هذه هي الرواية الأولى من (خرائط الروح) وهي سلسلة من إثنتي عشرة رواية أنجزها القاص الليبي وتعد أطول الروايات العربية حتى الآن، يطرح فيها مسيرة ليبيا من البداوة والصحراء إلى إشكاليات التحديث والمعاصرة

خبز المدينة (رواية)

الرواية الاولى من خرائط الروح

أحمد إبراهيم الفقيه

ملاحظة تمهيدية(1)

 وهذا الكتاب مع طوله واتساعه وكثرة فصوله وابوابه، ما استوفينا فيه خاطرا واحدا من خواطرنا في الطريق
 محي الدين بن عربي


                             

ليبيا تصحرت. القيظ اختلس الرطوبة، فناحت حوريات مهدلات الشعور، ينعين جفاف الينابيع والبحيرات
اوفيديوس
                               


مفتتح الرواية الأولى
الشيخ عبد ربه التائه هوالرجل الحكيم الذي اختاره الأستاذ نجيب محفوظ ليكون الناطق بأفكاره في رواية أصداء السيرة الذاتية وإكبارا وإجلالا لعميد الرواية العربية أردت ان استهل الرواية بهذه الهوامش التي كتبتها تعليقا على أقوال الشيخ:
رآى الشيخ عبد ربه التائه مجدوبا يضرب الهواء بعصاه. كان يقاتل كائنات غير منظوره، ثم رآه ينهار فوق الأرض من الإنهاك، تأكله الحسرة لان الناس لا يرون هذا الخطر الداهم ولا يعبأون بما يفعله دفاعا عنهم، وليس ببعيد عن هذا العمل تلك الحرب التى خاضها دون كيشوت بطل سيرفانتس ضد طواحين الحواء، البعض يري في هذا النوع من البشر أناسا مكشوف عنهم الحجاب يرون ما لا يراه الآخرون من مهالك وأخطار، وآخرون يضيفونهم إلى مجاديب هذا العصر وكل عصر الذين يضربون الهواء ويطلقون صيحات القتال ضد أعداء وهميين، في حين يهربون من المعارك الحقيقية التي يخوضها أهلهم مع اعداء من لحم ودم وفريق ثالث يرى ان اعداء الخفاء المتلفعين بالاثير هم اكثر خطورة من الاعداء الظاهرين ويرفعون صيحات الحرب على الاثنين.
تحدث الشيخ عبد ربه التائه عن اناس شغلتهم الحياة، واخرين شغلهم الموت، وهوابلغ واصدق واشمل تقييم للناس، فهم فعلا فريقان لا ثالث لهما، فريق يهب نفسه للحياة، ويخوض غمارها سلبا وايجابا، يأخذ مه ويضيف اليها ويحتفي بها، واهل هذا الفريق هم الاحياء الاحياء، والفريق الثاني لا يفعل شيئا غير الانشغال بالموت ينسج له الاكفان وينجد له التوابيت ويحفر له القبور وهؤلاء هم الاحياء الموتى.
قال الشيخ عبد ربه التائه:
ــ في الصحراء واحة، هي امل الضالين.
 الهامش:
ــ طوبي لمن اعطاه الله بصيرة يرى بها تلك الواحة، فلا يبقى تائها في صحراء الحياة حتى يشرف على الهلاك.
قال الشيخ عبد ربه التائه:
ــ الحاضر نور يخفق بين ظلمتين.
 الهامش:
ــ هناك ظلمتان اشد قتامة يسير بينهما الانسان، هما ظلمة الرحم وظلمة اللحد، فطوبى لمن جعل حياته بيه هاتين الظلمتين، بقعة نور، لا ظلمة ثالثة موصولة بظلام البدء والمنتهى.
قال الشيخ عبد ربه التائه:
ــ بعض اكاذيب الحياة تتفجر صدقا.
 الهامش:
ـــ ولن يكون غريبا عندئذ ان نرى صدقها يتفجر احيانا كذبا.
قال الشيخ عبد ربه التائب:
ــ ما اجمل راحة البال في حدائق الورد.
 الهامش:
ــ حذار، حذار، ان تذهب ايها الظاعن الى حدائق الورد مثقل القلب بالاحزان، لان الورود سترى في ذلك اهانة لها واستهتار بجمال الوانها وبهجة اريجها، وستحل عليك نقمة الورود ولعناتها وهي كما تعلم كائنات اثيرة عند الله.
قال الشيخ عبد ربه التائب:
ــ انه يطاردني من المهد الى اللحد، ذلك هوالحب.
 الهامش:
ــ هذا مقام لا يبلغه الا الاصفياء الانقياء من امثالك ايها الشيخ عبد ربه التائب، وكاتب سيرتك وسيرته نجيب محفوظ، ممن يطاردهم الحب اينما ذهبوا، اما غاية ما يصبوا اليه امثالنا من عامة الناس فهوان نطار د الحب حتى نعثر عليه.
قال الشيخ عبد ربه التائب:
ــ حذار، فانني لم اجد تجارة هي اربح من بيع الاحلام.
الهامش
ــ قالها الشيخ بلهجة التخذير والانذار يدق بها نواقيس الفجيعة والخطر، الا ان فرسان هذا العصر، اعتبروها بشارة ووصية واجبة التنفيذ، فبنوا للاحلام مصانع، تتولى تعليبها وبيعها في اشرطة مرئية ومسموعة، وسخروالعلم لانشاء اقمار صناعية تدور في الفضا ء تساعد على انتاجها وترويج بيعها للحمقى والمساكين، حتى صارت تجارة الاحلام والاوهام اكبر واعظم واكثر انواع التجارة ربحا في
عالمنا الحديث.
لا يرى الشيخ عبد ربه التائه الكون الا في ضوالحب، فهوخيط يصل الدنيا بالاخرة، ويصل الارض بالسماؤ، ويصل الحاضر بالماضي والمستقبل، ويصل الازل بالابد، ويعطي للوجود معنى في مواجهة العدم، وعندما يعود مريضا من اصدقائه يدعوله قائلا
ــ اللهم من عليه بحسن الختام وهوالعشق.
رآى الشيخ عبد ربه التائه الحياة تراقص الموت في احدى الصالات، فراعه المشهد، وهوالذي يعلم اكثر مما نعلم، انهما مترابطان، متلازمان، لا وجود لاحدهما بغير وجود الاخر، ولكن رهبة الموت شيء متأصل في قلوب البشر، بمن فيهم عباد الله الصالحون، الموعودون بنعيم الدنيا والاخرة، امثال الشيخ الحكيم عبد ربه التائه.
بمثل ما يكتسح الطوفان الاول العالم القديم، ليهلك اهله الفاسدين، فلا تنجوالا فئة قليلة من الاخيار، تباشر بناء عالم افضل بعد الطوفان،
فان الشيخ عبد ربه التائه، ينتظر طوفانا جديدا، يكتسح كل هذا الفساد، فلا تبقى الا قلة من الاخيار، تنشيء للبشرية مدينة جديدة، وتعيد للعالم ما افتقدخ من نقاء وصفاء، وما ضاع منه من بهجة وجمال.

                            (1)
هكذا تبدأ أحداث قصتك وهكذا تنتهي رغم أنها لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد فهي بداية تقود إلى نهاية ونهاية تقود إلى بداية جديدة فلا شيء ينتهي دون أن تكون له بداية ولا شيء يبدأ إلا لكي يصل إلى نهاية تكون نقطة إنطلاق لأحداث تتعاقب وتصنع صيرورة الحياة بما فيها من بدايات ونهايات وميلاد وموت وإنبعاث ودورة تقود إلى دورة أخرى لتصبح حلقة مفرغة بلا بداية ولا نهاية فلماذا يفزعك أن يعود إليك الماضي ليأخذك أسيرًا مغلولا بالأصفاد إلى أرضه الموحشة الموحلة التي تركتها هاربا؟
نعم إنه الماضي يعود إلى الحاضر يا عثمان الحبشي يأتي ليحتويك بغباره الكثيف الكريه المحمل بأدخنة البارود ورائحة الدم البشري وأشباح الجثث المقطوعة الرؤوس هاهوالماضي يعود إليك يا عثمان الحبشي يغمرك بأمواجه السوداء كبحر من القار يحاصرك ويبسط نفوذه على ساعات نومك ويقظتك ويأخذك من أرضك وزمانك إلى أرضه وزمانه هوبمثل ما فعل عندما انتزعك من جذورك وأخذ منك لقبك ونسبك وإعطاك نسبا حبشيا وأنبتك شجرة بين أحراج الهضاب الإثيوبية وأنت القادم من عمق الحمادة الحمراء حيث يتجول العجاج حرًا بين قيعانها المقفرة المجدبة القاحلة وكضباع الكهوف في الهضبة الإثيوبية التي تنام نهارًا وتستيقظ ليلا ً ولا تهاجم ضحاياها إلا غدرًا تهاجمك ضباع الماضي لتأكل يومك وغدك وتسد أمامك مسالك النجاة.
بعد لحظات سيطلع الفجر ويشعل في الأفق حريقًا هائلا يأكل ظلمة الليل، وسيرتفع من المآذن النداء الذي يدعوالناس إلى صلاة هي خير من النوم مصحوبًا بالنشيد الأبدي الذي تعزفه جوقة الديكة وهي ترفع رؤوسها باتجاه الشرق انتظارًا لمواكب الشمس حيث تمتلئ سهول السماء بأطياف مضيئة لها ضجيج وحركة ونكهة وألوان صاخبة فتردد صداها قلوب الكائنات وهي تستيقظ على إيقاع أشعتها منبهرة بجلال أصواتها وألوانها ويبدأ مشهد الافتتاح ليوم جديد تتطلع نفوس الناس لما يحمله من مستجدات عداك أنت يا عثمان الحبشي لأن الماضي يأبى أن يغادر عقلك وقلبك معلقا بأهداب عينيك يصادر حقك في أن تحدق إلى المستقبل ويمنعك من أن ترى سواه لقد صار الماضي حاضرًا يملأ عليك لحظات النوم واليقظة برعب الكوابيس.
كنت أنت يا عثمان الحبشي من يصنع الكوابيس للآخرين فما الذي أصابك وأصاب الدنيا لتصبح أنت ضحية الكوابيس أم هوناموس من نواميس هذه الدنيا يقضي بأن يقع صانع الكوابيس في نهاية المطاف ضحية لها. إنها إحدى المفارقات العجيبة التي صادفتك في حياتك وما أكثرها. كنت تفخر بأن لك حدسا حباك به الله يجعلك ترى الأشياء قبل حدوثها وتألف الأمكنة الغريبة التي تراها لأول مرة وكأن حياة سابقة عن حياتك هذه قادتك إليها. كان المشهد مفزعا مجللا بالدم ومملوءا بالجثث المقطوعة الرؤوس. تعطل حدسك فما كنت تستطيع أن ترى وتسمع غير شيء واحد خطى السياف وهي تقترب منك محملة بنذر الموت ورأسك مقطوعا بعد قليل مثل رؤوس رفاقك الذين سبقوك منذ دقائق إلى هذا المصير. وبرغم كل العلامات الأكيدة التي تنبئ بقرب النهاية ظل رأسك ثابتا فوق كتفيك يمكنك أن تتحسسه الآن بعد مرور أعوام كثيرة على ذلك اليوموتتأكد أنه مازال موجودا في مكانه.
