بمناسبة الذكرى الخمسين لواحدة من أول الانتفاضات الشعبية في نصف القرن الأخير في عالمنا العربي، تعيد الباحثة السودانية قراءة الاقتصاد السياسي لتلك الانتفاضة في دراسة من قسمين ننشر هنا الجزء الأول منها، والذي يموضع الانتفاضة في سياق تاريخي أوسع، يمتد من زمنها المحدد حتى زمننا الراهن.

الاقتصاد السياسي لانتفاضة اكتوبر 1964 السودانية

أكانت اخر الثورات السودانية في الزمن الضائع للرأسمالية الصناعية

خديجة صفوت

مهداة الى الصديق العزيز دكتور محمد محمود الذى يحمل عبء اخراج كتاب بمناسبة مرور 50 عاما على ثورة اكتوبر 1964 وله العتبى إن لم اشارك – وكنت قد هممت – في عمله الجليل لأسباب يعرفها.

 

اقارب في هذه المجادلة – بمناسبة مرور 50 عاما على ثورة اكتوبر 1964 السودانية – ما قد يهم بعض الشباب اكثر من غيرهم. وقياسا اكتب لأتعين على تبليغ القارئ ولو شيئا واحدا جديدا فعلا وحقا لا يتعين البعض على قوله. ولا استكثر على القارئ الجهد الذى تتطلبه مثل هذه المحاولة مثلما يتباهى بعضهم بأنه "لا يجهد ذهنه" وهو لا يفقه انه بمثل ذلك التباهي يؤكد انه خالي ذهن ان لم يكن اسوا؟ هي إذن مهداة الى نرجسي خالي ذهن!

تمهيد أثمة قوى فائقة تستبق تباعا كل فكر وفعل ثوري؟
يعتقد البعض ان ثورة 1964 قابلة لان يعاد انتاجها، رغم انها لم تفعل سوى ان اعادت النظام الى ما كان عليه قبل الانقلاب العسكري الاول 1958 مثلها مثل معظم الانتفاضات المسماة شرقية على مر التاريخ غير المكتوب. ذلك ان العالم اليوم تتنازعه قوتان قوة رأس المال المالي الصيهونية العالمية- القيامية وحليفها او إمامها وما بين يديها الصهيونية القبلية من ناحية، ومن ناحية اخرى قوة شعوب العالم وقد وعت الاخيرة ما يحاك لها وما يحيق بمعظمها تباعا فراحت تنظم نفسها فى حركات رقمية مكافئة لحركة المال والصهيونية العالمية القبلية، في تضامنات عالمية تستقطب كل من اهتدي الى/ وتمكن من/ قوة الثورة المعلوماتية وافاد من وسائل التواصل الاجتماعي تكريسا لوعي تضامني عالمي. وقد بات ذلك الوعي يقض مضجع تنويعات الصهاينة في كل مكان فراحوا يتعينون على مواجهة الحركات الشعبية والوعي الشعبي خاصة، بكل ما اوتيت الصهيونية بأنواعها من نفوذ وسلطة، الى تكنولوجيا تزييف الحقائق، واعلام يتربص بالشعوب الدوائر، وقوة القوانين وصولا الى استخدام أعتى واكثر انواع السلاح تحريما كما فى غزة-فلسطين.

قياسات معاصرة على الثورات الشعبية:
اذا كانت انتفاضة اكتوبر 1964 قد عبرت عن نفسها عشية الزمن الضائع للرأسمالية السلعية –الوطنية بهذا الوصف – لحساب رأس المالي المالي – الصهيونية القبلية والعالمية القيامية سوى اننا لا نعدم قياسا عليها فيما حاق بالثورة الاسكتلندية على هيمنة انجلترا التي كانت قد جسمت فوق صدر الاهالي الاصليين من شعوب الجزر البريطانية على مر التاريخ. هذا من المفيد تذكر ان اسكتلندا وانجلترا لم تتحدا حتى 1604 بعد حروب دامية، واغتيال زعماء اسكتلندا الشعبيين وامراء وملوك وملكات اسكتلندا، بمغبة التنافس على عرش انجلترا. والاهم جراء الصراع حول الموارد تباعا كما يحدث تباعا حول نفط بحر الشمال.

ويلاحظ الناس كيف روّعت محاولة اسكتلندا للاستقلال عن المملكة المتحدة على مدى شهري اغسطس وسبتمبر وصولا الى الاقتراع على الاستفتاء الخميس 18 سبتمبر 2014 ونتائجه الجمعة 19 سبتمبر 2014. هذا فان لم ينذر استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة باحتمال تأميم نفط بحر الشمال وحسب، ناهيك عن الخطر على اقتصاد الاخيرة، فان استقلال اسكتلندا اسلم مدينة لندنThe city of London مدينة الرأسمالية المالية الصهيونة العالمية – يثرب الثانية – بامتياز لأعراض اضطراب عظيم مثلها مثل اسواق المال – البورصة - التي سرعان ما انخفضت اسعار الاسهم والسندات واوراق المال فيها ابان حملة الاستفتاء على الاستقلال، الا ان اسواق المال ما انفكت ان تنفست الصعداء، بمعنى ارتفاع قيمة الاسهم والسندات والاوراق المالية مباشرة بعد ظهور النتيجة لحساب الوحدويين.

فحتى الملكة شهقت متغنجة she purred حسب زلة لسان ديفيد كاميرون – وذلك لحظة ان اطلعها ديفيد كاميرون بفوز الوحدويين، فالملكة تجلس فوق عرش تؤلف رواسب الامبراطورية من مستعمراته ومحمياته 21 مستعمرة ومحمية. وكان الهلع قد عبر عن نفسه في درجة الترويع الذي تعرض لها المنادين بالانفصال عن بريطانيا. فقد احتشد الساسة والمفكرين والفنانين والكتاب ومشاهير لاعبي كرة القدم وفاض الاعلام يوميا بالتحليلات المهددة بالويل والثبور، وعظائم الامور، وبمغبة الكوارث والنوازل التي ستحيق بالاسكتلندين إن استقلوا عن انجلترا. ولعل من تابع ذلك السجال العنيف يكون قد لاحظ ان التهديد والوعيد انصب اكثر ما انصب صراحة وقبل كل شيء وبعده حول التداعيات المالية المتوقعة، ابتداءا بسعر الفائدة وقيمة الاسترلينى دون التركيز – تقصدا - على ما هو اشد هولا من وجهة نظر الرأسمالية المالية خاصة - الصهيونية العالمية القيامية بالنتيجة - وهو احتمال تأميم النفط او/و جراء توقع مشروع اسكتلندا الوطني الاشتراكي بامتياز.

