفيقه القديم كسيرة معذبة، زاد ألمه وحيرته، ماذا صرنا نرى ونسمع في هذا الكهف؟

(40) وجاءت عشتار تبحث عن تموز، وجمره بين رماد الشهداء!

وجد حسن طلقة أن سيره السريع يصيب هياكل عظمية حوله بالدوار؛ فراح يسير بهدوء كالمتسكع. لم يكد يسير خطوات قليلة متأنية حتى اجتذبت عينيه الغائبتين امرأة جميلة في حوالي الأربعين، بجسد ناضج ممتلئ، كانت طويلة رشيقة، ببشرة تجمع بين السمرة والتورد. كادت عيناه تعودان لمحجريهما من التراب الذي تفسخت وهو يحدق بها، وجه مشرق عذب الملامح بعينين عسليتين واسعتين،إحداهما تميل إلى الزرقة، شع منهما شبق أثار اشتهاءه حتى أحس أن كل غريزته تعود وتطلق نيرانها مترعة في تجاويف عظامه، ودمه كله يستأنف وجوده ودورته، وقلبه ينبض كما لم ينبض حين كان حياً. تلاحقت أنفاسه وهو ينظر إليها، لكنه وجد أنها بقدر ما تحمل من جمال تتمتع بمهابة خاصة تفرض على من يراها وجلاً وتهيباًً. لا يدري لماذا أدرك أنها لا يمكن أن تكون من ذوي أحد الشهداء، بل حتى لا يمكن أن تكون من أهل الدنيا، أما الجنة التي توحي بها فعلاً فهو ما يزال يعتقد أنها لم تفتح أبوابها بعد، أو هي غير موجودة أصلاً. ما جعله يعتقد أنها كائن غامض، خصلة من شعرها الناعم الطويل مسبلة بشكل مهمل كسر على كتفها العاري الملتمع، زبد بحر، وإضمامة ياسمين، ثمة خصلة أخرى اختبأت بين نهدين ممتلئين ناهضين، شفت عنه حلمتان نافرتان من وراء حرير أسود، فوق خصر أهيف لدن، وتموج فخذاها وردفاها بفتنة لذيذة! رآها تنظر إليه كأنها أحست بالحياة التي دبت بين عظامه! قال في نفسه هذه هي من بحثت عنها في حياتي، ولم أجدها سوى في مماتي، التقى الكثير من الفتيات في الميادين الرياضية خاصة خارج العراق، لكنه ما كان يحب أجساد الرياضيات. كان يقول أنها صلبة كالصخر، والعشق لا يسري ناعماً دافئاً إلا في الأجساد الكسولة الرقيقة اللينة المطواعة لزند الحبيب. اقترب منها وقد أزمع في نفسه أن يستعمل عبارات مهذبة تعلمها من سفراته الرياضية، قدم نفسه قائلاً:

ـ هل هناك من خدمة أستطيع تقديمها لسيدتي؟

قالت بصوت ذي جرس فيه بحة جنسية، لكنه رقيق أيضاً!

ـ أنا عشتار، وجئت أبحث عن زوجي!

اتقد خيال طلقة بفطنته السريعة، عرف أنها تبحث عن تموز وجمره بين رمادهم، لم يستغرق بالمشهد الأليم، طار مع اسمها إلى ذلك الزمن القديم، حين كان آلهة سومر وأكد، سادة الأعالي، وللسماء أرحام نساء طيبات تلد مع الآلهة آلهات لهن ضروع أبقار هائلة تدر لبناً وعسلاً وأمطاراً! وفي ذلك الزمان كانت الأرض بكراً كما السماء لم تدنسها حروب، ولا ساسة مجانين، أهي عشتار الإلهة أم هي امرأة عراقية بسيطة تحمل اسمها فقط؟ فكثير من العراقيين في الحقب الأخيرة صاروا يسمون أبناءهم: بأسماء معالم ورموز العراق القديم، يجدون فيها ملاذاً من الحاضر القاحل الكئيب. وجد أن هذه المرأة الحسناء الفاتنة مهما تكن، هي من سيحيل الموت في هذا المكان الموحش القاسي إلى حياة وحب وربيع، لكنه توجس؛ فهي ستبتليه اليوم بالعشق كما ابتلي في حياته الفانية بالسياسة. ولكن من دلها على هذا المكان؟ من قال لها أن زوجها أو شقيقها تموز يمكن أن يكون هنا؟سألها بقلب واجف تساقط فيه رماد ضلوعه:

ـ هل زوجك شهيد؟

قالت بصوت تفننت في تنغيمه:

ـ بشكل ما؛ تستطيع أن تقول كذلك!

فقد مرحه وجرأته فهو لن يسمح لقلبه أو صبواته أن تتطلع لزوجة شهيد رفيقه مهما كان جمالها باذخاً مثيراً؛ فالشهداء بينهم ميثاق أمانة ونزاهة:

ــ ما معنى بشكل ما؟

ـ هو ملهم شهداء، منذ آلاف السنين أبحث عنه؟

بكل هذا الجمال ومخبولة ؟ سألها :

ـ من هو ملهم الشهداء هذا الذي تبحثين عنه منذ آلاف السنين؟

قالها بجرأة من يتحدث مع مجنون. قالت:

ـ هو حبيبي وشقيقي وزوجي تموز!

لم يعد مندهشاً فكل شيء هنا ممكن،سأل بهدوء:

ـ تموز نفسه، إله الخصب والنماء، وملهم الضباط المجانين في بلادنا؟

ـ نعم!

قالتها ببساطة زوجة تبحث عن زوجها بين الأحياء لا بين الأموات! وفي شوارع بغداد لا في العالم السفلي!

ــ بكل سرور، سأرافقك للبحث عنه في مثوى الأموات هذا الذي يسميه اليونانيون حادس، وإلى أقصى السماء والأرض إذا اقتضى الأمر!

قرر أن يلازمها باحثاً معها عن زوجها الشهيد تموز، حتى لو كان جزاءه لقاء إحسانه أن يركله تموز، أو يقتله غيرة على زوجته الحسناء، فهو كما يعرف عنه شرس منفعل ساخن القلب والعقل حد الغليان! وهو المحتضن للكثير من ثورات العرب أو العالم! لكنه خشي أن يتخلى عن مهمته في هذه الانتفاضة، وهو ما نكص يوماً عن واجب نضالي؛ لذلك استدرك قائلاً:

ـ أولاً يا سيدتي دعيني أقول لك يشرفنا أن يكون تموز شهيداً بيننا، كما تشرفنا بنسبة الكثير من القديسين والأئمة وأولياء الله الصالحين ألينا أو نسبتنا إليهم، بالطبع هذا يعود لحسن ظن الناس بنا، ونتمنى أن نكون عند حسن ظنهم! ولكن هل أستطيع أن أعرف من دلك علينا؟

قالت بشفتين بلون الورد الجوري نافثة عطراً لا كلمات جافة:

ــ عرافة في السماء فرطت النجوم بين يديها على الرمل، وقالت اذهبي هناك؛ تجدين زوجك بين هؤلاء المجانين!

ندت عنه ضحكة قال :

ـ حقاً الجنون هو القاسم المشترك بين الآلهة والأنبياء والثوار!

قالت مندهشة لفراسته:

ـــ نعم هذا صحيح!وتستطيع أن تقول والشعراء أيضاً!

قال ممتلئاً ثقة باستجاباتها السريعة:

ـــ ما رأيك أن نقضي وقتاً هنا بين هؤلاء الشهداء المجانين نستمتع بحكاياتهم الشيقة حتى لو كانت حزينة، ثم قد يظهر تموز بينهم، أو قد نستدل على مكانه من حواراتهم الكثيرة المتشابكة!

قال ذلك، ومد لها ذراعه التي رغم أنها عظام وحسب، ولكنها كانت قادرة على أن تشف عما كانت عليه في حياتها الدنيوية من عضلات مفتولة وجمال وقوة عارمة. وضعت عشتار يدها البضة الحية على عظمة زنده وراحت تتبعه بينما حسن طلقة يفكر ضاحكا!: يا للنساء الجميلات، حتى لو كن آلهات، يمكن استدراجهن بكلمتين ناعمتين حالمتين!

(41) تعالوا نضحك على الشهداء!

سار حسن طلقة منتشياً تيٌاهاً على رفاقه الشهداء: أن أجمل امرأة في الكون تتأبط ذراعه رغم ما قيل عن سمعتها السيئة في إباحة فرجها لآلهة كثيرين بما فيهم والدها وأشقائها وحتى خدم آلهة وكهنة سوقيين كما قيل، أحس كأنه نسى كل هموم وأفكار هذه القيامة، وصار على وشك التفريط بواجبه النضالي، فالتفت إليها قائلاً:

ـ اعذريني إذا سهوت عنك فترة، حتى ننتهي من مهمتنا‍!

هزت رأسها الجميل بغموض. اعترض طريقه شهيد يسير بهيكله العظمي المتداعي رغم إنه استشهد شاباً، كان معروفاً بينهم بهوسه بالمسرح والسينما، ونال تعاطف الكثيرين من رافقه، فهو خريج أكاديمية الفنون، وله إنجازات مسرحية طيبة في بغداد قبل أن يضطر لتركها ومسرحه الأثير لديه هارباً إلى الخارج من ملاحقة السلطة، لم يستطع أن يحقق شيئاً في المسرح في أكثر من بلد أوربي حل فيه، كان يقول:المسرحي ليس كالكاتب أو الرسام لوازمه قليلة، هو يحتاج لخشبة كبيرة، وبناء كبير وزملاء كثيرين يشاركونه العمل وجمهور، المسرحي يموت في الخارج حتماً، وقبل أن أموت أريد أن أحمل بندقية أصوبها إلى صدور من حرموني المسرح. التحق بالأنصار، لكنه بالطبع وجد أنه لا يصوب بندقيته من الجبال إلى صدر رجال الحكومة؛ بل إلى صدور الجنود الفقراء، فألقى بندقيته، وأعد مسرحاً على بقعة صخرية مرتفعة قليلاً عن الأرض، ليمثل أمام رفاقه المقاتلين، مقدماً لهم مقاطع مسرحية من تأليفه، ورغم اعتداده بنفسه، وشعوره أنه ممثل ومخرج عظيم أضاعه العراق، إلا إن قدراته كانت متواضعة، لكنه كان محبوباً يلقى إعجاباً من رفاقه، ورغم بساطة أعماله وسذاجتها كان رفاقه يجدونها جميلة جذابة أو مسلية بين صمت الجبال وبغالها وأشباحها، وقادة حروبها، وجوعها وأخطارها! قال لحسن لطلقة كعادته معجباً بنفسه منبهراً بأي شيء يعن له رغم إنه صار يجد نقداً وتسفيها من جمهوره الصغير:

ـ لدي مسرحية رائعة عظيمة ستهز الجبال!

قال حسن طلقة مبتسماً مدارياً له كعادته:

ـ كنت تقدم مسرحياتك فوق الجبال، وكنت تهزها فعلاً، فكيف لو قدمتها من تحتها؟ ستنسفها بلا شك!

قال، متعالياً كعادته:

ـ لم تعد تهمني الجبال؛ تجاوزتها،أريد أن أهز شواهد القبور، جماجم القادة الفارغة، هذا يكفي!

قال حسن طلقة مسرعاً:

ـ حول ماذا تدور مسرحيتك العظيمة؟

قال، والدود يتساقط من عظامه:

ـ إنها بالطبع تعرض محنتنا، ومأساتنا كشهداء فاشلين فعلاً!

نظر إليه حسن طلقة مستنكراً غاضباً، لكن المسرحي راح يتعتع كما يتحدث حين يسكر في البارات آخر الليل، أو حين يحصل على زجاجة عرق مهربة من إيران أو تركيا إلى قرية جبلية قريبة من رابية مسلحة لمجموعته المقاتلة، رغم إنه كان يتذرع بتأملاته المسرحية ليتهرب من المهمات القتالية، التي قد تودي بجنود كان يصفهم: صبيان مغرر بهم، أو مجبرون!

قال حسن طلقة :

ـ هل لمسرحيتك جدوى، أنها ستأخذ من وقتنا القصير، ونحن نريد أجراء محاكمات كما تعرف؟

قال المسرحي :

ــ ومن يعلمكم كيف تجرون المحاكمات غير الفن. والمسرح بالذات؟ اسمع! هذه المسرحية استوحيتها من مشية السكرتير المتبخترة بين قبورنا وأسميتها (تعالوا نضحك على الشهداء)!

لم يستفز العنوان حسن طلقة، كم دارت في ذهنه مثل هذه الأفكار، الواقع اليوم ينضح بهذه الأفكار، لكنه شك أن يستطيع هذا الممثل البسيط والدعي: الضحك بشكل صحيح وجيد على الشهداء، وجد العنوان مؤثراً ومفيداً!

قال المسرحي:

ـ من تجربتي المسرحية في الحياة والممات وصلت لحقيقة واحدة أن مسارح العالم كلها تقوم على فكرة واحدة: هي ضحك الأقوياء على الضعفاء! وضحك الضعفاء على الأقوياء!

قال حسن طلقة:

ـ المسرح؟ هذه ذروة عظيمة، كيف نصعدها، ونحن في وهدة الموت؟

قال المسرحي مستجمعاً ثقته بنفسه، وغروره القديم الذي لم يأكله القبر:

ـ ليس هناك ما يعيد الحياة لرفاقي الموتى، سوى المسرح ومن سيقدمه بعظمته هنا غيري؟

كل القادة في التاريخ ضحكوا على الناس استدرجوهم إلى معاركهم وحروبهم وحولوهم إلى وقود لمجدهم،ثم ما أن يدفن الشهداء، حتى يغسلون أيديهم من ذكراهم، ويصعدون إلى عروشهم، وأسرة زوجاتهم وعشيقاتهم، يرتبون أرصدتهم في البنوك،يعتبرون أنفسهم متفضلين على الشهداء؛ قائلين: لبينا لهم تطلعاتهم في إثبات الذات وحب الظهور، قتلوا؟ ما ذنبنا؟ هذا اجتهادهم الخاص، لم يستطيعوا تفادي الرصاص، كثير منهم لم يتحل باليقظة الثورية،أو فن الحرب، لذلك سهل اصطياده من العدو! هم اختاروا ذلك، من جاء بهم؟ لنغدق عليهم كل الأوصاف الطيبة، نمنحهم الأوسمة، ماذا يكلفنا ذلك؟ هل هناك ضحك مرير أكثر من هذا؟

وجد حسن طلقة الفكرة مقنعة لكن كيف سينفذها هذا الممثل اللجوج؟ هو لا يتوقع شيئاً جيداً والوقت قصير، وعشتار معه، ولا يريد أن يرتبط بشيء آخر غيرها؛ قال:

ـ لنؤجل مسرحك حتى نرى إن كان سيتبقى لنا وقت في صحوتنا الدنيوية القصيرة؟

قال المسرحي بثقة أكبر :

ـ وكيف لا يتبقى لنا وقت؟ المسرح ينتزع من الموت وقته ومساحته!‍

مرة أخرى وجد كلماته مقنعة، يبدو إن هذا الممثل كان يتطور وهو في قبره، قال حسن طلقة

ـ هيئ مسرحيتك، وآمل أن أستطيع إقناع الرفاق لعرضها.

جذب عشتار ومضى بها، تنشق رائحة جسدها، شعر أن الحب الذي لم يجده في الحياة الدنيا قد جاءه الآن!

سار حسن طلقة مع عشتار لحظات بين الشهداء، وفجأة أحس بالسأم منها، كأنه عاشرها طويلاً قلبها على فراش اللذة، وشبع منها حد التخمة، رغم إنه لم يلثمها ولو بقبلة خاطفة، أدرك أن الخلل فيه، فهو ميت. لم لا يقر بالحقيقة، هو لم يستطع أن يحب امرأة حين كان حياً، كيف يستطيع الحب وهو ميت؟ لم المغالطة؟ قرر أن يتخلص منها لكنه، وجدها تمسك بعظمة ذراعه، ودبيب الحياة والشهوة أيضاً يسري منها إليه، كيف لا وهي الممشوقة الممتلئة برشاقة ودون بدانة ولا ترهل رغم العمر الطويل. نسى سأمه وعاد لاشتهائها، لكنه وجدها تعوقه عن مهمته الثورية الاستشهادية "ما هذا يا حسن، أنت في الحياة الدنيا لم تصدك امرأة في الدنيا عن مهماتك الحزبية والثورية، فكيف تجعل امرأة في الممات؛ مهما كانت عظيمة وشهية؛ تسلب روحك ومبادئك؟ التفت إليها، طلب منها أن تتجول على راحتها بين الشهداء، وتبحث عن تموز أو أن تجلس في زاوية وتنتظره؛ ريثما ينتهي من هذه المهمة التي هو فيها:

ـ مهمة طويلة ومضجرة بعض الشيء ولكنتها ستنتهي على أية حال، وأنت كما أعرف بعمر ابدي سرمدي!

قالت بهدوء:

ـ ومع ذلك الوقت عندي ثمين، أنا عشت أكثر من سبعة آلاف سنة، ومع ذلك لا أضيع لحظة عشق، أعجب لكم يا أحفادي أعماركم لا تتجاوز الستين أو السبعين عاماً، وتضيعون السنوات دون حب، ولا عشق ولا حتى مضاجعة عابرة، يا لكم من أحفاد سخفاء، ثقيلي الدم!

ـ ماذا نقول نحن الشهداء المساكين، وقد ضيعنا أعمارنا القصيرة بهموم حزبية فارغة، ولم نستمتع بلحظة عشق!

قالها بلهجة حادة غاضبة كأن هذه الجدة العراقية الكبيرة أصل المصائب كلها:

ـ أتعرفين يا سيدتي أن أكثر من نصف هؤلاء الشهداء ما توا عذارى لم يذوقوا جسد امرأة، أو حتى قبلة منها!

قالت مبتسمة باستعلاء:

ـ لا أدري كيف من لم يذق لحظة حب؛ كيف يحب البشر ويناضل من أجلهم، بالتأكيد ما أنه دعي كذاب، أو غبي جاهل،وفي ساعة ما، سينتهي إلى الكراهية!

قال حسن طلقة :

ـ على كل حال هذا ما حصل، ذلك نصيبنا!اعذريني سأذهب لعملي وسنلتقي هنا فنحن هنا صرنا كشهب محترقة تدور حول محور ما نعتقد إنه الحقيقة!

ـ الحقيقة غائبة منذ دهور! من قال هي معكم؟ من قال هي عند خصمكم؟ في كل حياتي السماوية والأرضية تعلمت أن لا حقيقة، إنما هناك بحث عن الحقيقة، فهي غائبة هاربة دائماً ومن يلقي القبض عليها يجب عليه أن يلقي القبض على روحه أولاً!

وجد أن الحديث معها سيطول وسيكون ممتعاً، تركها مضطراً:

ـ سأعمل على مهمتي، وألقاك بين ساعة وأخرى!

لم يكد حسن طلقة يرتد بصره عن عشتار مطمئناً عليها حتى قابله الشاب المسرحي، قال له كأنه ضبطه بالجرم المشهود:

ـ هذه عشتار صاحبة المثقفين المترفعين عن البسطاء، هذه كذبة المحلقين بعيداً عن طين الأرض، لا تدعها تلعب بعقلك، هي وزوجها تموز وضباط طائشون فاشلون وآلهة قدماء معتوهون، ضحكوا على الناس بوعود ثورات خائبة كثيرة، لا تدعها تلعب بعقلك!

تحاشى طلقة الحديث معه، قال له وهو لا يريد ان يغضبه:

ـ أنت محق، سنتحدث في ذلك فيما بعد، يا رفيقي!

(42) حين يكون البوسطجي وزيراً ... لا تنتظروا رسالة حب!

كان محمد البيرماني صديقي القديم. رفيقي في قيادة الحزب السابقة، وأحد وزيري الحزب في الحكومة عندما تحالف البعث الحاكم مع حزبنا في الجبهة. بعد انهيار كل شيء وخروجنا، ظل البيرماني مقيماً ببيته في بغداد؛ تحت رقابة رجال السلطةً، توقع كثيرون إنه سيدفع ثمن استقالته، لا أحد من العاملين مع صدام يتجرأ على الاستقالة، ذلك يعني الموت، صدام هو الذي يقيله، أو يقتله. لكنه غض الطرف عن استقالة البيرماني، ادخره لحاجات المستقبل. اخذ يكلفه بحمل رسائل أو دعوات إلى زعماء الكرد، وأحياناً إلى قادة الشيوعيين. كان يقول عنه إنه "معتدل وعقلاني" وهو كذلك فعلاً، لكن السبب ليس هذا، صدام يدرك إن البيرماني يتمتع بسمعة طيبة لدى الشعب الكردي، فأزمع أن يكسب وده عله يدفع به ليكون زعيما للأكراد بديلاً عن الزعماء الحاليين الذين لا يثق بهم مهما تقربوا منه. كثيرون يسمون البيرماني بالبوسطجي، آخرون يسمونه غراب البين، فهو في رأيهم لا يحمل لهم من بغداد غير أنباء الموت والخراب والخداع والحيل والإنذارات! ثمة من أسماه "الجحش المثقف أبو العوينات الذهبية"، حيث ينعت القوميون الكرد، المسلحين الكرد من قبل النظام بالجحوش! البيرماني صديق شبابي رغم إنني أكبره بثمان أو سبع سنين. تخرجت قبله من كلية الحقوق، ولكننا عملنا معاً في المحاماة. جمعتنا مواقف عصيبة قربتنا كثيراً من بعضنا. وكنا معاً في الفريق الذي تطوع للدفاع عن سكرتير الحزب فهد عام 1947 أمام المحكمة المشكلة بإشراف الإنجليز. وقد أفلحنا في تلك المحاكمة من إنقاذ رقبته من حبل المشنقة، وشعرنا بالنصر أننا استطعنا تحدي الحكومة وسفارة الإنجليز، لكنه أعدم بمحاكمة أخرى بدعوى أنه واصل عمله الحزبي من داخل السجن! كثيرون يصمون البيرماني بالخيانة لأنه قبل ان يكون وسيطاً بين صدام وخصومه. منتقدوه والمشككون به أسموه شيوعي الصالونات، اعتاد خمرة السلطة، ترفها ونعيمها وأبهتها! حين كان عضوا في قيادة حزب الكادحين هل رأيتموه يوماً يجلس مع عمال أو كادحين؟ هل رأيتموه يوماً في ثياب بسيطة متواضعة؟ دائماً ببذلة فاخرة متأنقاً متعالياً جافاً مكوياً أكثر من ملابسه؟ ماذا تنتظرون من رجل كهذا؟ هل يلحق حزبه شريداً معه في المنافي؟ هل يغوص تحت الأرض لينظم الخلايا السرية المناضلة ضد السلطة؟ ظل قريباً من صدام حتى صار أحد حاشيته، مسكتاً ضميره بأنه يقوم بوساطة من أجل الحزب ليجنبه كوارث السلطة! لكن في هذا تهويل وفق النبرة المعهودة، فهم يتناسون إنه قضى سنوات طويلة من عمره في سجون العهد الملكي والجمهوري، وتلقى صنوف التعذيب والاضطهاد! ويجهلون طبيعته التصالحية المسالمة القائمة على كره الأحقاد والتنافر، وإن سؤاله الأساسي كان دائما: لماذا يتناحر العراقيون ويتصارعون ويبددون أرواحهم ودماءهم وثرواتهم؟ لمصلحة من؟ كان يقول لي: النفط هبة عظيمة للعراقيين لكنهم لو وهبوا بدلاً منه محبة بعضهم لكانوا أغنى! قلت ولو اجتمع النفط والحب بالطبع سنكون في الفردوس، ولكن كيف يرضى أعداؤنا أن نكون في الفردوس؟ كنت أبرر وضعه أمام خصومه بأنه فعلاً يحمل رسائل وعروض صدام، بحسن نية، ليقي الناس نوبات جنونه الذي ينزل حمماً وغازات سامة على البشر العزل! بعض الناس يختارون الطريق الصعب المعقد للتعبير عن وطنيتهم. همهم بالدرجة الأولى وقاية شعبهم من المزايدات والكوارث والنكبات، حتى لو ضحوا بسمعتهم من أجل ذلك. البيرماني أحد هؤلاء، مقتنع بان لا ضير عند الحاجة من مقاربة العدو، دون الابتعاد عن الأهل! إطفاء بؤر الحقد والجنون في قلب قائد متجبر، أو محتل غازٍ، يقتضي ملاينته وترويضه كوحش. هم يرفضون ما أحدثهم به عنه، أتفهم رفضهم وأراه مع كلامي على نفس المسافة من الحقيقة.