أوثقوا أقدامكم وأيديكم بسلاسل من الحديد، تدمي المعاصم والسيقان. وأسندوكم إلى حائط مصنوع من جذوع الأشجار المشدودة إلى بعضها البعض بالألياف وحبال القنب وسيور مأخوذة من جلود القرود. وقد حشوا الفراغات التي بين الجذوع بالخوص والقش وأغصان وأوراق الأشجار اليابسة وصنعوا منها سورا لفناء مترب واسع تعربد فيه شمس شديدة السطوع النهار ورياح باردة أثناء الليل. وتتناثر فيه مجموعة من الأكواخ يتخذه المحاربون الأحباش مركزاً من مراكزهم العسكرية في تجويف بين الجبال. كان بالجذع الذي أسندوك إليه نتوء يضغط على ظهرك ويغوص طرفه الحاد بين كتفيك وكان أقصى ما تستطيع عمله هوأن تمنع النتوء من أن يغوص بين فقرات عمودك الفقري تنزاح بجسمك قليلا ليستقر النتوء في منطقة من كتفك اليمنى، ويؤذيك فتتألم وتبكي دون صوت
خرج من أقرب هذه الأكواخ المخصصة لاستعمال الحراس زنجي طويل القامة معصور البدن كأنه هيكل عظمي عار إلا من لحاف مرقط كجلد النمر يخفي محاشمه. وتسطع أسنانه في ضوء الشمس كبيرة بيضاء ناتئة تفصلها فراغات صغيرة عن بعضها البعض فتبدوكانها أسنان مذراة. ويقف يستعرضكم جميعا بنظرة بلهاء قبل أن يتحرك بخطى سريعة سائرا أمامكم وهويتفرس في وجوهكم واحدًا واحدًا. تضيق عيناه من شدة التركيز ويظل فمه مشدوها ومفتوحا ينفرج عن أسنانه الناتئة ذات اللمعان الشديد كأنه لا يصدق أن كل هذا العدد من جند الأعداء أضحى أسيرًا لديه، يفعل به ما يشاء
كنتم مجموعة من المجندين مع الجيش الإيطالي ليس بينكم من الإيطاليين غير ضابط الفرقة. أما البقية فهم صوماليون وأريتريون وأحباش واثنان من ليبيا. واختار أن يقف أمام أسير من أبناء قومه يبدوأنه يعرفه وربما كان محاربا معه قبل أن ينضم مع قبيلته لجيش الغزاة. وقد علت وجه الأسير ابتسامة رجاء وأمل وهويهتف باسم رفيقه القديم قائلا بلهجة خانعة ذليلة:
ــ سانكو
إلا أن الرد الذي تلقاه من سانكولم يكن غير بصقة على وجهه الباسم لم يكن يستطيع مسحها ويديه في الاغلال.
عاد "سانكو" بعد أن أكمل جولته الاستعراضية. ليقف في أول الصف وهويضحك بشكل هستيري إلى حد ساقه للاستلقاء على قفاه ضحك دون وجود سبب لهذه الضحكة المجنونة. ودون أن يصدر صوت من أحد الحاضرين، عدا طنين الذباب الأخضر الكبير الذي اختارت جيوشه وجوه وأبدان الأسرى مكانا لأقامتها، حيث لا أحد يستطيع أن يطردها ولا يد تستطيع ان تتحرك لازعاجها عندما تحط فوق أنف أوعين لأن الايدي مغلولة إلى سلاسل الحديد. سعيدة بوجود أصناف من الغذاء تكفي لإشباع ارتالها التي لا تحصى في غيبة الاغتسال والنظافة
مد سانكويده في الهواء مفتوحة مبسوطة الأصابع بعد ان أكمل ضحكته. وأحكم إقفال ملامح وجهه فما عاد يلمع في وجهه إلا بياض عينيه كبياض أعين الموتى أوحبات عرق تومض فوق سواد جبينه، وصدغه المواجه للشمس. كما تومض الحباحب في الظلام. تقدم جندي يحمل مدية طويلة بحجم السيف وضعها في اليد المبسوطة الأصابع. وعاد الجندي ليقف في الركن الذي يقف عنده حراس نصف عراة يحملون الرماح ويحركون أيديهم التي لا تمسك الرماح شمالا ويمينًا أمام أوجههم يطردون بها الذباب. تحت النظرات الحاقدة للأسرى الذين يشاهدون نعمة أن يحرك الإنسان يده لطرد الذباب وهم محرومون من هذه النعمة. في حين كان الحراس يقفون في صمت ينظرون بدورهم إلى زميلهم الواقف قرب الأسرى وقد مضى يتحسس شفرة المدية بأطراف أصابعه. ثم التفت يبرطم بكلمات أمهرية غاضبة فحمل إليه الحارس هذه المرة مبرداً أخذ يسن عليه حد المدية. أصدر احتكاك الحديد بالحديد صريرًا حاداً آثار حساسيتك تجاه مثل هذه الأصوات فصرت تكز على أسنانك وتحاول السيطرة على إرتعاشة بدنك حتى توقف الصوت. كان كل شيء يوحي بأن ما تراه الآن هوطقوس بداية المجزرة التي ستكون أنت ضمن ضحاياها ضحى هذا اليوم. كان هذا ما انتظرتموه منذ وقوعكم في الأسر قبل عشرة أيام. أما لماذا تأجل تنفيذ المجزرة كل هذا الوقت فلابد أنه أمر له صلة باتصالات ومساومات مع قادة الجيش الإيطالي، رفضت فيها القيادة الإيطالية الإستجابة لمطالب الأحباش، كما يقول بعض أصحاب الخبرة من رفاقك الأسرى، وبينهم جندي صومالي حكيم اسمه رضوان هوالذي يمدك بتفسير ما يحدث مما لا تستطيع إدراكه بحكم تجربتك الضيئلة في ميادين القتال
كنت تعرف منذ البداية، أنك في هذه الحرب القاتل والقتيل معا. وإذا كنت قد استطعت أن تؤجل موتك في وقت سابق، فقد جاءت الآن لحظة المواجهة مع الموت التي توقعتها أكثر من مرة. فلماذا الفزع إذن؟
أشار سانكوبيده التي تحمل المدية الطويلة إلى الحراس أن يبتعدوا قليلا وكأنه جراح لا يحتمل وجود المتطفلين في غرفة العمليات. ووضع مديته قبالة عنق الأسير الذي أمامه وجر بها على عنقه في لحظة خاطفة أصدر الرأس المقطوع صرخة رددت أصداءها السماوات السبع. أوهكذا بدا لك ما سمعت وأنت ترفع رأسك إلى قبة الكون حيث كان يدوي رجع الصدى لصرخة الموت التي أطلقها الرأس المقطوع. وأنت تقاوم صرخة فزع امتلأ بها حلقك فمنعتها من الخروج. أسرى كثيرون، يستندون مثلك إلى جذوع الأشجار، لم يستطيعوا كتم صرخاتهم. فانطلقت تصنع غلافا يليق بالمشهد الدموي الإستهلالي. أغمضت عينيك وتلوت الشهادتين، تنتظر مصيراً كمصير رفيقك الذبيح. أبقيتهما لبرهة طويلة مغمضتين، وعندما فتحتهما وسط هستيريا الصراخ. كانت سواقي الدم مازالت تدور. وكان "سانكو"، ممثل ملك الموت، قد استقر على نظام لعمله فهويذبح أسيراً. ويتخطى الأسير الذي بجواره، يبقيه حيا ليداهم بمديته الطويلة الأسير الثالث. ولم تفهم لماذا اختار هذا النظام الجزافي العشوائي للفتك بضحاياه. لعله أراد أن يتسلى بإبقاء البعض أحياء، ليعود إليهم بشهية أكبر للقتل، في وجبة ثانية. أولعله أبقاهم لاستخدامهم في عمليات المساومات مع الطرف الإيطالي، وصفقات تبادل الأسرى التي تتم أحياناً بين الجيشين.
كان همك في هذه اللحظة هوأن تعرف عدد الأسرى الذين يقعون في هذه المسافة المرعبة التي تفصل بينك وبين زنجي القتل لتعرف إن كنت تقف في خانة الأحياء أوالموتى. لم يكن الرجل يفرق بين ليبي أوصومالي أوحبشي، ولا يخضع لأي اعتبار سوى هذه القاعدة التي وضعها لنفسه، وهي أن يقتل واحدًا ويترك واحدًا من هؤلاء الأسرى الواقفين في الصف الذي أمامه، حيا ازداد فزعك وأنت ترى نفسك ضمن خانة الأموات لعلك اخطأت في العد! قلت لنفسك محاولا التعلق بأهداب النجاة. فلتقم بعدهم مرة ثانية وثالثة ورابعة ولكن لا عزاء ولا رجاء ولا نجاة، فأنت هالك هالك هالك. انتهى سانكومن ذبح سبعة أشخاص، وترك سبعة أحياء. وأمامه الآن قتل خمسة أشخاص أنت سادسهم بالتمام والكمال، تاركاً خمسة تأجل موتهم بمحاباة خاصة من ملائكة الحظ السعيد التي لابد أنها تراقب المشهد بعيون دامعة لأنها لا تملك حرية إنقاذ الجميع وفقا للقاعدة الإلهية: "كل يحمل طائره في عنقه" سينجوهذا الافريقي الذي على يمينك، والافريقي الآخر الذي على شمالك
وسيذبحك أنت كما يقول النظام الذي ابتدعه. هذا الزنجي المخضب بدماء القتلى الذي يجز أعناق الرجال كانه يقتل نعاجاً لا بشرًا إنه يدنوالآن منك. لم يعد يفصله عنك سوى ثلاثة أشخاص سيذبح أولهم، ويتخطى الثاني إليك أنت. ومرتعشا صرت تتلوسورة يسن العامرة بآيات الرجاء والاسترحام والاستغفار التي طالما قرأتها على ارواح الموتى في مقابر المسلمين يراودك احساس بالخجل لهذا الخوف الذي اعتراك. وجعل العرق يتفصد غزيرًا من جبينك، ويدخل عينيك وفمك دون ان تستطيع له دفعا. ولماذا تهتم بدفع الخوف وأنت ترى نهايتك قد أزفت. وتسمع دبيب الفناء قادما إليك. وترقب المشهد الختامي لحياتك. بعينين مفتوحتين سيغلقهما الموت بعد دقائق. حيث سينقطع التيار الكهربائي الذي يمدك بالطاقة والحياة ليعقبه ظلام الابدية. وترى التطبيق العملي لمقولة أن الحياة ليست إلا باطل الأباطيل، يطبق عليك أنت وليس على أحد سواك.