وكأننا كنا بسبيل ما كان وراء اندلاع الحرب العالمية الثانية - التي لم تكن سوى تزويق الصراع بين رأس المال المالي ورأس المال السلعي - على انه دفاع عن الديمقراطية في مواجهة النازية والفاشية تكاذبا. فقد رحلت اموال وذهب وتحف العديد من الاوربيين وبخاصة صهاينة المانيا وغيرها، عشية الحرب وابانها الى امريكا، مما انتج مصرفا تمأسس فوقه البريتون وودز في 1944 ثم البنك الدولي فبداية العبودية العامة للحكام وشعوبهم فى كل مكان. مما باتت معه اي حركة شعبية بمثابة تجديف بحق رأس المال المالي وبحق الاقليات الاوليجاركيات - الصهاينة بأنواعهم في كل مكان. المهم لم تندلع حرب جراء محاولة اسكتلندا الانفصال عن بريطانيا، وانما تعين رأس المال المالي – الصهيونية العالمية باساليب "ديمقراطية وازنة على احلال المطلوب دون عنف يذكر.

وقياسا لم يجرؤ احد على النطق باسم مغبة انفصال اسكوتلندا صراحة الا بعد اعلان النتائج، التي كان للوحدويين فيها 55% والاستقلاليين 45%. وحيث جاءت النتيجة "حاسمة" بمعني انها لم تكن حرية يان تدعو الى الشك (مثلا) ولا الي المطالبة بإعادة عد الاصوات. الا ان البعض سرعان ما راح يلمز الى امكانية التلاعب في النتيجة الحاسمة تلك جراء استخدام ماكينات رقمية لعد الأصوت. وتمكن برمجة تلك الماكينات من التأكد من حصول النتيجة المطلوبة لحساب الوحدويين. وكانت تلك الوسيلة قد استخدمت ابان منافسة جورج ووكر بوش الابنGeorge Walker Bush وال جورAl Gore في الانتخابات الرئاسية لعام 2000 حيث فاز الاول، سوى ان الديمقراطيين طعنوا في نتيجة فزر اصوات ناخبي فلوريدا الخ وقد انتهت المشكلة بان منح ال جور منصبا عالميا، هو سفير التغيير المناخي العالمي، وخصصت له طائرة وميزانية الخ ثمنا لسكوته فلا يثير مشاكلا. وكذلك استخدمت نفس الماكينات الرقمية في فرز اصوات الناخبين فى الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية لجورج بوش الابن امام جون بوزمان كيرى Bonesman Kerry John عام 2004. فقد برمجت ماكينة فرز الاصوات فاختلف عدد اصوات ناخبي فلوريدا واوهايو الا ان الامر انتهى هذه المرة ايضا بانسحاب كيرى(2).

المهم فورا فقد هزم مشروع اسكتلندا مرة واحدة والى وقت طويل. ومع ذلك انهال بالمقابل الثناء على والاعجاب بقدرات اليكس سالموند Alex Salmond الوزير الاسكتلندي الاول الذى قاد حركة الاستفتاء على مدى اكثر من 5 سنوات. فقد اتضح – الان وبعد ان هزم سالموند ومشروعه -فراح المقبرة اصبحت في فمه سكرة - اتضح بصورة واسعة كيف كان اليكس سالموند "عبقريا". ومن المفيد تذكر ان سالموند تمكن من ان يجعل من حزب اسكتلندا الوطني في اقل من عشر سنوات حزبا يعتد به، مما سيجعل له دورا هاما في السياسة البريطانية، كما سيؤثر الحزب بعمق على الاحزاب البريطانية بعد ان كان الحزب محض جماعة ضاغطة Pressure Group ومن المؤكد ان الحركة الشعبية لاستقلال اسكتلندا بمبادرة وقيادة اليكس سالموند رئيس الحزب الوطني الاسكتلندي The Scottish National Party (SNP) افرزت ظاهرة افزعت الرأسمالية المالية -الصهيونية العالمية - القيامية الخ. ذلك ان الشعب الاسكتلندي يسبق جميع الاحزاب والساسة. فقد بات معظم الاخيرين سلعة للبيع في سوق المال مثله مثل السلع المالية Financial Products اي اسهم والسندات والاوراق المالية المطروحة في سوق المال للبيع والشراء. وقياسا راح بعض المحللين يجأرون متحرجين بان "على الساسة والاحزاب أن يعيدوا النظر في وضعهم وبرامجهم". ولا يقل ذلك عن انذار ينخلع له قلب الصهاينة في كل مكان. فما بالك بالحركات الشعبية في الهوامش التي ليس لها سوى ان تأكل الهواء؟

تقديم:
الثورات الشعبية بين الركانات الرأسمالية السلعية - الصناعية تعيد انتاج المجتمع الى ما كان عليه قبل كل ازمة منوالية من ازمات الرأسمالية الدورية، كما كانت قياسا تقيض اعادة انتاج مجتمعات الهوامش على ما كانت عليه قبل كل ازمة شرقية تتصل بالوراثات العسرة، والصراعات بين الدوائر العليا للحكام الشرقيين، أو من هم في مصافهم. فحتى الاعتقاد بان الانتفاضات الشعبية التي كانت تندلع ابان هيمنة الرساميل السلعية الصناعية الدولية الوجيزة - ان الاعتقاد بان الانتفاضة الشعبية في المجتمعات الغنية وبخاصة المفتقرة للحرية بان تعيد انتاج النظام الى ما كان عليه، ناهيك عن ان تنشأ به صاعدا الى اعلى. لم يكن اعتقادا قابلا للأثبات دائما او ان نتائج موضوعية بصورة كافية حرية بان تدلل على ذلك(3). ومن المفيد تذكر انه عندما فشلت البرجوازية الصناعية في ثلاثينات القرن العشرين في اعادة انتاج المجتمع الايطالي بتراتباته البرجوازية الصناعية، بان احتل العمال الطليان المصانع، وكادوا يستولون على السلطة انتفضت اوروبا الغربية ومعها امريكا لذلك الحدث ولم يغمض لكلاهما جفن حتى احبط استيلاء الطبقة الايطالية العاملة على السلطة.(4)

المهم فورا وقياسا فان الرأسمالية المالية التي تراكم ببيع المال كسلعة وبصناعة السلاح والحروب حرية بألا تعيد انتاج المجتمع الى ما كان عليه، جراء ازماتها المتلاحقة وانفجار فقاعاتها المالية الفصلية Bust of its seasonal bubbles بصورة غير مسبوقة. فطبيعة تلك الازمات والفقاعات غير الطبيعية باتت تباعا من اهم خصائص الرأسمالية المالية. هذا فان لا تعيد الرأسمالية المالية - الصهيونية العالمية القيامية انتاج المجتمعات المتبروبوليتانية فهي بالأحرى عاجزة عن خلق شرط اعادة انتاج مجتمعات الهوامش، بل قد تخلق شرط نكوصها الى عوالم سفلية او الى مجتمعات العصر الحجري، بكل من الحروب واذعان تلك المجتمعات لصفقات سلاح، قد لا يستخدمونه مثلما تفعل دول الخليج والسعودية. وذلك فان تتواطأ الرأسمالية المالية الصهيونية العالمية - جراء المراكمة ببيع المال كسلعة وصناعة السلاح وبالديون الفردية والسيادية - على إرغام تلك المجتمعات على خدمة الديون في عبودية لا متناهية للبنك الدولي وغيره من الدائنين، فإن ذلك حريا بدوره ان يخصم على شعوب تلك المجتمعات. وقياسا يتفاقم افقار تلك الشعوب، وانما تعاقب كل دولة لا تستدين، مثلما حدث للعراق وليبيا ويحدث لسوريا تباعا.