أمس وقف البيرماني عند باب بيتي دون موعد معي أو حتى إعلامي بقدومه، لو إنه أرسل طالباً الزيارة لرفضتها، أو لطلبت تأجيلها؛ فأنا في وضع لا يسمح بتداخل معقد في حياتي هنا. جاء فجأة بموكب من سيارتين مع حراسته، مقدراً، وهذا صحيح، أنني لا يمكن أن أرفض دخوله بيتي، وهو رفيقي وصديقي القديم، ولنا ذكريات وأيام جميلة غابرة!

ثم هو ينقل من صدام رسائل إلى زعماء الكرد وإلى قيادة الحزب الشيوعي وليس لي، وهم يستقبلونه بالأحضان كما أعرف، رغم سخريتهم منه، وهم يعلمون طبيعة مهمته، ويتحدثون مرة عن حسناتها،ومرة عن وسيئاتها، ولا يجمعون بينها! لكنهم على تواصل دائم معه، بينما أنا لم أره منذ افتراقنا في بغداد سوى قبل سبع سنوات، وها هي المرة الثانية يزورني فيها على مدى عشرين عاماً تقريباً! تصرفات قادة الحزبين الكرديين الرئيسيين هنا غريبة ومحيرة، فهم يختلفون في ما بينهم، يتصارعون ويقتتلون على فلوس الكمارك والضرائب وريع الأرض، وعلى مناطق النفوذ والهيمنة، وحتى على التهريب والخمور والنساء أحياناً، ثم يتصالحون لفترات، يتبادلون الولائم الدسمة، ينحرون الخراف وعلي شيش، ويجرون والويسكي جداولاً، وينطلقون يرقصون، ويدقون الطبول والمزامير، يتوحدون ضد ما يسمونه: العدوين القوميين اللدودين: العرب والتركمان، دون أن يغفلوا عن مراقبة الآشوريين والمجموعات السكانية الصغيرة القومية والدينية الأخرى، ويتنافسون في تقربهم من السلطة، وبقدر ما يطرحون من مناقصات في شعاراتهم معها، يزايدون في شعاراتهم أمام الكرد! حين نشرت أمريكا مظلة حمايتها على مناطق حكمهما وعزلتها عن العراق بخطوط وهمية وحقيقية عادوا يتصارعون بحروب دموية طاحنة على ذات الأغراض: السلطة والأرض والمال، وبينما يستعين الطالباني بإيران، يستعين البرزاني بصدام! الحزب الشيوعي يعيش بينهما ضيفاً مقبولاً على مضض! هما يحتويانه في مناطقهما لأنه مروج نشيط ومقنع إلى حد ما لحق الكرد في تقرير المصير، وهما يعدان نفسيهما الزعيمين الشرعيين الوحيدين الذين سيتوليان ترتيب هذا المصير وجني ثماره، وهما باحتضانهما الشيوعيين ينالون رضى اليساريين والتقدميين في العالم، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره لم يعد هذا الاعتبار مهماً! جميعهم: القادة الكرد وقادة الحزب الشيوعي؛ لم يقطعوا خطوط اتصالهم بصدام، رغم العداء الظاهري، ولم يقطع هو خطوط اتصاله بهم، ليس فقط عبر البيرماني بل عبر وسطاء خارجيين وداخليين وضباط مخابرات وسفراء عراقيين ومبعوثين بعضهم صحفيين وكتاب، لكن القادة هنا من القوميين الكرد والشيوعيين إذا أرادوا أن يحرقوا خصومهم أو يتخلصوا من شخص ما اتهموه بعلاقة مختلقة مع السلطة ليرموه بالرصاص ويلقوا جثته للكلاب! شيء حسن من صديقي القديم أنه جاءني بسيارته وموكبه كاملاً، لكي لا يتهمني أحد بعلاقة سرية لي معه! وأنا وهو في عمر يحتم علينا أن نتقبل الأمور بهدوء، وأن نتأمل جراحاتنا لا أن نصنع جراحات أخرى!

نزل من سيارته، فتح يديه معانقاً رغم بروده وجموده المعروفين، عانقته شاعراً برعشة فرح في قلبي، ورأيت بريقاً غامضاً في عينيه!

ظل واقفاً عند باب البيت بقامته الطويلة النحيلة، بدلته الأنيقة،نظارته الطبية ذات الإطار الذهبي البراقة تخفي عينيه الصغيرتين، يحف به مرافقوه؛ ينتظر دعوته للدخول، بدا مرتبكاً كطفل ضبطه أخوه الكبير يسرق الحلوى من صندوق الأب! لكنه لم يستطع أن يطرح شيخوخته وراءه، كان قد هرم أكثر من ذي قبل، ما أثار شفقتي عليه، فاستقبلته باسماً، ومع ذلك قال بحزن:

ـ هل تستثقل زيارتي؟ هل تشعر بالحرج؟

ـ لا .. أنا مشتاق لك كصديق عزيز، لا كسياسي؛ فأنا كما تعرف لم أعد أصلح للسياسة!

قال: بل أنت روحها الحقيقي!

(43) قبل سنوات كان المكان والمزاج مختلفين!

في لقائنا قبل سبع سنوات تحدث مبرراً وضعه:

ـ ربما تعتقدون إنني خائن، لا! لقد اخترت لنفسي هذه المهمة الصعبة والمريرة وأنا أعرف أنها ستضعني في محنة قاسية معكم، ومع غيركم، شكوك ووصم بالخيانة كالعادة، لكن هدفي كان ببساطة محاولة إعادة الوحدة لشعب يتمزق دون طائل، ولقادة جميعهم لا يقدرون ثقل مسؤلياتهم التاريخية، ويغرقون بما هو عابر وزائل! وربما بمصالحهم الخاصة أيضاً! لم أكن أشك به أو بموقفه، كنت أعرف أحزانه القديمة أيام سجون نقرة السلمان وبعقوبة في العهد الملكي، ما كان يطيق فرقة وتقاتل العراقيين، كان يقول هم يبددون جهودهم ودماءهم هباء. بلدنا بحاجة لتآلفهم وانسجامهم، لكنني كنت أخشى عليه لاقترابه من صدام أكثر مما يجب، ليس فقط لأنه أعدم العشرات من رفاقه، وحطم حزبه، وله مع الشعب الكردي قضايا دموية كثيرة شائكة؛ لكنني أعرف أنه لا يستطيع أن ينتزع منه شيئاً جديداً، فقد خبرناه وعرفنا عقمه الروحي والأخلاقي، والبيرماني لا يمكن أن يصنعه من جديد! لكنني كنت أتفهم موقفه أو وضعه، فهو يريد أن ينقذ ما يمكن إنقاذه والتخفيف من عبئ الدم في ظل تعقد وتشابك الأوضاع كلها، لم أكن اشك بوطنيته، لكنني بقيت متحفظاً على طبيعة وعيه لها!

آنذاك، كنا جالسين في بيت فخم بأثاث فاخر لصديق مشترك لنا في السليمانية، أما اليوم فقد جلسنا هنا على كراسيين مخلعين في هذا البيت الصغير العتيق متقابلين يتطلع أحدنا بوجه الآخر كأنه يراه لأول مرة، وليس صديقين منذ ما يزيد على نصف قرن، قلت مبتسما، محاولاً تبديد توتره:

ـ معذرة مقعدك هنا لا يليق بوزير!

ـ تعرف أنا الآن لست وزيراً، ولا بوسطجي كما يقولون عني، ثم أنت تعرف، حتى عندما كنت وزيراً كان كرسيَ مخلعاً آيلاً للزوال السريع!

ـ لنقل مقعدك هنا مقعد فاعل خير!

ـ سمني ما شئت إلا وصمي بالخيانة والعمالة لأحد غير العراق!

حاولت قدر استطاعتي أن أبقى مبتسما له رغم شعوري بغصة غامضة، قلت:

ـ دعنا من المادية التاريخية، ولندخل بالمادية الطبيعية، كيف صحتك؟ هل ما زلت مواظباً على كأسك الوحيد من الويسكي كل مساء؟

جفل قليلاً، تذكرت أننا كنا نغمز بالويسكي عملاء الإمبريالية أو السلطة، وبالفودكا عملاء موسكو، وفي هذه اللحظة المختلطة قد يشعر أنه الآن أحد عملاء أصحاب الويسكي، فشعرت بالندم لقولي هذا، لكن ظل ابتسامة مرتجفة ارتسم على وجهه فجأة، قال :

ـ لا ! حتى هذه النعمة لم تعد الصحة تسمح بها، صار علي أن أتناول كل يوم كأساً من الأدوية المتنوعة‍.

مضى يتحدث عن الوضع العام في العراق والمنطقة، وكعادته استغرق بأدق التفاصيل، راح يستفسر عن رأيي بالوضع، وتوقعاتي للمستقبل، ولم يعرج ولو بشكل طفيف على علاقتي بالحزب وقيادته الحالية، لكنه قال :

ـ رفيق! كثيرون يعرفون وزنك السياسي، تاريخك وحكمتك!

بعد برهة صمت استعاد رصانته الشديدة الجافة التي لم أكن أحبها فيه حتى أيام رفقتنا النضالية الغابرة، قال :

ـ ماذا تريد أن تقول للسيد الرئيس؟

وحين وجدني صامتاً أنظر في وجهه الذي وجدته كوجهي تتداخل ملامحه وتمحي كقطعة من عجين، قلبته خميرة الزمن طويلاً، قال :

ـ اطمئن كلهم حملوني تحياتهم واقتراحاتهم، أو مطالبهم للسيد الرئيس!

ـ وما الجدوى من قول كلام سيهمله؟ أو حتى لن يسمعه؟ أتذكر أيام الحرب مع إيران حملتك مطالب أو توصيات كما طلبت، لا شك عندي أنك نقلتها له، ولا شك عندي أن العشرات، وربما المئات قالوها له بكلمات مختلفة، ولكنه ظل راكباً رأسه، حتى أفلح الخميني في إطالة الحرب ثماني سنوات، وهرس بشراً كثيرين من الطرفين، وقد تغير حكام كثيرون في العالم؛ بينما صدام لم يغير طريقته في الحكم!

نهضت لأعد الشاي، لكنه طلب مني الكف عن ذلك والعودة للجلوس معه!

ـ اعتذر وقتي قصير!

رحت أعد دورق الماء وأجلب بعض الكؤوس، تذكرت جيداً كيف تحدثنا آنذاك، قبل سبع سنوات، في زيارته الأولى لي، كان قد قال:

ـ هناك فرق كبير بين من تسبب في الحرب، ومن بدأها، نقول أن صداماً بدأ الحرب، ولكن علينا أن نبحث عمن تسبب بها، تجاوز على حدودنا، وقطع عنا الماء، وتدخل بشئوننا، واحتل الجزر العربية، وأيقظ الفتنة الطائفية، صدام أراد التصدي لذلك؛ فبدأ الحرب، ثم أراد إيقافها بعد أيام عندما شعر أنها ورطة كبيرة، ومتاهة أوحال، لكن الخميني، وقد استيقظت في أعماقه كل عقد وأحقاد التاريخ، رفض إيقافها متجاهلاً النداءات والقرارات الدولية، الحرب الآن هي حرب الخميني ضد العراق تحت شعار براق: الطريق إلى فلسطين يمر عبر كربلاء. لهذا فالرئيس الآن في حرب دفاعية وطنية، وتقتضي أن نقف معه لا أن نخذله،وخلافنا معه لا يعفينا من مسؤليتنا إزاء الوطن، مهما كرهنا الحاكم، يجب أن نبقى نحب الوطن!

كان هذا رأيي وقناعتي أيضاً، لذلك بادرت لموافقته على الفور، قلت:

ـ ولكن الواجب على صدام أن يبادر لتسهيل عودة مشرفة للمعارضة فهي قوى وطنية، ويقوم بما يمكن أن يجعلهم يثقون به، فهم لم يعرفوا منه سوى الغدر، ونكث العهود!

قال بلهجته الدبلوماسية:

ـ هذا يمكن أن يرتب بمباحثات سهلة!

عاد صمت متوجس بيننا،قطعه بصوته المتمهل الناعم:

ـ وأنت يا رفيق هذه حياة لا تليق بك، لدي رسالة من السيد الرئيس، هو يدعوك للعودة إلى بغداد، وسيعاد لك بيتك المصادر، وإذا شئت تستطيع أن تختار بيتاً آخر في القادسية، حي الوزراء، المطل على دجلة!

ندت عني ضحكة سريعة مقاطعاً قلت:

ـ المشكلة ليست معي، ولا مع بيت يطل على دجلة، صحيح إنني على خلاف مع قادة الحزب، ولكن ليس لائقاً، ولا مفيداً أن أعود أنا وحدي؛ بينما آلاف من رفاقنا غير مقتنعين بإمكانية العودة، والعمل مع صدام، لقد غدر بنا جميعاً، وبوحشية ويصعب أن نثق به ثانية!

خيم صمت ثقيل، خيل لي إنه أدرك بماذا أفكر، أهو استدراج؟ ألم يلبي دعوتهم عضو قيادي انشق عن الحزب مصدقاً وعودهم، وبعد ظهوره ببرنامج في تلفزيونهم؛ دخل إليه في بيته رجال من المخابرات، ربطوه إلى كرسي كان جالساً عليه ليكتب بنود تحالفات جديدة معهم،وانهالوا على رأسه ببلطة هشمته، وتركوا طبعة شفاه حمراء على كأس خمر بجانبه، ليوحوا أن من قتلته امرأة اقتادها إلى بيته وحاول اغتصابها. ثم دبروا لرفيق آخر عاد معه حادث اصطدام سيارته فخرج منها بفلتة مرعوباً مكسر الأطراف متورم الوجه، فساعده أقاربه على لملمة عظامه وإعادته إلى باريس؛ لتلقي العلاج والانكفاء، وقد سمى هو حلمه السياسي مع النظام في مقابلة لإحدى الصحف ب(الحمل الكاذب الذي يخامر امرأة عجوز في الثمانين!)

طرح محمد البيرماني سؤالاً ربما أراد منه أن أضغط باتجاه حل ما لقضية كان قد ناقشها مع قيادة الحزب:

ـ طرحت على قيادة الحزب ضرورة إيقاف قتالهم للجيش، قالوا إننا لم نصطف، ولا مرة واحدة مع الجيش الإيراني في حربه ضد الجيش العراقي، ولكن هذا تلاعب في الكلام، فهم يحاربون الجيش من مكان، والجيش الإيراني يحاربه من مكان آخر، والنتيجة واحدة: جميعهم بنادقهم مصوبة ضد الجنود العراقيين!

ـ محاربة الجيش الآن خطأ فادح، جريمة لا تغتفر،إلا إذا هو هاجمهم دون سبب معقول. وينبغي أن يكون الرد بحدود الدفاع عن النفس.

قال: بصوت هادئ مستريح:

ـ أشكرك كثيراً فنحن تقريباً لدينا آراء متطابقة أو متقاربة! ولا عجب فنحن كونا خبراتنا على طريق واحد طويل!

ـ تقارب أو تطابق الآراء لا يعني أننا في نوايا واحدة، أقصد آراء صدام وجماعته طبعاً!

كان كثير النظر إلى ساعته، عادة قديمة فيه، ليشعر نفسه أو الآخرين أن وقته ثمين جداً! في لقائنا ذاك، قبل سبع سنوات سألني:

ـ هل لديك ما تريد أن أنقله للسيد الرئيس!

لم تكن بيده أوراق، لكنني كما عهدته يتمتع بحافظة ذهن جيدة، لا بد أن مرافقيه يحملون معهم مسجلات وكاميرات سرية فهذه مهمتهم أصلاً، لذلك تعمدت أن أتحدث بصوت مرتفع وواضح:

ـ قل له أن يوقف الحرب، حتى لو استمر الخميني بها، بذلك سيحرجه ويضعه في زاوية ضيقة ستضطره لوقفها، أو يمنى بعزلة عالمية خانقة! يطلق سراح السياسيين المسجونين من كافة الأحزاب والجماعات، ويكشف عن مصير آلاف المغيبين، وإن يرد الاعتبار للذين أعدمهم ويعوض أسرهم، ويعتذر لهم وللمنفيين وللعراقيين جميعاً، ويهيئ كل السبل لعودة مشرفة للمعارضين، ويسمح لهم بإصدار صحفهم ومنشوراتهم، قل له إنه بصفته الطرف الأقوى عليه أن يكون شجاعاً حقاً ويعترف بأخطائه، وأن يكون موضع ثقة لا موضع شك، ولا يطالب الضحايا بمزيد من الآلام! وان يتعهد بتطبيق الديمقراطية حال إنهاء الحرب!

كان يهز رأسه كالضجر، أو من يعرف استحالة الاستجابة للرسالة، لكنه قال:

ـ أعدك أنني سأوصل كلماتك حرفياُ لسيادته!

كنت أعرف ومن خلال عملنا السابق في الجبهة، أن صداماً يقلب كل كلمة تقال من خصومه خاصة، حللها بطريقته طبعاً ثم في النهاية لا ينفذ إلا ما كان في رأسه، وإنه لا يتأثر ولا يتغير، وإنه يتلذذ بنداءات خصومه اليائسة، وهذا سر جمود الأوضاع وتدهورها تحت حكمه، وتحجر حزبه وتفسخه تحت قيادته. وما سيأتي من كوارث!

(44) صديق أم صياد نسور؟ لا يوجد بوسطجي جميل في زمن الكراهية!

اليوم وبعد سبع سنوات عجاف وجه البيرماني لي نفس السؤال:

ـ هل لديك ما تريد أن انقله للسيد الرئيس؟

أشحت عنه، حل صمت ثقيل بيننا، أحسست بتزايد سأمي منه، ومن هذا اللقاء الذي تمنيته أن يكون بشكل آخر، فيه استمتاع بذكرى أو حلم أخير، في هذه الدنيا التي لمسنا فناءها السريع، تنبهت عليه يستحثني أن أقول شيئاً:

ـ هل صار صدام بعد ما جرى في حرب الكويت؛ يطيق سماع كلام مر جداً؟

ـ الآن السيد الرئيس حريص على سماع النصيحة، وعليه الأخذ بها، مهما كانت مؤلمة!

ـ رغم هول ما جرى للعراق، لا أظن إنه قد تغير، أو سيتغير، ومع ذلك، سأقول كلمات قليلة لا من أجله طبعاً، بل من أجل وطننا! قل له أن يعي أن الوطن والناس في خطر رهيب هذه المرة، أمريكا تحتل اليوم العراق من الجو، وفرق التفتيش تحتل قصره وحجرة نومه، ومكتبه، وإذا كان قد تجاهل كل شيء؛ فلا يمكنه تجاهل الحقيقة الكبرى وهي: إن أمريكا تحتل العراق فعلاً، وصدام نفسه يحكم في ظل احتلال! وللخروج من المأزق عليه أن يشكل مجلس إنقاذ وطني يضم عقلاء وحكماء يتولون أمر البلاد، ويواجهون المخاطر الهائلة، ليكن هو على رأسهم، لا يهم، المهم أن يأخذ بنصيحتهم، قل له الوضع لا يحتمل كثيراً، لم يتبق سوى ان تدخل الدبابات الأمريكية بغداد وترفع العلم الأمريكي على القصر الجمهوري، وسيكون هو المسؤول الأول عن ذلك، وهذه أضحت مسألة شكلية، وتحصيل حاصل؛ وما سيأتي عهود ظلام وهلاك ودمار لم يشهدها العراق في كل تاريخه!

غمر وجه البيرماني تقطيب حاد مكفهر، لكنه ابتلع ريقه:

ـ سأنقل كلماتك كما هي؛ على مرارتها!

وعاد ينظر إلى ساعته، قال:

ـ اعذرني لدي مواعيد كثيرةً!

تذكرت أن عمل ساعي البريد كثير وشاق، فهو ينبغي أن يدور على المحلة كلها، لكن ساعي البريد العادي شخص محبوب، وعمله لطيف جداً، فهو يلتقي بوجوه أناس تنتظر رسائل من عشاق، وأحباب ومفارقين، بينما رسائل البيرماني ثقيلة الدم، عتاد يوزع على مقاتلين ينتظرون حروباً مجهولة غامضة. من خبرتي معه، ومع غيره اكتشفت أن معظم وزراء العهود الثورية في العراق، لا يصلحون حتى لمهمة بوسطجي، فهم لا يوصلون الرسائل لأصحابها، بل يمزقون أغلفتها، يطلعون على أسرارها الصغيرة، يخونون الأمانة ويستثقلون رسائل الحب، فهي ليست لهم طبعاً، يستدعون أصحابها، إلى مكاتبهم للتحقيق معهم، لا يوجد بوسطجي جميل في زمن الكراهية‍!

عاد الصمت يجثم علينا، كان فقط يرفع إصبعه لتثبيت نضارته الطبية على عينيه وتلك عادته حين يتحير أو يشغله أمر محرج. نهض، فنهضت معه. جذبني من كتفي إلى زاوية قريبة. أخرج من جيبه رزمة دولارات ومد يده بها يريد دسها في جيب بجامتي محاولاُ أن لا يجعل حراسه يروننا. أمسكت يده: وقد ندت عني صيحة غاضبة؛ فوجئت أنا بها أيضاً:

ـ ما هذا؟ أتريدون شرائي؟

ارتبك مرتجفاً، سحب يده بالنقود وهو يتمتم خجلاً :

ـ إنها مني، صدقني! إنها مني! ألسنا أصدقاء؟ لكنني بقيت مهتاجا، أحسست بصدري يعلو ويهبط، يكاد ينفجر، ولهاثي يعلو:

ـ لم تطعنني هكذا؟ ماذا دهاك؟ هل جننت؟

ظل يردد هامساً متحيراً، وقد اختنق صوته:

ـ لم أكن أقصد، هي مني، قدرت أن ظروفك صعبة!

ـ اطمئن أنا بخير!

أخذ يتمتم حزيناً، وتركته دون أن أخطو معه إلى باب البيت، قر في نفسي إنه قد شعر من كلماتي وإدارة ظهري له أنني قاطعته نهائياً! ولا أريد رؤية وجهه ثانية!

حين واربت الباب خلفه، أحسست بالشجن وندمت إنني قد ثرت بوجهه. شعرت إن الأمر بسيط، وما كان يستوجب ثورتي، كان ينبغي أن أرفض نقوده وأصرفه بهدوء وبساطة، فهو صديقي القديم، ويعرف خلقي وطويتي ولا يمكن أن يفكر بشرائي أو رشوتي على وطنيتي، وقد أراد أن يساعدني مادياً فقط لا غير! عزوت غضبتي؛ لعمق حساسيتنا! أم تراني مخطئ؟ وهو أيضا قد تهتكت ذاكرته وسريرته! كم خربتنا السياسة؟ نخرت أرواحنا، أتلفت ذكرياتنا وأيامنا القديمة الطيبة، أحسست بعد ذهابه بصمت حزين، اعتراني شجن. ارتديت ثيابي وخرجت على عجل. رأيت بعضاً من سكان المحلة ينظرون إليُ! من حقهم أن يتساءلوا: من هذا الذي يسكن البيت الصغير المجاور ويزوره أشخاص بموكب وفخفخة؟ رحت أتملى سماء القلعة، والفضاء العميق الأزرق. كم توالى على حكمها من جبابرة؟ كم مرت في دروبها سنابك خيل محاربين. عجلات ملوك وكهنة منتصرين ومهزومين؟ لماذا صرنا بهذا الحال؟ صديق لا يفهم صديقه. حاكم لا يفهم شعبه أو واجبه. شعب لا يفهم نفسه، ولا وطنه ولا حكامه!

