الجائزة العالمية للرواية العربية IPAF نحو عصر من "الإسهال الروائي" العربي

رسالة الخليج الثقافية

غيث سالم

شهدت الساحة الثقافية العربية، المترعة بالجوائز، تدشين جائزة جديدة من نوعها، خاصة من حيث قيمتها المالية، ناهيك عن مهابة خاصة تحف اسمها: "الجائزة الدولية للرواية العربية". وإمعاناً في إضفاء مزيد من المهابة، أرفق الاسم بـ"أكرونيم"، (أي كلمة مركبة من مجموع الحروف الأوائل لاسم الجائزة باللغة الإنجليزية)، وهو "إيباف" IPAF، الذي يشير إلى: International Prize of Arabic Fiction. وهكذا، نستطيع من الاسم وحده أن نتخيّل وزن الجائزة ذات الطابع الغربي؛ فهي، بحسب ما جاء في البيان الصحافي الخاص بإطلاقها، تأسّست بالشراكة مع جائزة "بوكر" الأدبية الأنغلوفونية "المهيبة" (دون معرفة دوافع إسباغ صفة "مهيبة" على الجائزة)، وبدعم من "مؤسسة الإمارات" التي تُعنى برعاية مشاريع ثقافية وإنمائية متنوعة، بحيث تكون نظيرة "بوكر" للعالم العربي.

على أن ما يتخطى القيمة المعنوية، الملتبسة ولا شك، للجائزة هو قيمتها المادية؛ فقيمة الجائزة خمسون ألف دولار أميركي للرواية المحظوظة الفائزة في حين تنال كل رواية من الروايات الست التي تصل إلى لائحة التصفيات النهائية عشرة آلاف دولار، ما يعني أن روائيينا العرب في طريقهم إلى أن يطردوا الفقر من الباب والشباك وأن يودعوا أيام الشقاء والضنك والصعلكة، في بلاد الله التي تضيق على مبدعيها يوماً بعد آخر! وكما يشير اسم الجائزة، فهي مخصصة للرواية، لا للقصة القصيرة (علماً بأن الإعلان الأوّلي للجائزة الذي أطلق على هامش فعاليات مهرجان أبوظبي الدولي للكتاب كان قد شمل القصة كـ"جَنْر" جنس أدبي يندرج تحت السرد الحكائي، كالرواية). ومن غير المعروف ما هي الأسباب أو من هم الأشخاص وراء إقصاء القصة، كجنس أدبي مظلوم عربياً، من الاحتفاء بها.

يجدر بنا هنا أن نتوقف أمام عدد من الإشكاليات، التي تنطوي عليها الجائزة، ذات النكهة الغربية، المغلفة بمهابة تظهر دونية الشرق أمام الغرب من جهة وحفاوة مصطنعة مبنية على إرث خارجي، نستعطفه ونستجديه، أكثر من إرث عربي محلّي نستنهضه ونبتعثه. فبغضّ الطرف عن الهوى الغربي للجائزة والوعود بالعالمية التي يسيل لها لعاب الأدباء والمتأدبين، (من خلال ترجمة الأعمال الروائية الفائزة إلى لغات العالم الحية)، وما يعنيه ذلك من تضاؤل المسافة الشاسعة بيننا وبين الغرب الروائي من جهة، وبيننا وبين إمكانية الحصول على "نوبل" كجائزة أدبية رفيعة مشتهاة، ثمة قلق أساسي وكبير في الموضوع مرده أننا إنما لا نكون إلا باعتراف الآخر بنا، هذا الآخر هو الغرب الذي قام وجوده الحديث، على الأقل منذ بدايات القرن العشرين، على استعمارنا وإلغائنا وطمس هويتنا وإنكار ثقافتنا ومحاربتها.

لعل الإشكاليّة الأولى التي تطرحها الجائزة تتمثل في المبدأ نفسه، أي مبدأ اقتباس جائزة "بوكر"، وهي جائزة محلية بريطانية، ومن ثم إضفاء صفة العالمية عليها، علماً بأن البوكر ليست أكثر عالمية من جوائز أخرى، بل قد تكون أقل قيمة إذا ما قارناها بجوائز أخرى. ثمة أيضاً إشكالية تطرح تساؤلات تشكيكية بشأن مجلس أمناء الجائزة، الذين عينتهم "مؤسسة الإمارات"، والذين وصفهم البيان الصحافي بـ"نخبة من أبرز مثقفي العالمين العربي والأنغلوفوني"، مهمتهم اختيار أعضاء لجنة التحكيم، وعددهم ستة بحيث "يتغيرون كل سنة"، كما جاء في البيان، و"تُحجب أسماؤهم إلى حين إعلان اللائحة النهائية، في سبيل ضمان أقصى درجة ممكنة من الشفاهية والنزاهة واللاتحيّز"!