ذلك انه ان لا تملك الدول ديونا خارجية وهي الى تملك الى ذلك رساميل سلعية وطنية معتبرة فان ذلك من شأنه ان يضعها خارج سيطرة وحظيرة رأس المال المالي - الصهيونية العالمية القيامية. اي ان تلك الدول غير قابلة لان تملي عليها شروط البنك الدولي والصندوق، بوصفها عبيد يملى عليهم ما تشاء الرأسمالية المالية الخ، في كل وقت فتسوقهم في حروب وترغمهم على التسلح والى التحالف وراء مشاريع الصهيونية العالمية القيامية التوسعية مثل اجتياح العراق، وتطبيق الفصل السابع في ليبيا، وحماية المدنيين في كوسفو، والحرب على الارهاب كما في العراق مجددا وفي سوريا إن امكن.

ومع ذلك فمن المفيد تذكر ان محاولة اجتياح العراق مجددا، بذريعة ضرب داعش تبيت النية على تصفية حسابات الرأسمالية المالية الصهيونية القبلية مع سوريا، بغاية تغيير النظام تحت مظلة مكافحة الارهاب. ان تلك الاحبولة اذ لا تصمد لسند قانوني، فإنها تضع الرأسمالية المالية امام شعوب باتت شديدة الحساسية وعميقة الوعي لما يحاك لها. فان لم تجتح بريطانيا ايرلندا الشمالية بذريعة ان الجيش الجمهوري الايرلندي Irish Republican Army (IRA) كان يحتمي بايرلندا الشمالية، فما هو تبرير المجتمع الدولي في التواطؤ بغاية احتياح سوريا؟ وحيث تقف هذه الظواهر الرأسمالية المالية الخ عارية من ورقة التوت امام الشعوب، فان الاولي تمتلئ ضغينة على الشعوب، وما تنفك تتربض بها الدوائر. وهذه واحدة من الامور بالغة الاهمية التي ينبغي على الشرفاء والثوار التنبه إليها جيدا، في اي محاولة للخروج في مواجه الحكام المحليين، ومعظمهم يحتمى بواحدة او اخرى من الاوليجاركيات المالية العولمية ان لم يكن اكثر.

هذا وكانت مصادرة امكانات تلك المجتمعات التنموية والنشوئية بمغبة الحروب المدمرة فيما تخلق شرط افقار تلك الشعوب ماديا وغير مادي فلا يعودون يملكون القدرة على التفكير في/ والتنظيم من اجل/ تغيير واقعهم. فان تلك الحالة تضعف العلاقة بين الحكام والمحكومين مجددا او- و فان عجز الشعوب عن التفكير والتنظيم غالبا ما يكون وظيفة ضعف هذه العلاقة، بخاصة على عهد الرأسمالية المالية. ذلك انه ان كانت يوما ثمة علاقة بين الحكام وشعوبهم، الا ان الحكام باتوا تحت هيمنة راس المال المالي وخطابه واجندته يتطيرون من شعوبهم، وفي خشية دائمة من الاخيرين، مما يدفعهم الى الانخراط في حماية أنفسهم من شعوبهم.

هل تعيد الثوارت السودانية النظام الى ما كان عليه؟
أ- الى الشباب فهم ما بقى لنا
:
كان احد الشباب الناهض قد سألني ماذا عسانا نفعل. ولم اجد ما اقول. ولعل جانبا من هذه المجادلة قد يلقي بعضا من الضوء على ما قد يتعين علينا جميعا عمله فيما يصار اليه السودان والعالم تباعا. وقياسا تحاول هذه المجادلة موضعة انتفاضة 1964 في سياقها المحلي والاقليمي والعالمي. تحاول فهم ما حاق بها مرة، مما قد يساعد ولو نسبيا في الرد على السؤال. ومرة اخرى بغاية استبصار ما اذا كانت ثورة اكتوبر 1964 قابلة للتكرار، اي اعادة انتاجها؛ ومرة ثالثة تأمل ما من شأنه ان يساعد على ادراك الموانع والمحاذير التي تضعها كل من القوى المحلية والاقليمية والعالمية- القيامية امام مسعى الحركة الشعبية للانتفاض على الحاكم، فعلى القوى التي تسنده اقليميا ودوليا. ومرة رابعه اجادل ان معظم من يتصورون مثل ذلك الامر وهو امر شائع بعد، ينسون ان الرأسمالية قد تحوّرت منذ ما بين الحربين العالميتين، بصورة لا يمكن معها بدون محاولة تفهم تلك التحولات والتحورات الوصول الى خلاصة مجدية حقا. وهذا امر بالغ الاهمية. والى ذلك فليس من السهل، بل ازعم انه من غير الممكن، وضع تلك الحركات في سلة واحدة. ومع ذلك فان كان ثمة قياس بشأن عموميات تلك الظواهر الا انه ينبغي مع ذلك قراءة كل حالة منفردة قائمة بذاتها، ولكن في سياق ما حولها وما بين يديها.