توقفت برهة، حيال شمس تجر شعاعها الغارب من فوق القلعة، سألت نفسي: هل ما يزال محمد البيرماني طيبا، ولم تفسده السلطة بضغوطها، أو وعودها كما يحدثني قلبي الخدر بنسيم الماضي، وذكرياته العذبة الحزينة؟ أم تراه هو الآخر قد فسد وأضحى ما هو أسوء من بوسطجي لرسائل الشيطان؟ صياد نسور نادرة أصيلة، تحنط،تملأ بالقش، توضع في قاعات القصر الرئاسي!

(45)  شهرزاد تأتي من الموت حاملة ألف ليلة وليلة من المرح!

سمع طلقة صوتا رقيقاً مغناجاً يقول:

ـ حسن ..يا حسن.. يا حبيبي يا حسن!

صوت رقيق دافئ احتار، أين سمعه من قبل؟ في الواقع لم يسمعه في حياته من قبل، فحياته الرياضية أضحت قاحلة بسرعة مذ اعتنق الشيوعية، واعتقد أنها تقشف ونسك وطهارة. في الصوت الذي يسمعه لأول مرة رقة ممتزجة ببحة جنسية مغرية تجعل ما بين فخذيه من رماد يستحيل جمراً، تلفت إلى مصدره فجاءه ثانية:

ـ لا تراني أنا خلف غلالة رماد ولكن احزر من أنا ؟

ظل متحيرا، قالت:

ـ سأقرب لك الأمر، أنا من حملتها في حلك وترحالك بين الجبال والكهوف والربايا المسلحة في مجلدات أربعة، أنسيت كم سهرنا معاً أحدثك وتحدثني!

صاح بشهقة كادت توقف قلبه الخفي ثانية:

ـ شهرزاد شهرزاد يا حبيبتي يا شهرزاد!

نعم هي شهرزاد وقد انطوت كساحرة في صندوق ذهبي من أربعة أجزاء هي ألف ليلة وليلة (طبعة بولاق بعريها اللذيذ، وألفاظها الفاحشة الصادقة العذبة) كان بعض رفاقه يبدون استغرابهم كيف يحمل هذه الكتب الخليعة المائعة إلى جانب مذكرات جيفارا والجنرال جياب وهوشي منه وماوتسي تونك وميشيل دوبريه (إضافة لجريمته الفكرية السابقة في عدم حمله لكتب فقهاء السلفية الماركسية الأولى الذين كما يقول: شابت لحاهم الثورية في صورهم على الجدران السرية، وذاكرة الرفاق قبل أن تشيب على ذقونهم حقاً) ويستغرقون متحدثين كيف يمكن أن تستقيم كتب شرائع الثورات الجديدة وحروب الفقراء وعصاباتهم الباسلة مع حكايات عشق الجواري والغلمان ودسائس ذات الدواهي والقهرمانات الخبيثات ذوات الشهوات التي لا تنطفئ إلا على أسرة الأمراء، وفي خوابي خمرتهم المعتقة!

ـ كم محفل الشهداء سخي كريم، قبل قليل التقى فيه عشتار، والآن شهرزاد. هل جاءت لتسجل ما سيحدث، فعيناها الجميلتان هما أعظم من أية عدسة كاميرا فيديو أو سينما في هذا العالم ومن أجدر منها لتشهد عذاباتنا وحكاياتنا.عل يوماً يأتي فتصعد للعالم العلوي وترويها للعالم وللأجيال القادمة والمعذبة مقدما!

-         كيف انبثقت اليوم من بين ركام الكون المنتشر سديماً هائلاً غامضاً، كيف جاءت وهي عشيقة الملوك وضجيعتهم الشبقة وجليستهم اللبقة إلى هياكل الثوار البائسين؟ تقدم منها أزاح عنها غلالة الرماد المتموجة واجف القلب خشية أن يجدها هيكلاً عظميا.رآها،لا تزال بجسدها الحي وقد صار نحيفاً ممشوقا، غصن زهر ذابل قليلاً، يزال يحمل عطره ورونقه، والوجه جميل فاتن قادر كما كان على أن يثني ملك عن قتل امرأة أو رجل أو شعب بأكمله. تجرأ وانحنى على يدها، لثمها تاركاً عليها ما تبقى من تراب شفتيه مختنقاً بدموع خفية قال:

ـ آه كم أسعدتني حكاياتك في ليالي عمري الحزينة الجافة، بددت عني وعن رفاقي الكثير من وحشة الجبال ورائحة البارود،عوضتنا عن الورود والعشب المحترقين بنار الثورة والسلطة معاً!

قالت بصوت راقص كأنه يصدر عن مراهقة لا عن امرأة مسنة مجربة عاشت عهر وطهارة العصور كلها:

ـ واليوم جئتكم بألف ليلة وليلة من المرح!

قال بصوت حزين :

ـ وأين القلوب يا شهرزاد التي تعانق المرح؟ ها أنت تريننا هياكل عظمية تصفر بها ريح العالم السفلي!

ـ انا مستعدة أن أسهر ألف ليلة وليلة؛ مقابل ساعة من فرحكم!

ـ آه كم أنت كريمة، بينما رواة القصص في هذا الزمان أداروا ظهورهم لمآسينا، أخذتهم تلفزيونات تدفع أكداس دولارات مقابل تسالي وأكاذيب عاطفية وأوهام؟

قالت مستنكرة:

ـ لا يمكن لقصة حب أن تتحول إلى تسلية فهي ذوب قلب وحرقة روح، ومتى ما صارت تسلية كشفت نفسها: كذبة أخرى!

ـ تحملت عناءً كبيراً في مجيئك من بغداد قاطعة مئات السنين!

-         قالت متداركة :

-         ـ من بغداد؟ لقد هجرت بغداد، مذ غادرها سيد الطرب والترف والعشق هارون الرشيد!

-         تفكر لحظة حسن طلقة:

-         ـ ولكنك حسب علمي لم تعشي في عهده، بل جئت وصنعته ثانية،فأنت من انتزعه من العدم،فظل خالداً معك. كيف تقولين إنه هجر بغداد؟

ـ لا وجود لهارون الرشيد دون بغداد فعندما استعبدها كجارية أصحاب العمائم وداستها، سنابك المغول قبل قرون، تمزقت روحي معها ووجدتني أفر منها كطير يفر من شجرة تحترق!

-         ـ وأين ذهبت؟

-         ـ أبوح لك الآن بسري، تواريت منفية أجوب متخفية أرجاء الدنيا احمل قيثارتي وأغني على أبواب حانات العالم! وأحياناً أتسلل إلى رياض الأطفال في أنحاء الدنيا، أروي لهم كأية جدة عتيقة معتوهة حكايات عن الحب المفقود بين البشر!

-         لم يكن حسن طلقة مصدقاً ما يرى. أحس بهيكله العظمي وقد صار بجناحين، ولكن أين يطير؛ وهو محاط بجدران عالم ما تحت الأرض؟ قرر أن يستغل فترة عدم اكتمال الجمع، أو تشكل ما أزمع الشهداء عليه من محكمة، ويقضي معها وقتاً تتحدث له فيه عما رأت في رحاب الدنيا، وما تبقى في روحها من عطر بغداد وذكرياتها وندى لياليها وأصباحها، وهل ما تزال في روحها أصداء مما تردد في حجراتها، وعلى ضفافها المشرقة بالخضرة والطيور، وعيون الحسان السارحة بين جنات وبيوت الرصافة والكرخ! هي كما يعرف لم تكن عراقية، تفتحت زهرتها الغضة المكتنزة بالشهوات المؤجلة أو المتسامية بين زهور البهار، وسواقي الفلسفات السمحة والمتزمتة في الهند، وبعد أن حطت كحمامة على أغصان أشجار بلاد فارس، وتشبعت بشذى أشعارهم وأحلامهم وروحانياتهم؛ جاءت بغداد لا لتشهد ليالي هارون الرشيد الحالمة؛ بل لتستعيده وتخلقه من جديد،بعد ان توارى مع عهده السعيد. وهي لكثرة ما حلمت بها وتشبعت بأريجها وأنغامها صارت تعتقد أنها قد عاشتها في ظلال الرشيد، ربما هي جاءت بغداد لتلئم جراحها وتمنحها العزاء بعد فقدان حضارتها وألقها ومباهجها وعيشها الناعم الباذخ باحثة عن المزيد من الأحلام الضائعة: هي لم تعد هندية أو فارسية أو عربية، فهي تولد كل يوم: امرأة بغدادية جميلة ذكية مثقفة، مسجلة في القلوب مواطنة صالحة، عظيمة في دول العالم كله، تحمل هموم الناس على اختلاف أجناسهم،أحلامهم، اتزانهم، هوسهم، أين الملوك والأباطرة والجبابرة العتاة الذين دوخوا العالم أزماناً طويلة؟ أين خليلاتهم ومغنياتهم الأجمل والأهم منهم؟ أنهن هناك في كلماتها يأتوننا نسمات فجر، وورد ليال ناعمة؟صار يحدث نفسه: ما الذي يدعوك يا حسن طلقة لأن تثق بشهرزاد المولعة بحكايات الملوك والأمراء والقوادات والسحرة واللصوص؟ من غير المتوقع أن تتواضع شهرزاد وتصغي لحكايات الثوار؛ خاصة إذا كانوا خائبين مدحورين! فهي حتى إذا كانت قد تنازلت في زمن مضى وقاربت آلام العشاق المدنفين، وجارت صخب غرائزهم وصبواتهم، وخالطت المتهتكين والمتعطشين للحب في شذوذه وجنونه، والمتمردين على عسس الحكام، وأسواق التجار، وخالطت الراجمين بنار شهواتهم محاريب الأئمة والقديسين، والباكين على أبواب الأمل، والضاحكين على أبواب اليأس، والصافقين خلفهم أبواب الهجر، والمكر،وأبواب الغنى والفقر، والسلطة والعهر،نازلين سفن السندباد المصارعة أنواء النفس قبل أنواء البحر،فهي اليوم لن تجازف بما تبقى لها من روح لترافقك وأصحابك الثوار الخطرين الذين لا متعة ولا سلوى لهم غير الإدمان على دخان السياسة وكؤوسها المرة.صمت برهة ثم قال لنفسه: مع هذا يمكنك أن تصدقها ساعة وتقضي معها ما تجد من وقت. ربما عالم الموت قد قلبها من حب الأمراء والسلاطين إلى حب الثوار والمناضلين، فالموت هو المعلم والمربي الأعظم، ربما تحدثكم بما هو ممتع ومفيد وربما تستدعي لكم من القبر هارون الرشيد بجبروته وفساده وفجوره، وما تبعه من خلفاء مهملين فاسقين لتحاكموهم بدلاً من قيادة حزبكم، فمآسي اليوم ومصائبه وانحطاطه هو نتاج تلك العهود التي قضاها الحكام الكبار القدامي بالإهمال والتفريط والكسل والانحراف، دائرين بين المحاريب وكتبها المملوءة بالعناكب، والحانات وجواريها وغلمانها وخمورها الطافحة،فالهزيمة والمأساة بدأتا من هناك! ومع ذلك دعها تروي قصتكم على طريقتها حتى لو جاءت مخالفة لما يحكى اليوم من قصص وروايات، ولكن هل للحكايات منطق أو قانون؟ وأي إنسان غير الأبله الساذج يضع للحكايات والروايات والقصص وصفات طبية؟ وعلك تجد عندها إجابة لسؤالك الذي كتمته طويلاً: ما الذي أتى بي للسياسة والأحزاب وأنا الحالم الطائر بأجنحة الحكايات والقصائد والأغاني والراكض مسافات طويلة مجتازاً كل الموانع طبيعية أو اصطناعية،كنت أركض باحثاً عن تفوق، عن مدالية ذهبية، أو شهرة. حين صرت أركض بين الجبال حاملاً بريد الثوار، صرت أقول لنفسي ها أنا أركض باحثاً عن روحي؟ عن روح وطني؟ عن روح حياة ضائعة زائلة تسبقني مهما أسرعت في عدوي بين الجبال وحافاتها العالية السحيقة، عن وجوه أصدقاء وأحبة ضيعتهم في دروب الليالي؟ عبثاً، لم أجد سوى شمس غاربة، وظلال هاربة، حتى صرعتني رصاصة كانت تركض أسرع مني، هل يجدي أن أسأل شهرزاد أو عشتار عن جواب لسؤالي الذي أتعبني في حياتي وموتي؟ لماذا وصلنا لهذا الحال؟ أحس فجأة أن وهجاً أضاء المكان، والكهف الكبير يمور بالنور في داخله، ورغم أنه لا يؤمن إلا بالعلم، لكنه في هذه اللحظة سمح لقلبه الخفي أن يأخذه حلم عظيم سعيد، فعشتار هي إلهة الخصب والنماء، لم تأت إلى عالمهم هذا، عالم اللارجعة، عالم الفناء الأبدي، دون غاية لا بد أنها، وهي جدة العراقيين الرحيمة، قد جاءت لغاية طيبة، ربما لمسة منها تجعل الفرحة تسري في عظام هؤلاء الأموات الأحياء، أليست هي التي حيث ما مرت قدماها تفجرت الينابيع وجرت الجداول وبزغت الأقمار والكواكب، ونهض الأموات من رقدتهم! ستتولى شهرزاد سرد حكاياتها المسلية الملهمة، وتسجيل مأثرتهم الحالية، كم المرأة رائعة، طيبة حنونة! الرجال يخربون العالم، وتأتي النساء لإصلاحه، هذا ما يحدث اليوم، وكل يوم! هناك أمل كبير،عليك يا حسن ابن طلقة أن تمسك بعشتار وشهرزاد ولا تضيعهما حتى لو فشلت المحاكمة فذلك لن يعني نهاية كل شيء، الآن ردت الروح لعظام الموتى، كل الموتى، قال :

ـ سيدتي لا يوجد شعب في العالم منشغل في السياسة كالعراقيين، هم يجادلون ويتناقشون بها حتى وهم يأكلون ويشربون، أو يتضاجعون ويحلمون، أو يتغوطون، ويتقيأون، هم مبتلون بالسياسة ابتلاء الخيول بالقراد، والإنجليز بالضباب، ولكن لا يوجد شعب فاشل في السياسة، غبي، جاهل بها خائب فيها مثلهم! هم يفتخرون أنهم مفتحون باللبن وبالطين،وبالرصاص وكل أنواع المعادن والأخشاب ولكنهم في الحقيقة لا يستطيعون رؤية الطريق الصحيح حتى تحت شمسهم الساطعة! رجل دين جاهل أبله واحد، أو حزبي دعي، أو ضابط واحد نصاب، يأخذهم إلى النهر ويأتي بهم عطشى! هل رأيت في العالم، أو في قصصك مهزلة كهذه؟ بعد قليل سنشهد معاً ساعة حقيقة نادرة محاكمة رجال ضللونا طويلاً ولكن هذا ليس مهماً، حضوركما أنت وعشتار أمل لنا، أمل للعراق التائه الشريد!

ـ هذا مؤسف، عهدي بهم قديما، أذكياء ظرفاء أهل شعر وفكر وغناء وفكاهة ومرح، أشكرك على إطراءك، ولكن لا تعول عليّ كثيراً، أما عشتار هذه؛ فلم تدخل عقلي منذ سمعت بها، وجدتها متعجرفة، اختارت سكنى السماء، مترفعة علينا نحن سكنة الأرض، ومع ذلك أنا مستعدة لإيجاد طريقة للانسجام معها!

قال ضاحكا: أنت يا سيدتي روضت الرجال، فكيف بالنساء؟

قالت بلهجة الخبيرة:

ـ أسهل علي ترويض ألف رجل، من ترويض امرأة واحدة، خاصة إذا كانت مغرورة!التفتت إلى حشد الشهداء قالت، فقط لتغير مجرى حديث يتعبها:

ـ أراهم بسحنات مختلفة!

ــ فعلاً، معظمهم من عوائل فقيرة، كادحة ومعدمة، أو موسرة قليلاً، ولكن تجدين بينهم رفاق من أسر غنية، أو أنهم كانوا ناجحين في حياتهم العملية والاقتصادية، ولا يعانون من أي عوز مادي، وقد جاءوا فقط تلبية لنداء ضمائرهم في ضرورة أن تكون السعادة والرفاهية والعدالة للجميع، وهؤلاء كان يحظون باحترام خاص؛ ذلك من الواضح أنهم ما جاءوا من أجل مكسب خاص!

توقفا في سيرهما، كان المخرج المسرحي، لا يزال مصراً على تقديم مسرحيته " تعالوا نضحك على الشهداء" وقد أقنع بعض ممثلين قدامى تقاعدوا مع الموت على المشاركة معه في تمثيلها، وهم الآن يجرون بعض التدريبات عليها، راح مع شهرزاد يرقبانهم، كان صوت الممثل يرتفع مجلجلاً يهز صخور عالم الموت:

ـ لا يستشهد إلا المغفلون، لا يقبل الاستشهاد إلا السذج والجهلة والسطحيون، العاطفيون المرضى، الواهمون فقط؛ يسعون لموتهم وعذابهم تكفيراً عن ذنوب لم يرتكبوها،أو يموتون لطموحاتهم المجنونة،ويقولون أنهم يموتون من أجل الآخرين.

الممثل الثاني: لا أنت منفعل،متحامل هم يموتون من أجل غيرهم، ومن أجل القيم العليا، هم مخلصون للوطن، أوفياء للمبادئ؟

ممثل آخر يتحدث غاضباً:

ـ عن أي وطن تتحدثون؟ عن أي أرض وسماء وماء وهواء تتحدثون؟ هل يمكن أن يكون الغني عراقياً، والفقير عراقياً بنفس القدر؟ الوطن الحقيقي هو الطبقة وليس الأرض،يا سادة؛ المكان الذي لا أجد فيه لقمة خبز، أو مأوى ليس وطني، لذا الحقيقة القاهرة والتي لا مفر منها إنني بلا وطن. عن أية وطنية، وأي خراء تتحدثون؟

تقدم رجل،طويل نحيف بلحية بيضاء، وجهه وسيم رغم تقدمه في العمر، على وجهه سيماء بهاء، ربت على كتف أحد الممثلين كان أبنه، لم يوجه حديثه له وحده، جال بنظراته على الشهداء القريبين منه، قال:

ـ اسمعوا يا أولادي، أنا قضيت عمري صلاة وصوماً ونسكاً وحرماناً من متع الدنيا أملاً بجنة الله، سألني أحدهم ماذا سيكون موقفك لو بعد الموت اكتشفت أن لا جنة ولا نار؟

لم يفاجئني سؤاله، فأنا قد طرحته على نفسي مرات ومرات، فلا مؤمن حقيقي دون شك، أجبته:

ـ بكل بساطة أعانق موتي وأكتفي به، فهو الراحة الأبدية حقاً من خدعة الحياة والموت! أقول لكم يا أولادي، لا تتعبوا أنفسكم، بمحاسبة أنفسكم أو غيركم، الصدق والوفاء،الخداع والضلال أشياء تتبادل مواقعها كما الكثبان في الصحارى، أين تبدأون، وأين تنتهون؟ عودوا لنومتكم اللذيذة الهانئة، لا تقلقونا بشأنكم!

لكن الشهداء الممثلين واصلوا تمثيلهم:

ـ عن أي وطن تتحدث أيها المخبول؟ وطن لا أمتلك فيه شبراً واحداً، ليس وطني، أتريدني أن أستشهد في سبيله، من أجل أن يستمتع به الأنذال هم وأبناؤهم المترفون وعاهراتهم؟ أية مبادئ نخلص لها؟ لا بد إنك تعني الشعارات والأكاذيب والكلمات الطنانة الفارغة التي يصوغها جهلة يهرفون بما لا يعرفون، لا يدركون أن الكلمة مسؤولية، جبناء لو أتيت بهم أو بأبنائهم ليموتوا من أجل ما طرحوه من أفكار؛ لبالوا على أنفسهم، وولوا هاربين!

ـ لو امتلكت اقطاعيات وشركات في وطنك هل ستموت دفاعاً عنها؟

يضحك، وهل سمعت بإقطاعي أو صاحب شركة استشهد؟ لا طبعا، سأؤجر مساطيل يستشهدون نيابة عني!

ـ لو هدد أحد حياتك، مد يده إلى عنقك ليقطعه ألا تموت من أجل نفسك؟

ـ سأحاول دفعه عني بكل الكلمات الطيبة!

ـ وإذا أصر على قتلك؟

يتلجلج صوت الممثل؛ متصنعاً الارتباك:

ـ آنذاك لا مفر من القتال!

يأخذ الممثل بالتصفيق منتصراً:

ـ أنظر! أنت ستقاتل، ستستشهد من أجل نفسك، لا بأس إذاً لا مفر من الاستشهاد، طالما هناك أشرار، طماعون جشعون، هناك حروب وصراع وموت، وستسمع عن شهداء ومضحين!

يتصنع الممثل استعادته لرباطة جأشه:

ـ نعم أموت من أجل نفسي، من أجل حبيبتي، من أجل أطفالي، من أجل الحب. هذا ممكن ولكن ليس من أجل وطن ليس لي، أو من أجل ملك أو رئيس، أو حزب هو أول من ينتهك حرمة بيتي مع حبيبتي، ويقتل أطفالي.

يصفق الممثل الثاني بقوة قائلاً بلهجة المنتصر:

ـ أنت تقر بضرورة الموت، بالاضطرار إليه، والموت من أجل الوطن هو موت وقائي محتم لكي لا تصل السكين إلى عنقك وأطفالك.

ــ هذا مغالطة أنتم توسعون أسباب الموت وتتهاونون بالحياة التي أعلى قيمة في الوجود!

يقف وسط الباحة ويأخذ بالهتاف: أيها الشباب لا تدعوا الأحزاب والطامحون بالسلطة يضحكون عليكم! لا تموتوا من أجل وطن وهمي، أو شعار فارغ، أو ملك أو رئيس أو حزب، أو دين ومذهب، موتوا من أجل الحب، الحب فقط هو ما يستحق أن نموت من أجله؟

يأخذ الممثلون الشهداء بالتصفيق لأنفسهم، وينظرون لحسن طلقة متوسلين أن يسمح لهم بتقديم عرضهما. رغم أنه لم تعجبه أفكارهم كثيراً، ويجد بعضها فجة مرتبكة مشوشة، لكنه يقرر أن لا يخيب أملهم، ويردهم، خاصة هذا الممثل والمخرج، الذي لم يحظ عمل مسرحي له بالقبول من القادة الحزبيين بين الأنصار، فيقول:

ـ أعدكم بان أسعى لتقديمه، لكن المشكلة، إن الموت قد أمهلنا فترة قصيرة، قبل أن يعود لإرجاعنا إلى قبورنا، عسى أن تطول فسحتنا وتستغرق وقتاً طويلاً.