من خلال الوقوف على أسماء مجلس الأمناء، لا نملك إلا أن نرفع حاجبنا تعجباً من إغداق صفة "النخبة" عليهم؛ فهم بين إعلامي يقدم برنامجاً تلفزيونياً عن الكتب، قلما احتفى بكتاب أدبي في مقابل الترويج للكتب السياسية، (والحديث هنا عن خالد الحروب)، ومن الصعب بالتالي أن نقرن بين اسمه وبين الرواية، وبين إداري في المؤسسة الراعية للجائزة (عمر سيف غباش، نائب الرئيس التنفيذي لمؤسسة الإمارات)، وهو منصب لا يخوله للانضمام إلى "النخبة من أبرز مثقفي العالمين العربي والأنغلوفوني"، وأساتذة جامعيين بألقاب أكاديمية لا تشرّع نخبويتهم بالضرورة، سواء على صعيد الروائي أو النقدي (مثل ياسر سليمان، الأستاذ في جامعة كامبريدج، وهو متخصص في اللغويات ولا معرفه له بالرواية العربية، وماري تيريز عبد المسيح، الأستاذة في جامعة القاهرة، وهي الأخرى في قسم اللغة الانجليزية بها ومعرفتها بالرواية العربية محدودة للغاية) وناشرين مجرد انضمامهم إلى الأمانة يعني أن احتمالات التحيز لإصدارات دورهم واردة (مثل رياض الريس وإبراهيم المعلم) ناهيك عن أسماء بريطانية، علا إنجازاتها الغبار ولم تعد مؤثرة في بلدها الأم أو أسماء طفيلية على عالم الثقافة والأدب والنشر هناك!

من الإشكاليات التي تطرحها الجائزة الشرط المجحف فيما يتعلق بآلية ترشيح الأعمال الروائية؛ إذ لا يحق للروائي أن يرشح عمله بنفسه، بل إن دار النشر هي التي تتولى عملية الترشيح، وهو ما يرجعنا إلى الصراع التاريخي ذاته بين الناشر والمؤلف، فلا الأول منصف ولا الثاني متفهم. وقطعاً، كما أن للناشر هواه في النشر، وهو هوى لا علاقة له بالسوية الأدبية للنص بالضرورة، فإن للكاتب قناعاته التي تدفعه للاعتقاد، عن حق أو دون حق، بأنّ لا أحداً غيره جدير بـ"البوكر" العربية، ونادراً ما تلتقي قناعات الكاتب والناشر في هذا الخصوص. وهو ما يعني أن عشرات الكتّاب ومئات الأعمال الروائية ستكون تحت رحمة الناشر، الذي لا يحق له أن يرشح أكثر من ثلاثة أعمال روائية. وبما أن الناشر له حساباته الخاصة، بصرف النظر عن شرعيتها، فهذا يعني أن عشرات الأعمال الروائية، الجديرة بالفوز، قد تسقط من الاعتبار!

لا يمكن هنا، في السياق ذاته، إلا أن نضع أيدينا على قلوبنا لجهة المعايير التي ستحكم اختيار الرواية الجديرة بالبوكر، ومن ثم ترجمتها إلى الإنجليزية والفرنسية والأسبانية والألمانية والإيطالية. لسنا هنا بصدد الطعن بأهلية هيئة التحكيم (التي يفترض أنها سرية ضماناً للموضوعية)، كما لا نحاول أن نستبق النتائج، بيد أن هذا لا يمنعنا من أن نطرح تساؤلات أقرب إلى تحذيرات، من ذلك: كيف نضمن أن يقع مجلس الجائزة، بأعضائه المشكوك بأهلية بعضهم على الأقل، على المحكّمين الأنسب والأقدر في مجالهم، لجهة المعايير النقدية السوية ولجهة النزاهة والشفافية واللاتحيز المبتغاة؟! كذلك، وكتساؤل لا مناص من إثارته، ما الذي يضمن ألا يسقط أعضاء التحكيم في أسر "رُهاب" الأسماء المكرسة في المشهد الروائي العربي، وهو ما قد يعني إقصاء أسماء، وإن كانت مستجدة روائياً، إلا أنها أضافت له في السنوات الأخيرة وأغنته على نحو لا يُمكن مقارنته بأي حقبة روائية عربية سابقة؟! فهل يتصدر "البوكر" اسم جديد روائياً؟ أم لعل الجائزة مرصودة سلفاً لوجه من الوجوه إياها، التي فرضت اسمها روائياً بالتقادم أكثر منه بالتحديث والتجديد؟

ا يسعنا أخيراً إلا أن نقف أمام واقع قادم ولا شك: إنه واقع "الإسهال الروائي" العربي. فبما أن جائزة "البوكر" ستكون سنوية، بحيث تقتصر الترشيحات على الروايات التي لا يتجاوز عمرها العام الواحد (باستثناء الدورة الأولى التي ستشمل الترشيحات الروايات الصادرة في الأعوام الثلاثة الأخيرة)، فهذا يعني أننا قد نشهد طوفاناً روائياً، من نوع الإسهال، الذي يشي بمغص في المعدة والروح واضطرابات في الفكر، بحيث يسعى كل ذي أمل بالعالمية المنشودة المعززة بآلاف الدولارات إلى تفجير قريحته، المفخخة أصلاً، إلى امتطاء الرواية في سبيل هذه الغاية. قطعاً لا نروم هنا القضاء على الآمال المعلقة وإحباط الأمنيات المشروعة، لكن أكثر ما نخشاه أن نغرق في أكوام من النتاج الروائي الذي قد يهبط علينا كسيل، ليجرف في طريقه السمين قبل الغث، الجميل والأصيل قبل القبيح الزائف. فلنحذر من الآن من عصر الإسهال الروائي القادم .. فلنحذر جيداً!