وصل زنجي الموت قريباً منك، حيث ستراه لآخر مرة يمارس طقسه الوحشي. لأنه لم يعد بينك وبينه سوى ضحية واحدة. إنه هذا الأسير الذي بدا ميتاً قبل أن يموت. واحد من أبناء جلدتك اسمه عبد الله. جاء معك من طرابلس إلى بر الأحباش. وعاشرته على ظهر السفينة التي أقلتكم إلى هذه البلاد. وعرفت أنه مصاب بصداع مزمن، لم يزايله رغم مناجل النار التي تركت اثارها فوق رقبته وفوديه. لأنه لم يكن هناك في الأرياف التي جاء منها علاج للعلل التي يعاني منها البشر الا الكي. هاهوالمسكين يجد علاجا ناجعا ونهائيا لاوجاع رأسه. هذا العبد البائس من عباد الله. عيناه الآن جاحظتان وفمه مفتوح يحيط به الزبد، وكأن صاعقة هبطت عليه وجعلته متجمدا مصعوقا بهذا الشكل. أساك على نفسك انساك أي شعور بالاسى نحوه. هكذا علمتك تقاليد الحرب في أول ما وعيته من دروسها. يطير رأس رفيق يحارب بجوارك، فتتحسس رأسك شاكرًا السماء، لأن الرأس الطائر لم يكن رأسك، الأمر يختلف هذه المرة. رأسك ورأسه سيطيران
مد سانكويده وأمسك بفروة رأس عبد الله، لكي يتيح لليد الأخرى ان ترفع المدية وتضرب العنق، أطلق صاحبك المذبوح غرغرة كالخوار، وانبجست من عنقه نوافير الدم. أطبقت فمك تكتم صرختك، وأنت ترى دم صاحبك ينثال على رأسك ويغطي وجهك. ارتطم رأسك ارتطاما موجعا بجذع الشجرة وأنت تهزه بقوة من أجل أن تنفض الدم من فوق عينيك. رأيت من خلال قطرات الدم العالقة بأهدابك القاتل وهويمسح مديته في ثوب الرجل القتيل. ثم رأيته يتحرك تاركًا كما هوالنظام جارك الافريقي، ليقف أمامك. رأيته يضع عينيه في عينيك. فاستجمعت شجاعتك ورددت إليه نظرة أكثر قوة وتركيزا محاولا ان تخفي ضعفك وخوفك. قبل ان تتحول ببصرك عنه. ووجدت نفسك كما هوحالك في لحظات الخطر تستنجد بولي صالح من أولياء بلادك
هوسيدي عبد السلام الاسمر رضوان الله عليه. تكرر اسمه هامسا:
ياسيدي عبد السلام يا سيدي عبد السلام... يا سيدي عبد السلام
انه يرقد في ضريحه بمدينة زليطن. تفصل بينك وبينه الاف الفراسخ من الغابات والصحارى والأنهار والجبال والبحار. ولكن المسافات لن تكون حائلا دون وصول هذه الاستغاثة إليه. ولا عائقا بينه وبين تلبيتها إذا اراد. رفعت عينيك إلى سماء مفتوحة فوق هذا الفناء، كأنك تتفقد الطريق الذي ستسلكه روحك إلى عالم الصمت الابدي. ترى ما الذي ينتظرك الان خلف حجب الموت السوداء؟ انتهى بالنسبة لك عناء الانتظار لمعرفة الجواب عن هذا السؤال. لم تبق غير ثوان حتى تنكشف أمامك اسرار وطلاسم ذلك العالم المجهول. اصطدمت عيناك باشعة الشمس العمودية، رأيت زنجي الموت يمد يده، ليفعل معك ما فعله مع صاحبك عبد الله. عندما وضع قبضته في فروة رأسه. فاردت ان تعفيه من هذه المهمة، وتعفي نفسك من هذا العناء. فرفعت رأسك واحنيته إلى الخلف بأقصى ما تتيحه المسافة الصغيرة بينك وبيني السور الذي تستند إليه. ومددت عنقك بقدر ما تستطيع متيحا للسكين فرصة ان يؤدي عمله بيسر وسهولة، دون حاجة من القاتل للامساك بشعر رأسك. واغمضت عينيك هاربا من رعب ما ترى، وقد تجمد الزمان وتجمد المكان وتجمد الهواء وسكنت الحركة. وتوقفت عقارب ساعات العالم على الدقيقة الاخيرة النهائية التي تقوم فيها قيامتك. دارت الدنيا في رأسك، دورة سريعة تربط بين يوم مجيئك إلى الدنيا الذي لا تعيه الا من خلال ما سمعته من كبار نساء العائلة. وبين هذه اللحظة وقد آن لك ان تغادرها. لم يزغرد احد زغاريد الفرح يوم ولدت. فقد جاء مولدك متزامنا مع دخول جيش الغزوالإيطالي. إلى قرية أولاد الشيخ، كان دخولهم مصحوبا بحملات انتقامية تداهم البيوت بحثا عن رجال المقاومة، فامتلات الطرقات بصراخ الاطفال، وعويل النساء النائحات. استقبلتك الدنيا بالنواح يوم مولدك، وصار قدرا يصاحبك مثل ظلك على مدى العمر. انك تخجل من قول ان النواح يطربك باعتبارك لم تسمع اصواتا مبهجة كثيرة في طفولتك، تجعلها مرجعا للاصوات التي تنقض اصوات النائحات، وتنزع من قلبك هذا الفرح المريض بمثل هذه الاصوات. والمفارقة حقا، هي انك ستموت الان، دون ان تحظى ببهجة امرأة تنوح عليك.
ولكن لماذا يتأخر الرجل كل هذه المدة في تسديد ضربته القاتلة؟ لماذا يصبح هذا الجزء من الثانية الذي يفصل بين ارتفاع السكين وهبوطه فوق العنق، دهرا؟ كنت قد لاحظت ان زميلك في الاسر الذي تخطاه زنجي الموت، يبتسم لأنه نجا من القتل، بل هويكاد يضحك من فرط ابتهاجه بهذه النجاة. ولذلك فقد اذهلك ان تسمع الان صرخة مفزعة، موحشة، صادرة عنه.
فتحت عينيك لترى ما ذا يحدث، فإذا بالزنجي القاتل، لأول مرة يخالف النظام الذي بدأ به. يتركك دون سبب مفهوم، ويعود إلى الرجل الافريقي الذي كان يضحك، فيمسك بفروة رأسه بدلا منك. أطلق الرجل الذي باغته ما حدث، صيحته المفزعة عندما رآى حد السكين يلمع في مسقط ضوء الشمس قبل ان يهبط فوق عنقه لينبجس فيض من دمه، ويغطي أمامك الفضاء وقرص الشمس. شيء كأنه الاغماء اصابك. ادركت لفورك انك قد نجوت. مضت برهة قبل ان تعرف على وجه اليقين، ان الرجل فعلا تراجع عن قتلك. هل هوالفرح؟ انه هو. ولكن جوالمجزرة يخنق مثل هذا الشعور ويمنعه من الانبثاق. تخطاك " سانكو" القاتل، ومضى يعالج بمديته الطويلة أعناق ضحايا آخرين. انها وان كانت نجاة مؤقتة جاء بها موقف عبثي لا تفسير منطقي له. فأنت مازلت ترى فيما حدث معجزة بكل المقاييس. مدركا ان العناية التي ابعدت عن عنقك مدية الجزار، لن تتخلى عنك هذا النهار. وان سيدي عبد السلام الذي استنجدت به، سينجيك من هذه المذبحة. حدس يتناقض مع حقيقة ان حفلة القتل مازالت قائمة. والكأس الطافحة بدماء القتلى ما زالت دائرة. تتلقفها ايدي كائنات شريرة تختفي بين موجات الضوء والهواء، في هذا التجويف الجبلي، متعطشة دائما للدم البشري
والرجل الذي يتولى القتل بفرح وحشي لا تحكمه أية قاعدة. انه حتى وان لم يقتل الجميع، واحدا تلوالاخر فما ذلك الا لاضفاء شيء من الاثارة على اسلوب القتل. بتقسيم ضحاياه إلى وجبتين. لم يكن الاغماء كاملا، فقد كنت تستطيع ان ترى من خلال إطباقة عينيك التي لم تكتمل كل ما يدور حولك. كان الدم البشري الذي يلطخ وجهك قد دخل فمك، واستقرت زناخته على طرف لسانك. فاحسست بامعائك تصل إلى حلقك تقززا واشمئزازا. وتنبهت إلى ان الشمس تقف تماما فوق رأسك، وكانها اختارتك أنت بالذات هدفا لاشعتها التي صارت تهبط عليك حارقة لاسعة، كانها صهريج من نار. اعتبرت ان ما يحدث لك الا ن ليس الا تمرينا أوليا على حياة أخرى تنتظرك وسط الجحيم. وتابعت باعصاب اتلفها الفزع مشهد المجزرة التي تدور في الفناء. وانتقال القاتل " سانكو" من اسير إلى آخر حتى اكمل مهمته، ورمي المدية التي تقطر دما فوق الأرض، وأطلق زغرودة المحاربين التي سبق ان سمعتها من المقاتلين الأحباش. فرددها خلفه بقية الحراس، وجاء جنود آخرون من داخل السور وخارجه يشتركون مع الحراس في اطلاق الزغاريد. 
                            (2)
انتهى ذلك اليوم دون أن تموت. دون أن تتحول إلى جزء من الدم الأسود المتختر الذي يختلط بتراب الفناء، ودون ان تعرف حتى هذا اليوم لماذا، وفي اللحظة الاخيرة، وقبل التقاء المدية بحبال الرقبة، ابقى عليك ذلك الرجل الذي يشبه هيكلا عظميا، مطليا بقار داكن السواد. انتهت وليمة الدم ذلك النهار بمثل ما انتهت في نفس الؤقت فترة الاسر اثر عملية انقاذ ناجحة، دون أن ينتهي تأثيراحداث ذلك اليوم في نفسك. وما تركته من ندوب في عقلك وقلبك. لقد ظلت نقطة سوداء في الذاكرة ما كان لشيء يأتي بعد ذلك أن يقدر على محوها. كنت كمن عاد إلى الحياة بعد أن سافر إلى عالم الموتى. لقد افسد مذاق الدم في فمك ذلك اليوم شهيتك للأكل فيما تلى ذلك من أيام. وغيرت تلك اللحظة نظرتك لاشياء كثرة في الحياة تشمل القيم والافكار والمشاعر والانفعالات. وصارت حدا فاصلا في حياتك بين عهد وعهد وعمر وعمر. احسست كأنك كبرت في لحظة واحدة عشرات الاعوام. وتغير تبعا لذلك تفكيرك واتسعت رؤيتك لمعاني الحياة. كما تبدل فهمك لكل ما يتصل بالهلاك والنجاة والفشل والنجاح والحق والباطل والخير والشر والسعادة والشقاء والالم والمتعة والحياة والموت، لأن كل تلك المفاهيم والمعاني والاشياء ارتدت ثوبا واحدا وصار لها معنى واحد ولون واحد في تلك اللحظة الفارقة الفاصلة الحاسمة هوثوب ولون العبث.
بدأ الأمر بسيارة شحن تقف في باحة السوق، في هدأة القيلولة، وقد اقفل اصحاب الحوانيت حوانيتهم. تسللت بمساعدة السائق لتنام بين غرائر الفحم. وانتظرت عدة ساعات تتنفس الغبار الأسود. وتنصت آلي طنين الذباب. وتكتوي بقيظ الشمس، وأنت تمسح العرق المخلوط بذرات الفحم. وتتمتم بالادعية والتعاويذ كي لا يكتشف احد امرك، مرددا تلك الآية التي قرأت في كتاب "الرحمة في الطب والحكمة "للإمام جلال الدين السيوطي. إنها تحجب الإنسان عمن يلاحقه إذا رددها وهي "وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون". حتى سمعت محرك الشاحنة يدور. ثم أحسست بها تتحرك. وتهبط المرتفع الذي يصل القرية بالطريق العام المتجه نحوالعاصمة وانتظرت بضع لحظات قبل أن ترفع رأسك من تحت أشولة الفحم، وتتنفس هواء الله الطبيعي. وعندما رفعته ورأيت أبنية القرية وبساتين نخلها تتراجع، أدركت ان فصلا من فصول حياتك قد انقضى. وان فصلا جديدا قد بدأ.
الآن مرغما تخرج من القرية، ولست نادما، لأنه من قبل أن ياتي هذا الحادث الذي يرغمك على الهروب لم تكن سعيدا بحياتك في القرية، ولا تجد فيها ما يغريك بالبقاء. كنت تتحرق شوقا إلى أن تغادرها قبل ان يقتلك الضجر. وتفتك بك جيوش الذباب وارتال القمل والبراغيت. بلغ عمرك ربع قرن ولاشيء أمامك يعد باي تبدل في حالتك. رعيت الأغنام، وحفظت القران في الزاوية السنية. وتحولت بعد ذلك إلى مساعد لمعلم الصبيان، تتبعه بالابريق لتصب على قدميه الماء وهويتوضأ، وتشتغل خادما له أكثر مما تشتغل معلما للقرآن. ولا زلت تسرح بالشياه في أوقات الفراغ، مثلك مثل أي راع لم ينل تعليما. برغم كل ما نلته من تأنيب وتعزير وضرب على قدميك بعصا الفلقة حتى أكملت حفظ القرآن. مدركا أن عمرك كله سيمضي على هذا المنوال إذا اخترت البقاء في القرية. وأقصى ما سوف تكسبه من تعليمك هوكلمة الشيخ التي صار الناس يلحقونها باسمك. فأنت الشيخ عثمان الشيخ. أما أقصى ما يبقى يميزك عن بقية أهل القرية الأميين فهوالتماسهم لك في السوق أوالجامع أوالبيت لتقرأ لهم ما يصلهم من رسائل، أوتكتب لهم رسائلهم. دون أن تنسى كتابة سطر في ختام الرسالة تقول فيه: "والسلام ختام من كاتب الحروف العبد المعروف عثمان الشيخ"، حتى لوكان الذي تخاطبه الرسالة لا تعرفه ولا يعرفك. فهونوع من إثبات الوجود والتباهي بتقديم هذا الصنيع.
لم تكن هناك أوجه استخدام أخرى للعلم الذي حصلت عليه. غير هذا الاستخدام المجاني الذي لا يجلب رزقا عدا القليل من البيض يجود به عليك الفقي عبد الله، مما يتلقاه من الاطفال مقابل تعليمهم لأن هذا كل ما تستطيع قرية "أولاد الشيخ" تقديمه لمعلمي أولادها وتدرك جيدا ان أعلى ما تحلم بالوصول إليه من مراتب هوان تحتل مكان الفقي عبد لله إذا غادر قبلك عالم الاحياء. أوتنافس الفقي بركة في كتابة الاحجبة بضريح الشيخ الكبير. اما غير ذلك فلا شيء حتى لوقرأت كتب الأولين والاخرين واكتسبت علومهم. ستبقى كما انت، لأنه لا مكان في أولاد الشيخ لذلك العدل القرآني الذي يحفظ لأهل العلم قدرهم كما امر به الله في كتابه الكريم: "وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون". فكلهم سواء لدى أهل أولاد الشيخ.