التفت حسن طلقة إلى شهرزاد:

ـ ما رأيك؟

هزت رأسها بأسى وجلال فائق:

ـ يتصور البعض أن قضاياكم جديدة لم نرها في زماننا، لا، المأساة واحدة، والمشاكل هي ذاتها، من قبل زماننا أيضاً، فقط أنتم لديكم اليوم تلفزيونات، بينما كانت لدينا بلورات سحرية في قلوبنا، تسكب الحقائق على ضمائرنا وأرواحنا مباشرة، لا سبيل لمواجهة الشر إلا بأكثر طرق الخير فاعلية وجدوى! لا تردوا على الشر بالشر! لا تردوا على الموت بالموت، استعجلوا الوقوف على الحقيقة، ولكن لا تستعجلوا انتصاركم بالمزيد من قلب الحقائق، تريثوا! لا تريقوا دماً قبل أن تتأكدوا أن لا طريق آخر دونه، كل مواقع وكراسي المجد لا تساوي قطرة دم أو آهة من إنسان،فكيف إذا قتل أو تعذب؟

نظر طلقة إلى وجهها الجميل، هذا الذي أوقف طاغية عن قتل النساء، هم أن يقول لها اسمحي لي أقبل ثغرك الجميل، لكن الحياء على ما يبدو لا يموت مع الموتى، انحنى على يدها وقبلها، اسمحي أن أواصل عملي سأعود إليك، سأعود حتماً!

(46)  بين ظلمة الرحم، وظلمة القبر، خفقة حلم أهوج؛ لا أكثر!

-         وقف شهيد رافعاً عقيرته: أنسيتم ما كنت أحدثكم به عن رحلة الشهيد إلى غايته، أتريدون أن أعيد لكم ما كنتم وافقتموني عليه، ولم نختلف! سمع تصفيق وضحكات وقد أحاطوا به،قال أحدهم: وكيف ننسى كلماتك التي اختصرتنا كما يختصر الإنبيق صهريج ورد بقارورة عطر؟ قال آخر : ما قلته هو الحقيقة، قال الشهيد سمحوا أن أعيدها لمن نساها والتزم الصمت في هذا اليوم:

-         ـ أطوار العذاب التي تمر بها روح الشهيد: نظرة شزر، كلمة نابية، بصقة (وإذا لم تختصر الرحلة برصاصة) تتواصل: صفعة، قيد، عصابة على العينين، حجز، استجواب،اعتقال، تحقيق وتعذيب، حكم،سجن، زنزانة،إعدام، يقطف الجلاد الرأس، ويقطف قادة الحزب الثمرة الشهية اليانعة، رقم جديد لقائمة الشهداء الطويلة، ثم لنرفع الأنخاب، بعيداً عن دموع الأمهات رجاء، كي لا يتلوث كأس الشمبانيا!!

-         صفق شهداء، والتزم آخرون الصمت!

استطاع يونس رحيم أن يعرف مما سمعه من أحاديث وهمسات بعضهم له أو لغيره من الأحياء، أن الانتفاضة لم تقم باتفاقهم جميعا. ثمة خلاف وانشقاق حدثا بينهم حولها، وبينما مضى المنتفضون في خطتهم، مغتنمين فرصة نقل رفات بعضهم، ومجيء بعض قادة الحزب لافتتاح المقبرة، أزمع آخرون أن لا يبقوا في قبورهم بل يلاحقون المنتفضين لا ليمنعوهم عن المحاكمة، بل ليواجهوهم ويردون على أقاويلهم وادعاءاتهم وتهمهم التي يرونها عاقة وباطلة وظالمة. قيل أن بعض الشهداء المتمسكين بالحزب وفكرته وسياسته غاضين النظر دوماً عمن يتبوأ قيادته، وعن سلوكهم وسياستهم،حاولوا الاتصال بقيادة الحزب وإعلامها بما يبيت لها الشهداء المنتفضون، لكن انقطاع الكثير من قادة الحزب عن كل تواصل روحي مع الشهداء مكتفين بترديد الألفاظ، وتسميتهم الحزب بحزب الشهداء،فوت الفرصة عليهم للعلم بالانتفاضة، وتحاشي وقوعهم بقبضة المنتفضين، ويقال أن ثمة معلومات عن هذه الانتفاضة أمكن إيصالها لقيادة الحزب لكنها تجاهلتها غير مصدقة أن شهداء طواهم الموت منذ زمن بعيد يمكن أن يثورا ويطيحوا بهم إلى العالم الأسفل، بعضهم قال "هل يعقل هذا ؟" بينما البعض الآخر،لم يشأ أن يصدق أن الشهداء الذين تراكم عليهم تراب الزمن الطويل، ما زالوا قادرين على التفكير وتأمل ما يجري على سطح الأرض!

ولكن لماذا ثار هؤلاء الشهداء على حزب وفكرة ضحوا من أجلهما بأرواحهم، وبحياة لم يروا منها سوى القليل؛ حيث معظمهم قتل وهو في ريعان الشباب؟

-         كان يونس طيلة سنوات نضاله التي هي سنوات عمره المديد، محذوفاً منها فترة الصبا ومطلع الشباب الناعمة المترفة القصيرة، يتأمل الذين يلتحقون بالحزب سريعاً أو بشيء من التأني والتردد، ويمكثون فيه طويلاً أو قليلاً، ثم يستشهدون أو ينصرفون بإرادتهم عن الحزب أو يطردون لما يحدث لهم في السجون وتحت التعذيب أو الاغراءات؛ محاولاً أن يعرف خصالهم وسر تصرفاتهم، يقترب من كنه نفوسهم المعذبة،أو الهانئة بطمأنينة اليقين ورضا الضمير، رغم قلق الشيوعي وخوفه في حياة محفوفة بالموت وبالعيون الراصدة وفوهات مسدسات السلطة، وبالتقارير التي تطاله حتى من بعض رفاقه المهووسين، فيروح يراقب نفسه حتى تنبت له فجأة عيون ومخالب جنب قلبه وجنب الرئة وجنب المعدة، تنغزه كلما تنفس أو أكل وشرب أو اشتهى أحب أو همس أو تكلم؛ فيكون عليه إما الاحتمال أو التخلي عن هذا العبء الرهيب. وجد يونس أن أولى خصالهم التي شدته إليهم هي طيبتهم، كانوا فقراء، ولم يبحثوا عن خلاصهم الذاتي. أو أغنياء لم يتمتعوا بثروتهم، وانخرطوا مع الفقراء بنضال شاق مرير،(لا ينكر: هناك أغنياء جاءوا للحزب بهدف مزاوجة الثروة بالسلطة، أو لنوع من الوجاهة) ولكن يونس صار يرى الآن أنها طيبة تحمل قدراً كبيراً من السذاجة،صار يقول في نفسه لكي تكون شيوعياً ينبغي أن تحمل قدراً من السذاجة، بعضهم يسميها النقاء أو البراءة. وحين يكون العقل بكراً غير ممتلئ بشيء، سذاجة مستنقع،آنذاك لا يجفف إلا بأحد شيئين، الاستشهاد حيث ينتهي كل شيء. أو الشجاعة الفائقة: مواجهة العقل وزرع أرضه الشاسعة الهائلة بكل أشجار المعرفة التي تحفل بها حدائق، وغابات الدنيا! واليوم هل كل الشهداء؛ تخلصوا من سذاجاتهم؟ وجد في الكهف كثيرين لا زالوا بعد كل هذا الموت الطويل يدافعون عن الفكرة القديمة، سكارى ونشوى بخمرة الخلود، ولكن هل كل من أتى الحزب؛ نقي طيب كريم؟هناك الأدعياء،والماكرون المخادعون، الجشعون، المتهالكون على المتع والسلطة، ورغبة التحكم برقاب الناس،هؤلاء كم وقع بينهم من شهداء الصدفة، وقد وجدهم نادمين يسفهون كل شيء،ليس من اجل قضية أفضل طبعاً، بل من أجل أن لا تكون للإنسان في الدنيا قضية غير قضيته الخاصة، وهؤلاء كان يونس يعرف بعضهم فراح يتحاشاهم في الكهف. أيام النضال القديم كان يقال دائما: المحن والأوقات العصيبة فوائد عظيمة فهي تفرغ الحزب من الكذابين والأدعياء والانتهازيين، وتجعلنا نرى كيف أن الذين كانوا يأكلون من نعم الحزب؛ صاروا يأكلون من لحمه، فهناك من يرى الشموع المطفأة في قلب الظلام، ويقودنا إليها لنوقدها. وهناك من يشم النسمة العذبة في وسط المستنقع، وفي قلب العاصفة الهوجاء فيجلبها لأرواحنا. لقد تعبت من التفكير، كم أتمنى لو توقف رأسي عن هذه التكتكة كساعة قديمة صدئة،تضجر بصوتها المعتل؛ دون أن تشير للزمن الصحيح! ‍

-         بينما كان يفكر بذلك التقى بذلك الشاب الشيوعي المقاتل، كان يسمى بصاحب المنظار، كان يدرس الشيوعية في موسكو، وقد جاء إلى كردستان ومعه منظار مقرب، كان معجباً به، استعمله في رصد ربايا الجنود، وحين مل من تأمل سحناتهم على الأرض الكالحة (فقراء مثلنا أغلبهم من الأرياف، والأحياء الشعبية في المدن) راح يستعمله متندراً "أريد رؤية الأفق البعيد، بداية المستقبل الشيوعي الوضاء" وقد أوصى أن يدفن معه إذا استشهد قائلاً ما دمت لم أر به حتى الآن أفق الشيوعية العظيم، علني أرى فيه حوريات الجنة، أتلصص به عليهن، فأنا كشيوعي سوف لن يسمح لي بدخول الجنة بتهمة الإلحاد، وسأكتفي بالنظر إلى الحوريات عاريات من بعيد، وربما استمني عليهن إذا سمح لي دود القبر! واليوم نهض والمنظار معلق برقبته مثل الجرس في رقبة الكبش؛ يحتف به رفاقه الشهداء يداعبونه: قل لنا هل رأيت حوريات الجنة؟ قال لم أجدهن، ولم أستنزف موتي في لاستمناء على أجسادهن الشهية. صرت استعمال منظاري في محاولة تقريب الحقيقة، ورؤيتها بوضوح ولكن هيهات، قال لي أحد جيراني الموتى: لا تتعب نفسك هذا المنظار سوفيتي الصنع ولن يقرب لك الحقيقة، بل سيبعدها، لم أكف عن المحاولة، واليوم جئت إلى هنا، علني أرى الحقيقة على أيديكم قريبة واضحة دون منظار! ضحكوا، قال حسن طلقة: لن تجدها لا على أيدينا ولا أرجلنا! سأل صاحب المنظار بقلق واضح: لماذا؟ قال طلقة: ببساطة لا وجود للحقيقة أبداً، كل شيء هو حقيقة، ولا حقيقة؛ بنفس الوقت؛ هذا أعظم درس كان عليك أن تتعلمه من الموت!

فرح يونس حين التقى برفيق قديم لم ينس اسمه: رمضان ما زلت أتذكر كلماته هو الآن بين الشهداء، ومن غيره يكون في طليعتهم،كنت قد لحقت به في سجن الكوت وهو في أيامه الأخيرة يعاني من سرطان ولا يجد علاجاً:

ـ ليس فساد الرجال هو مأساة الحزب، مأساته الكبرى هي فساد الفكرة، الفكرة الصائبة الخصبة تكشف الفاسدين والمتفسخين وتسقطهم، أما الفكرة العقيمة والمستحيلة فهي ليست فقط لا تستطيع إزاحة الرجال الفاسدين، بل تغدو كالنخاع المريض؛ لا ينتج سوى الكريات المنخورة والنفوس المريضة، ويصيب بالعقم أخصب الرجال والنساء، وهذا ما حدث معنا وأسفاه!

مضيفاً بلهجته البغدادية المحببة:

ـ صدك لو قالوا "علك المخبل ترس حلكه" يعني شنو هيه كان لازم نظرية بكد العالم كله حتى نطالب بفتح طريق بغداد -العمارة، وتوزيع خبز الإعاشة بالناصرية؟

قلت له: أنت تبالغ نحن الشيوعيين لدينا أكثر المطالب واقعية ووضوحاً،توفير العمل، تحسين ظروفه، الطبابة، التعليم، الخبز. تطوير الزراعة رد بهدوء:

ـ وهل هذه المطالب تحتاج الماركسية اللينينة، وكتاب رأس المال وفائض القيمة؟ مصيبة الحزب إنه يصير وطنياً حين ينسى نظريته الثقيلة، وارتباطه بالسوفييت، وما أن يتذكرها حتى يصير غريباً مع نفسه، ومع الآخرين!

وحتى هذه اللحظة كلما تذكرته كنت أقول يا لألم هذا الرفيق الذي خذله حزبه وفكرته وجسده دفعة واحدة،وظل وفياً للحقيقة حتى مات بعيداً عن أهله وأحبته، ولم يطلق الجلادون سراحه رغم احتضاره أمامهم!

شعرت بفرح غامر للقائه، سألني:

ـ ها رفيق شنو ها الغيبة الطويلة؟ انشالله فهمت الفكرة بعد تجربة سبعين عام سوفيتية هسه عرفت كلامي صح لو غلط؟

ماذا أقول له، كنت أحس أن محنتي أليمة أأقول له " أفنيت شبابي وعمري كله أناضل لأقنع الناس والعالم بصواب فكرتنا وجدواها وها عليً أن أقضي ما تبقى من حياتي المهدمة لأقنعهم بخطأ تلك الفكرة وعدم جدوها! مأساة مضحكة مبكية! قلت:

ـ لقد قلتها أنت، حقيقة بسيطة واضحة، قبل أكثر من خمسين سنة، وكل ما جاءت به المعاهد والبحوث كان تعباً زائداً! أنت صاحب نظرية العلك ملئ الحلق!

تأملني الرجل بمحجرين نفاذين رغم فراغهما:

ـ لو كان الأمر يتعلق بالدراسات والبحوث لهان الأمر، لكن أنسيت دماء وآلام الناس؟

ارتجت نفسي حقا،ً أنسيت ذلك؟، أم ظننت أنها بديهية دموية لا تحتاج لكلام؟

فجأة أخذ الشهيد يضحك، قال محدقاً بي كأنه يتعرف علي لأول مرة: محنتك تذكرني بتلك العجوز التي تحدث عنها العرب الأقدمون،قضت نصف عمرها تغزل صوف أغنامها ثم فجأة راحت تقضي ما تبقى من عمرها تحل غزلها، أية مأساة؟ تركني فاغر الغم ومضى!

(47) اطمئنوا! ما زال الجنون بخير!

فرح حسن طلقة إذ التقى صديقه القديم "أبو العصماء" جاء به إلى يونس يعرفه به، كان شاباً جميلاً طالباً في كلية الآداب، اعتقل وعذب، وأهمل في أحد السجون السرية لأكثر من خمس سنوات، بتهمة المس بالذات الرئاسية كما يقول،خرج يعاني من اختلال عقلي. كان أبوه قد مات وهو طفل، سكن مع أمه حجرة مستأجرة في الجعيفر وسط بغداد. كانت أمه تدبر لقمة عيشهما بالخدمة في البيوت، وببعض الأشغال اليدوية. بعد إطلاق سراحه، لم يجد والدته. كانت قد توفيت،عاش شريداً رث الثياب وسخاً يسير على غير هدى متأبطاً كتبه الماركسية. رغم هلوسته وكلامه غير المترابط، لكن كثيرين لا يعدونه مخبولاً،بل سراً خاصاً. كتلة ألم، ووعي إنساني حلت في جلد وثياب رثة. عده البعض صوفياً،وآخر تلاميذ الحلاج، ما كان يمكن إلا أن يظهر هكذا في عصر لا يقل عنه اختلالاً واضطراباً: يتحدث الماركسية مهلوساً. لكن المرتابين دائماً يقولون: إنه طعم من دائرة الأمن لاستدراج الشيوعيين، وللسخرية منهم. كان حسن طلقة حتى في أيام تألقه في بغداد كبطل رياضي يسير معه، يقتاده لحمام شعبي، يشتري له ثياباً جديدة، وكتباً وسجائر، ويعده رفيقه وصديقه. يرتاد معه مقاه ومطاعم،وعكس الكثير من متسكعي بغداد كان "أبو العصماء" لا يشرب الكحول، كان يقول: (آني بغير عرك الدنيا تدور بيه، بالعرك لازم آني أدور بيها، وهاي مهمة صعبة جداً) أخطر ما في حياته هي خطبته العصماء يوم الثلاثاء، والتي يصر على تسميتها بخطبة الجمعة! والتي بها نسى معارفه اسمه الحقيقي وسموه" أبو العصماء". كان يقف عند زاوية، قريباً من جامع مرجان في شارع الرشيد ويأخذ بإطلاق صوته عالياً، كثيرون يمرون به ضاحكين، أو غير مكترثين. لكن حسن طلقة كان يحضر خطبته خاشعاً. لم تطق سلطة البعث خطبته أو هذيانه وهلوسته. قتلوه دهساً بسيارة مسرعة في شارع الجمهورية، وغير بعيد عن مئذنة الجنيد الصوفي. اعترف به الشهداء الشيوعيون رفيقاً لهم، واستدعوه لليقظة معهم، واليوم يلتقيه حسن طلقة؛ فيتعانقان. كان هيكله نظيفاً دون الحاجة لحمام شعبي. كان أول سؤال وجهه لحسن طلقة: أصحيح أن حزبكم أدرج في كتاب غينيس "الحزب الذي قدم أكبر عدد من الشهداء"؟ قطب طلقة جبينه،سأله من أين سمعت بذلك؟ قال أبو العصماء ثمة قصيدة للشاعر فردل جورجيان وصلت إلى القبور،مكتوبة على الأكفان، يحتفي بذلك قائلاً:الفضل ما شهدت به الأعداء! هز طلقة رأسه نافياً علمه بذلك. قال أبو العصماء في صحوة واضحة: حزبكم والدكتاتور يلتقيان على نفس الشهوة والشبق الدموي: المزيد من الشهداء أيها الشعب. مزيداً من الدم أيها الرفاق! عزا طلقة كلامه إلى هلوسته التي لا تخلو من حقيقة،قال ضاحكاً، لا زلت تتابعنا بإخلاص يا أبا العصماء! والآن هل لك يا صاحبي بخطبة عصماء كخطبك التي أخذها الكثيرون في تلك الأيام على أنها هلوسة لا تقتضي التأمل والتفكير؟ بينما عدها آخرون آية في الحكمة والعقل! كان حسن طلقة يرى أن خطبه تتخللها لحظات صحو عقلي تجد فيها عبارته مترابطة مفهومة، بل هو يجد حتى هلوسته مشحونة بالمعاني، وكيف لا يلبي أبو العصماء طلب صديقه حسن طلقة؟ وقف على صخرة في زاوية من العالم السفلي وراح يهدر بصوت لم يثلم الموت نبرته الحزينة المؤثرة، بينما الشهداء ملتفون حوله في دوائر من هياكل عظمية متشابكة:

ـ أخذوكم إلى نضال لا ينتهي إلا عند خلفيات القردة الحمراء مثل رايات الأحزاب الواثقة من نفسها أكثر من اللازم، اجتماعات ولقاءات، مظاهرات واحتجاجات، عرائض ومضابط ومطالبات وجمع تبرعات وتواقيع ومسابقات شرطة وأرانب، شيوعيين وبعثيين، ثعابين وقوميين عرب واكراد وتركمان وعمائم سود وبيض، ومومسات سمر وشقراوات، ليخيروكم بكل نزاهة وموضوعية: بين كلاب السجون المسعورة، وبلاليع المنافي! ولأنكم أبطال فقد اخترتم الموت! والآن أيها الشهداء عودوا للحياة لتوزيع المناشير، وزيادة مالية الحزب وكسب الأعضاء والأصدقاء، ضعوهم في شاحنة على الطريق السريع إلى الجنة قريباً من بيت لنج وسوق دانيال وخان جغان! لا يشفى حزبكم من إدمانه على النضال، إلا حين يشفى ابن محلتنا جويسم العظيم من تطيير الحمام القلاب على سطوح البروليتاريا الرثة، أين ملالي الكرملين السائرين على طريق التطور اللارأسمالي باتجاه محلة الصابونجية، وملالي أضرحة الطاهرين وقبور المحزونين؟ عودوا إلى النضال في شوارع بغداد المفتوحة كأفخاذ العاهرات، وأفخاذ المعذبين بالفلقة، قال ماركس الدين أفيون الشعوب، وأنا المجنون بأمر الرئيس حفظه الله ورعاه: أقول أن الشيوعية أيضاً أفيون الشعوب، وإن البروليتاريا أفيون الشيوعيين، وإن الدين رأسمال أصحاب العمائم. يأتونكم على بغلة عرجاء حاملين كتاب رجوع الشيخ إلى صباه طبعة بولاق، ومفاخذة الرضيعة طبعة قم! اقتدوا بالغراب، اقضوا أعماركم تطبخون قدر الثورة العظيمة خالطين الطماطة الحمراء بلحم الإمبريالية،والشعارات الثورية بكبة السراي،بحضيري أبو عزيز، بالفس برسلي وام كلثوم، وحمام الكاظم، بدجاج التنور، المواكب الحسينية، بالألعاب الأولمبية، جامع أبو حنيفة بمقهي المعقدين وبالليل ضاوي، والعرك زحلاوي! ملهى ليالي الصفا، بشربت زبالة والصهيونية والوجودية بالكاولية والبنيوية بخبز باب الأغا وصديقة الملاية وعلك أبو السهم ولزكة جونسون ولحية لينين، بباص رقم أربعة، بقائم مقام طويريج،بخوش مركة وخوش ديج، وهيت بيت بيت، قطعة من السوفييت، وعانة غركت بمي الباجة، وجبهتنا هندسها ديمتروف، واليمشي بدربنة شيشوف؟ كوم كطوف! وتكريت تاكل ملفوف، ويسقط العم سام، اعدم،اعدم، لا تكول ما عندي وكت، أعدم! وماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة، سبع ملايين تصيح :عاش زعيمي عبد الكريمي حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي، اعدم،اعدم،اسحل اشنق عذب أذبح،احرق، ونفيق صباحاً لنجد الوحوش في حجرات نومنا، وعلى مهود أطفالنا، وتحت كحل عيون نسائنا، متسللين من أبواب ضمائرنا المخلعة، من ثقوب البدلة العسكرية للزعيم الأوحد الذي يتفاخر السذج والمساطيل أنه مات وليس في جيبه سوى دينار واحد فقط لا غير،متغابين أنه فتح خزائن العراق للانقلابيين والمصابين بسفلس السلطة وأفرغ جيوبنا وأرواحنا إلى الأبد! وجاءنا الرفاق من موسكو وبراغ، حاملين حقائبهم الحزبية مقرعين لائمين: لماذا تستفزون البرجوازيين الصغار؟ ألا تعرفون مزاجهم النزق؟ لماذا هذه العجالة الثورية؟ قلنا لكم أن فردوسنا الأعظم لا يمكن أن يتحقق بحرق كعب الصاروخ،انتظروا أن يصل الصاروخ طويل المدى إلى هدفه العظيم! ونصمت كلنا كمن ابتلع أحد أسنانه،إذاً لماذا يا رفاقي أصحاب اللحى الفلسفية الثورية أطلقتموها منذ البدء،كومونة باريس، كعكة ثورية شهية، ومكنسة كهربائية، مصيدة جرذان وبرجوازيه ودجاج واويه وأغاني أبوذية، لماذا ورطتمونا بفتح ملهى فوق جامع، ومكوى قمصان في دكان جزار، لماذا لم تقولوها منذ البدء: الشيوعية حبل بين قمتي جبلين بينهما البحر ولو سارت عليه نملة لسقطت ما لم ترتد قبعة حمراء، لماذا أيها الحزب الأطرش إلا حين تدق ساعة موسكو، أو يضرط ستالين ؟ والأعمى إلا حين تنطلق الألعاب النارية في الساحة الحمراء، ألم يكف أرضنا ما تفجر عليها من طوفانات وحروب ومجاعات وطواعين، لتفجر بها صراعاً أحمر أبدياً لا يستطيع الإنسان أن يرفع رأسه عنه في أي يوم من الأيام ويقول " لقد أنجزته،وآن لي أن أستريح " تركنا قادتنا في أقبية السجون،ننق كالضفادع في مستنقعات اللعنة الأبدية،ومضوا إلى منتجعاتهم الثورية يشربون الفودكا، ويضاجعون حسناوات موسكو، وإذا تذكرونا ليتندروا ويضحكوا علينا، ولهم الحق، فنحن أغبى أغبياء العالم، ولا شفاء لنا، إلا بمزيد من الجنون وأكل البامية والشيخ محشي، والإكثار من الطرشي، وشرب الشاي بالطبشي!