فهل تعيد الثورات السودانية النظام الى ما كان عليه؟ ام الى ما هو ادنى منه و-او نكوص عليه؟ ولماذا؟(5) وهل كان سفر تكوين انتفاء شرط النشوء وظيفة a function of او بمغبة التدافع الأوربي الغربي واسرائيل خاصة نحو السودان؟ كيف يُستلهم (مبنى للمجهول) فكر يخدم القهر والاستلاب، بوصفه فكر للتحرر والثورة؟ أليست أفكار وسردية الذين يخضعون من عداهم أفكار وسردية القهر؟ أليست البني الفوقية والقانون، والفن ان وجد، ولغة الحكام والغزاة والفاتحين والمستعمرين والنخب التي تتشارك واسيادها فائض انتاج المجاميع المتضورة للخبز والحرية أليست هذه كلها افكار وسردية الاستبداد؟ الم تتحور الافكار واللغة اي لغة الاخيرين وقد اخترقت اللغة مزوقات ومجاز وتقية، فصارت اللغة تنطق بهذا الوصف بما لا تعنى، كما تصادر النطق بالحقيقة؟ كيف يأخذ المخضعون عن فكر ويصدقون سردية من يُخضِعونهم ويقهرونهم؟ فهل قيضت ثورة اكتوبر لنا أدبا للفكر السياسي السوداني، او حتى فرضية تذكر او تنسى الا ما خلا تسميع معظمنا لمقرراتنا المدرسية، بإعادة انتاج الفكر الغربي بلا انتقاء؟ من اجل الاجابة على بعض الاسئلة اعلاه وغيرها ساحاول اعادة قراءة بعضا من تاريخ السودان الرسمي المشبوه  Suspect official history مثله مثل كافة التاريخ الرسمي.

ب- احبولة الزمن الجميل وكيمياء الثورة
تعاصرت كيمياء ثورة اكتوبر 1964 وما يسميه البعص بالزمن الجميل. واجادل ان الزمن الجميل كان تعبيرا عن الزمن الضائع للبرجوازية الصناعية اي الرأسمالية السلعية. هذا وكان الزمن الجميل كمثل تدفق النبع غزيرا قبل ان يغيض. فان كانت قد سبقت انتفاضة 1964 حركات الكفاح المسلح وحركات شعبية منها حركات التحرر الوطني في افريقيا وآسيا، ومنها ما كان تعبيرا موضوعيا عما تمثل فى حركات مشبوهة مثل الثورة الجنسية، وحركة النسوية الغربية الاصولية المغالية واعرفها بالنسووقراط، وقد تعينت الأخيرات على احلال الحرب بين الجنسين مكان الصراع الطبقي، خصما على الطبقة العاملة فى كل مكان، تيسيرا لعلاقات الانتاج العبودية نيابة عن الرأسمالية المالية الصهيونية العالمية القيامية التي راحت تتمأسس فوق تلك العلاقات في كل مكان. كما تصاحبت انتفاضة اكتوبر وحركات تاريخية مثل ثورة الطلاب فى أوروبا وأمريكا في 1968.

وازعم ان حاصل جمع تلك الحركات كان مقدمة نكوص الرأسمالية السلعية مرة واحدة والى الابد. كما تصاحبت تلك الحركات وارتهان الدول القومية بما سمي الديون السيادية Sovereign Debts  مما لم ينفك بدوره ان استعبد معظم الشعوب في درجات المقياس. ذلك انه فيما كان السودان-و مصر- يمتلكان فائض موازنة معتبر حتى بداية السبعينات، الا انهما لم تنفكا كغيرهما من الدول التي كانت تسمى نامية وقتها، ان باتتا مدينتين على نحو تركهما وقد شارفتا على فقدان السيادة واستقلال القرار. ذلك ان البنك الدولي، وقد تيسرت لديه رساميل غب ما سمى ثورة النفط فى 1973 ولم يكن يجد ما يفعله بها، فقد راح يغوى الدول بالاستدانة بسعر فائدة منخفض. ولم تلبث الاخيرة ان سقطت تحت رحمة رأس المال المالي الذى كان قد احتل مكان البرجوازية الصناعية - الرأسمالية السلعية الموصوفة في مكان اخر.

وقياسا فقد خصم صعود نفوذ وسيادة الرأسمالية المالية Finance capitalism للعالم على ما عداها، بصورة غير مسبوقة، رغم وربما بسبب ادوات الانتاج عالية التقنية بصورة غير مسبوقة. فقد انتشر حلول علاقات انتاج تشارف العبودية كما ذكرنا. واجادل ان تلك الظواهر يسرت اغماض العين عن علاقات الانتاج السابقة على الرأسمالية السلعية، في امتدادات هوامش المتروبوليتانات الغربية وغيرها. كما ازعم ان الرأسمالية المالية دللت على انها حرية بان تتمأسس فوق علاقات ادنى من علاقات العمل الرأسمالية الصناعية في كل مكان في المقياس المدرج بسمسرة النسووقراط. ومن المفيد تذكر ان علاقات الانتاج الموصوفة اعلاه لم تكن غريبة على معظم مجتمعات الهوامش، وبخاصة تلك التي عرفها ماركس بعلاقات انتاح وملكية نمط الانتاج الاسيوي او الشرقي.

1)) حصار الثورة المحلي:
أ- الحزبان الكبيران بزعاىة سيدين طائفيين

خرج الشعب السوداني- على عادته في كل مرة ثائرا على النظام - العسكري الاول  1958- في الاسبوع الاخير من اكتوبر 1964. واستمرت المظاهرات حتى سقطت الواجهة العسكرية للنظام فيما لم يسقط وضع الاشياء الذى كان قد أدى في المحل الاول الى الانقلاب العسكري. فقد بقي ذلك الوضع يحاصر كل حكومة من بعد. وينذر بإعادة انتاج ما كان عليه النظام قبل الازمة. ذلك ان الحزبين الكبيرين اللذين كان الاستعمار قد انشأهما وكرسهما: واحد بالتجارة مع مصر، واخر بزراعة محاصيل نقدية وقمح من اجل قوات الحلفاء، فيما بين الحربين العالميتين الخ. كان الحزبين الكبيرين قد بقيا يقومان، مقام نظائرهما الانجلوساكسونيين والانجلوأمريكيين وغيرهما منذ "حزبي الملك" فحزبي الرأسمالية تباعا(6). ولعل مبدأ الحزبين الكبيرين ما كان ليختلف في كل مكان من يومها، الا في تفاصيل التفاصيل، فيما لا يسمح الحزبان بحزب ثالث منوط بالاستيلاء على السلطة بالمعنى الموضوعي، الا ما خلا سلطة مؤقتة مستهدفة ما تنفك تسلم الى انقلاب عنيف على والى اعدام القائمين عليه كما في كل مرة.