لم تكن تلك أول مرة تلتقي فيها بعزيزة، ابنة بائعة الماء امي نفيسة، تحت جناح البئر المهجور فقد سبق هذا اللقاء الذي اكتشفك فيه الفقي بركة لقاءات كثيرة في نفس المكان. انها صبية زنجية ذات ملامح رقيقة، ليست كملامح النساء الزنجيات الغليظة، تصغرك بعدة اعوام. وكنت تعرفها منذ ان كانت طفلة صغيرة تتبع امها حين تحمل الماء إلى البيوت. ثم صارت تساعدها وتحمل الماء معها، وقد تكور صدرها وظهرت مؤهلاتها الأنثوية المثيرة. وكانت دائما تنظر إليك نظرة فيها دعوة واغراء إلى ان وجدتها ذات مرة تسير باتجاه البئر بمفردها، فتمشيت معها في الطريق المعزول، تحت ظلال النخيل، وأبديت رغبتك في ان تلتقي بها وتجلس معهاعلى انفراد، فجاءت للقائك في البئر المهجور الذي تم ردمه فبقي جناحاه منتصبين وبينهما فراغ، هيأته ليكون مكانا تختلي فيه بنفسك للمذاكرة والاطلاع والصلاة. احطته بسعف وجريد النخيل فصار كوخا، وضعت فيه حصيرا وابريق ماء، وصرت تذهب إليه عندما تريد استذكار كتاب، أومراجعة شيء في كتب الشريعة الموجودة في مكتبة الزاوية السنية. لأن اناسا كثيرين صاروا أحياناً يسألونك اسئلة تتصل بالشريعة بعد ان صرت من زمرة المعلمين. ولم تكن تريد ان تظهر جهلك بمثل هذه االامور، فصرت تراجع هذه الكتب بعيدا عن ضجيج البيت، أوصخب الزاوية التي لا تفرغ من التلاميد والمصلين، وتؤدى الفروض والنوافل هناك.
ثم بعد ان التقيت بعزيزة، جعلته مكانا للعزلة الغرامية، إضافة إلى الاغراض الاصلية التي انشاته من أجلها. ولأنه بئر محاط بأغواط غيطان النخيل، ويقع في مكان قريب من البئر التي تستقى منها القرية، فلم يكن صعبا على عزيزة ان تدعي انها قادمة لترد البئر. ومن هناك تتسلل بين اشجار النخيل إلى هذه الخلوة، ثم تعود مع نفس الطريق إلى البئر، وزلعة الماء فوق رأسها، لتملأها وتعود إلى بيوت القرية. وقد مضت اللقاءات الأولى بينك وبينها دون أن يحصل خلالها أي تلامس جسدي بينكما. أنها رغم اعجابها بك وترحيبها بلقائك على إنفراد، لم تكن على استعداد للوصول بالعلاقة إلى الاتصال الجسدي. وعندما حدث هذا الاتصال بقى لعدة لقاءات مقتصرًا على القبلات، قبل ان ينتقل إلى شيء أكثر من القبلات. بشرط واحد أساسي هوالا تقوم تفضَّ بكارتها. وفعلا كان الاتصال يتم بكل تفاصله دون اخلال بهذا الشرط، الذي لم تكن انت أيضاً تحب اختراقه، درءا للمشاكل واشفاقا على الفتاة. ولم تكن تراه عائقا دون استمتاعك ولا يسبب ازعاجا لضميرك الديني باعتباره لا يقع في خانة المواقعة الجنسية الكاملة التي تعتبرها الشريعة من الكبائر.
وعندما جاء الفقي بركة يرفع الغطاء عن تلك الخلوة. كان يبدوانه وقف وأنصت وأراد ان يمسكك بالجُرم المشهود. وكنتما في حالة عناق، بجسدين نصف عاريين، فصار يصرخ بالناس يدعوهم للمجيء ليروا معلم القرأن الشيخ عثمان الشيخ يمارس الفاحشة الحمراء مع الزنجية عزيزة ابنة امي نفيسة ولكن قبل ان يصل احد غيره وصاحب له إلى المكان، كنتما قد ارتديتما ملابسكما، ووضعت عزيزة اللحاف على جسدها وهربت بين أغواط ـ غيطان النخيل، عائدة إلى القرية. وبقيت انت لتواجه الفقي بركة. في حضور من استطاع جمعهم بصراخه، بمن فيهم المزارع الشيخ الذي كان أول الحاضرين. قائلا لهم وله انه يكذب وانه لم ير الا الفتاة وهي تحضر لك ابريق الماء فظن بعقله المعطوب ان هناك شيئا غير اخلاقي بينك وبينها. وكان هوطبعا يصرخ مقسما باغلظ الايمان، انه رآك تقوم بالفعل الفاحش، فعل الزنا كاملا، مع هذه الفتاة الزنجية الداعرة.
لقد حقق الفقي بركة انتقامه. ترصد لك وسمع من احد الناس خبرا عن شبهة علاقة بينك وبين عزيزة. فظل يراقب تحركاتها وطريق سيرها، حتى اكتشف موعد مجيئها لخلوة البئر المهجور. وتتبعها حتى دخلت واكمل تنفيذ خطته. المشكلة انه استطاع ان يجد شخصا يحظى بالاحترام، هوالحاج بدران، تصادف وجوده قرب الكوخ ليكون شاهدا معه على ما راى. فكان صعبا ان تجد من يصدق انكارك ما حدث. ووجدت ان مصيرك لن يكون الا التعزير والطرد من الزاوية وصب اللعنات على رأسك من افراد عائلتك بدءا من والدك وامك وزوج امك. وربما الطرد من البيت. وتحسست جيبك فوجدت فيه بضع فرنكات. وهناك سيارة قادمة من ارياف القرية تقف في باحة السوق، محملة بالفحم لنقله إلى المدينة، فلم تتردد في تنفيذ الفكرة التي تنقذك من هذه الورطة وهي مغادرة القرية.
ساومت سائق الشاحنة على نقلك إلى المدينة. دفعت له حق هذاالنقل وطلبت منه ان يجد لك مكانا آمنا بين اشولة الفحم تختبيء فيه إلى حين وقت المغادرة. لم يكن ما فعلته لتفوز بنقمة الفقي بركة غير كتابة حجاب واحد لم تتقاض عليه غير بيضتين كنت ذهبت إلى ضريح الشيخ الكبير تبحث عن كسب اضافي عن طريق كتابة احجبة لطالبي وطالبات العلاج الروحي. تنقل صياغتها من شمس المعارف للشيخ الديربي وكتاب الحكمة للشيخ السيوطي. ولأن الفقي بركة صاحب شهرة واسعه في هذا المجال. فقد كان كل الناس يذهبون إليه. ولم تجد بعد ساعات من الانتظار غيرهذه السيدة العجوز التي فشلت في الحصول على مكان في الزحام الذي يحيط بالفقي بركة فرضيت بان يكتب لها حجابا لعلاج الصداع شاب لا يعرفه احد مثلك انت. وبدل البيضات الاربع التي احضرتها، لتكون ثمنا لحجاب الفقي بركة، اعطتك بيضتين فقط لأنها اعتبرت ان حجابا تكتبه انت يعادل نصف حجاب يكتبه فقيهها المفضل. وهكذا لم يكتف بطردك من روضة الشيخ الكبير، حيث يمارس مهنته ولكن من القرية كلها. ليخلوله الجودون منافسين. بينما رأيت انت فيما حدث فرصة لأن تترك اجواء هذه البلدة التي يضيق بها صدرك بحثا عن مساحة أكثر رحابة تتجول فيها أحلامك. دون حدود ولا سدود لا تتيحها الا العاصمة. 
                            (3)
لم تكن قد ذهبت إلى طرابلس من قبل إلا أنك سمعت عنها كثيرا. ورأيت أهل القرية الذين يزورونها، يعودون منها وهم في غاية الانبهار والاعجاب. ويذكرون اسمها وكانهم يذكرون تعويذة سحرية تعني الفرح، كما تعني حرية الإنسان في ان يفعل بنفسه ما تشاء. انك حتى وان لم تكن لا تعرفها فيكفي انك تعرف أولاد الشيخ، وما تلقاه فيها من ملل ورتابة وعناء، وما يدخل فمك وعينيك من اتربة نتيجة رياح القبلي التي تجلدك صيفا وشتاء إلى حد انك كنت تتساءل مستغرباً منذ ان كنت صبيا كيف لم يجد ذلك الجد البعيد الذي كان أول من جاء لهذه البقعة واختارها مكانا لاقامته مكانا اخر بين بقية بقاع الأرض أكثر نضارة واخضرارا من هذه الشعبة القاحلة الماحلة. مما يدل على انه كان مجرما يطارده القانون واراد ان يهرب إلى مكان لا يقوى احد من اعوان الدولة على الوصول إليه فاختار هذاالمكان الموحش الكئيب القابع بين الجبال ملجآ له، يختفي فيه من أعين السلطات، بما فيه من تلال صخرية جرداء وافق اغبر، قاحل، رملي لا تكسره الا المزيد من كتبان الرمال. وفي اسفل هذه الشعبة، حيث تستقر مسارب الماء التي تصنعها امطار نادرة الهطول، زرع ذلك الجد الهارب من العدالة بعض حبات النوى لينموغيط النخيل الذي يشكل القوت الأساسي لجيل أوجيلين من أبنائه. ولكن بعد ان تقادم الزمان وتكاثر النسل صار مستحيلا لتمور هذه النخيلات ان تطعم كل الافواه التي تطلب الطعام.
رأيت نفسك ذات حلم جالسا فوق محفة باذخة لها استار من حرير ازرق يرفعها سبعة رجال سود، اشداء، فوق اكتافهم ويصعدون بها جبلا، تقف على قمته امرأة لها ثياب هفهافة وردية اللون، يضربها الريح. واستيقظت من نومك فرحا واثقا من ان هؤلاء العبيد هم خدم النجاح وحراسه الاقوياء يصعدون بك إلى مشارف عالية حيث تنتظرك ربة الحظ والسعد. ولكن أي حظ واي نجاح يمكن ان تقدمه قرية من قرى الصحراء تأنف الخرائط من ذكرها. لقد نسيت الحلم ولم تذكره الا وانت متكىء فوق اشولة الفحم والشاحنة تعبر بك الطريق إلى طرابلس متمثلا في هذه الاشولة السوداء عبيد الحلم، وهذه الشاحنة محفة الحرير. وطرابلس التي تلوح في الافق، ربة الحظ السعيد التي تنتظرك اعلى الجبل لأنه ما من مدينة في هذا البلد الصحراوي غير طرابلس يمكن ان تكون محلا لتحقيق الأحلام.
وإذا كانت باضادها تعرف الاشياء فقد وضعت في ذهنك صورة للحياة في مدينة طرابلس تناقض صورة الحياة في القرية بما فيها من بؤس وصمت وفراغ. دون ان تدري على وجه اليقين ما تخبئة لك الحياة في طرابلس، ودون ان تملك خطة للتعامل مع مدينة. تاتي إليها غريبا ولا تعرف فيها احدا، ولا تملك فيها من الموارد غير النذر اليسير. كل ما يملأ رأسك هوالصورة التي صنعها خيال القرية عن مدينة عامرة باضواء باهرة تحيل الليل فيها نهارا لا يركب الناس فيها الا السيارات أوعربات انيقة تجرها خيول لها سروج والجمة مطهمة بالذهب والفضة، وتتبخطر في شوارعها وفوق ارصفتها نساء اجنبيات متزينات، متبرجات يفوح العطر من اردانهن. سافرات الوجوه، حاسرات الشعور تكشف الملابس التي يرتدينها عن الاذرع والسيقان، وأحياناً عما هوأكثر من ذلك، خاصة في المسابح وشواطيء البحر، حيث تتعرى اجسادهن الا من ورقة التوت.