انهي خطبته فجأة، وطلب أن ينزلوه من الصخرة قائلاً:

ـ لا سلام عليكم، ولا رحمة الله، ولا بركاته!

سأله أحد الشهداء:

ـ ولماذا تبخل علينا بالسلام والرحمة؟

رد على الفور :

ـ لأنكم شبعتم في الدنيا من السلام العالمي!

ـ بينما أكل أعداؤنا حمامات السلام مشوية مع النبيذ الفرنسي!

قالها حسن طلقة وهو يتلقف هيكله العظمي عند نزوله وقد تساقطت قطع منه ممزوجة بعرق عظامه، كان مختنقاً بدموع ذكرياته، بينما انطلقت صيحة شهيد:

ـ يا للنعمة، يا للفرح، ما زال الجنون بخير!

ظل يونس يصغي وينظر بسرور، هذا يوم لم يكن يحلم أو يتوقع أن يشهده لا في كابوس خانق، ولا في حلم جميل، هذه لحظة يقول بها الشهداء ما اختزنوه في صدورهم سنوات طويلة في الهواء الطلق أو تحت التراب.إنه محظوظ إذ يسمعهم ويشهد ما ينوون عمله،وما يبيتون من مفاجآت أو أحداث وقد يشارك فيها إذا أتاحوا له ذلك!

(48) ماذا جرى بعد موتنا؟ أعيدوا لنا أفلام صالة سينما روكسي كلها!

شعر بالبهجة وهو يرنو إليهم وإلى أهليهم وأحبتهم الآتين من الدنيا، إلى هذه البقعة الغامضة المجهولة. وجد إنه حتى إذا لم يكن قريباً منهم، فإنه يستطيع أن يسمع كل كلمة يقولونها، وكل حركة أو موقف يأتونه مهما كان صغيراً، ويفهم ويصغي لنبض أرواحهم وعظامهم. يحتويهم الآن بقلبه، كأنهم أفكار وأحلام في رأسه، وليسوا هذا الواقع الواضح والمتفجر والأكيد الجاري أمامه. كان العراقيون القدامى، يعتبرون العالم الأسفل أقسى المنافي، والذي لا يجرؤ سوى الآلهة والشياطين والمردة على اقتحامه، أو الهبوط إليه. كانوا يقولون أن طعامهم سيكون هناك الطين والدود، وشرابهم الصديد والغسلين وما يرشح من أجساد الموتى. الشهداء اليوم لا يأكلون ولا يشربون، إنهم يحلقون كطيور غادرت أقفاصها لا تجذبهم حتى قبورهم، وهو لم يحس بالجوع ولا العطش. صار مثلهم كائناً أثيرياً، لكن عالمهم حزين أيضاً. فكر مرة أخرى بقدر العراقيين الذين صاروا بين منفي في العالم الأسفل، ومنفي في العالم العلوي دون أن تدري أيهما أكثر عذاباً وقهراً! كان رائعاً إنهم لم يحلقوا للأعالي؛ آنذاك سيشكك الناس بأحكامهم وآرائهم عن السماء، ويتهمونهم بالتجديف والكفر، إنهم أرضيون،يرون في الأرض أمهم الحقيقية، والوقوف عليها أثبت من التحليق في السماء، وأكثر استقراراً؛ مهما كانت مساربها مظلمة قاسية!

ما فتئ الشهداء يتقاطرون من زويا معتمة بعيدة على الباحة الكبيرة، كأنهم يسمعون صوت الصور الذي قيل أنه سيوقظ الموتى يوم الحشر، بدا ليونس أن ثمة روحاً عظيمة أنبأت الشهداء بنبضها السري بهذا اليوم وأعطتهم الميعاد، لكن البعض ما يزال مأخوذاً بهول المفاجأة؛ لا يعي ولا يفهم ما يجري!

ثمة رجل مسن بدا وكأنه قد مات في الثلاثين من عمره، ولكنه بلغ الثمانين في القبر، كان يحمل ثيابه الرثة إلى جانب هيكله العظمي ويسير بهشاشة كأنما على ساقين من دخان، اقترب من شخص نزل مع عوائل الشهداء، وقد لمحه من بعيد وأخذ يركز عليه بصره، وقد تذكر بوجهه شخصاً قديماً كان يعرفه. جلس بجانبه على صخرة ملساء. قال وهو يلهث:

ـ أأنت صديقي سليم الصفار؟ أنسيتني؟ كم كنا نجلس في مقهى الأعظمية، وكم تمشينا على شواطئ دجلة؟

تطلع الرجل الحي بوجهه مستغرباً، قال إنه ليس سليم الصفار! حين سمع يونس اسم الصفار تنبه وراح يصغي لهما وقد تذكر أن الصفار كان من مؤسسي حزب البعث في العراق. قال الشهيد وهو ما يزال في لهفة، وبصوت كان يخرج من هيكله العظمي، كما يخرج النغم الممزق من آلة موسيقية محطمة:

ـ كان يحدثني عن حزبهم الجديد، قال سيسمونه البعث لأنه سيقوم بإنهاض الأمة من رقدتها كما يبعث الأموات من القبور، وكنت أتابع خطوات تأسيس حزبهم، وقد أهدى حزبنا الشيوعي لهم مطبعة صغيرة، وقمت بتسليمها له مع كمية من الورق والحبر. كان يحدثني دوماً عن النشور، والبعث المنشود لأمتنا التي حكم الأعداء عليها بالنوم الأبدي، أو الموت! قتلت في إحدى المظاهرات ولا أدري ما حدث بعدي، وحين سمعت النفير والضجيج استيقظت فرحاً مستبشراً، قلت أنه البعث والنشور، وأيقنت أن حزبهم قد انتصر ووصل للسلطة، وها هو يبعثنا إلى الوجود، لنعمل معاً في جبهة واحدة شيوعيين وبعثيين وقوميين وديمقراطيين، ومستقلين وكل التقدميين لتحقيق السعادة لأمتنا العربية المجيدة، وإن صديقي الصفار جاء ليستقبلني عند باب القبر ليدخلني الجنة البعثية التي تحققت قبل جنتنا الشيوعية!

أدرك الرجل ماذا يقصد هذا الشهيد الذي شاخ في القبر، وجاء ليهذي ولم يسمع نداء الشهداء بوضوح، فقال بابتسامة حزينة:

ـ نعم يا صاحبي لقد انتصر هذا الحزب العتيد، واستلم الحكم في بغداد ودمشق، وهذه قيامته أيضاً، لكنه بدلاً من أن يبعث أبناء أمتنا المجيدة من القبور إلى الحياة، بعثهم من الحياة إلى القبور!

ظل الرجل يدير رأسه مندهشاً، وقال :

ـ لماذا؟ هل لم يستطع تحديد الاتجاهات؟

ندت عن الرجل زفرة سأم مغالباً حزنه، وكأنه استحال هو أيضاً هيكلاً عظمياً:

ـ كيف لم يعرف الاتجاهات، لقد جعل كل الناس عيوناً له، من العجائز إلى الأطفال، حتى الطيور ركبوا في ذيولها كاميرات ومقربات؛ لترى!

سأل الهيكل العظمي ببلاهة:

ـ إذاً ماذا حدث؟

ظل الرجل صامتا فجأة تنبه لشيء وجده طريفا يكسر جو الحزن قال:

ـ ما حدث مجرد خطأ مطبعي؛ يحدث عادة في أسماء الأحزاب والثورات وبياناتها الثورية الأولى أو الأخيرة! من المؤسف أن (البعث) صار على يد صدام، وبخطأ مطبعي فقط لا غير (العبث) هذا كل شيء!

ـ أهكذا إذن؟ كل ما أريده الآن هو أن أعود لرقدتي الهادئة في قبري!

نهض مستنداً على عظمة سقطت من شهيد، لكن العظمة تهشمت فسقط على وجهه وتهشمت أضلاع وفقرات في هيكله، أجلسه الرجل، عاد الشهيد يقول:

ـ لا أعتقد إنني أستطيع النوم، ما هذا الأزيز الآتي من الأعالي؟

قال الرجل :

ـ طائرات الأمريكان!

نهض ليهتف: تسقط الإمبريالية الأمريكية! عاشت الثورة البروليتارية الأممية. لكنه تهاوى وسقط ثانية وتهشمت أضلاعه الأخرى، أجلسه الرجل، فعاد يسأل وهو يلهث:

ـ ماذا تفعل في سمائنا طائرات الإمبرياليين أعداء الشعوب؟

ـ بعد أن أتى الأمريكان بالبعثيين مرتين إلى السلطة، الآن سئموا منهم ويريدون استبدالهم!

ـ لماذا؟،كيف؟ ماذا حدث؟

ـ هذا حديث طويل! أتريدني أن ألخص لك التاريخ كله بدقيقة واحدة؟ من قال لك أن تنام في سينما روكسي، ولا تشاهد الفلم حتى آخره؟

هز الشهيد رأسه بأسى:

ـ أتسمي رقدتي الاستشهادية الأبدية، نومة في السينما؟ ضحيت من أجلكم بحياتي، ولا تريد أن تضحي بدقائق من وقتك توضح لي فيها ما جرى بعد موتناَ؟

قال الرجل بصوت خالطه خجل وارتباك:

ـ لا وقت لدي الآن، لقد بحثت عن أبني الذي فقدته منذ زمن طويل، ولم أجده بين الشهداء هنا، أين يكون إذن؟ قال الشهيد كأنه يتحدث عن موقف باص:

ـ عليك أن تسير قليلاً إلى محطة الشهداء الثانية!

قال الشهيد المنهك ذلك دون روية أو أدراك لما يتحدث عنه أو بمعرفة بالمكان الذي هو فيه. الشهداء كانوا قد تجمعوا بكهف دائري واحد كبير هائل، كأن التحولات الجيولوجية الأزلية صنعته خصيصاً تحت الجبال لهذه اللحظة الإنسانية الأليمة. تحفه بوابات تطل على طرق طويلة متعرجة بدت في غموضها وضبابها الرطب المثقل بالعتمة والأحزان كأنها تفضي إلى ساحات الزمان أكثر من ساحات الأرض. لكنه في رهبته وغوصه في أعمق الأعماق يبدو كأنه المحطة الأولى والأخيرة في هذا الوجود. شكره الرجل وتركه مستعجلاً شاعراً إنه ضيع وقته معه، فهو رغم طيبته؛ ساذج أبله، ولو حقنه بكل دروس التاريخ لما أدرك ما حدث ولما توقف عن الهتاف. والحديث عن الإمبريالية والشيوعية. القطة والفأر وغيرها من الخزعبلات التي فقدت في حومتها أبني الوحيد. أية لعبة رهيبة مات فيها الكثيرون دون جدوى. لا أستطيع أن أجد ولو عظماً واحداً من جسد ابني، ذلك الشاب الجميل الذي قتلوه ولم يبلغ العشرين. راح الرجل يدور بين هياكل الشهداء المتحركة باحثاً عن هيكل ابنه أو بعض عظامه! متذكراً كيف مفرزة أمن انتزعته من فراشه فجراً، قالوا (نصف ساعة ويعود) وها قد مر ثلاثون عاماً، ولم يعد. صار عمره خمسين عاما؛ تحت التراب!

كان يونس رحيم يرقبهما، تذكر هذا الشهيد كثير الأسئلة. كان عاملاً في معمل سجائر، كان رفيقاً شجاعاً ومتفانياً، قال يونس " كم داخل الحزب، من أناس طيبين صادقين، غافلين عن براثن الخدعة. كل نبلهم وشجاعتهم لن تغير من حقيقته: عاصفة أوهام مدمرة، سهم سيرتد إلى صدر مطلقه " مضى إليه، قبل عظام جبهته، جلس بجانبه على أحجار ملساء ورح يذكره بعملهما الحزبي معاً لفترة قصيرة في منطقة الشاكرية في بغداد، قبل ما يزيد عن نصف قرن، حدثه بهدوء ورفق عما وقع من أحداث بعد موته: لا أريد لقلبك الذي استحال رماداً أن يعود لحماً ودماً ليتعذب. سكت الشهيد كأنه مات فعلا، الآن فقط مت أيها الطيب الغافل. تركه لصمته المطبق. تذكر كيف سلم السيد الجبوري المطبعة التي أهداها الحزب الشيوعي لحزب البعث:

ـ رغم معارضة بعض رفاقنا قائلين: انتظروا! ما أن يقووا حتى ينقضوا علينا. قلنا لهم إننا نهديها لهم انطلاقاً من نزعتنا في التعاون. كان الحزب السائر في وهمه الكبير يبتدع طرقاً لا تخلو من صدق إنساني لكنها في ضلاله الكبير تتحول إلى سم بطيء في أجساد أعضائه والسائرين في ركابه. فأطلق شعار "قووا تنظيم حزبكم قووا تنظيم الحركة الوطنية " عملنا به صادقين متحمسين بينما ضحك منه الآخرون المستفيدون من كرمنا، ونحن على الطوى. كنا سررنا بدعوات البعثيين وشعاراتهم الأولى في العمل المشترك، ولم نعرف تقلباتهم وانتهازيتهم إلا بعد حين. وحتى بعد أن أدركناها صرنا نقول " أنها البرجوازية الصغيرة،قلقة وانتهازية ونزقة وغادرة، وينبغي الصبر عليها لجرها إلى نضالنا ضد الرأسماليين والإقطاعيين" الوهم نشيط في تفريخ المزيد من الأوهام والتيه. كنا نعلم أنهم كانوا يرددون فيما بينهم (لنستغل عداء الشيوعيين الشديد للسلطة، فنهدم بهم ركائزها، حتى إذا تهاوت الشجرة تلقفناها وثمارها، وأطحنا بهم جانباً) لم نكن نتصور أن غدرهم سيكون بهذه الفظاعة! كانت قد جمعتني بالجبوري صداقة نضالية وشخصية طيبة. بعد ثورة تموز، عام،1958 وحين أظهر حزب البعث العداء لحزبنا؛ افترقنا، وبعد انقلابهم الدموي في 63 وجدت نفسي أمام هيئة تحقيقية يترأسها الجبوري. كان مسعوراً هائجاً لا يريد أن ينظر بوجهي. عاملني بقسوة أشد من المحققين الآخرين الذين لا أعرفهم. استغربت تنكره لصداقتنا وذكرياتنا النضالية القديمة، كنت ما أزال ساذجاً سياسياً قلت:

ـ عدونا واحد: الإمبريالية وشركات النفط لماذا لا نتحد ضدهم؛ بدلاً من تقاتلنا؟

ـ فات أوان الجدال السياسي معكم، تصديتم لثورتنا ويجب أن تنالوا جزاءكم، لا تحاول إقناعي أنك لست في قيادة الحزب، أنا أعرفك جيداً؟

جعل تضامنا مع حزبه، وصداقتنا الغابرة والثقة التي منحتها له مجرد معلومة حزبية لتصفية حسابات أغلب أرقامها ومعادلاتها مختلقة ومبيتة، كان من حسن حظي أنني اعتقلت في الأيام الأخيرة لحكمهم، إذ بعد أيام قليلة انقض عليهم حلفاؤهم القوميون، وثمة مجموعة منهم خانتهم وتخلت عنهم، بينهم البكر الذي عادوا به مرة أخرى رئيساً لهم، فارتخت قبضة الموت عن رقابنا!حاولت قدر استطاعتي أن أحدث الشهيد باختصار عما حدث قال:

ـ لا ينفع الشهداء سوى المختصرات، ليت من الممكن وضع التاريخ، الذكريات والأحلام في حقنة تزرق في قلب الشهيد، فهو لا وقت لديه لقراءة أكداس من الأوراق مبعثرة بين أقدام المستغرقين بالصخب!

أحد الشهداء كان في شغل عمن حوله، يسير متعثراُ بما يتساقط من عظام هيكله العظمي باحثاُ عن أمه، علها تكون مع القادمين من الحياة الدنيا، بحث طويلاً دون أن يجدها، كان يردد في نفسه وبصوت مسموع، وكأنه يغني:

ـ بين ظلمة الرحم، وظلمة القبر، خفقة حلم أهوج لا أكثر!

(49) لماذا ليلة الهدهد؟

سمع صوت أحد الشهداء يقول:

ـ رائع! تكللت عملية ليلة الهدهد بالنجاح، وقبضنا على قادة الحزب الضالين، وسننجح في محاكمتهم أيضاً!

اقترب رجل يبدو إنه من الأحياء الزوار من حسن طلقة، سأله بلهجة لا تخلو من مرح، أو هزء:

ـ لماذا أطلقتم على انتفاضتكم ليلة الهدهد، وأنتم الذين ارتبطتم بحمامة السلام، ويمامة الغرام، وعيش الشعوب في ود ووئام؟

نظر إليه طلقة بهدوء، سرح مع أفكاره، من أين يبدأ معه؟ وماذا يقول؟

منذ سنوات والشهداء يعدون لنشورهم الثوري، وانتفاضتهم، ليس من أجل محاسبة قادة الحزب وحسب، فذلك لم يعد ذا أهمية كبيرة، بل وغير مجدٍ الآن، بل لمعرفة لماذا جرى كل هذا الذي جرى؟ وأين هي الحقيقة؟ وما معنى هذه القضية السياسية الفجة داخل هذا الوجود الإنساني الهش؟ كانت أخبار الحزب والناس والأوضاع العامة تردهم باستمرار، مع قوافل الشهداء التي لم يتوقف تدفقها يوماً، وعبر دوي الأرض ونبض الشجر، والماء والريح الصاخبين فوق وتحت قبورهم. لم ينحصر همهم بحزبهم القديم وتواصل خسائره، وهزائمه التي يدفع ثمنها أعضاؤه وأصدقاؤه وأهلهم وذووهم من أرواحهم وكرامتهم، كل يوم. شملت همومهم الناس جميعاً لما يعانونه من آلام ومصائب، وقد أخذوا يعتقدون أنهم كانوا من بين المسببين لها، وليس فقط الإمبريالية والصهيونية والرجعية كما يصرخ قادة الحزب نهاراً وليلاً! في الثلاث سنوات الأخيرة أخذ الشهداء يعدون وبتكتم شديد خططاً محكمة لنهوضهم الثوري وبقوة عاصفة حاسمة. وجدوا أن ثمة حلفاً بين دود القبور وحشراتها وهوامها وبين رجال الدكتاتور فهم الذين يتعهدون غذاءهم وشرابهم بما يرسلون لهم من جثث كل ساعة. حين كان الجلادون يخبرون الدكتاتور بعدد من يقتلونهم من معارضيه كل يوم وكل دقيقة كان يهز رأسه قائلاً: الموت ليس كافياً! كان يريد عقاباً لا يبقي منهم شيئاً، قالوا له إن حشرات القبور تتولى ما تبقى من الأمر بكل جد وكفاءة. هز رأسه يريد المزيد.عندما صاروا يستعملون الحوامض والمذيبات الكيميائية لجثثهم. كشرت حشرات القبور لانقطاع طعامها.وابتسم الدكتاتور قائلاً إن الله معنا!من الجهة الأخرى كانت قيادة الحزب الشيوعي تريد المزيد من الشهداء, لا تزال تعتقد ان سبب عدم وصولها إلى السلطة هي أنها لم تقدم بعد العدد الكافي منهم لذلك. في هذا الجو المحتدم كانت قبور الشهداء في تزايد. وحيث إن الكثير من قبورهم الآن هي في أرض تحت سيطرة مسلحين أكراد يجولون فيها متوترين متأهبين للقتل، تحميهم ليل نهار طائرات الاستكشاف الأمريكية، بأجهزتها شديدة الاستشعار وقد تجد أن تململ الشيوعيين في قبورهم محاولة سوفيتية متأخرة لضربهم من تحت الأرض، فتقوم بقصفهم، لذلك كان على الشهداء أن يخفوا أخبار تحركهم تحت الأرض عن كثيرين؛ قبل أن يهبوا من نومتهم الأبدية. من أجل التمويه استنجدوا بالهدهد؛ فاسمه حزين وبعيد عن كل نزعة ثورية أو حربية، وهو الذي عرض صداقته عليهم وظل يزورهم كثيراً، ويسعى بين قبورهم البارزة والدارسة، مؤكداً ما يقال عنه أنه صديق الموتى ومبدد وحشتهم! وهو طائر يستحق الجمال الذي يحمله، ريشه المتموج بين الذهبي والعقيقي الأحمر، وعرفه الذي يحمله تاجاً على هامته الشامخة، متنقلاً بين البلدان دون اكتراث للحدود السياسية، ممثلاً للتشرد حيث هو بلا عش ويسعى بين القبور، مقتاداً معه الحرية التائهة هي أيضاً، لا تدري أين تحل! وقد عزز اختيارهم له ما تحدث به معهم رجل كان قد استشهد منذ وقت طويل وفي صباه كان مولعا بالهدهد، ويتقصى،تاريخه وطبيعته وأخباره. قال: الهدهد يرى الماء (وقيل أيضاً أرواح الموتى أيضاً) في باطن الأرض كما يرى الإنسان الماء الصافي في الزجاجة، لذلك قالت الأسطورة إنه كان دليل سليمان على الماء في حله وترحاله، افتقده لما نزل أرض اليمن ولم يجد الماء "ما لي لا أرى الهدهد؟ " والهدهد بار بأبوية مهما افترق في بقاع الأرض، يظل يزورهما ويهدل بحزن عند أجنحتهما الكسيرة، ويبكي بحرقة مسموعة عند موتهما، عكس كل الطيور الذين لا يتعرفون على آبائهم ما أن يغادروا أعشاشهم. إذا غابت أنثاه عنه، لا يأكل ولا يشرب ولا ينقطع عن النغيط حتى تعود. وإذا ماتت عاش أعزبَ، ويظل في صوم ونشيج حتى يموت. وقد حرم الأنبياء قتله، أو أكله وقالوا أن لحمه فيه دم الملائكة. وقال المتصوفة إنه يحمل شيئاً كثيراً من رائحة وألوان العرش الإلهي، لذلك كان قتله أحد أهم طقوس السحرة، واستعمال عظامه في سحرهم؛ يضمن نجاحه كما تضمن العيون الجميلة وصول سهم الحب، أو الحقد إلى القلب! وطائر بهذه الخصال؛ جدير بأن يكون رفيق الشهداء، ويربط اسمه بقضيتهم!

قال الرجل: ولكن الهدهد هو المخبر السري نفسه! ضحك الشهيد، كل الناس هم مخبرون سريون، علموا أم لم يعلموا، كم يتجسسون على بعضهم، كم يتلصصون ويرقبون، تلك سمة طبيعية في الإنسان والحيوان والطير، هي الحكاية القديمة نفسها، والخصومة نفسها بين الخير والشر، نحن الشهداء اليوم نريد أن نلعب دور المخبر السري بقوة، نريد أن نعلم الأحياء بالحقيقة، من خدعهم وخدعنا، وحول دمنا إلى نقود، وكراسي للسلطة، وأسرة للعاهرات!

كانت عملية النهوض هذا العصر صعبة شاقة، قام بها الشهداء بشجاعة وبراعة، فانبروا مبكرين منذ الفجر، يعدون لها عظامهم ورمادهم وأكفانهم وثيابهم؛ ليظهروا بها متحاشين كل ما يشير إلى أي انتماء ديني أو طائفي أو قومي، قال أحدهم ضاحكاً: يا للاستشهاد من مهنة شاقة! فرد عليه آخر غاضباً: بل قل يا للاستشهاد من مهنة لذيذة، فهي العرس والزفاف السماوي!