هذا ومن المفيد ملاحظة انه ان كانت تنويعات الحزبين الغربيين الكبيريين قد بقيا في افضل الاحوال - حتى ما بين الحربين - تعبيرا مستحبا عن الديمقراطية الليبرالية البرلمانية وتنويعاتها، التي كانت تصدر عن اعادة انتاج المجتمع بتراتباته الطبقية، لحساب رأس المال السلعي الصناعي او–و التجاري في كل مكان في المقياس المدرج  Scale of gradation، الا انه من المفيد تذكر ان الديمقراطية الليبرالية بهذا الوصف ما انفكت ان اخلت مكانها او الاحرى تحورت Mutated  الى ديمقراطية ما بعد ليبرالية، او ليبرالية جديدة. وقياسا فقد راحت سلطة اوليجاركيات أي اقليات اسراتية مالية تتمأس فوق الديموقراطية ما بعد الليبرالية في كل مكان، رغم الحزبين الكبيرين او بالاحرى بسببهما. ولك ان تلاحظ(ي) ان اول تقرير رسمي علمي امريكي نشر في الاسبوع الثاني من مايو 2014 اكد ان امريكا التي تتزعم وتعمل على فرض مفهوم الحربين الكبيرين، وتشعل حروبا من اجل الديمقراطية، ان امريكا تحكمها شرعا نخب اوليجاركية اي اقلية مالية بامتياز. ويعنى ذلك ان الفرد الامريكي متوسط الحال او الفرد المسمى عادي، وقد بات اقل من ذلك بكثير، بل شوهه الافقار المنظم ماديا ومعنويا وتنظيميا، بات ذلك الفرد لا يملك بهذا الوصف نفوذا يزيد عن الصفر، ومع ذلك تجأر الاقليات الاوليجاركية ان الرأسمالية هي افضل نظام يعمل من اجل الفرد !!.

وقياسا كان الحزب الواحد في السودان يقوم غالبا وبخاصة ابان الحكومات العسكرية التي حكمت لاكثر من 40 عاما من عمر الاستقلال – كان يقوم مقام الحزبين الكبيرين وفوق رأسيهما، كما بات واضحا منذ اولا انقلاب عسكري في 1958. ولم تنفك ثقافة الاحزاب الانقلابية ان تكرست فباتت القاعدة وليس الاستثناء. وقياسا لم يزد الحزب الواحد في السودان ولم يقل عن حاصل جمع الحزبين الكبيرين، اذ يظل منفردا بوصفه حزب رأس المال المالي. ويلاحظ فورا ان حزب المؤتمر الوطني (المنشق تفريقا له عن حزب المؤتمر الشعبي) بقيادة حسن الترابي، بقي يحكم منفردا رغم الانتخابات المتكررة، والسماح تنكلا بالتعددية. كان حزب المؤتمر الوطني مثلا يحكم خصما على كل من الختمية والانصار وحزب المؤتمر الشعبي، فيما تمأسس فوق وكان قد استقطب بعض او معظم قواعدهما حسب المسافات والادغال الاقتصادية الاجتماعية.

وقياسا فقد هاجرت الى ذلك بعض قيادات المؤتمر الشعبي من حواري وتلاميذ الترابي النجباء خاصة، مثل على عثمان طه، الى حزب المؤتمر. مما يعيد انتاج تقليد قديم بين الطوائف والطرق الصوفية السودانية من خروج كبير الحواريين على شيخه. وعندما رفع حزب المؤتمر الوطني شعار الانفتاح، وتشارك السلطة، سارع الحزبين التقليديين الكبيرين الى ما يشارف التحالف معه، دون التنافس معه، وذلك اكتفاءا بمحض "الاشتراك الرمزيToken  عبر عن نفسه في مستشارين في شخص نجلي زعيمي الحزبين التقليديين. فكان ذلك لم يزد بدوره عن وراثية تداول السلطة مرة، وكرس حقيقة ان السيدين- اي زعيمي الطائفتين وقائدي الحزبين الكبيرين لا يزيدان على سفر تكوين الحزب الواحد مرة اخرى او-و حاصل جمعهما. ويلاحظ ايضا ان زعماء الاحزاب المعارضة والاحزاب المسلحة المنشقة تلك التي خرجت على الدولة المركزية قد اصطنعت لها حدودا خارج الدولة، مما يخصم على حدود الدول القائمة، فتغدو الاخيرة غيرها تلك القومية، مما ينتقص من السيادة القومية للدولة القومية.

ذلك انه في زمان العداء للحركات القومية تتجاوز المعارضة المسلحة - كما في السودان والعراق والجزائر - سابقا- و سوريا وليبيا و اليمن الحدود القومية. فلا تحترم السيادة القومية. وقد يتعين ذلك بحماية ما يسمى المجتمع الدولي- ولو بموجب تطبيق الفصل السابع باسم حماية المدنيين - اي بقصف المدنيين عمدا، لحساب خلافات عابرة للحدود القومية من كل صنف. وتطالب معظم تلك المعارضات والحركات المسلحة - بمال النفط غالبا - بمقاعد على طاولة التفاوض او المساومة النهائية على النفوذ والهيمنة بالسلطة والثروة، خصما على منتجي الفائض والكفاف والمجتمع. فزعماء تلك الحركات لا يسعون الى اقل من تشارك السلطة والثروة مع غيرهم من الزعماء والاسرات والبيوتات، متجاوزين مطالب الشعب وحقوقه. فالسلطة والثروة حكرا على تلك الكيانات - فيما خلا سلطة وجيزة لما عدى الاخيرين مما لا يزيد على جمل اعتراضية في سردية السلطة والثروة منذ بدء التاريخ.

ب - انقلاب عبد الله خليل على نفسه لحساب النقطة الرابعة
سلم عبد الله خليل رئيس حزب الامة - الممثل للانصار - تلك الخصية التي يتطير البعض تاريخيا منها جراء دورها فى ثورة 1924- سلم عبد الله خليل– زعيم حكومة السيدين السلطة في انقلاب ابيض - لمجلس ثورة عسكري اعلي، كان حريا بان يعبر عن توليفة من الانصار والختمية. وكان ذلك الانقلاب استباقا لاحتمال نجاح محاولة عبد الناصر لتوحيد الاتحاديين وسحب الثقة من حكومة السيدين وحل البرلمان. هذا وكانت زيارة الرئيس الامريكي 34 دوايت ايزنهاور -1953 -1961- واعلان مفهوم جديد للسياسة الخارجية الامريكية في مشروع ملء الفراغ في المنطقة بالنقطة الرابعة Point Four قد خلقت الاخيرة عشية ذلك الانقلاب الابيض مناخا كان حريا بان يندلع معه سخط شعبي عم المجتمع السوداني وقتها. وقياسا خرج الشعب السوداني محتجا على اعادة انتاج حكومة السيدين بملابس عسكرية، وعلى برنامج ملء الفراغ والنقطة الرابعة.