وتقام في ساحات المدينة وشوارعها حفلات الرقص والغناء في المناسبات والاعياد، حيث توزع الحكومة الطعام والشراب مجانا كما تقام في ملاعبها سباقات الخيل والسيارات ورياضات أخرى لا حصر لها. هذا غير المنتزهات والحدائق والمسارح ودور العرض السينمائي والاسواق والمتاجر الكبيرة الحافلة بكل ما تشتهي الأنفس من مطاعم ومشارب وفواكه في غير موسمها مجلوبة من مشارق الأرض ومغاربها. وحدائق الورد والنوافيرالتي بزغرد فيها الماء ويخرج في تشكيلات من كل الالون للترفيه عن الناس واشاعة البهجة في قلوبهم ويرسم خيال القرية صورة بهيجة لأهل طرابلس الاغنياء الذين يسكنون القصور ويرتدون البسة الحرير، ويأكلون بملاعق الذهب. ثم يأتي قبل هذا وذاك البحر الذي صنع اسطورة طرابلس، هذا المدى اللامتناهي من الماء الذي بهر كل من رآه من أهل قريتك، الذين يتشوقون لرؤية بركة صغيرة من الماء يصنعها المطر قبل ان تغور في الأرض ثم يشاهدون هذا البحر الزاخر بأمواجه العاتية والسفن تخُر عبابه يحضن مدينة طرابلس من ثلاث جهات. وقد كثرت حوله المتنزّهات والاحواض المخصصة لقوارب النزهة والشواطيء المخصصة للسباحة. هذا البحر الذي كان موضوعا لخرافات كنت تسمعها من سيدات العائلة قبل ان تنام عندما كنت طفلا. فجئت محملا بشوق عارم لكي تراه.
كنت وانت تسمع هذا الكلام عن المدينة تستطيع ان تفرز الحقيقة من الخيال وتعرف ان المدينة ليست كلها متنزّهات وملاه وقصور، ورقص وغناء واغذية توزع مجانا في الحفلات. وان هناك كدحاً وتعباً، وفقراً وبؤساً. وهناك عناء وجهد وعمل وذكاء لمن يريد تحقيق النجاح والثراء. وكنت مستعدا لبذل كل ما تستطيع تقديمه من جهد وكفاح لتحقيق النجاح في المدينة، مدركا ان مهمتك الأولى التي ستباشرها فور وصولك إليها هي العثور على عمل تصرف فيه نهارك كله. وتؤمن من خلاله مصدر رزق لك، تؤسس به لنفسك موقعا، وتصنع به جذورا فيها. لكي لا تطير مع أول هبة ريح. وتبدأ رحلة النمووالارتفاع باتجاه ما تسعى لنيله من رقي.
لم يكن لك قريب انتقل إلى المدينة قبلك واتخذها موطنا له كي تستطيع ان تذهب إليه، ليكون دليلك ومرشدك وعونك في أيامك الأولى. ومعنى ذلك انه لا عون ولا مرشد لك غير جهدك. كل ما تعرفه ان لمنطقة الواحات وكالة يقصدها الذاهبون إلى المدينة. ويتخذونها محطة واستراحة، تبدأ عندها وتنتهي إليها كل رحلة بين تلك الواحات والمدينة. اسمها وكالة الشوشان بقرب سوق الثلاثاء. وهي عبارة عن مساحة من الأرض مسورة بسور خشبي يستخدمونها موقفا للسيارات. ومكانا لتحميل البضائع، وفي ركن منها صنعوا كوخا من الصفيح والاخشاب ينام فيه من لا مكان لديه يذهب إليه. وكان مهما ان تطمئن منذ اللحظة الأولى التي أوصلتك فيها الشاحنة إلى وكالة الشوشان ان هناك موضعا لرأسك اثناء الليل في هذه الوكالة لا يكلفك نقودا.
كان أول ما باغتك وانت تبدأ التعرف على مدينة طرابلس ان الناس هنا يختلفون عن الناس في أولاد الشيخ يرتدون ازياء افرنجية غير تلك البذلة الشعبية التي يرتديها الناس في قريتك. ولهم سحنة ليست كسحنتهم مع اختلاف في لون البشرة الذي عهدته لونا اسمر لدى أهلك فوجدته فاتحا يميل إلى الحمرة هنا. ولم يكن صعبا ان تهتدي منذ اليوم الأول لوصولك لها ان طرابلس ليست كما كنت تعتقد مدينة عربية ليبية. فهي كما اكتشفت الان مدينة إيطالية بالدرجة الأولى. وهؤلاء الناس الذي صرت تقارن بينهم وبين أبناء قريتك ظنا منك انه يجمعهم نسب ليبي واحد ليسوليبيين وانما إيطاليون. لا يزاحمهم أي عنصر ليبي في ارتياد الشوارع الكبيرة، والجلوس في المقاهي والمطاعم الأنيقة، والتسوق في المتاجرة الفخمة الفاخرة. ويتحدثون في هذه الاماكن بلغتهم الإيطالية. ويصنعون طابعا إيطاليا للحياة لا علاقة له بالنسب العربي الذي تنتسب إليه مدينة طرابلس.
وحائرا طفقت تبحث عن أهل المدينة الليبيين وانت تعبر هذه الشوارع وتتفحص أوجه الجالسين على مقاهي الرصيف وتطوف بالاسواق والحوانيت والمتنزّهات دون ان تهتدي بينها إلى شارع عربي، أومقهى عربي، أومطعم عربي، أوحانوت يروده العرب، غير بعض الافراد القليلين الضائعين وسط هذا الزحام الإيطالي. حتى الاذان لم تسمعه الا في اليوم الثاني، بعد ان قضيت ليلتك الأولى في الوكالة، واكتشفت وانت تطوف الشوارع الخلفية، والحواري التي تحيط بالوكالة تبحث عن جامع للصلاة. ان هذه هي الشوارع التي يتوارى فيها الليبيون بعد ان استولى الإيطاليون على واجهات المدينة وشوارعها الكبيرة الجميلة المضيئة. اكتشفت أيضاً ان للمدينة عبيرها الخاص الذي استنشقته منذ اللحظة الأولى لوصولك إليها. وهوأكثر ما يكون وضوحا في الصباح دون ان تجد له رائحة معينة تسنده إليها، فهوخليط من روائح كثيرة. بحيث تجد فيه شيئا من عبق الورد وزهور الحدائق، مع شيء من رائحة الافران التي تصنع الكعك والحلويات. وقد تجد شيئا من رائحة الزيوت ومصانع الصابون، وشيئا من دكاكين العطارة واسواق الخضار، مع شيء مما يطهى في المطاعم ويعد في المقاهي، ويتم تحضيره في دكاكين الحجامين وأهل الطب الشعبي. انه أول شيء تتنسمه عندما تستيقظ. وتخرج لاستقبال الحياة فيها مدركا ان ما يعبق من هذه الاجواء ليس الا عطر الحياة ونكهتها لأنه لم يعد ينتمي لاي شيء آخر، غير الحياة في زخمها وشمولها وتنوعها. وبمثل ما للبشر والاسواق والشوارع والمنازل والميادين أشكالا لا تنتمي الا للمدينة، فان الأشجار أيضاً وسمتها المدينة بميسمها وجعلتها تظهر بمظهر يختلف عن شكلها في الريف بدءا من أشجار النخيل التي تعرفها وتفهما أكثر من أي أشجار أخرى، فوجدتها هنا أشجارا تختلف كثيرا عن تلك التي تنموفي القرية. لها سعف وجريد يبدوكانه مصنوع من مادة ورقية كأشجار الزينة في نوافذ العرض بالمتاجر الإيطالية. حتى جذوعها تبدوفاقدة لذلك اللحاء الخشن الذي تتميز به أشجار النخيل. انها هنا بلا الياف ولا كرناف وربما بلا ثمار أيضاً. فالهدف من وجودها الذي يستهدف تزيين الشارع يختلف عن وجودها في القرية كمصدر للرزق. وبعضها ولاسباب لها علاقة بحركة المرور تطلى جذوعها بطلاء ابيض يحتوى على مادة مشعة يجعل هذه الجذوع تلمع عندما يسقط عليها نورالشارع أونور السيارات ليلا.
اما الأشجار الأخرى التي تسمى أشجار الزينة فهي مشذبة مهذبة ذات لحاء ناعم واغصان وأوراق تتماتل وتتشابه وتتوالى بشكل هندسي تتضح فيه الصنعة والترتيب. وهما صفتان تتعارضان مع زخم الطبيعة وحريتها وفوضويتها كما تتمثل في أشجار الريف. ولعلهما تتعارضان أيضاً مع كبرياء الأشجار. فهي في الريف وفي البادية موجودة لاداء الوظيفة المتوخاة من وراء خلقها، ان تكون ذات نفع للناس والحيوان بينما الأشجار هنا لم تغرس الا لزينتها. ولأنها كذلك صار تشذيبها وتهذيبها وقص حوافها واطرافها وأظفارها عملا مستمرا. يقوم به عمال متفرغون لهذه المهمة لتبقى رشيقة انيقة جميلة. يضعون فوقها أوراق الزينة ويلصقون على جذوعها صور الممثلين والمغنين، وإعلانات العروض الفنية والافلام. ويعلقون في اغصانها المصابيح الملونة في الاعياد والافراح وهذا كل ما تريده المدينة منها.
تصادف مجيئك إلى المدينة مع عيد إيطالي لعله عيد ميلاد ملك من ملوكهم أوعيد وصوله إلى الحكم فابتهجت بالعيد وجعلته عيدا لوصولك انت إلى مدينة طرابلس. ودخولك مرحلة جديدة في حياتك. ودعت فيها حياة الفتى الريفي وانتقلت إلى حياة فتى من أبناء المدينة. رأيت في الساحة القريبة من وكالة الشوشان حشدا يتجمهر حول العاب ولاعبين فاتجهت إليه. كان احد اللاعبين يقف فوق منصة عالية وأمامه عجلة الحظ عجلة كبيرة مثبت فيها سهم، يدور فوق رقعة مليئة بالارقام من الواحد إلى المئة، وياتي الناس يراهنون على هذه الارقام بربح يصل إلى مئة ضعف لمن يساعده الحظ بان يكون صاحب الرقم الفائز الذي يقف عنده السهم. وهناك اناس يحملون سهاما ويلعبون لعبة التنشين، وفي اطراف الساحة ا راجيح واحصنة خشبية معروضة للركوب باسعار زهيدة ركبت الجياد والاراجيح، وشاركت بنصف ليرة في لعبة الحظ وخسرت دون ان تشعر بأية خيبة لأنك مستمتع بهذه الاجواء الاحتفالية الفراحية التي لا عهد لك بها في أولاد الشيخ. ثم ذهبت إلى جامع الباشا ورأيت المسجد العريق الكبير بابسطته الفاخرة وقبابه العالية ومنبره الجليل الفخيم والنقوش الجميلة التي تزين الاسقف والجدران، والايات التي كتبت داخل القباب بماء الذهب، فصرت تتعجب كيف ابقى الإيطاليون بكل ما يتميز به حكامهم من حماقة وعصبية هذا الصرح الاسلامي المهيب. فلم تصل إليه يد الايذاء والافساد والتخريب التي وصلت آلي منارات اسلامية بما في ذلك زاوية السني بأولاد الشيخ التي دمروا في احدى المعارك اسوراها واحرقوا باحدى القذائف مكتبتها.
ودخلت سوق الترك وسوق المشير وسوق الرباع: الاسواق الثلاثة الشهيرة التي تشكل عنوان هذه المدينة ويتحدث بذكرها الركبان جيلا بعد جيل. وعشت بهجة الاشكال والالوان التي يجيد صنعه االحرفيون من أبناء البلاد كما يجيدون رسمها فوق الصحون والاطباق والسروج. ورأيت وجها اخر لطرابلس العربية الاسلامية الليبية أكثر اشراقا من الحواري الفقيرة التي احزنك منظرها. وجه جميل يتجلى من خلال هذه الفنون والصناعات التقليدية والمحيط المتميز بطرازه المعماري الرفيع. تزينه أكثر من نافورة يتفجر منها الماء عاليا ويصنع اقواسا تتماشى مع اقواس أخرى مرسومة بالوان زرقاء فوق رخام النافورة. ورأيت في الباحات العامة حنفيات الماء التي اقامتها البلدية وتركتها مفتوحة على الدوام يردها الواردون من نساء ورجال ويأخذون كفايتهم. ثم يتركون الماء ينحدر في صهاريج نحوالبحر.