ظل السائل يتطلع إلى حسن طلقة المستغرق بذهوله يريد جواباً، فأفاق قائلاً:

ـ حمامة السلام كانت صديقتنا عندما كنا نملأ الساحات، واليوم صار الهدهد صديقنا بعد أن ملأنا المقابر، هذا كل شيء!

 
 باب الهجرات

 

تلقي الذكريات أجنحتها بعيداً.

لا تعود مع الطيور المهاجرة إلى بحيرات الدفء والأزهار العطرة!

لا ترخي قبضتها عن قلوبنا لنستريح.

بعد أن تراوغ كثيراً تعقد هدنة معنا؛

فلا تجرحنا بمخالبها،

لكنها ترتدي جلود الأسماك، وتشهر زعانفها الحادة!

وحين تكف عن إيقاظنا منتصف الليل، تكون قد غاصت إلى الأعماق، هناك تتكاثر، يأكل بعضها بعضاً، يتضخم منها الأكثر وحشية وضراوة!

يبقى ساكناً في الأعماق يتغذى على دم النسيان، وعلى طحالبه ومرجانه، يختزن في عظامه ضجيج البحر، وما يجري عليه من عواصف وأشرعة!

يتحين لحظة ضعفنا، أو غفوة قصيرة في حلم عابر لينقض علينا، فجأة يقطع أجنحته على حواف قلوبنا!

يفترسنا بأسنان كالمناشير!

قلت لي الذكريات طيبات كالنساء العاريات في أسرة الحب؟

كم خدعتني، ها هي ترتدي ثوب الموت نفسه، مخلفة وراءها الطيور والأسماك تلاعب غبار الزمن، بينما نحن غبار آخر!

الشاعر المجهول من أيس

 

(50) المنفى: بوابة الاحتضار الطويل!

كثير من الشيوعيين في المنافي، وصلهم نداء الشهداء كطائر خفي لم يروه بين حمام وغربان ونوارس المدن الأوربية، والنائية الأخرى، ولم يحسوا به إلا وقد انشب مخالبه الحادة في أحشائهم، وهم في الطرقات، ولجج البحر بين أيدي المهربين والمحتالين، أو على أبواب الدول، ودوائر اللجوء، في الحانات والمواخير باحثين عن كأس يتذوقون به أول قطرة حب، أو شفقة بعد طول ظمأ وكبت وجفاف،أو مع عوائلهم في شقق وبيوت مستقرة. أحسوا بشكل ما أنهم موتى أيضاً، عانوا أقسى أنواع الاستشهاد المنكر، أو غير المعترف به، وإنهم معنيون بهذا النداء ويجب أن يلبوه ويذهبوا لمقاضاة من ساهم مع الحكام الذين تناوبوا على بلادهم في إيصالهم لهذا المصير الأليم. لكنهم أحسوا أنهم متعبون، أنهكوا طويلاً وآن لهم أن يخلدوا للسكينة والهدوء. قسم منهم أهمله وانتزع جراحه من أعماقه، قائلاً: إنه حكاية أخرى مضللة بائسة! بعضهم شعر بالحنق على من أطلقه فهوا نكأ جراحهم التي لا علاج لها ولا شفاء. آخرون ممن استقروا مرتاحين منعمين في منافي شتى البلدان مذ وقت طويل غضبوا وسفهوه، فهم ما زالوا ملتفين حول قادة حزبهم يشكلون منظماتهم الصغيرة، ويتصارعون على قياداتها رغم أنه لا تعدو بضعة أفراد لا حول لهم ولا تأثير، تقتصر نشاطاتهم على اجتماعات كسولة مكررة، يستهلكون فيها السجائر والكلمات دون جدوى. ورغم انهم لا يشمون عادة سوى رائحة فساءهم، لكنهم يحسون بامتياز ما على الآخرين، وبنشوة سلطة وتفوق وهميين، يحتفلون كل عام بعيد تأسيس حزبهم،يتبارون بالأغاني والكؤوس الطافحة واطباق الأكلات الدسمة، متحدثين عن انتصارات عظيمة. وجدوا أن نداء الشهداء هو صوت المهزومين الجبناء الذي يجب أن يرجموا ويجللوا بالعار والنبذ، وفضح عمالتهم للإمبريالية، وعلى الفور! لكن آخرين وهم قلة حقاً، ألقوا ما في أيدهم غلى أو رخص، ومضوا يهتدون ببوصلة مخيلاتهم التي ما تزال حية نشيطة لم تترهل بلذائذ المنافي، يعبرون القارات والمحيطات، ليصلوا أسوار العالم السفلي. وجدوا الكثير من الشهداء عند بوابته الرئيسية، فمالوا عنه خشية ان يهشموا عظامهم بالتزاحم معهم. راحوا يدورون حول جدرانه البيضوية الملساء علهم يجدون منفذاً، وصل خبرهم إلى مجلس انتفاضة الشهداء؛ فراحوا يناقشون: هل يعد المنفيون شهداء؟ اعترض البعض على ذلك، ورفضوا انضمامهم،إليهم قال أحدهم:

ـ هؤلاء عاشوا مرفهين في أحضان دول العالم الغنية، يتنقلون بين أجمل المدن، يعاشرون الشقراوات والسمراوات، يتناولون أشهى الأطعمة، يحتسون الخمور، ويعبئون جيوبهم بالذهب، متى تذكرونا، الآن فقط في يوم الحساب يخشون أن ندينهم؟

قال قائد الانتفاضة:

ـ لم يبق يا رفيق سوى أن تقول مع حكام بغداد: أنهم يعيشون على فتات موائد الأجنبي، وتكون معه في التشفي منهم؛ بدلا من الاعتذار لهم!

نهضت مجموعة كبيرة من الشهداء يدافعون عن المنفيين، قال بعضهم:

ـ انهم لم يخرجوا في نزهة، أو سفرة سياحية، أرغموا على الرحيل، اقتلعوا جذور قلوبهم من الوطن؛ ليظلوا يحاولون، عبثاً غرسها في أمكنة أخرى، فضاعت حياتهم وضاع أبناؤهم منهم إلى الأبد؛ فلا البلدان التي يعيشون فيها تقبلهم، ولا وطنهم لو عادوا إليه سيعرفهم ويقبلهم. نهم معلقون في خيوط واهية وسط الهاوية، هم يموتون قطعة قطعة، ذرة ذرة، نحن اخترقنا الموت بلحظة، هم كل يوم يهاجمهم الموت، يدب تحت جلودهم ودموعهم وحتى ضحكاتهم. عم هم شهداء ويجب أن يسمح لهم بالمشاركة في الرأي ومعرفة ماذا جرى لنا، ولهم وللآخرين، اتخذ مجلس الانتفاضة قراره : (افتحوا بوابة سموها بوابة المنفى: الاحتضار الطويل)وبسرعة تدفقت أفواج من رجال ونساء، كان حسن طلقة وهو يقوم بجولته المعتادة بين رفاقه الشهداء، يؤدي تلك الأعمال والمهمات الصغيرة التي صادفته أو طلبت منه، يفكر بعشتار وشهرزاد، ل حقا هما الآن ضيفتان على الشهداء، أعلم رفاقه بوجودهما،ابتسم بعضهم ولم يكترث البعض الآخر،أحدهم قال:

ـ الآن جاءت عشتار؟ أين كانت أمنا العزيزة هذه ونحن نتعذب في سوح النضال والسجون؟

آخر قال:

ـ شهرزاد ؟ ستجد هنا قصصاً تفوق قصص لياليها الطويلة!

ثمة شهيد قال :

ــ قصصنا كئيبة بائسة، لو روتها لملك أو سلطان لقطع رأسها على الفور؟

ومع ذلك اتجه إلى شهرزاد يسألها:

ـ أتريدين حكايات عجيبة للسندباد، لقد واصل العراقيون رحلتك مع السندباد، وما زالوا راحلين لم يكملوها بعد، رحلة السندباد كانت ممتعة، ورحلتهم ليست كذلك دائماً، لكن ما لديهم من حكايات؛ يكفيك لليالي الدهر كلها!

هزت شهرزاد رأسها بهدوء قائلة:

ـ نعم هي كثيرة لكنها سمجة وثقيلة، هكذا سمعت وأسفاه !

حين رأته أصيب بخيبة أمل قالت تقنعه:

ـ نعم يا حسن قد تجد من يروي، ولكن يصعب ان تجد من يستمع!

ـ كم أنا حزين لهم لقد ضاعت حياتهم، هل ستضيع حكاياتهم أيضاً؟

(51) تطوع لحرب واحدة في أسبانيا، فتطوعت لحروب العراق الكثيرة!

كنت أتطلع للطريق الطويل الممتد في أعماق الأبدية مظللاً بأشجار يبست وتفحمت منذ عهود سحيقة. لامست قلبي بغتة رائحة نارنج، نفحة قديمة تأتيني دائماً ممزوجة بنكهة المطر المسائي، وكنت دائماً أحس بفجيعة المستحيل في أن أرى ذلك الشخص الوحيد الذي يثيرها في قلبي، وقد رحل عن بلادنا ودنيانا من زمن بعيد: صديقي القديم جميل روفائيل. هل هذا معقول؟ أيكون هنا؟ كيف جاء من أسبانيا الثلاثينيات إلى هنا شمال العراق، ونحن في أعتاب القرن الواحد والعشرين؟ رائحة النارنج القديمة ضاجة بالذكريات، مبللة بالدموع، ندى حب ضائع مفعم بشذى الجوري والرازقي! رائحة طيبة وعظيمة جعلتني أشعر أنني لست في العالم السفلي، والغابات المتحجرة، الناضحة بالبترول الكريه، بل في جنة شبابي وأيام أحلامي الأولى الجميلة الضائعة! جميل روفائيل، صديقي القديم هو الذي ألهمني الفكرة الجذابة بموقفه البطولي،وشجاعته. مثل لي آنذاك إنسانية الشيوعي، يضحي بحياته من أجل أناس بعيدين عنه، لا يعرفهم ولا يمتون له بصلة قربى أو مصلحة خاصة. كنا صديقين نلتقي في مقاه على شاطئ دجلة، جهة الكرخ. كان يدرس الاقتصاد في بوسطن، بولاية ماساشوستس في أمريكا، مال إلى الشيوعيين إبان موجة الانهيار الاقتصادي التي اكتسحت العالم ثلاثينيات القرن العشرين، وجعلت حتى الأشجار كما حدثنا تميل إلى اليسار، خاصة في حدائق الجامعات الأمريكية، ومنتديات المثقفين، والمسارح واستوديوهات هوليود، والتي هزت عصب الرأسمالية فواجهتها بالمكارثية القامعة. كان متفوقاً بدراسته وبمنحة مجزية من الحكومية العراقية، تصله أيضاً من عائلته الموسرة مساعدة مالية مفتوحة، فكان يعيش حياة رخية هانئة مترعة بالكتب والفتيات الجميلات وكؤوس الشمبانيا والأسرة الحريرية الدافئة، والرحلات الباذخة! ما الذي جعل الأفكار الثورية والشيوعية الجافة تغلي في أعماقه وتقتلعه كالعاصفة قبل أن ينهي دراسته لتعود به إلى بلده العراق ثائراًً،مستعجلاً النصر الشيوعي العظيم؟ جاء يناضل مع أبناء وطنه ويبني الشيوعية في العراق، كما قال بما حصل عليه من معلومات في الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي،غير ممهورة بشهادة! تلك أسرار في النفس لا تدرك بسهولة!كان ثمة انقلاب قد حدث في أسبانيا، في 17 تموز عام 1936 ضد الشرعية الجمهورية اليسارية الحاكمة، وقد اندفع الشيوعيون الأسبان مع اشتراكيين وفوضويين وممثلين لموظفي الدولة والطبقة العاملة وفقراء ومشردين ومسحوقين في حرب ضد قوات الانقلابيين القوميين بقيادة الجنرال فرانكو، ضمت رجال الدين المحافظين وملاك الأراضي وكبار التجار، ودعمت من ألمانيا النازية وإيطالية الفاشية بالدبابات والطائرات والأسلحة الفتاكة. فراح يتقاطر لنصرة القوات الجمهورية اليسارية شيوعيون وثوار حالمون بينهم كتاب وشعراء من مختلف أنحاء العالم. كانت تلك كما قيل في أماكن كثيرة من العالم مجرد تمرين أولي للثورة العالمية التي لم تقم، بل قامت بدلاً عنها الحرب العالمية الثانية! وقد أصدر الحزب الشيوعي العراقي نداءه إلى أعضاءه يهيب بهم التطوع لنصرة رفاقهم الأسبان جرياً على الموجة الأممية التي قادها السوفييت.كلما التقيت جميل روفائيل أجده قلقاً لا يستقر على حال. كنت أشعر بنبض ثوريته في أصابعه وهو يصافحني، أو يجلس حيالي في المقهى. أرى صدره يعلو ويهبط كأن ثمة بركان فيه. كان يطفح نقاءً واستعدادا لنصرة وخدمة الإنسان أينما كان، لم يكن بعد عودته قد قضى في بغداد سوى بضعة أشهر، كل ما فعله فيها قراءة منشورات وتحليلات من الحزب الشيوعي،الذي كان ما يزال أقرب للجنين، لقضايا دولية محلية كان يراها ساذجة وبدائية ومتخلفة كما قال لي. كيف شق طريقه من بغداد إلى أسبانيا ووصل إلى رفاقه الأسبان؟ كانت تلك معجزته الخاصة. اليوم يفاجأني بمعجزة أخرى: قدومه من قبره الضائع هناك بين جبال أسبانيا إلى كهفنا المجهول تحت جبال شمال العراق! كيف سمع بانتفاضة الشهداء وهو تحت الثرى الأوربي البارد وشق طريقه الطويل إلينا؟ ماذا جاء يقول؟ رغم لهفتي الحارة له، لم أعانقه، خشيت على هيكله العظمي أن يتهشم، اقبل هو يعانقني غير مكترث أن أضلاعه أخذت تتساقط رماداً، فاحت من عظامه رائحة جلساتنا في مقهى البيروتي ومقهى العانيين المطلتين على دجلة، وشجن الأغاني البدوية نسمعها معاً بصوت وربابة عكار في زاوية من مقهى البيروتي الكبيرة ذات الشناشيل المقابلة للجامعة المستنصرية القديمة على الضفة الأخرى. أحسست أيام شبابي وحياتي الماضية كلها تنهال عبيراً حياً فاغماً مع ذرات هيكله المنخور، كان ما زال يلهث متعباً فالرحلة بلا شك طويلة شاقة! من فرانكو وحلم الشيوعيين بسوفييتات أسبانيا في الثلاثينيات من القرن العشرين، إلى حلم شيوعيين عراقيين بالمراجعة وتطهير الذات في أوائل الألفية الثالثة في هذا الكهف، قلت:

ـ يؤسفني يا صديقي الحبيب؛ أننا نلتقى اليوم على رماد أحلامنا الضائعة!

قال ضاحكاً كعادته:

ـ لا تحزن على حلم ضاع؛ بل على حلم لا تستطيع صنعه!

لا يزال متفائلاً متدفقاً بالأمل كينبوع جبلي:

ـ وهل ما يزال علينا صنع الأحلام؟

ـ نعم، الشيوخ مطالبون بالأحلام أكثر من الذكريات، فذكرياتهم حزينة،عادة وأحلامهم عذبة ناضجة ممكنة، إنهم خبازون ماهرون للأحلام، عكس ما يشاع حول عجزهم عن الأحلام والعشق!

مازلت أتذكر ساعة غروب حزينة على دجلة كنت أجلس في مقهى العانيين، المطلة على النهر، قرب المكان الذي كان شريعة للقفف التي تأتي بالبطيخ الأصفر من سامراء، وللبلام التي تعبُر الناس بفلس أو فلسين، وقد بنوا جسراً حديثاً جميلاً حمل اسماً ملكياً صار يعرف فيما بعد بجسر الشهداء، أقرأ في كتب ضخمة شروحات قانونية مطولة؛ أريد أن أنتهي مما علي أن أقرأه كل يوم منها لأنتقل إلى قراءة الروايات والأشعار العربية، والعالمية باللغة الإنجليزية التي صرت أدرب نفسي على القراءة بها، ارقب طيور السنونو بذيولها المفروقة كمقص أبدي لا تعرف ماذا يريد أن يقص، أو أسرح مع طيور الغاق البيض على الشاطئين وهي تنقض على الأسماك الصغيرة،يرهقني النظر إلى برج قلعة القشلة، بقايا الجيش التركي،في الضفة المقابلة، بداية شارع السراي، كنت اسأل نفسي أحقاً حكمنا العثمانيون أكثر من أربعمائة سنة؟ وشدوا العراق وأهله إلى إمبراطوريتهم بحبال خيلهم وبغالهم. حين حطم الإنجليز وحلفاؤهم إمبراطوريتهم المريضة منذ زمن بعيد كما قالوا وطردوهم من العراق، لم يجدوا على هذه الأرض سوى خرائب وبقايا مدن صغيرة حائلة الجدران، آيلة للسقوط، تحفها وتكتنفها مستنقعات وسواق آسنة، يدور بينها بشر هائمون دون هدى كأنهم يخرجون لتوهم من الكهوف، على وجوههم صفرة وشحوب أمراض مزمنة وجوع طويل، وجهل وحيرة وتوحش! الإنجليز أدركوا أن هؤلاء الفقراء هم أغنى شعوب الدنيا، فهم كجمالهم التي لا يزالون يستعملونها في تنقلهم بين قراهم وأطلالهم، ظمآنة وهي تحمل الماء على ظهورها، جائعة وهي تدوس على ثروة هائلة مطمورة: النفط !راحوا يعاملوننا كأثرياء مؤجلين، قاصرين ينتظرهم ميراث أمهم، الأرض، فقرروا بدهائهم أن يقتسموا معنا الميراث قبل أن نبلغ سن الرشد، فكبلونا باتفاقات جائرة، لكنهم حرصوا أن يروضوا الوحش، لكي لا ينقلب عليهم فجأة ويفترسهم، حرصوا أن يدخلونا معهم العالم المتمدن. كونوا لنا دولة ودستوراً. جلبوا لنا ملكاً من الحجاز، ومن سلالة نبينا. جلبوا لنا الكهرباء والماء النظيف والبريد وأيقظوا لنا تاريخاً كنا قد نسيناه غارقين بأوحال لقمة العيش! ومع أن الإنجليز هؤلاء الشركاء غرباء عنا حتى في سحناتهم الشقراء وعيونهم الخضر، ورطانتهم الباردة، لكنني رأيتهم يعقدون معنا صفقة مفيدة: يهبوننا حضارة جاهزة، فنستمتع بكسلنا وتديننا، مقابل أن نهبهم زيتاً لحضارة ما زالوا يعملون عليها باجتهادهم! لذلك لم انفر منهم، ولم أكرههم كما حاول المتدينون والقوميون تعليمنا وتعبأتنا. هذا هيئني لن أتقبل الغرباء الآخرين الذين حدثني عنهم كثيراً جميل روفائيل: السوفييت، فهؤلاء أيضاً قالوا انهم سيهبوننا حضارة أخرى ليس مقابل نفطنا، بل مقابل القليل من دمائنا، نهدرها في سوح نضال،لم يكن يخطر ببالي آنذاك أنها تفتح الطريق لهم أيضاً! ملت أخيراً للسوفييت وجدتهم " ولا أدري كيف" يشبهوننا في أشياء كثيرة، وسيكونون عادلين معنا، سيضمنون كرامتنا أكثر من الإنجليز المتعجرفين!

دخل المقهى أحد أصدقائنا بوجه عليه إمارات جد، كنت أعرف إنه دائماً يبالغ بها. جلس جنبي. مال علي قائلاً بصوت يقارب لهجته الحزبية السرية المتسترة المهولة للأشياء:

ـ ألا تريد أن نذهب لوداع صديقنا جميل روفائيل؟

ـ هل سيعود لأمريكا؟

قال بلهجة مستنكرة مؤنبة:

ـ أهكذا تفكر؟

سكت برهة وهذه طريقته في خلق اللهفة لكلامه قال:

ـ سيذهب متطوعاً في اللواء الأممي لمقاتلة جيش الخائن فرانكو!

لا أدري هل أنا لم افهم ما يقول، أو لم أصدق أن شيئاً كهذا يحدث في بغداد، رأى دهشتي، أضاف:

ـ ذهب رفاقنا لتلبية نداء حزبنا متطوعين لنصرة رفاقنا الشيوعيين الاسبان في حربهم ضد الفاشية!

باغتني كمن يحاصر طائراً لصيده وقد رآه ينهل الماء من إناء العائلة الفخاري على تيغة البيت في صباح صيفي:

ـ هل تتطوع؟

ندت عني ضحكة يائسة، كنت دائماً ارفض اقتراح الشيوعيين أن أنضم إليهم، لا لأني غير مقتنع بأفكارهم، بل لأني كنت قد وجدت أن مهمتي الآن أن أنهي سنتي الأخيرة في كلية الحقوق، وأن أقرأ الكثير عن الفكرة، وأعب من الروايات والأشعار الجميلة، ولا أغرق فكري بقضايا منشوراتهم الصاخبة التي كان هو يجلب لي بعضها، قلت:

ـ بالطبع أنا أتضامن مع الأسبان في كفاحهم ضد فرانكو حليف هتلر، ولكنني لا أستطيع الذهاب إلى أسبانيا للحرب!

وأحسست بالخجل، كيف إن جميل روفائيل يذهب ليقاتل من أجل الشيوعيين في أسبانيا، وأنا أتردد أو أمتنع عن النضال مع الشيوعيين في العراق؟ مع ذلك وجدت إن الوقت لم يحن لدي للانخراط في حزب الشيوعيين، خاصة وإنني بين فترة وأخرى أسمع عن انشقاقاتهم وصراعاتهم في حزبهم الصغير وتعرضهم لاختراقات من الشرطة، فتقتاد الكثير منهم إلى السجون أو الفصل من الدراسة أو الوظيفة، نهضت، قلت له:

ـ هيا نذهب نودعه!

وجدناه مستبشراً كأنه سيذهب في سفرة إلى جزيرة جميلة ساحرة مع حبيبته لقضاء شهر العسل، وليس إلى منطقة قتال مجهولة قد لا يعود منها أبداً! جلسنا معه قليلاً،كنت أفكر:هل قرر التخلص من ربقة حزب خيب أمله، ليلتحق بحزب أوربي قد يجدد أمله بالشيوعية؟ لا أدري! كأنه قرأ تساؤلاً على وجهي.همس لي: "قررت تلبية نداء حزبنا وتطوعت للقتال مع الشيوعيين الأسبان" كان يحزم حقيبة صغيرة، تحيطه عائلته بين باك، ومبتسم،وواجم، خرج معنا إلى باب البيت، كان الهواء بارداً، متضوعاً بأريج حديقة بيت كبير مكتظة بأشجار النارنج، وما زالت محملة بثمارها الصفراء المتوهجة مغمورة بضوء الشبايبيك. قطرات مطر أخذت تنزل علينا، تحمل أحلام وبرد شتاء عام 1937 عانقناه وقد اختلطت بدموعي ونبضي المتسارع!