ومن الممكن القول اذن ان محصلة ثورة اكتوبر 1964 لم تكن حرية بهذا الوصف بان توفر تشاركا للشعب الثائر في السلطة، ناهيك عن الثروة، مما لم يكن يوفر شرط مواصلة النضال من اجل انتاج نظام جديد. فرغم سقوط ضحايا راحت كافة الجهات تدعيهم فقد حرم الشعب من ثمرة الانتصار على النظام العسكري الاول. ذلك انه ان ادعى الكل الثورة فقد اجتمعوا بوعى او بلا وعى على نكران الانتصار التاريخي على الشعب السوداني. فقد ادعت كل من القوى التقدمية الحزب الشيوعي، والقوى التقليدية - الاحزاب الطائفية - حزب الامة والحزب الاتحادي – وكان الاخير بتحالف مع احزاب الاشقة - ادعت الأخيرات الشهيد احمد القرشي، فكأن أولئك الفرقاء تعينوا على سلب الشعب انتصاراته ليتركوه صفر اليدين من اي مأثرة، واشد احباطا. وكان ذلك تنويعا باكرا على ما حدث لثوار الربيع العربي الشرفاء منهم خاصة، وبالطبع في تونس ومصر وليبيا واليمن. فان تعين بعض قادة الاحزاب التقليدية وغيرها كما في كل مرة على ادعاء احتكار الثورة دون من عداهم ومن عداهن، فقد راح الاعلام غير الاهلي يذيع، وراحت الشائعات تروج قصص نضال بعضهم وبعضهن، خصما على من عداهم ومن عداهن. وهكذا يذهب فداء الشعب ومن معه من غير الاصفياء هباء. فكالعادة كتبت ليلة المتاريس وكافة احداث ثورة اكتوبر لجماعات بعينها ممن لايزالون يقطفون ثمار النضال الجماهيري من وقت لآخر، انتهازا وكلما سنحت الفرص.

وهكذا يخرج الشعب-تلك المفردة السهل الممتنع الميسرة معا ذلك المفهوم الذى لم يتوقف معظمنا بعد فيعرفه - يخرج الشعب ثائرا، الا ان تراكماته العددية التي لا وجوه لها. لا يذكر منها احد سوى بضعة افراد و"فردات" لم يكن لهم في واقع الامر بالشعب علاقة، سوى انتحال تمثيله والحديث باسمه.(7) وعليه لم يكن غريبا انه فيما كنا مهمومين بالهموم التنظيمية للانتفاضة فقد كانت القوى الرجعية ترتب امورها على طريقتها، فارسل بعضهم احدى بناته الى الرجل المعهود كما في كل مرة، بوصفه لا لون له، فاختير لقيادة المرحلة الانتقالية فشغلته. وهكذا تمخض زواجهما عن هزيمة الثورة المضادة للثورة الموضوعية التاريخية. فالهزيمة بالزواج ظاهرة شائعة في تاريخ السودان، كما في غيره من المجتمعات سواء غربية او شرقية.(8)

2)) حصار الثورة الاقليمي:
تعينت مصر الدولة مثلا – قبل احتلال السعودية دور مصر-على اختراق الحركات الشعبية والاحزاب اليسارية السودانية وقتها وتباعا، كما لم تتواني في الضلوع في التحالف مع بعض الاحزاب التقليدية، وتمويل حملاتها الانتخابية، الى ان نشأت السعودية صاعدة الى زعامة المنطقة. ولعل تلك التوليفة من كل من اختراق الحركات الشعبية، والاحزاب اليسارية والتقدمية، والتحالف مع وتمويل الاحزاب التقليدية، عبر عن نفسه فيما صارت اليه ثورة اكتوبر 1964 ومن بعد في ثورة هاشم العطا يوليو1971. ذلك ان ما سمى تنظيم الضباط الاحرار كان له دور هام فيما آلت اليه انتفاضة 1964 فمحمد عبد الحليم وشقيقه احمد عبد الحليم - وهما ضابطان يدينان بالولاء المباشر لمصر لاكثر من سبب - كانا في مقدمة حركة الضباط الاحرار، كما تعين محمد على شراء بعض أولئك الضباط. ويقول شوقي ملاسي في مذكراته ان محمد عبد الحليم الذي عين مديرا للبنك المصري بالخرطوم، كانت له سلطات واسعة، ولا تخضع للمحاسبة في البنك، بموجب تعليمات من مصر الدولة. فكان محمد عبد الحليم يقرب منه وشقيقه احمد اكبر عدد من الضباط السودانيين بسلطاته الاستثنائية في منح السلفيات، مما ظهر بعد تأميم البنك عقب انتفاضة 1964 (9).

وكانت مصر الدولة، وقد تحورت تباعا الى جمهورية رئاسية فخصخصت ثروات مصر، رغم دستور مصر الاشتراكي الذى امم ادوات الانتاج، وحقق الاصلاح الزراعي بقانون مرعى في 1965 لم تكن مصر الدولة معنية بالاهتمام والتعرف على ما يحدث في السودان.(10) ولا يعنى ذلك التهوين من افضال مصر على السودان والسودانيين، من حيث التعليم والري على مر السنين. هذا فيما بقي قلائل من المثقفين المصريين يهتم بالسودان وحتى التقدميين والشيوعيين متهم كأحمد حمروش وعبد المنعم الغزالي. وقد يمارس بعضهم أبوية تجاه نظائرهم السودانيين او-حتى عنصرية تتمثل في صورة السوداني في الافلام المصرية. فكان بعضهم يشارك فى مؤتمرات جمعيات التضامن الاسيوي الافريقي، والصداقة والسلام السودانية، وفي جيوبهم التوصيات النهائية مكتوبة سلفا وكأنها تيك اوايTake away  توزع في الجلسة الختامية. (من تجربتي في تلك المنظمات وغيرها).

هذا ولم تكترث الدولة المصرية بما قال الجادون من الكتاب المصريين فى وضع سياساتها الخارجية، فيما بقيت مصر الدولة مشغولة بكل من قمع كل ثورة سودانية منذ الفونج، والأهم باتفاقية مياه النيل، فيما لا شيء بالذات يثير اكثر من غيره انزعاج مصر الدولة، وهو التجربة الديمقراطية السودانية والحركات الشعبية السودانية. وكانت أمريكا تشاطر مصر نفس الانزعاج(11). وقد بقيت بعض فصائل اليمين التقليدي السوداني، اما تستدعى قوة مصر او-و تلجأ اليها في وجه خصومها المحليين. هذا فان تحورت الدولة المصرية تباعا الى ما عرفته الامم المتحدة في ثمانينات القرن العشرين بالدول الامبريالية التابعة Sub-imperialist states او الصغيرة فقد باتت مصر الدولة واحدة من مخلوقات الرأسمالية المالية الباكرة، التي تقوم بالوكالة عنها وتسمسر في عملية سياقة الشعوب الى التطبيع مع العدو الصهيوني، والخضوع لشرطيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وتيسير اذعان السودان للاولجاركيات الاسراتية المالية المحلية (النفطية) والعولمية.