ثم وصلت بنفسك إلى البحر ورأيته وهويضرب جدران السرايا الحمراء. ورأيت لسانا صخريا محاذيا للسرايا يدخل وسط البحر. فتمشيت معه حتى صرت انت أيضاً في عمق البحر، تتراكض من حولك الأمواج، ويصيبك رذاذها بالبلل، وأنت في منتهى الانفعال والاثارة. نعم، لقد سمعت كثيرا عنه، وبأذن صاغية كنت تتلقف حكايات امك عن البحار السبعة التي اجتازها بطل الخرافة كي يصل إلى بنت السلطان. وحفظت الايات التي تتكلم عن البحر الذي ركب سيدنا الخضر في مراكبه. واذهلك ما حدث لنبي الله يونس الذي التقمه الحوت، وبقي في بطنه لا يحيا ولا يموت. وابتهجت لمصير فرعون وهويطارد سيدنا موسى الذي انشق البحر أمامه ليعبره مع قومه امنا سالما. بينما اطبقت أمواجه على فرعون وجنوده فاغرقهم وأهلكهم. ولكن خيالك لم يستطع ابدا الوصول إلى صورة البحر، كما تراها الان أمامك. ووجدت نفسك تقول لنفسك انه لم يكن غريبا ذلك الانبهار الذي يرتسم في ملامح وتعابير وأعين أبناء القرية عندما يتحدثون عن البحر الذي شاهدوه في طرابلس. لأن شعورك الان لم يكن اقل انبهارا وانفعالا منهم باعتبارك قادما من صحراء القيظ والعطش وندرة الماء مثلهم. انك تعرف انه ماء اجاج لا يصلح للشرب ولا لسقي الزرع. ومع ذلك تحس بنشوة وجود هذا الكم الهائل من الماء وهذا الموج الصاخب الذي يصنع رذاذاً كرذاذ المطر وهويضرب لسان اليابسة التي تقف فوقه. فتحس بجمال ذلك الاحساس الذي يعتريك، عندما كنت تخرج مع اترابك إلى الساحات العامة عند هطول المطر، ترقصون وأنتم تستقبلون على أوجهكم واجسامكم زخاته، وتغنون قائلين:
يا مطر ياخالتي
صبي على قطايتي
قطايتي مدهونة
بالزيت م الزيتونة
وقد جاء أهل المدينة يصنعون لأنفسهم. متنزهات على حافة البحر، كورنيش للنزهة، ومصايف يفرشون أرضها بالرمال ويستلقون فوقها بعد ان يأخذوا كفايتهم من السباحة. ولامر ما بدا لك كان البحر هوالوجه الاخر للصحراء. ذلك البون الشاسع من الرمال الحمراء مقابل هذا المدى من اقواس الموج الازرق المتوج بزبد ابيض. الممتد بلا انتهاء. كلاهما متاهة مخيفة يؤكدها القول السائر الذي يقول بانه لا شيء يعادل غدر البحر، الا غدر الصحراء.
كان يومك الأول في المدينة هويوم الدهشة والاكتشافK وكان اليوم الثاني هويوم الخوف من المجهول الذي صار يتنامي مع مجيءاليوم الثالث والرابع. هذا الشعور الذي داهمك منذ ان بدأت تطرق ابواب المكاتب والوكالات بحثا عن عمل كتابي تقوم به. لتكتشف بانه لا احد بحاجة لمعارفك في اللغة العربية، فكل المعاملات التجارية التي تتم في الاسواق، والأخرى التي تتم مع الادارات الحكومية، تتم فقط باللغة الإيطالية ولا وجود لوظائف في مثل هذه الاماكن أوغيرها، لمن لا يجيد هذه اللغة قراءة وكتابة. كان الطعام الذي تستطيع شراءه في المدينة، هورغيف خبز مع كؤوس الشاي، لأن أي طعام افضل من هذا، كان سيقضى على نقودك في يوم واحد. اذ تمضي إلى الباب الجديد حيث محطة العربات التي تجرها الخيول وهناك تنتصب حلقة شاربي الشاي الذين يجلسون في دائرة على الحصران حول رجل يجلس أمام موقد النار يُعِدُّ الشاي في ابريق كبير، ويوزع على الجالسين ثلاث دورات من الشاي الأحمر في اكواب صغيرة انيقة. تجلس معهم وترتشف كؤوس الشاي مثلهم. وتاتي الكاس الاخيرة مخلوطة بالفول السوداني المحمص. وتكون قبل ذلك قد اشتريت رغيفا ساخنا من فرن قريب يتفنن صاحبه العربي في صنع انواع فاخرة من الخبز الإيطالي لا يحلم احد في قريتك بالحصول عليه. فتملأ معدتك بالخبز والشاي الذي لايكلفك أكثر من فرنك واحد. نصفه للشاي ونصفه الثاني للرغيف
وتستانف مسيرك في شوارع المدينة باحثا عن عمل. وتعود أحياناً إلى نفس الشركة أوالوكالة مدركا الجواب الذي ينتظرك. ومع ذلك تسعى وتحاول ولا تفقد الامل. وتنسى نفسك أحياناً أمام مشهد صبية إيطالية تسير في شارع الملك فيتوريوايمانويل عارية الذراعين تنضح اغراء وجنسا، فتمشي بضع خطوات وراءها. ثم تذكر الحال الذي أنت فيه، قائلا لنفسك إنَّ النظر إلى الجمال بحد ذاته ترف لا يليق بك قبل تأمين مورد لرزقك، ومكان لاقامتك في هذه المدينة. كان الرعب قد بدا يجتاحك وأنت تستيقظ في صبيحة يومك الرابع، وتجد انه لم يبق معك من نقود غير فرنكين، يكفيان لشراء رغيف ودورة شاي لوجبتي هذا اليوم. وتضع أمامك سؤالا له شكل ثعبان يتلوى فاتحا فمه يسد عليك الطريق، وهوماذا تستطيع أن تفعل غدا ان لم تجد عملا منذ الان؟ ومن سيعطيك الفرنك الذي تشتري به الرغيف أوكأس الشاي. ذهبت تبحث عن مهن أكثر وضاعة راجيا ان تجد فيها مكانا، بما في ذلك اسواق الحبوب والخضار. راضيا بالعمل حمالاً أوعساسا في مخزن من مخازنها، ولكن دون جدوى، وعدت مع الليل منهكا، تحاول ان تجد مكانا بين النائمين فوق حصران وكالة الشوشان.
وتسللت إليك اشعة شمس اليوم الخامس، من شقوق الواح الخشب وصفائح الحديد في الوكالة وأنت لا تملك ليرة واحدة. القميص الذي جئت به جديدا بدأ يتسخ وتسود ياقته. وعلقت بعض أوحال الطريق بطرف سروالك العربي فلم يبق غير الصديري يعطيك مظهرا لائقا إلى حد ما. تقابل به ارباب الوكالات والدكاكين الذين تطلب لديهم عملا. انك لا تدري كيف تجد وقتا تغسل فيه قميصك، الذي لا تلمك قميصا سواه. اذ تستطيع لووجدت لغسله وقتا ان تبقى ملتحفا في العباءة حتى يجف وهوامر لن يحدث الا بعد ان تطمئن إلى وجود عمل مهما كان حقيرا. انه افضل من الوقوف أمام الجامع طالبا حسنة لله، يكفي ان يدر عليك دخلا لشراء رغيف خبز حاف، فهذا كل ما تريده الان. لن يكون صعبا ان تبدأ يومك بلا شاي ولا افطار. ولكن ماذا عن وجبتي الغذاء والعشاء، ان لم تجد عملا. وماذا عن يوم الغد والذي يليه وأنت مزقت الحبال التي تربطك بالقرية ولامجال للعودة إليها. وهوامر لا يعرفه بعض قاطني وكالة الشوشان ممن اشفقوا عليك وهويرون الحالة التى وصلت اليها والتي لا يجدون لها علاجا الا ان تعود الى اهلك في اولاد الشيخ. فيفاتحونك في هذا الموضوع. وعندما يجدون منك اصرار على القاء في المدينة، والاستمرار في هذه المعاناة
التي تصادفها كل يوم ينظرون الى بعضهم بعض ويهزون رؤؤسهم وهويدندنون الاغنية الشعبية التي تقول
ـ ناديت يا حمد هيه
 فات الدكاكين غادي
 ومن ضاق خبز المدينة
 ما عاد يألف ابادي
دون ان تسطيع ان تشرح لهم ان القضية مختلفة وانك لست انت الذي يرفض العودة الى القرية ولكن القرية هي التي لفظتك. وليس مستعدة لاستقبالك من جديد. وعليك ان تواجه مصيرك في المدينة باية طريقة وباي اسلوب لان معنى ان تقول هذا الكلام ان تقوم بعملية تشهير بنفسك وانت الذي افرحك ان تجد قصة خروجك هاربا من القرية لم تكن معروفة لدى هؤ لاء الناس. تحرش بك بعض العتالين عندما ذهبت إلى سوق الثلاثاء
وحاولت ان تمد يدك إلى الاشولة وصناديق البضائع التي يشحنونها فوق عربة شريول حتى هؤلاء في مهنتهم الوضيعة يطردونك ويجدون فيما تفعله اعتداء على رزقهم. وبلهجة قاسية غليظة طلبوا منك ان تبحث عن حظك في مكان آخر. كنت اثناء مرورك بهذه الاسواق الشعبية تجد اناسا يتحلقون حول قصاع الطعام فتنظر متحسرا إليهم ثم تغض من بصرك وتمضي لأن المزيد من النظر لن يزيدك الا جوعا. كان بامكانك ان تجد حبة طماطم في سوق الثلاثاء ملقاة فوق الأرض تجعلها افطارا لك. ولكن نفسك عافت التقاط مثل هذه الحبة الممزوجة بالتراب.
ومضى النهار كله دون ان تتناول طعاما. وجاء الليل فبدأت تحس بتقلصات في المعدة فالالم لم يعد الم الاحساس بالجوع فقط، وانما ألماً آخر كأنه كماشة تمسك بالامعاء. يحدث ذلك للحظات قصيرة مؤلمة ثم يختفي ليعود أكثر إيلامًا، وهكذا فلابد من طعام مهما كان شكله يوقف هذا العذاب، إلى حد ان فكرت في قطف أوراق أية شجرة تصادفك من أشجار الطريق المغروسة للزينة وتمضغها لكي توقف انقباضات المعدة ولكنك خشيت ان تزيدها سوءا بدل ايقافها. تذكرت ان هذا الالم لا يحدث نتيجة لصيام هذا اليوم فقط وانما لصيام أيام اربعة قبله لم يدخل فيها معدتك طعام ساخن أوبارد غير رغيف الخبز وكوب الشاي. وقد اصبح هذان الاثنان رغم فقرهما من الناحية الغذائية مطلبا عسير المنال. ومع ذلك اتجهت إلى حلقة الشاي وإلى الصانع الذي يضيء الان فنارة بجوار موقد النار. يرى على نورها عدة الشاي ويضع فوق رأسه عمامة يتقي بها ندى الليل.
انه شهر ابريل والربيع مازال في أوله إلا أن الطقس الربيعي الصباحي لا يصمد أمام أمواج الصقيع الليلي الذي يحيل الجوإلى شتاء وقد كنت تشعر به قاسيا مؤلما اثناء عودتك إلى الوكالة والارتماء فوق حصير مهترىء. تضع ركبتيك في صدرك وتحاول ان تتقي البرد بعباءتك التي تنتمي إلى النوع الجريدي الخفيف فلا تفلح مما يرغمك على ان تستعين بأوراق الكرتون التي تغلف بها البضائع، تغلف بها جسمك. جئت هذه المرة إلى حلقة الشاي دون نقود بامل ان تحصل من صاحبها على كوب شاي بالدفع المؤجل ولأن احتساء الشاي وحده لن يزيدك الا الما في المعدة. فستسعى لأن يقرضك خمسين بارة تشتري بها رغيفا يحذوك امل كبير بان يلبي الرجل طلبك، فقد شعرت منذ أول يوم جلست في حلقته انه يتعاطف معك مما حذا بك لمداومة المجيء الي هذه الحلقة دون غيرها من حلقات صانعي الشاي، حتى نما بينكما نوع من المعرفة وصار يناديك باسمك وهويمد لك كأس الشاي. في حين تناديه أنت عمي الشارف فلماذا تبدوخائفا مرتعبا متهيبا من الموقف كأنك ستسأله عن يد ابنته وليس عن فرنك ستعيده إليه. انه خيار افضل من الجوع واكرم من التسول ومع ذلك تجد المهمة صعبة. لأنها أول مرة في حياتك تطلب فيها نقودا من إنسان غريب.