وأنا أعود وحدي في وحشة الليل، صرت أتساءل، إذا كان صديقي قد ذهب ليحارب ومن أجل شعب آخر وقد يموت، كيف أظل متردداً في الانتماء للشيوعيين، والنضال من أجل العمال المساكين في العراق؟ خاصة وإنني بدأت أحب السوفيت وأفضلهم على الإنجليز الذين لم أكرههم أيضاً؟ يومها حسمت أمري، لا طريق لي غير طريق الشيوعيين، اعتبرت نفسي منذ هذه الليلة عضوا روحياً في الحزب الشيوعي، لكنني أزمعت أن لا انظم للحزب كتنظيم إلا بعد تخرجي والاستزادة من التعمق بالفكرة، والتمكن من جوانبها، والمهم أن روحي واتجاهي حسما مع الشيوعيين! بعدها بسنوات وعقود صرت أقول، جميل روفائيل ذهب لحرب واحدة في أسبانيا وكانت واضحة ومحددة، فاستشهد ومضى بهدوء، أما أنا فقد دخلت حروب العراق الغامضة المدلهمة المتشابكة، والتي لا تنتهي إلا لتبدأ! كم مر على ذلك المساء العابق بشذى الضوء والشجر، ورائحة المقاتلين من أجل القضايا الكبيرة؟ أكثر من ستين عاماً، وأكثر من زمن آخر لا أدري أين مر، ودنيا أخرى، وسماء أخرى، وها هو ذلك المساء العذب ينهض في قلبي، تحت مطر ودموع ورائحة موت وحب منتهك! هو الآن بجانبي وقد عاد إلى الحياة من قبره في أسبانيا، قلت له:

ـ حدثني عن رحلتك إلى الشيوعيين الأسبان، كيف كانت؟ هل كانت ناجحة؟

ـ ناجحة حيث يلبي الإنسان نداء واستغاثة الإنسان! أما عن التفاصيل فهي كأي حكاية ثورية أخرى مملة، وربما فاشلة بائسة على الأكثر! انتصار الشرير القوي على الخَيير الضعيف، هذا إذا سلمنا بأن القوي شرير حقاً، والضعيف خيير حقاً!

ـ لنقل أنها كانت حكاية معقدة أكثر مما هي مملة!

ـ لا يهم الوصف، لقد عشتها ولكي أستعيدها؛ أريد أن أتأكد هل أنا حي حقاً أم مجرد وهم من أوهامك؟

قلت ضاحكا:

ـ هذا، وذاك!

ـ إذاً لقد فشلت وانتصرت في أسبانيا بقدر ما قاربت الحقيقة مرة، وفارقتها مرة أخرى!

ـ هي إذن قصة الإنسان، قديمة بثوب جديد، وجديدة بثوب قديم!

قال بنبرة من سئم الحكاية ويريد مغادرتها:

ـ رائع أن نلتقي ولسنا دوماً بحاجة إلى الحقيقة فالوهم لذيذ، وليتنا نستطيع الذهاب الآن إلى حانة! مت في أسبانيا بمعركة مع مفرزة فرانكوية، فدفنوني حيث سقطت في حقل عنب، كانت إلى جانب قبري معصرة خمر، لو تدري! طيلة موتي أعب ما يتسرب إلي من ذوب الياقوت، كنت نشواناً طيلة موتي، صرت مقتنعاً أن لا شيء في العالم يصنع الشيوعية، والأحلام الجميلة، غير العنب، أو معصرة العنب! قلت:

ـ أنت طيب القلب فرق لك أعداؤك وحجارة قبرك!

أعاد سؤاله:

ـ أنستطيع الذهاب إلى حانة؟

قلت بحسرة حقيقية:

ـ هيهات لنا ذلك الآن، ومع ذلك لننتظر، فهذا ليس مستحيلاً على من استيقظ من الموت!

ترى ماذا سيقول لو عرف ما جرى للعراق بعد استشهاده في أسبانيا؟

يبدو إنه رأى هزة رأسي: وأدرك معناها قال: عرفت كل شيء، قطعت الطريق من أسبانيا إلى هنا مع رجل بهيكل ضخم يدعي إنه جلال العطار الكاتب المشهور! لا أدري ما صحة ذلك! عبرت معه الغابات والبحار، كان قادما من النمسا، وقد خفف عني وحشة الطريق بأحاديثه الشيقة الكثيرة، لكنه أثقل قلبي بما أعلمني به من أنباء العراق في الستين سنة ونيف الماضية!

دهشت فرحاً، أحقاً ما تقول؟ جلال العطار نفسه؟ ظل يتطلع في وجهي حائراً لكنني أدركت على الفور إنه فعلاً جلال العطار ولا أحد غيره، صديقي القديم الذي في قلبي، والمفكر الذي انقلب على الشيوعية، وراح يسفهها، ويعمل جاهداً على إسقاطها، والحط من شأنها في أعين الناس، فجعلني أكثر فهماً لها واقتراباً منها وشغفاً في خوض غمار معركتها المريرة. زادت دهشتي وسروري وأنا أسمع أنه حدثه عن تاريخ العراق، هذا يعني إنه لا يزال بمزاج طيب للحديث! أي مهرجان روحي أعيشه الآن، أية هبات يمنحني إياها العمر في خريفه وأفوله، بل أية مساعدة عظيمة لي في بحثي عن الحقيقة اليوم، فالعطار رغم كل شطحاته وتحامله لديه ضمير نقي، وفكر حر، وذاكرة عجيبة خاصة في تاريخ الشيوعيين وقادتهم وله وقفات ممتعة مفيدة في تاريخ بلادنا، تحشرج صوتي وأنا أسأله:

ـ ولماذا لم يصل معك إلى هنا؟

ـ لم يسمحوا له بالدخول، قالوا له أنك صاحب بار ومرقص في (فينا)، ولا علاقة لك بالشهداء والثوار!

دون وعي، مسكت جميل من يده فتساقط من هيكله العظمي عظام لم يكترث لها وهو يقول:

ـ إنه هناك،المسكين يحاول إقناعهم أن المنفى هو استشهاد،وحشرجة طويلة، ولكن عبثاً، فهم لا يقتنعون!

ـ على أية بوابة هو الآن، هيا دلني!

ـ أظنه على بوابة الموت الثالثة!

أشار متعجلاً للطريق الذي أتى منه، استمهلته أنني سأعود إليه، وأنا لا أدري في زحمة العالم السفلي هل سألتقي العطار أم لا، وقد أحسست أن أحد أسباب مجيئه هو لقائي، مدركاً إن هذه الانتفاضة ما هي إلا موعد عام للأحباب المتفرقين في أنحاء الدنيا للقاء، وإنه سيندهش أكثر حين يجده حقيقة لا خيالاً! اصطحبت في طريقي حسن طلقة، حدثته عن العطار، قال إنه سمع عنه وقرأ له، وإنه يعده شهيداً أيضاً:

ـ الشهيد ليس فقط من يموت برصاصة أو مشنقة، أو زجاجة ويسكي يدقها في دبره ضابط الأمن بعد أن ينتهي من شربها، قد يكون الشهيد مات على صدر عاهرة، ما الذي ألجأه لهذه الميتة الحزينة البائسة غير عذاب أكبر؟ ولا تنس! العاهرة شهيدة مجتمع مظلوم وظالم!

قطعت الطريق إلى بوابة الموت مصغياًً لحديث حسن طلقه وتنظيراته في الشهادة والشهداء، ومصائب العاهرات، تناهى إلي صوت جلال العطار الجهوري صارخاً:

ـ أنا شهيد، وأكثر منكم جميعاً جدارة بمجد الشهادة، فأنا جئت لموتي ومنفاي وعذابي بوعي، وركلت امتيازات عهود حكم كثيرة!

تنحى الشهداء الواقفون على البوابة التي تحمل لسبب لا أعرفه الرقم ثلاثة، أمام حسن طلقه وهو يمد يده مقتاداً جلال العطار مرحباً به:

ـ أهلاً بك أيها المحارب القديم، والمفكر الجليل، يشرفنا أن تكون بيننا شاهداً وحكماً،،معذرة، فللشباب أخطر مساوئه: الجهل بالكبار وتجاهلهم!

كان هو جلال العطار بهيكله العظمي الضخم وبتعرقة القديم إذ كانت عظامه تقطر ماءً. تقدمت منه معانقاً، قال وكأنه قد فارقني قبل ساعات بين مقهى البرازيلية ومقهى شريف وحداد في شارع الرشيد، وليس قبل عشرات السنين، وبيننا الموت:

ـ ما زلت حياً مثقلاً بملابس أهل الدنيا ولغتهم الثقيلة!

أضاف ضاحكاً:

ـ كيف احتملت الدنيا بعيداً عن بيت المسرات وكؤوسه المترعة!

كان يعرف بحس الموتى أنني أسكن قمة جبل في أربيل مع الفقراء المعدمين وطيور الليل الشاردة! قال حسن طلقة وهو يتركنا عند باحة المحكمة:

ـ معذرة فهناك عشتار وشهرزاد تنتظراني، وقد تأخرت عليهما!

أخلى جلال العطار يدي قائلاً لحسن طلقة:

ـ عشتار وشهرزاد هنا؛ وتريدني أبقى مع صديقي الشيوعي الكئيب ثقيل الدم يونس رحيم؟ أريد أن أذهب معكم فأنا منذ أيام شبابي أحلم أن أكتب عن عشتار وشهرزاد روايات ومسرحيات!

قلت معترضاً :

ـ وصديقك القديم اللدود فهد ألا تريد أن تلقاه؟

ـ هنا أيضاً فهد؟ أما كفاه أنه نغص حياتنا الفانية، فيأتي اليوم لينغص حياتنا الباقية؟ لا تجمعني برجل جعل الطريق إلى سعادة العراقيين الصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا، بعد عودتي للحياة ثانية، لن ألتقي إلا بمن يبث الحب والفرح والوئام الاجتماعي!

هم بالمضي مع حسن طلقة لكن هذا أوقفه بحزمه ورفقه المعهودين:

ـ لنتريث، سنجتمع كلنا في ساعة مناسبة!

حضور جلال العطار أيقظ الذكريات كلها، الحزينة منها والمفرحة. وأعاد طيف فهد بكل قوة، سيكون فهد حاضراً هنا حتى لو لم يأت لمحفل رفاقه الشهداء، حتى لو ظل جلال العطار يصمه بالسوء ويرفضه! كنت في كل سنوات عملي الحزبي أو تيهي وعذابي،،أتذكر جلال العطار وأرى أنه هو من كان يضع في جيبه أو رأسه وضميره مفتاح حقيقة الحزب وكنه مساره ومصيره! اليوم هبط علي من سماء لم يؤمن بها يوماً، رغم كل ما وهبته من مطر ونجوم وأجساد نساء وكؤوس وأخيلة قصص ورواية! بغتة رأيت هيكله العظمي يكتسي عصباً ولحماً ورواءً ويعود،هو نفسه جلال العطار الذي طالما مشيت معه دروب اللذات مسرعي الخطى نقتفي أثر أبي نؤاس في هوسه بجنان وغيرها من الحبيبات، أو دروب الحكمة بطيئي الخطى مقتفين خطى الجاحظ وأبي حيان التوحيدي:

ـ آه، يحي العظام وهي رميم، لحظة يهبها الله حتى لمنكريه!

صوت سمعته، ربما صدر من جلال العطار أو من هيكل عظمي قريب يتحسر، أو من حي يطمئن نفسه لما بعد الموت، قلت :

ـ هيا يا جلال العطار نسير الطريق من أوله، نعود لشبابنا، لأيام النضال والأحلام والحروف الأولى تتراقص على الورق نحلاً على الزهر، وكؤوس خمر تنسكب على صدور الحسناوات عسلاً على زبد!

رد بعنجهيته المعهودة:

ـ لا شك لدي، ان الله الذي أنكرته، سيأخذني على قدر عقلي، فيسامحني، ويعيدني للشبابي وبيت المسرات!

جعلني أرى الشيخ كيف يصير حين يعود طفلاً، يغدو بجناحين من حلوى، وشفتين ثرثارتين من ألسنة البلابل، دون أن يفارقه حزن على جبهته، ومع عرقه تسيل حكمته وذكرياته وصبواته، قلت:

ـ هيا!

ـ لن أبرح هذا المكان ما لم تأخذني إلى عشتار وشهرزاد!

ـ أعدك أن أعود بك إليهما حالما ننتهي من رحلتنا لماضينا البعيد الجميل!

ونحن نسير رآني أتلفت:

ـ عم تبحث؟

ـ عن جميل روفائيل!

هز رأسه، قال بلهجته الساخرة:

ـ هذا مجنون مهووس بالروح الإصلاحية، هو يريد أن يدرس اقتصاديات الآخرة ويضع طريقة للاقتصاد في استعمال النور في القبور!

ـ لكنه يريد أن آخذه إلى حانة!

ـ لا بأس! رغم إنه أوجع رأسي طيلة الطريق بحديثه عن مصائبه مع فرانكو!

لم أجد جميل روفائيل حيث تركته، قال لي أحد الهياكل العظمية:

ـ ذهب لزيارة أقارب له في القوش!

رد العطار بلهجة المتابع لشئون الدنيا:

ـ لم يعد له أقارب هناك، كلهم ركبوا الثيران المجنحة، وطاروا إلى أمريكا وكندا!

رد هيكل عظمي آخر:

ـ ربما ذهب لتفقد بقاياهم، علهم تركوا له بعض أوراق الشيوعيين!

لكن جلال العطار انبرى للقول:

ـ إنه ذهب إلى هناك لشرب العرق الألقوشي البيتي الفاخر الذي يقطرونه من أعنابهم الوفيرة على لحم الدجاج والعصافير المخلوط بالزعتر البري، وقد يحظى بحسناء ترضى أن يغازلها وهو مجرد جندي مهزوم مثقل بكل طعنات عصابات فرانكو ورفاقه الشيوعيين القدامى، حدثني ونحن في طريقنا إلى هنا أنه أدمن الخمرة في قبره، الإدمان في القبور مأمون،لا يخشى المرء من تشمع الكبد أو العقل، ولا يزعج جيرانه الموتى بهذيانه وتعتعته وأخيلته فبينه وبينهم لحود من صخور وصمت ورياح، خاصة وهو كان يتلقى خمرته مجاناً متسربة في شقوق الأرض من معاصر الفلاحين الأسبان قرب المقبرة!

ربما أهم ذكرى عاد إليها العطار هي ذكرى حبيبته نورا، تلك التي أحبها، وبعد ما حدث له معها لم يحب امرأة أخرى، راح يغرق نفسه في الخمور، وأحضان النساء لينساها أو ليتذكرها، وهل تنسى نورا؟ أحبها بهوس رهيب. انتقل من البصرة إلى بغداد من أجلها،وحين فجع بها عاد إلى البصرة عله ينسى، فما نساها، نسى روحه، وعقله وإبداعه فترات طويلة،ولم ينسها! لا أدري هل سيأتي جميل روفائيل لحضور المحاكمة، أم ستثقله الخمرة، ورائحة الأنثى؛ فيظل حيث هو يستعيد ذكريات وأحلام زمان مضى على هواه وهوى ريح جبال هذه الأرض التي اصفرت عليها الكثير من الكروم والوجوه والعظام؟ سمع نداء رفاقه القدامى وهو في أسبانيا، ذهب إليها سكران بخمرة رهبان الشيوعية العالمية التي لا تقل ثقلاً ومكراً عن خمرة رهبان أديرة نينوى. ما يزال في قلبي أمل أن ألقاه ثانية، رائحة ذلك النارنج تنعش روحي، تبدد رائحة خمرة الموت السوداء التي أترعت بها كؤوس هؤلاء الشهداء المساكين، ولا بد لي أن أشربها اليوم معهم!

(52) لو كنت معنا في احتفالات المكسيك: سرب حسناوات يسبحن عاريات في غدير مع القمر والنجوم!

ملت على العطار :

ـ يا صديقي، ذاكرتنا نحن الأحياء ثقبتها أحداث هذا الزمان التعيس، ذاكرة الموتى لا تزال عامرة بالكثير، أريد أن أستعين بذاكرتك على تلمس طريقي الروحي، أنا الحي متعب، وأنت الميت تبدو نشيطاً وأكثر إقبالاً على الحياة، فهل تساعدني على ترقيع ذاكرتي؟

توقف العطار، نظر في وجهي كما كان يفعل ونحن نسير في دروب بغداد القديمة، قال:

ـ أرجو أن لا تعكر صفو أيامي الجديدة في الدنيا! ما عدت لهذه الدنيا؛ لأعيد معك مسارك الحزبي الخائب، أنا عدت لنسائي الحبيبات، ولخموري التي زادت تعتيقاً بعد ابتعادي عنها في رحلة الموت اللئيمة!

ـ ولكنك استيقظت على بوق الشهداء؟ وقلت على البوابة أنك شهيد عظيم!

توقف، نظر إليُ، كأنه يلومني أنني أفحمه وأحرجه، أشاح بجمجمته الكبيرة عني صامتاً متفكراً، عاجلته بسؤال:

ـ هل أعجبتك هذه الدعوة الكريمة من الشهداء، أتعتقد إنها مجدية؟

اقبل علي كعادته في الزعل والرضى كالطفل، وتلك عادته في حياته حتى بعد أن وخط الشيب رأسه:

ـ أنها هبة عظيمة من الشهداء لأنفسهم وللناس أيضاً، حضورهم إلى الدنيا، يعني عودة الأمل، سطوع الحقيقة، يومهم هذا ذكرني باحتفالات جميلة في المكسيك يدعونها: أعياد عودة الموتى، شهدتها في إحدى جولاتي حول العالم؛ عندما كنت غنياً أعيش مع عشيقتي في النمسا!

هناك ينطلق الناس بشجاعة وذكاء، يقلبون أحزانهم إلى أفراح، يملأون الشوارع والساحات في كرنفالات يرتدون فيها ثياباً تنكرية متنوعة مبهرجة، من حرير أو صوف، تمثل هياكل عظمية ويسيرون على أرجل خشبية طويلة، هياكلهم العظيمة ملونة براقة فرحة! اعترضتني فتاة مكسيكية شابة رائعة جريئة، بجسد شهي:

ـ الناس هنا لا يقهرون الموت، ذلك مستحيل، هم يقهرون الخوف منه، هذا ما يستطيعه الإنسان!

تأبطتها وسرت معها سكرانَ جذلاً بين رجال يعبون الخمرة، ويلتهمون سجق العجول المتبلة الشهية، يرقصون وهم هياكل عظمية، قالت فتاتي:

ـ الحياة الدنيا ليست سوى حلم، حين يموت الإنسان تبدأ حياته الحقيقية! هم لا يتحدثون عن جنة أو نار، هم يتحدثون عن حياة أخرى، حرة أبدية فقط!

ورغم إنني أعرفها خدعة نقولها نحن هنا في الشرق بكلمات أخرى، لكنني وافقتها وأنا أسكت فمها بقبلة شهوانية طويلة. قدتها إلى حجرتي في الفندق، في يوم عودة الموتى يصير الحب مباحاً حتى للعجائز، أنهكتني في مضاجعتها، قلت لها:

ـ أنت تصغرينني بأكثر من ثلاثين سنة، يصعب علي مجاراتك!

قالت وهي تضمني إليها اكثر:

ـ انس العمر، في يوم عودة الموتى، يعود الشباب، وتختفي الشيخوخة، ويعيش القلب الحب لأقصى حد!

ولما انتهينا، بقيت عارية بين يدي لا تريد أن ترتدي ثيابها، قالت كأنها تتحدث عن موعد حقيقي مع أحبة، بيننا ساعات حتى يحين موعد قدوم موتانا الأحياء، لنقضيه في الفراش، أخذت يدي وضعتها بين فخذيها قائلة: كن مكسيكياً وتجول بين أدغال غابتي، واقطف منها الذرة المشوية بحرارة الشمس! كانت تريد المزيد من المضاجعة، وأنا لا أستطيع. سألتها:

ـ والآن ماذا تقولين هل الحياة هي الحلم، أم الموت هو الحلم؟

ردت بإصرار:

ـ الحياة هي الحلم، والموت هو الحقيقية، بدليل أن كل هذه المتعة الهائلة انتهت كنسمة عابرة!

وستبقى ذكرى.والذكرى هي جدث تنبثق منه حياة جديدة. خرجنا إلى الشوارع، كان الناس لا يزالون يتجولون بثيابهم، هياكل الموتى! اقتادتني ألي بيت أبويها، استقبلنا أهلها كعروسين. لم يكترثوا لشيبي وشيخوختي. يبدو حقاً أن الشيخوخة تختفي في عيد عودة الموتى، كان البيت مزداناً بأكداس الورد، والشموع. استخرجوا صور أحبتهم الموتى. وضعوها فوق باقات الزهور والغصون المتراصة، وأحاطوها بالإيقونات والرموز المقدسة. صار أحبتهم هناك، يطلون بعيونهم الحقيقية لا من صورهم الفوتوغرافية عليهم، وهم منهمكون يطبخون لهم أشهى المأكولات المفضلة لديهم. يصفون على الموائد قناني الخمور، وينشرون غيوم البخور والعطور. بعد أن انتهوا من تحضير ما يليق بالموتى الأعزاء العائدين جلس أفراد العائلة الكبيرة في صمت. لحظات ويعود الموتى. هم لا يطرقون الأبواب. سيدخلون مع النسيم والضباب وعطر البخور والشموع وعبق الزهر. يأتون على دفعات، يسبقهم الأطفال وقد اكتسوا في الموت حلة الطيور. بينما تقرع الكنائس، وتهبهم الطبيعة رياحها ونسائمها المبشرة بقدومهم. قالت لي فتاتي:

ـ لابد أن لك أحبة، تريد لقاءهم. ما عليك سوى أن تضع صورهم على باقة ورد، سيأتون حتما!ً

ـ أحبتي بعيدون، قبورهم في العراق، وفي منافي عديدة، وراء البحار!

ندت عنها ضحكة إصرار:

ـ لا يهم! سيعودون، صدقني. هنا صارت بقعة جذب هائلة أقوى من كل ما في أرض الموت من جاذبية للموتى! قم! هيا! ضع صورهم هناك فوق الورود! وإذا لم تكن تحمل صورهم يكفي أن تكتب أسماءهم وتواريخ ميلادهم على أوراق صغيرة، وسيعودون، يجلسون معنا، سيتذوقون الطعام والشراب المكسيكيين لأول مرة.

كانت تتحدث بثقة وهدوء حتى لقد أقنعتني أن أحبتي نهضوا من قبورهم بانتظار إشارتي إلى الطريق. سيدخلون علينا ويجلسون على المائدة العامرة. سيشرب الخمرة حتى من كان لا يشربها، ويندم إنه قضى العمر يحرم نفسه من فردوسها! كانت جلستنا صافية نقية، كأننا متحلقون حول غدير صاف، وفتيات البيت الجميلات عاريات يراقصن القمر والنجوم ويغرقن في نفحات الحب.

نهضت كتبت أسماء أحبة لي، صمت وعاد صوته يتحشرج.

أدركت إنه تذكر نورا، لا حاجة لأن يضع أسمها أو صورتها بين صور المنتظرين من الأحباب! اسمها ووجهها محفوران في أعمق طبقات روحه! وطيفها يتبعه أنى ذهب، آخر الدنيا، وما بعدها أيضاً!

دائما كنت أتذكر ما كان يقول عن علاقته أو عذابه معها: (غيابها كان الصخرة التي وقعت على قلبي وسحقته، كل حياتي بعدها هي محاولة جمع حطامي متوسلاً بالنساء الأخريات وبالكتابة دون جدوى، ما دفعني لمحاولة الانتحار بالسياسة وثرثرتها الفارغة وبالخمر والمقامرة، فكانت محاولة فاشلة أيضاً، لقد مدت بعذابي دون أن تنهيه، لا حقيقة في حياتي سوى نورا، ولكن أين هي الآن؟) حقاً أين هي الآن، هل رآها في عالم الأموات؟ كم أتمنى أن استعيد قصة حبه معها، كانت قد ألهمتني في حينها الكثير من الأحلام والرؤى الجميلة، ربما سيحدثني بشيء عنها، فهو قد قال لي قبل قليل: بعد الموت وعيت نفسي جيدا. الإنسان لا يعي نفسه إلا بعد الموت، حين يكون كل شيء لا جدوى منه،أو فات أوانه!