ولعل ذلك قد يستدعي ما آلت اليه مصر الجمهورية الرئاسية ونظيراتها في تيسير عمليات المراكمة المالية ما بعد الصناعية او العولمة والمشروع الاسرائيلي واجندة الصهيونية القبلية Tribal Zionism والصهيونية العالمية  Global Zionismوكلها تنويعات على بعضها مع تزويق المسميات التي لا تزيد ولا تنقص عن احتواء الحركات الشعبية مسبقا او-و ترويعها. ولعله من المفيد تمييز الصهيونية القبلية عن نظيرتها العالمية - القيامية من حيث ان احداهما- الصهيونية القبلية ترانزست Transit او تكاتيك نحو استراتيجية الاخرى اي الصهيونية العالمية – القيامية. وان الاولي تصدر عن الكيان الصهيوني بوصفه متمأسس فوق يهودية قبلية. فتلك الصفة في غاية الاهمية ليهودية بعض بنى اسرائيل، التي تجعل من يهوا نبي قبلي لشعب متجانس، يتطير من الاممية. الاممية تعبر عن ما وراء او ما بعد شعب واحد الى اكثر من شعب. وقياسا فان الصهيونية القبلية توفر ذريعة – متخاتلة - للدولة العبرية. وعليه يتطير من اسميهم اعراب الشتات من الاممية تاكتيكيا، فوصولا الى استراتيجية الصهيونية العالمية او القيامية التي تتمأسس فوق اممية تستقطب – بدورها - تاكتيكا صهاينة من كل نوع من صهاينة عرب، وصهاينة مسيحيين، وكونفيوشيين وبراهمانيين وغيرهم(12). ويتنافس الأخيرون في تنويعات من الخلافات (جمع خلافة) مثل الدولة او الخلافة الاسلامية فى العراق والشام داعش، والخلافة الوهابية، وخلافة الاسلام السياسي، والخلافة العبرية، والخلافة العثمانية الجديدة .

وقياسا فان ذلك التنافس او الصراع من شأنه ان يصادر نشوء شرط واستمرار الكيانات الوطنية والدولة الوطنية والحدود الوطنية (و يلاحظ ذلك في كيف منح محمد مرسي عمر البشير حلايب وشلاتين ابان زيارة للخرطوم استغرقت محض يوم ونصف يوم). كما ينتفي الصراع المذكور كل شرط لحماية السيادة الوطنية، باستباق الانتفاضات الشعبية، خصما على حركات التحرر الوطنى. كما يستبق تنافس تلك الخلافات المشروع القومي بوصفه زائد عن حاجة الخلافات المذكورة، كما تتطير من القومية ومن الاشتراكية اي من كل ما يمت لإعادة التوزيع فإلى اعادة انتاج المجاميع الزائدة عن الحاجة.

وفي الجزء الثاني نتناول حصار البعد العالمي لانتفاضة اكتوبر 1964 مثلها مثل بقية حركات الستينيات الشعبية، وتنويعات الحصار القبلية والقيامية مما فاقمه انقسام المعسكر الاشتراكي.

يتبع الجزء الثاني

 

هوامش:
(1) أناشد القارئ اللا يتجاوز الشروح على المتون والجمل الاعتراضية ففيها ما قد يفسر كثيرا مما لم يسمح حيز الورقة على ذكرة فى المتن. ولكم ان تتأكدوا ان الشرح على المتون والجمل الاعتراضية غالبا ما يكون بها ما يستعصى المتن على البوح به مما قد يفضح غالبا ما اسميه الكذبة الكبرى اى التاريخ الرسمي او السردية الرسمية واخطرها تلك السردية البكاءة اللوامة. وادين للجمل الاعتراضية والشروح على المتون بما اتصوره غاية المعرفة.

(2) عرف حزبي الملك بان واحدهما كان يقف على يمين الملك-بمعنى اصحاب المال اي الاوليجاكية الباكرة ) والاخر على يسار يتلقى اوامره وحسب منصاعا وغالبا ذليلا مغلولا إلى تعاليم اباطرة الاعلام بوصف الاخيرين فيلق حيوي في ترسانة الأوليجاركيات العولمية - الرأسمالية المالية الصهيونية العالمية.

(3) من المفيد تعريف الرأسمالية المالية هنا وجيزا قياسا على الرأسمالية السلعية- الصناعية بانواعها. فالرسمالية المالية تراكم ببيع المال كسلعة فيما تراكم الرأسمالية السلعية-الصناعية بهذا الوصف تبسيطا بالانتاح-اعادة التوزيع –التبادل- الاستهلاك- الانتاج عائدا إلى نفسه مرة أخرى production-distribution-exchange-consumption- production going back to itself a new. وقياسا الا يستوي بيع المال بهذا الوصف والربا كما تقول سورة البقرة الاية 275 ؟؟ وقياسا الا يشوه الربا لااقتصاد كما يوقل ماركس؟ وعليه ما هو سبيل تلك المجتمعات الى النشوء الى اعلي او حتى المراوحة؟

(4) انظر(ي):Google Download Gramsci and the Italian State and Working Class: The Prison Note Books

(5) كانت جماعات قد اخضعت تعريف كلمة الشعب باكرا منذ الاصحاح القديم لكافة المفاهيم التي لا تدل على الشعب. وكانت تلك الجماعات قد احلت مكان مفهوم الشعب العامة الجماهير الدهماء المفقرين ما يسمى طبقة الشعب تكاذبا the peoples class مما قد أتعرض لتعريفه بايحاز، وقياسا ترك معظمنا نحن كما نفعل غالبا مفهوم مفردة الشعب لاعراب الشتات يعرفونها ويؤبلسونها فيتعينون على حرمانها من الابداع في التفكير والتنظيم لنفسها بل في التكاثر ومقاومة الفناء. المهم فورا أن ازعم أن مفردة الشعب تعني فيما تعنى الديمومة ومقاومة الفناء والتحور وتعني التزايد في مواجهة الابادة والتكاثر في مواجهة التعقيم والسموم. وكلما تفاقمت مواجهة اعداء الشعوب للشعوب كلما ابدعت الشعوب وسائلا للبقاء مما يثير تطير اعداء الشعوب وعلى رأسهم اعراب الشتات ومؤرخوهم واتباع الاخيرين في كل مكان. على انه حيث يدعى بعض حكام الشعوب- التي استضافت وتستضيف اعراب الشتات على مر التاريخ وتباعا تلك المجتمعات التي تمت الى التنويعات الشرقوية-تدعي مثلا قرابات حقيقية أو مفبركة مع شعوبهم وقد يتشاركون واياها الالهة الخ الا أن اعراب الشتات لا يتصلون بقرابات حتى مع شعوبهم ويخفون كنه الهتهم عنها ولا ييسرون لشعوبهم معرفة شعائر العقيدة وينكرون على العامة معرفة اللغة التي تكتب بها تلك الشعائر. وكانت بعض تلك الشعائر ومجمل اللغة المقدسة تلك قد اخفاها بعينها احبارهم وقضاتهم وتجارهم اسرارا مغلقة على شعوبهم على مر التاريخ. فاللغة ليست كلمات تحكى بها قصة أو تسرد بها حادثة وإنما تعبر كلمات اللغة عن بل هي أداء حي Live Performance. وقياساً يمكن اللعب بالكلمات-بهذا الوصف-إلى ما لا نهاية. وهذا أمر آخر غير المجاز والكناية. فالأخيرات محصلة قولبة البنى الفوقية صيغاً جاهزة للحديث لا يخرج عنها الكلام مما يبدو العامة والناس العاديون معه ببغاوات حتى عندما يحاولون التعبير عن قضية خاصة حزينة مأساوية أو بهيجة. ذلك أن قاموس مفردات العامة يختزل في بضعة صيغ للتعبير مما يقصر معه خيال وقدرة العامة على أي نوع من الإسهاب ناهيك عن الابتكار. وهكذا غدت اللغة من وقتها تقف فى طريق المعرفة.فقد اخذت تلك الجماعات الغامضة تكتب التاريخ على هواها هي، بل وتخترق الكتب السماوية فتعيد تفسير أو/و حتى إدعاء نصوص - تبرر وتسوغ وتكرس سردية بعينها لحساب تلك الجماعات الغامضة.