بقيت مترددا لفترة من الوقت تنقل بصرك بين الجالسين في الحلقة قبل ان تتقدم منه زاحفا فوق الأرض لكي لا تداهمه مداهمة فيفزع منك، ويشعر الناس بمحنتك. صرت تقترب منه ببطء شديد وحركة لا يشعر بها احد حتى وضعت كتفك بجوار كتفه وفمك بجوار أذنه، وبلعت ريقك ألف مرة وقرأت سورتى الفاتحة والاخلاص في سرك لكي لا يخيب مسعاك لديه ثم توكلت على الله مستهلا حديثك بتحيته. إلا أن العمامة التي احاط بها رأسه كانت تغطي اذنية. تمنع الصوت الهامس الذي تكلمت به من الوصول إليه فاضطررت مرغما إلى رفع صوتك مجازفا بان يكتشف امرك كل هؤلاء الناس الذين يتحلقون حوله ويمدون ابصارهم وآذانهم لمعرفة ما تريده من الرجل لكن الجوع كافر كما يقولون، مما جعلك تقول له في كلمات سريعة ما جئت من أجله، فلم يرد عليك بشيء عدا انه رفع رأسه وصاح مناديا:
ـ يوسف
فاطل من فوق رؤوس الجالسين ابنه الذي يساعده في توزيع كؤوس الشاي وهوفتى في منتصف العقد الثاني من عمره. وقال له جملة لم تعرف ما يقصد منها، رغم انك سمعتها كاملة وهي
ـ خذ الرجل إلى كوشة عبد الله
اخذك الصبي الى الفرن الملتصق بسور المدينة في الجهة المقابلة، كان عبد الله صاحب الفرن قد فرغ لتوه من وضع ما اعده من ارغفة في معالف أمام الفرن، يعاونه صبي أسود اللون يستقبل الزبائن، ويناولهم الارغفة ويأخذ منهم النقود، ويضعها في درج بجواره. وعند مدخل الكوشة جاء رجل ينوء بحمل ثقيل من الحطب والقش. وضعه فوق كومة أخرى من الاحطاب. ومد صحب الفرن يده الى الدرج ليمنح الحطاب بعض النقود، ويسأله ان يبقى لبضع لحظات، ثم التفت إليك يضع بين يديك رغيف خبز ساخن وهويقول:
ـ هل أنت حقا تبحث عن عمل
قلت بفم احترق من القضمة الأولى التى اخذتها من الرغيف:
ــ نعم نعم!
                            (4)
وفي اليوم التالي أصبح جمع القش والاحطاب من الحدائق العامة ومجمعات القمامة والغابات المحيطة بالمدينة ونقلها إلى كوشة عبد الله هوعملك اليومي الذي تؤديه كل صباح. كان رعي الشياه في أودية أولاد الشيخ وشعابها اهون عليك من ان تتحول إلى بائع قش في المدينة. ولكن الفرق بين هذه وتلك هوان رعي الاغنام هناك قدر تبقى في اسره إلى آخر العمر بينما جمع الاحطاب هنا مجرد محطة تعينك على اجتياز العتبات الأولى للحياة في المدينة. فمضيت تمارس مهنتك الجديدة بهذا الاحساس ودون حماس كما يفعل اخرون يجدون فيها فرصة العمر. وبينهم الرجل الذي قادك إلى الغابة لأول مرة، فهومثلك قادم من الرياف إلا أنه يجد في هذا العمل فرصة لجمع بعض المال حتى لواستغرق في جمعه عقدا من الزمان. يعود بعده لفتح دكان بقالة أوفرن في قريته، ولذلك فهويعمل فترتين. واحدة يقوم لها مع الفجر والثانية يعود لها بعد الظهر. فيقضي فيها وقته حتى حلول الظلام. بينما اكتفيت أنت بفترة واحدة هي فترة الصباح.لأن الهدف هوعمل يسد أودك لمدة مؤقتة إلى ان تجد عملا يليق بمستواك التعليمي الذي لا يملكه هؤلاء الناس حيث تنهض مع أذان الفجر فتؤدي الصلاة مع الجماعة في مسجد السنوسية. وتذهب إلى الغابة وماجاورها من مقالب القماقمة فلا تعود الا مع منتصف النهار لتقبض فرنكاتك الأربعة ويبقى وقت ما بعد الظهر شاغرا تستغله في قضاء بعض شئونك، مثل غسل ملابسك واستلفت من صاحب الفرن فرنكات إضافية لشراء جلباب يصلح لمهنتك الجديدة، حرصا على بقاء الملابس التي جئت بها من القرية سليمة. كما يتيح لك هذا الوقت الشاغر فرصة للبحث عن عمل اقل هوانا ومشقة يكون جديرا برجل يحفظ كتاب الله.
لقد ضمنت الان مبلغا يسد حاجاتك الأساسية. ومازال بامكان وكالة الشوشان ان تقدم لك مكانا للنوم لبضعة أيام اخرى لأنها ليست مكانا للاقامة الدائمة، وانما هي مأوى لعابري السبيل وكفى. وستجد إذا طال بك المقام لأكثر من أسبوعين من ينبهك إلى ضرورة ان تبحث عن مكان آخر لنومك. تابعت الطواف بالمغازات الكبيرة لعلها تحتاج إلى عامل حسابات أومعاون في البيع والشراء وأخذ مقاسات الزبائن كما ذهبت إلى المطاعم والمقاهي لعلها تحتاج إلى نادل دون فائدة. ثم رأيت اثنا ء احدى جولاتك جنازة يتجه بها الناس إلى المقبرة. فتذكرت ان هناك بين الاضرحة وشواهد القبور، عملا لا يتقنه الا قلة من الناس أنت واحد منهم، ومآتم تقام من أجل الموتى حديثا، تحتاج لمن يقرأ فيها سورة يس تبركا ورحمة، من حملة كتاب الله مثلك. فذهبت مسرعا إلى مقبرة سيدي منيدر. وبادرت بالجلوس أمام أول قبر رأيتهم يدخلون إليه صاحبه. ودون ان تعرف من هوالذي مات أوتطلب اذنا من أهله. مضيت ترفع عقيرتك بترتيل سورة يس. وانطلق صوتك مجلجلا يضفي لمسة جلال على الموت. ويزرع في قلوب أهل الميت ورفاقه شيئا من الهدوء والسكينة. وترى الناس ينصتون إليك في صمت واعجاب. فتزداد وثوقا من ان أهل الميت سيجزلون لك العطاء. ولكن طقوس الدفن تنتهي ويخرج مرافقوالميت من المقبرة. ويتركونك وحدك دون ان يكلفوا خاطرهم بوضع فرنك في يدك. ويكون كل ما فزت به بعض عبارات الشكر والثناء، التي لا تصحبها أية نقود.
تكرر معك الأمر لمرة ثانية وثالثة قبل ان تعرف ان الناس لا يأخذون ثمنا مقابل قراءة القرآن، وما حسبته مصدرا اضافيا للدخل، لن تنال مقابله غير كلمات يترحم بها أهل الميت على اسلافك الموتى. عرفت هذا من رجل عثرت عليه صدفة من أبناء قريتك اسمه عبد المولى، كنت قد خرجت بعد صلاة العصر، مع أهل الميت من جامع ميزران، لكي تذهب مع الجنازة إلى المقبرة. وفوجئت وأنت ترتدي نعليك في عتبة باب الجامع بهذا الرجل يرتدي جلبابا طويلا مما يرتديه دراويش العيساوية. ويضع حول رأسه عمامة بيضاء ويمسك بيده عكازا ويمد يده الأخرى يطلب احسانا من رواد الجامع. اراد عندما رآك ان يخفي وجهه خلف الطرف المتدلي من عمامته، ويدير جسده إلى الحائط بعيدا عنك. لكنك كنت غشيما فلم تفهم انه يريد مداراة عار التسول عنك، وقفزت نحوه تأخذ بيده الممدودة لمصافحتها فرحا بالاهتداء إلى واحد من أهل قريتك بعد أسبوعين من وجودك في مدينة لا تعرف فيها احدا. متحسرا في نفس الوقت لحاله وهويقف موقف الشحاذ بعد ان كان تاجرا كبيرا يفخربه أهله في أولاد الشيخ. وتسأله في فضول وحرقة عما أوصله إلى هذا الحال. فيهز رأسه مؤجلا الاجابة إلى حين آخر. تربطك بالرجل صلة عائلية بعيدة هي تلك التي تربط كل أهل القرية بعضهم ببعض فكلهم ينتمون للجذر الأول وهوالشيخ الكبير صاحب الضريح المشهور في البلدة. ومعنى ذلك ان عبد المولى مثلك ابن من أبناء الشيخ. ما يعيبه يعيبك وما يرفع من مقامه يرفع من مقامك. ولم تكن ابد ا تعلم ولا احد في أولاد الشيخ يعلم انه موجود في مدينة طرابلس.
اذ انه اشاع عن نفسه انه يتاجر بالاقمشة والملابس وينقلها من فزان إلى كانووكانم ومدن افريقية أخرى يجلب مها العاج وريش النعام وبيضه وذهب في اذهان الجميع انه في واحدة من اسفاره النائية في مجاهل القارة الافريقية. وما كان ابدا يخطر ببالك انك ستلاقي هذا التاجر الكبير الكريم. يحترف التسول أمام جامع ميزران. فأنت تعرف اسرته وتعرف ان له زوجة وثلاثة اطفال يعيشون حياة يسر وهناء. يرتدون في الاعياد البسة جديدة. ويملكون كرة من المطاط يلعبون بها، ويتطلع اطفال القرية لمشاركتهم اللعب بها، لأنهم لا يملكون غير كرات مصنوعة من الخيش. وعندما تذكر العائلات التي تأكل وجبة باللحم كل أسبوع تحسب عائلة عبد المولى ضمن هذه العائلات الميسورة المحظوظة. فكيف تراه استطاع ان يجعل اسرته تعيش حياة الوجهاء والاغنياء، برغم الموقع الذليل الذي يحتله في المدينة. انك تدرك الان انه لم يكن في حياته اسفار ولا تجارة. ولا عاج ولا ريش ولا نعام، وانما هي حيلة يتجنب بها التعزير والاحتقار. فهل تستطيع مهنة التسول حقا ان تجلب لصاحبها مالا يغدقه على أولاده بهذا الشكل؟
سار أمامك وأنت خلفه حتى عبر بك المباني الحديثه ومنطقة بومشماشة وبوهريده إلى منطقة سيدي خليفة. ومن بعده الى حزام الاكواخ في بورتا عكارة وإلى حي من الزرائب وعلب الصفيح حيث ابتنى لنفسه كوخا من الواح صدئة، يقيم فيه بمفرده كان حديد الكوخ عندما وصلتما إليه مازال ساخنا يختزن قيظ الظهيرة، دخلت مطأطىء الرأس لكي لا يجرح الحديد الناتيء رأسك إلى هذه العلبة الحديدية، وقد احسست بضيقها وحرها يكتمان على قلبك. كنت تريد ان تسأله مرة أخرى لماذا ارتضى لنفسه هذه الحياة، ولكنه بادرك هوبالسؤال متجاهلا ما يتجلى في عينيك من فضول، وما بدا على وجهك من تحفز لطرح الاسئلة قائلا في حدة وغضب:
ـ لماذا تركت أولاد الشيخ وجئت آلي هذه المدينة؟
قالها وهويقبض بيديه الاثنتين على كتفيك ويهزهما بعنف، كأنك ارتكبت اثما عظيما، ناسيا ما يتضمنه الموقف من مفارقة. فالاجدر به ان يوجه هذا السؤال إلى نفسه قبل ان يتوجه به إليك. ولكنك تدرك من كل ما رأيته، انه فعلا يتوجه بالسؤال لنفسه أيضاً، ويقول من خلاله انه جاء مرغما إلى هذه المدينة، لينال على يدها المهانة والمذلة. جاء وهويعرف انه لا مكان له أولك هنا. انه عالم هؤلاء الوافدين من إيطاليا يصنعونه لأنفسهم ليلائم مقاسهم ويستمتعون به وحدهم، ولا يقبلون باحد من أهل البلاد معهم. الا في دور العميل أوفي دور الخادم أوالشحاذ. جاء عبد المولى إلى طرابلس بعد ان نفق جمله الذي كان يستخدمه في نقل السلع بين جنوب البلاد وشمالها ولأنه لم يكن يملك مالا يكفي لشراء جمل آخر وقع في مأزق لم يجد له حلا الا بالسفر والاختفاء من القرية. لقد تعودت اسرته على حياة الرخاء التي استطاع توفيرها لها خلال عمله في تجارة الصحراء وارتحل إلى مدينة طرابلس بحثا عن فرصة لاستئناف عمله في مجال التجارة والانخراط في أي عمل مؤقت يؤمن له ثمن الجمل الذي يحتاجه. انتقل بين مهن كثيرة، لكن هذه المهن التي كانت تجلب له دخلا يسد الرمق، لم تكن تترك فائضا يرسله لاسرته، فصار يسعى للحصول على هذا الفائض من طريق الاحسان يشتغل في النهار عتالا في الميناء. أوعامل بناء بالاجر اليومي، أويقطع الحجر في مقلع حجارة الظهرة، ومتلفعا بالظلام ياتي عقب صلاتي المغرب والعشاء، يتربص بالخارجين من المساجد، مستجديا منهم حسنة لله يرسلها لاطفاله في القرية، وتحت تأثير رجل من أهل البادية جاء إلى المدينة للعمل، وانتهى به المطاف شحاذا.