عاد يقول: كنت والجهنمي بين من استدعيتهم! ظننتك ميتاً، بعد فراقنا الطويل بقيت أتذكرك، وأنت في خضم نضالك المرير، لا أستطيع تصورك إلا وقد وقعت في قبضة السلطة، ولن يتركوك تفلت من أيديهم حياً. انتظرتك وأحبتي الآخرين تعودون مع الموتى المكسيكيين، خيل إلى أنني شممت روائحكم في شذى الورد ممزوجا برائحة الشموع المحترقة، والجنس وهو يحرق الأجساد، قلت ذلك يكفي، قلت ربما أذابوك بالحوامض كما صرت أسمع عن طرائق تخلصهم من خصومهم السياسيين، مما جعلك لا تستطيع أن تلم جسدك وتأتيني إلى المكسيك، إلا رائحة زهرة محترقة! ومع ذلك عرفت الطريق إلى المكسيك كما كنت تعرفه إلى بيت المسرات، وحانات ومقاهي بغداد الغابرة! ذلك أكد لي صواب ما قالته لي تلك الفتاة المكسيكية التي أحببتها في يوم عودة الموتى. كم اشتاق لها الآن. لو أطلق سراحي إلى الحياة من هنا لما عشت إلا في تلك القرية المكسيكية، ومع هذه الفتاة الجميلة. جمالها يستحق أن أمنحه عمري، والأبدية كلها!

قلت ضاحكاً:

ـ ليتني حين طلبتني كنت ميتاً؛ كنت جئتك إلى المكسيك بكامل جسدي لا مجرد نكهة زهرة محترقة، كنت عرفتني على صديقة لفتاتك المكسيكية‍.

قال مبتسماً وجاداً: لم تفتنا حياة ما بعد الموت، وعل فتاتي في المكسيك تتذكرني وتستدعيني في يوم عودة الموتى. هيا حضر نفسك أدخل عالم الموت بسرعة لآخذك معي إلى المكسيك. أخشى أن يكون الحزب الأهبل قد جعلك تنسى كيف تضاجع الغانيات الجميلات! ما رواه لي أفرحني كثيراً، جعلني أتصور أن ما يجري هنا، هو نفسه الذي يجري في قرية مكسيكية، فقط هنا الحفل متقشف بلا أطعمة شهية، ولا خمور، أو زهور، لا رقص ولا غناء. والشهداء هنا لا يقيمون حفلة تنكرية، يرتدون بها ثياباً عليها رسومات هيكلة عظمية. إنهم يلبسون هياكلهم العظمية نفسها، وهم يدعون الأحياء لمحفلهم، ولا يكلفونهم عناء طبخ أو تهيئة شراب أو عطر أو حتى فرش للجلوس. حفلهم متقشف بجو عراقي حزين. أفرحني أيضاً أن جلال العطار تذكرني هناك، وهو ما يزال مخلصاً لأيامنا القديمة؛ رغم إنني خالفت نصيحته، واعتنقت الشيوعية، وانغمست في النضال والعمل الحزبي، ونسيته، بل صرت أمر بمقهى شريف وحداد ولا ادخل للجلوس معه، أو السلام عليه!

صرت الآن أكثر انشداداً له، واكثر قناعة أنه سيرافقني هنا في وجودي بين الشهداء، أو في رحلتي لتقصي مساري القديم؛ رجوعاً إلى بداياتي الأولى: ولا أدري هل هو سيلتحق بعالمي فنعود حيين ولو لفترة قصيرة، أو نعود معاً أنا وهو، إلى عالم الأموات، حتى تتكرم علينا فتاة مجهولة في قرية مكسيكية فتدعونا إلى مخدعها الدافئ المعطر ومائدتها الشهية في يوم عودة الموتى؟ قلت، مستغلاً تحسن مزاجه بعد أن استعاد ليلة الحب المكسيكية:

ـ هل تساعدني في إيضاح الأمور لي، فقد كثرت سحب الغموض في أعماقي؟

ـ وهل رجوتني يوما وخذلتك في شيء؟ رغم إن كل أشيائك حزبية ونضالية مقرفة!

سل ما تشاء، ورقع ما تشاء،سأجيبك وأرقع معك أسمالك! حتى إذا أردت أن ترقع بالذكريات حذائك أو لباسك الداخلي...لا يهم، سأساعدك على دق المسامير،والذكريات في قلبينا معاً!

ـ ساعدتني بشكل معكوس، بطريقة ما، على صعود جبل الفكرة من المنحدر إلى القمة، واليوم أريدك أن تعينني للنزول من قمة الجبل إلى المنحدر!

توقف لحظة يتأملني مدركاً ما أريد:
ـ أعرف أن ذلك يقتضي المرور بصاحبك فهد، ليكن، فالموت قد صالحنا بعض الشيء، وإن كنت أفضل أن نذهب لبيت المسرات، لا أن نقضي وقتنا الثمين القليل معه أو بذكراه.

قلت وهل نستطيع الوصول للمنحدر، حيث الطريق البسيط،دون المرور ببيوت المسرات، والأحزان كلها؟ سنلتقي بصديقنا الظريف الجهنمي أيضا، لم أدهش إنه تذكره عند الفتاة المكسيكية فهو متعلق به، وكأنه يعوض في نفسه شيئاً مجهولاً. سمعته مرة يقول عنه إنه جسر لا بد منه بين الحقيقة والوهم، بين العدل والظلم، بين الصدق والكذب، بين الجد والهزل! قال أن الجهنمي عاد بكامل جسده، وانهمك كعادته في مضاجعة نساء البيت المكسيكي حتى إنه لم يوفر أم صديقته!

(53)  بين مسقط الرأس، ومسقط الروح، حكاية؛ امنحني صبرك عليها!

قال العطار، وقد ألهبت خياله بيوت المسرات في بغداد: ـ هيا!

وأتجاهل هبة أشواقه إلى بغداد؛ فأسأله: أتريد أن نذهب إلى الموصل؟

ـ لا. الموصل مسقط رأسي، لكن بغداد مسقط روحي! في قبري كنت أترنم بأغاني ولهجة أهل الموصل، اكتشفت أن الإنسان حين يهبط قبره لا يتحدث إلا بلغة مسقط رأسه عند الولادة، فهذا كل ما تبقى لي بعد الموت من مدينتي القديمة!

كنت أول من ركب أول قطار سار بين بغداد والموصل. كان ذلك في صيف 1940،كان كثير من الموصليين لا يزالون حزانى على مليكهم غازي. وجدوا فيه الزعيم القومي الذي يحميهم من أطماع الأتراك، ومساعيهم التي لم تتوقف حتى الآن لاقتطاع مدينتهم من جسد وطنهم. وعصابات كرد لا تنفك تهاجمهم فتقتل وتنهب وتسلب. ومع ذلك خرجوا يلوحون ويغنون للقطار الذي يربطهم بعاصمتهم الكبرى، ومثوى غازي هناك! ولكنهم بعد فترة لعنوا القطار، فقد صار فجأة وحشاً كبيراً يبتلع أحبتهم ليغيبوا إلى الأبد. يسمعون أنهم هاجروا إلى أمريكا أو كندا، تصلهم منهم رسالة، أو حوالة صغيرة، ثم يعم الصمت والسكون،فراحوا يغنون (ألعن أبو للقطار لا بو حركاتو، أخذ حبيب القلب وخلاني بحسراتو!) أهل الموصل كما تعرف يلعبون على الراء فيلفظونه غيناً، ويشددون على القاف، فتزدحم على ألسنتهم كل أقمار وقطارات وقلاقل الدنيا! وكل ما يبدأ أو ينتهي بالقاف فيزقزق ويقوقئ، ندت عنه ضحكة قصيرة: كنت في قبري أغني أغاني الموصل. وكان بجانبي رجل ألماني: كان يقول أنت لا تتركني أنام، لقد فرحت بموتي لأنه خلصني من أغاني زوجتي التي تغني في الحمام وتمأمئ كالعنزة. ثم أتيت هنا لأسمع منك أغاني الدجاج؟ كان العطار سعيدا وهو يستعيد ذكريات القبور في هواء الدنيا بعد غيبة طويلة عنها، مسكين لقد تعذب كثيراً، كان في منفى داخل منفى، وفي موت داخل موت!

تفتحت فجأة شهية العطار للكلام والروي، تحدث بلهجة جادة كأنه ما يزال يمسك بالحياة، ولم يغب عنها لحظة واحدة، وسيكتب كل ما لم يستطع كتابته في حياته الأولى:

ـ طلبت مني ان نهبط معاً هذا الجبل متوغلين بين حطب حياتنا الماضية، نحكي عن كل ما جرى. هذا يقتضي وقتاً طويلاً. قبور الشهداء مفتوحة تنتظر ان تكون أنت ورفاقك هناك لتحسموا أمرهم؛ فيعودوا لراحتهم الأبدية. لماذا أيقظتموهم وفتحتم جراحاتهم بعد أن بلسمها الثرى؟ ولماذا أثرت موضوع خيباتنا وخسارتنا الهائلة؟ من أين نبدأ وكل حجر نمسكها على هذه الأرض تحمل أوجاع قلوبنا،أحلامنا المحطمة المتناثرة، ذلك البلور الذي رجه انفجار كبير، وأحاله شظايا سقطت في كل مكان. لا ندوس الآن إلا على بقايا قلوب وأرواح تكون هذه المتاهة الكبرى؟ يا صديقي الحديث يطول، ويطول دون نهاية أو نتيجة. وأقول له:

ـ لا يهم لندع قبور الشهداء مفتوحة تنتظرنا، لقد تعودوا على الانتظار والصمت والهواء المثقل بآهات البشر.ويجيبني العطار:

ـ لا يا صديقي أنا قادم من عالم القبور وأعرف مزاج الموتى. لقد تعبوا كثير من صمت السماء والأرض، وظلام الأعماق، والهواء المثقل بعطور زهور ونساء ورجال لا يحق لهم استنشاقها؛ فقد انتهت كل حقوقهم فوق الأرض! ومع ذلك هم الآن في لهفة لسماع حديث وأخبار الأحياء. أنت قادم من عالم الأرض المضاءة بشمس وقمر، تعرف مزاج الأحياء، ورغبة بعضهم في سماع أحاديث الموتى وأخبارهم، لا يهم سأجاريك، لتبق قبورهم مفتوحة، جروحاً أخرى في قلوبهم، شقوقاً أخرى في أيامهم الخاوية. الجهنمي يقول كل البيوت، وكل المقاهي والحانات تتحدث وتثرثر، بينما قبور أحبتها مفتوحة بعيداً عنهم تسمع وتلتزم الصمت، للجهنمي تجليات في السكر والصحو وفي الطهارة والدعارة! إذاً اصبر علي يا يونس كما صبرت وأنت في بطن الحوت، سأحدثك عن كل شيء قادنا إلى هذه المأساة، وإلى هذا الخراب الكبير! ولكن إذا أنت نسيت أن قبور الشهداء مفتوحة تنتظرنا فأنا لا أنسى، وسأقوم أنا الميت بهزك من كتفيك وأقول لك: هيا لنعد إلى قبور الشهداء! والآن يا صديقي سأحدثك عن أيامنا الأولى فما دمت تريد حكاية خيبة الناس، وخيبة بلادهم، سأحدثك عنهما تباعاً، لن أغفل أحدا. سأحدثك عن الشيوعيين والقوميين والبعثيين والديمقراطيين عن الدينين، واللادينين، عن العرب والكرد والتركمان والأقوام الأخرى،عن الحكام والمحكومين، هذه الحكاية التي تجر أخرى، فأية حكاية لا يمكن لك أن تفهمها على حقيقتها إلا مع ما سبقها من بدايات ومقدمات وأرحام. فإذا حدثتك عن الشيوعيين لابد من الوقوف عما سبقهم من أضواء وومضات وأنوار وتباشير، لو تحدثت عنهم،دون ذلك فكثير منهم سيسكتك على الفور قائلاً: لقد بدأ رفاقنا في أرض بكر جديدة خالية جرداء هم أول من حرثها، وهم أو من زرع فيها الزهور الحمراء أو الزرقاء! لا يا صديقي، لقد كانت الأرض قبلهم خصبة، وفي بقاع كثيرة خضراء يانعة زاهية بالأفكار والنظريات، وجاءوا هم كالعاصفة واكتسحوا كل شيء! والآن اسمعني!لا تسرع المشي! فأنت تدري أن سيقان الموتى مجرد حزم دخان ونار وريح!

ربما تعرف إنني من عائلة عطارين، والناس يسمون الموصل بأم الربيعين، هذان الربيعان اللذان يمران على الموصل كل عام، بعد أن يشبع الناس من عطرهما وأحلامهما ويشبعان من روائح الناس ونكهات أطعمتهم وحكاياتهم، لا يرحلان بعيدا. يحلان في بيتنا، ومعمل تقطير الزهور الملحق به. تعلمت من صغري، احتضان أرواح الزهور وهي تنبثق من أعماقها ممزوجة بالنار والبخار. علمتني الزهور كيف استخرج العطر من الكلمات أيضاً، صدقني الكلمات كالزهور لكل كلمة عطر يختلف عن الآخر! أتدري ماذا قالت لي شهرزاد في لقائي معها الذي شهدته أنت (جعلني أجفل فهو لم يلتق شهرزاد حتى الآن، وتلك طريقة العطار في التعويض عن الأشياء) قالت: قرأت قصصك. وجدتك مثلي تولد حكاية من حكاية، وكلمة من كلمة، ولكل حكاية لديك نكهة، وكل كلمة شذى ورائحة خاصة. قلت لها تلك شهادة عظيمة أعتز بها، وهي تساوي عندي كل ما كتبه النقاد عني، أو كل إهمال النقاد لي! أن يستيقظ روائي من الموت ويجد شهرزاد تمتدحه فكأنه قد عاد إلى الحياة مرة أخرى وإلى الأبد هذه المرة‍! ‍‍لذا أرجو أن لا تمل ولا تسأم إذا وجدت إنني مثل شهرزاد أولد حكاية من حكاية، وكلمة من كلمة وحلماً من حلم. هذا قدرنا، وهذه حكايتنا الطويلة كلها. فمآسي العراق ولدت الواحدة من بطن الأخرى. ستجد لساني يفلت مني لأقول كلاما لا ينسجم وأناقة كلام هذه الأيام. حين أردد لازمة شهرزاد(حكاية عجيبة لو كتبت بالإبر على آماق البصر؛ لكانت عبرة لمن اعتبر) كانت شهرزاد تريد ان تجعل من يستمع لها يرى بعينيه قبل أن يسمع بأذنيه، واليوم أريد أن ترى ما عشناه، وما لم نعشه رأي العين، وبما يتحقق منه البصر والبصيرة معاً، ولا تعجب إذا ما قلت ونحن نتذكر ساعات أفراحنا القديمة الهاربة (وما زالوا في ألذ عيش وأهنأه إلى أن أتاهم هازم اللذات، ومفرق الجماعات) فزماننا كزمانهم لا شغل له غير هذا، فهو لم يبدل مهنته، وحرفته السخيفة المملة هذه، يهزم اللذات ويفرق الجماعات، وستظل أحزاننا تتوالد هكذا؛ حتى نعرف الرحم الذي لا يلد سوى مآسينا، ونغلقه كما تغلق فوهة البئر السام!سأروي لك كل شيء. رغم إن كل شيء، قد لا يكون شيئاً على الإطلاق، لكن شيئاً صغيراً منسيا وحزيناً غائصاً في القلب قد يكون هو كل شيء. تمهل! اسمعني! فقط أرجو أن تعرف كثيراً من الأشخاص سيتحدثون بأصواتهم لا بصوتي، فأنا أحياناً لا أجد صوتي، أتذكر فجأة أن دود القبر قد أكله فيختفي على الفور، وحالماً أستعيده منهم، ومن تحت صخور اللحد سوف أحدثك به. لكن ذلك يؤلمني، فأنا أراك كيف تعاني حسرات ودموعاً لتستعيد أصوات وملامح أحبتك من مخالب الموت. لا أريد أن أحزنك بما يحمل لك صوتي من ذكريات زمان مضى بكل أفراحه وأحزانه. سيتحدث لك كثيرون بأصواتهم، فاستمع ولا تحزن، عهدي بك صبوراً، ومستمعاً جيداً. لا تقاطع محدثيك حتى لو جلبوا لك أسوء الأخبار، وأنزلوا على رأِسك كل شتائم، ولعنات العالم!

سكت برهة وعاد يقول: أعرف أن الشيوعيين كتبوا تاريخهم على القاعدة الجائرة "التاريخ يكتبه المنتصرون، فرغم أنهم منوا بهزائم شنيعة، لكنهم وجدوا الفرصة لينتصر بعضهم على بعض، ويشنوا غزوات وهمية على ظلالهم وأشباحهم! وعلى رفاقهم القدامى المساكين! وعلى نفس نهجهم في القسوة، شوهوا أسماء وسمعة خصومهم، ولطخوها بالأقذار، وفي أفضل الأحوال طمسوا، أو أعلوا شأن من وجدوا فيه صورتهم في الاستعلاء والاستغراق بأوهام المجد. وهكذا جعلوا فهد وحده خالق ومؤسس كل فكرة تقدمية في العراق، ومؤسس وباني فكرة الاشتراكية، بينما هو الذي سحقها مذ جعل أول خلية شيوعية في الناصرية أوائل الثلاثينات هي البديل للاشتراكية وأي مفهوم آخر للعدالة الاجتماعية! وهكذا مسحوا جهود كل من سبقه من مفكرين ومنظمين كانوا يريدون لفكرة أن تتميز بخاصتين أساسيتين أن تكون أصيلة وممكنة! ناضجة ومرتبطة بأرض العراق وأهله، قلت: نعم هذه إحدى الهموم التي أصابت الشهداء بالأرق في قبورهم؛ فنهضوا ليرووا تاريخهم من جديد!

(54) الجهنمي: إنجليزي بدم عراقي ساخن!

توقف العطار لحظة، سألني:

ـ هل سيأتي الجهنمي من قبره؟ كم أنا مشتاق إليه!

ـ يصعب أن يعده رفاقنا شهيداً، لكن ما الذي يمنعنا استدعاءه من تلك الأيام، وقد صار الزمان مفتوحاً أمامنا ذهاباً وإياباً،من بداية الوجود حتى نهايته.

وأزمعت في سري أن أعود لجلسات شرابنا ولهوننا ومجوننا‍. تلك هي التسلية الوحيدة للعجزة العميان من أمثالنا. هل قلت إنني مع العميان؟ هل يتفضل العميان على قبولي بينهم؟ أنا مثلهم لا أرى العالم إلا من داخلي.

كانت مقاهي شارع الرشيد القديمة تضم أفندية كهول ومسنين، ممن تسرحوا من دوائر العثمانيين بعد أن هشمت كراسيهم دبابات الإنجليز. وجبات كبيرة من المتعطلين،لا يزالون في حيرتهم أيظلون في بطالتهم، أم يلتحقوا بدوائر دولة بدأ الإنجليز بناءها على غرار مستعمرتهم الهندية، وبرواتب تصرف بالروبية. جيل من الشباب بدأ يتجرأ على العمل مع الإنجليز أو في دولتهم الناشئة في العراق. سمعنا أن ثمة نساء يرغبن لأول مرة للعمل موظفات في الدولة.(لا زلت أتذكر فرح واحتفاء الكثير من الناس بجلوس أول امرأة عراقية على كرسي الوظيفة في الدولة، كأن جلوسها ذاك عندهم جلوس الملك على العرش! بينما لقي تسفيها وعداءً من الرجعيين والمتدينين المتعصبين، وعدوه لعنة استعمارية، وواحدة من إمارات قيام الساعة!) فتحت في الجهة الشرقية من شارع الرشيد والباب الشرقي مقاه حديثة هي مطاعم ومشارب أيضاً، لتستوعب طبقة من المثقفين البغداديين الجدد وخاصة القادمين من الخارج، بعد إنهاء دراساتهم العليا، كانوا يشمئزون من المقاهي العتيقة، ويستنكفون أن يختلطوا بالأفندية المستغرقين بلعب الطاولي، يسمونهم أيتام الدولة العثمانية! فصارت في تلك الأيام كلمة (أفندي) شتيمة بعد أن كانت تقدمة تكريم واحترام. افتتحوا في شارع الرشيد مقهى جميلاً أسموه البرازيلية، وحضرنا حفل افتتاحها، شربنا أولى فناجين قهوتها المطيبة بنكهة برازيلية أدت في أعماقنا فعلاً رقصة السامبا كما قال صاحب المقهى، وهو يقدمها لنا في صينية مذهبة مجاناً للدعاية والإعلان!

اخترنا أنا والعطار مشرباً ومطعماً حديثاً يقع في نهاية شارع النهر ويطل على بداية جسر الملك غازي، كان يدعى مطعم شريف وحداد.

كان الجهنمي يجلس معنا في مقهى شريف وحداد،في شارع الرشيد.، اسم الجهنمي الحقيقي: عبد القادر شاكر. كان طويلاً، أشقر، رشيقاً دون أناقة،بعينين خضراوين، وشاربين ناعمين كستنائيين، كأنه إنجليزي، يمازحه العطار:

ـ لا بد أن أمك نامت مع إنجليزي حين احتلوا العراق، ثم ذهبت لتحج خمس مرات؛ عل الله يصخم وجهك بالسواد، ولتكفر عن ذنبها؛ خاصة إنها أنجبتك أنت، ولم تنجب ولداً آخر!

كان عبد القادر يضحك لكلماته، ويفخر أنه يجالس أستاذه، ويتحمل دعاباته ومزاحه الثقيل، ثم ترين عليه سحابة حزن فيقول:

ـ ربما صحيح إنني من نسل إنجليزي، فأنا أحس باغتراب دائم، ولا أستطيع أن أنتمي للناس هنا، أو أن الناس هنا لا يريدونني أن أنتمي إليهم!

ويعود العطار ملاطفاً:

ـ أنت إنجليزي بدم عراقي ساخن، أنت فلتة هذا الزمان،تجمع بين عبقرية الإنجليز وبرودهم، وجنون وغباء العراقيين وحرارتهم! كان على الإنجليز أن يضمنوا لك موقعاً لك في الدستور، كوريث شرعي لأمجاد الإمبراطورية البريطانية في العراق!

يصمت العطار،و تتعالى ضحكات عبد القادر، فيعود العطار:

ـ ومن يمنعك من تلقي أمجادهم؟ تستطيع أن تنصب نفسك إمبراطوراً على مقبرة الجنود البريطانيين في بغداد!

كان عبد القادر الجهنمي مدمناً على الكحول مفرطاً في التدخين والسهر، متهالكاً على المومسات حتى المبتذلات والمريضات منهن، قوياً نشيطاً بنفس الوقت، ما جعله موضع تندر وضحك بعضنا، وازدراء ونفور البعض الآخر، كان أغرب صحفي رأيته في حياتي! مصيبته هي رغم أنه كاتب بارع، ومترجم موثوق من الإنجليزية، ويكتب بتدفق ودقة، وقدرة على الإقناع، وصاحب موهبة مبدعة. لكنه،منشطر إلى شخصيتين واسمين، وقلمين متناقضين متصارعين مأجورين. فهو يكتب في صحيفة "العهد" جريدة نوري السعيد وأتباعه مقالاً ضد ياسين الهاشمي، وحزبه ثم يذهب إلى جريدة الإخاء الناطقة باسم الهاشمي وحزبه؛ ليرد على مقاله بنفس القوة، ونفس الحجج باسم آخر، أو باسم الصحيفة، ويستلم أجره! ويكتب مقالاً في جريدة الأهالي أو صوت الأهالي جريدة جماعة الأهالي المعارضة والجادرجي فيما بعد مقالاً قوياً مؤثراً ضد الحكومة، باسم مستعار طبعاً، أو غفلاً من التوقيع، ويتلقى أجره عليه، ثم يذهب إلى صحيفة (الدستور) القريبة من نوري السعيد والدولة فيكتب مقالاً يرد به على المقال الذي كتبه قبل ساعة، كان