(6) وعلى سبيل ذلك التاريخ الشعبي لثورة اكتوبر فقد كان من ابرز ما لاحظ الناس كيف استبدلت الاكتوبريات "الفردة ام زيق" بالثوب الذي يشارف دولاب الجزاز( الزجاج) وانتشر طلاء الاظافر بينهن والماكياج والكوافير. فقد كانت اكتوبر طفرة في كل شئ وكان من ابهاها ظاهرة الاكتوبريات. والاكتوبريات مفهوم يعود الى هاتيمكاللواتيى التحقن بالعمل الثورة لاول مرة وبالعام عموما بعد الثورة وليس لمن سبقنهن اليه بسنين.

(7) شوقي ملاسي:2004:اوراق سودانية:الخرطوم:ص"116-117

(8) وان اللذين اهتموا بذلك اما كانوا من الضحالة بحيث احتفوا بالكتابة عن انفسهم فى سير ذاتية مثلما كان المبشرون يفعلون ويسجلون لقاءاتهم مع الشخصيات السودانية المعروفة او-

(9) انظري(ي) خديجة صفوت :سجال فى صحراء قاجلة: مختصر تاريخ كل شئ تقريبا:دمشق والمنامة 2013

(10) اناشد القارئ اللا يتجاوز الشروح على المتون والجمل الاعتراضية ففبها ما قد يفسر كثيرا مما لم يسمح حيز الورقة على ذكرة فى المتن. ولكم ان تتأكدوا ان الشرح على المتون والجمل الاعتراضية غالبا ما يكون بها ما يستعصى المتن على البوح به مما قد يفضح غالبا ما اسميه الكذبة الكبرى اى التاريخ الرسمي او السردية الرسمية واخطرها تلك السردية البكاءة اللوامة. وادين للجمل الاعتراضية والشروح على المتون بما اتصوره غاية المعرفة.

(11) أنظر(ي Amercian Democracy Nothing We Don't Know But Well Articulated ForbiddenKnowledge TV Alexandra Bruce:17، 2014 September

(12) كانت جماعات قد اخضعت تعريف كلمة الشعب باكرا منذ الاصحاح القديم لكافة المفاهيم التي لا تدل على الشعب. وكانت تلك الجماعات قد احلت مكان مفهوم الشعب العامة الجماهير الدهماء المفقرين ما يسمى طبقة الشعب تكاذبا the peoples class مما قد أتعرض لتعريفه بايحاز، وقياسا ترك معظمنا نحن كما نفعل غالبا مفهوم مفردة الشعب لاعراب الشتات يعرفونها ويؤبلسونها فيتعينون على حرمانها من الابداع في التفكير والتنظيم لنفسها بل في التكاثر ومقاومة الفناء. المهم فورا أن ازعم أن مفردة الشعب تعني فيما تعنى الديمومة ومقاومة الفناء والتحور وتعني التزايد في مواجهة الابادة والتكاثر في مواجهة التعقيم والسموم. وكلما تفاقمت مواجهة اعداء الشعوب للشعوب كلما ابدعت الشعوب وسائلا للبقاء مما يثير تطير اعداء الشعوب وعلى رأسهم اعراب الشتات ومؤرخوهم واتباع الاخيرين في كل مكان. على انه حيث يدعى بعض حكام الشعوب- التي استضافت وتستضيف اعراب الشتات على مر التاريخ وتباعا تلك المجتمعات التي تمت الى التنويعات الشرقوية-تدعي مثلا قرابات حقيقية أو مفبركة مع شعوبهم وقد يتشاركون واياها الالهة الخ الا أن اعراب الشتات لا يتصلون بقرابات حتى مع شعوبهم ويخفون كنه الهتهم عنها ولا ييسرون لشعوبهم معرفة شعائر العقيدة وينكرون على العامة معرفة اللغة التي تكتب بها تلك الشعائر. وكانت بعض تلك الشعائر ومجمل اللغة المقدسة تلك قد اخفاها بعينها احبارهم وقضاتهم وتجارهم اسرارا مغلقة على شعوبهم على مر التاريخ. فاللغة ليست كلمات تحكى بها قصة أو تسرد بها حادثة وإنما تعبر كلمات اللغة عن بل هي أداء حي Live Performance. وقياساً يمكن اللعب بالكلمات-بهذا الوصف-إلى ما لا نهاية. وهذا أمر آخر غير المجاز والكناية. فالأخيرات محصلة قولبة البنى الفوقية صيغاً جاهزة للحديث لا يخرج عنها الكلام مما يبدو العامة والناس العاديون معه ببغاوات حتى عندما يحاولون التعبير عن قضية خاصة حزينة مأساوية أو بهيجة. ذلك أن قاموس مفردات العامة يختزل في بضعة صيغ للتعبير مما يقصر معه خيال وقدرة العامة على أي نوع من الإسهاب ناهيك عن الابتكار. وهكذا غدت اللغة من وقتها تقف فى طريق المعرفة.فقد اخذت تلك الجماعات الغامضة تكتب التاريخ على هواها هي، بل وتخترق الكتب السماوية فتعيد تفسير أو/و حتى إدعاء نصوص - تبرر وتسوغ وتكرس سردية بعينها لحساب تلك الجماعات الغامضة.