وجد نفسه يذهب إلى مكان آخر افهمه هذا الرفيق ان به بشرا كثر جودا وكرما مع البؤساء والشحاذين من رواد المساجد هم رواد النادي الليلي بسوق المشير. ولأن السهر أمام النادي الليلي انتظارًا لخروج الزبائن كان يمتد إلى الساعات الصغيرة من صباح اليوم التالي، فقد صار متعذرا عليه الاستيقاظ لعمل الميناء أومقطع الحجارة. فتفرغ تفرغا كاملا للتسول بعد ان انسته العادة ما فيه من مذلة وهوان. فلا يذكر إلا أنه يدر رزقا وفيرا دون عناء ولا مشقة. رأيت الرجل ينخرط أمامك في بكاء مرير، قبل ان يكمل سرد قصته فلم تجد شيئا تقوله لمواساته. واكتفيت بالصمت والاسى. لقد اشاع عن نفسه أنه يتاجر في المناطق الصحراوية الواقعة بين فزان والعمق الافريقي، ناسيا ان وجوده أمام مساجد طرابلس يستجدي المصلين، ليلا ونهارا، لن يبقى خافيا لمدة طويلة عن أعين أهل قريته، وهولا يستطيع ان يرجع إليها أويجد عملا بها، أوبمكان غيرها يدر عليه دخلا كهذا الذي يجنيه من التسول.
يواصل عبد المولى النشيج وهويخبرك بانه يثق بك ويعرف انك سوف تتستر عليه، ولن تخبر احدا في أولاد الشيخ بالحال الذي وجدته عليه، فتسبب له الفضيحة والاحساس بالخزي لدى أولاده، انك طبعا لن تفعل ذلك، ولكنك لا تستطيع ان تضمن بان اناسا اخرين، يزورون المدينة سيتسترون عليه إذا رأوه في هذا الموقف، لقد رفض لسنوات عديدة ان يدخل شرطيا أوجنديا مع الطليان. برغم المرتب المضمون ولكنه الان قد يجد نفسه مرغما على الذهاب إليهم. فالعمل معهم والانخراط في جيشهم أوشرطتهم. لم يعد يعني خيانة للوطن كما كان الحال في سنوات المقاومة والاحتراب، عندما كان المواطن يخشى ان يجد نفسه في الجبهة يرفع السلاح ضد اخوته المجاهدين. اما الان وقد انتهت المقاومة فقد زال هذا الخطر وما عاد العمل مع الطليان يجلب العار لصاحبه. فأخبرته بان أهل القرية مازالوا رغم استسلامهم لواقع الحياة تحت الاحتلال يعتبرون الانخراط في العمل العسكري الإيطالي شيئا مرذولا ومكروها وصاحبه منبوذا مذموما. وعبرت له عن رأيك في هذا الاختيار الصعب اللعين الذي يمكن للإنسان ان يجد فيه نفسه، بين مذلة التسول وعار الالتحاق جنديا مع الطليان، فإذا بالرجل ينتفض صارخا في وجهك. بان هذه اللعنة ستطاردك أنت أيضاً إذا لم تعد فورا إلى أولاد الشيخ. وستجد نفسك في مثل هذا الموقف تواجه خيارا صعبا بين التسول أوارتداء الملابس العسكرية الإيطالية. فقلت بلهجة واثقة:
ــ لعل الموت اهون من كليهما
نطقت بهذه العبارة ثم ندمت عليها. فالموقف حافل بكل معاني البؤس والمهانة. ولم يكن يحتاج لمزيد منهما ان لم يكن من أجل نفسك. فمن أجل الرجل الذي يتمزق مذلة وتعاسة أمامك. بادر عبد المولى إلى القول:
ــ بامكانك ان تقتل نفسك كما تشاء
لأن الانتحار في هذه الحالة عمل لا يقدر عليه الا العزاب امثالك. اما انا فما هي جناية كدس من الصغار سأتركهم ورائي. انهم لحمي هم أيضاً فكيف اقتل نصفي واترك نصفي يتعذب
كانت العتمة قد بدأت تغزوالمكان. ترافقها انسام طرية تبدد حر النهار. فاخرج الرجل حصيرة وطرحها أمام الكوخ. ورش قليلا من الماء حول الحصيرة لتهدئة التراب. الذي يمكن ان تثيره اقدام عابري الطريق واطفال الجيران. ودعاك إلى الجلوس بجواره، وهوينشغل باشعال موقد النار لاعداد الشاي. هدأ الغبار ولكن الماء الذي رش به الأرض صنع غدرانا صغيرة، صار يتناثر رذاذاها ويصل آلي وجهك، كلما داسها اطفال يطارد بعضهم بعضا. ظل الموقد يصنع دخانا كثيفا، والرجل ينفخ الموقد مستعينا بقطعة ورق مقوى على إذكاء النار وضع سخان الشاي فوق الموقد ودخل إلى الكوخ. وخرج منه يحمل المخلاة التي يستعملها في التسول، أفرغ كل محتوياتها فوق قطعة قماش. فتناثرت حبات تين مجفف وتمر وثلاث قطع من الخبز، ورؤوس بصل وجزر وخياروفلفل وحبتي طماطم مدهوستين. وحفنة فول سوداني غير مقشر. قام بفرز كل صنف على حده وأحضر صحنا وسكينا لتقطيع البصل وحبتي الطماطم. وبعض الخيار والفلفل الأخضر يصنع بها طبقا من السلطة الخضراء، التي يسميها أهل المدينة "شرمولة " ويجعلونها الطعام االمفضل لوجبة العشاء. ووضع أمامك الشاي وناولك قطعة الخبز. وهويدعوك لتشاركه الطعام قائلا:
ـ الخير كثير كما ترى، هيا لا تنكسف، وكل ما تريد.
عافت نفسك طعامه وشرابه، خاصة بعد ان مر قطيع شياه يسوقه راع صغير فاثار بقايا الماء، ووصل رذاذه إليكما وحطت قطرات منه في صحن الشرمولة. لم تطاوعك يدك على ان تمتد لتناول هذا الخير الكثير كما يسميه عبد المولى. اثار منظر الطعام وطريقة عبد المولى في التهامه. وارتشاف الشاي بصوت عال مع كل لقمة، امعاءك الفارغة. فدارت في جوفك دورة لها صخب عظيم. انها تستغيت وتطلب طعاما غير هذا الطعام
ــ الخير كثير كما ترى
رنت الجملة رنينا فظيعا في رأسك. بدا وكأن الرجل يتباهى بحصيلة ما جمعه عن طريق التسول. اثار ذلك كله اشمئزازك فنهضت واقفا. تركته وعدت مسرعا إلى وكالة الشوشان. تعرف انك استنفدت حقك في استخدام الوكالة للنوم. وقد قالها لك احد سائقي الشاحنات. ممن يتناوبون الاشراف على الوكالة. بانك لن تستطيع ان تبقى أكثر من يوم أواثنين بحد أقصى. وبات محتما عليك ان تجد خلال هذا الوقت القصير حفرة تأويك أوشقا في جدار من جدران المدينة تقيم فيه. انك لن تكون اهون عزما من الفئران والسحالى والقطط وسائر الكائنات التي تتخذ من المدينة مقرا لها. ذهبت بعد مشوار الحطب في جولتك اليومية باحثا عن عمل دون ان تنسى مشكلة السكن. وجدت في كوشة الصفار رجلا كابيا على صنع الاحذية. يرفع رأسه إليك وينظر متفرسا في وجهك بعينين ضيقتين. لحظة ان وقفت أمام دكانه تتأمل جمال النعال الشرقية، ذات الزخارف الكثيرة التي يعرضها فوق رف خشبي أمام الدكان. وتسأل بطريقة روتينية صرت لا ترجومنها طائلاً. عما إذا كان لديه عمل لك. وقبل ان يقول لك أي شيء اشتغل حدسك. ورأيت كأن هذا الرجل بنظراته الابوية الحانية. هومن كنت تبحث عنه وستجد عنده حلا لمشاكلك. وتأكد حدسك عندما قال لك وهويأخذ مسمارا من بين شفتيه ويدقه في كعب الحذاء الموضوع داخل قالب القدم الحديدي:
ـ أنت من اين يا ولد؟
لأول مرة تسمع ردا لا يحمل معنى الرفض منذ الكلمة الأولى. الرجل يسألك لاي قرية أومدينة تنتمي فهواذن مهتم بامرك. ويفتح بابا للحديث والتعارف معك. رأيت أمامه كرسيا يستخدمه الزبائن. عندما يأخذ لهم مقاس اقدامهم. فاحسست ان من حقك بعد هذا السؤال ان تستخدمه. جلست بعد ان صافحته وقلت ردا على سؤاله:
ــ اسمي عثمان الشيخ وقريتي هي أولاد الشيخ جنوب الجبل الغربي
ــ ومن لا يعرف أولاد الشيخ يكفي بلدتكم انها انجبت بطلا هو"الفورتي".
كان هذا هواللقب الذي أطلقه الناس على قاطع طريق دوخ الحكومة في السنوات الاخيرة. انتهت حرب الإيطاليين مع المجاهدين. فإذا بقاطع طريق يشن عليهم حربا يديرها بمفرده. ويستولى على السيارات المحملة بالسلع الذاهبة إلى الجنوب. ويوزع بعض هذه السلع التي يسطوعليها على فقراء المناطق الصحراوية من أهل عشيرته. فاعتبره الناس بطلا واسموه باللغة الإيطالية الفورتي. قبل ان يسقط على ايدي قوة كبيرة من الشرطه. ويقودونه إلى المحاكمة في المدينة وإلى سجن طويل الامد
ـ هل أنت من الجهة القبلية أوالبحرية في أولاد الشيخ
ادركت ان الرجل خبير بالبلدة فلا احد غير أهلها، أوممن يعرفونها معرفة وثيقة يدرك ان لهذه البيوت الطينية، الجبسية، المندمجة في بعضها البعض جهة قبلية وأخرى بحرية
ـ من الواضح يا شيخ أنك تعرف أولاد الشيخ جيدا. انني من أهل الجهة البحرية.
ــ اذن فأنت من شاربي حليب الحمير.
في أيام الخصومات التي تنشب بين قسمي البلاد أطلق أهل الجهة القبلية شائعة تقول بان أهل االجهة البحرية يشربون لبن الحمير الذي أورثهم البلادة والحماقة وقلة العقل. ضحكت عندما رأيته يضحك ويتبسط معك في الحديث، إلا أن شيئا من القلق صار يعتريك بسبب هذا الحديث الذي يربط بينك وبين قطاع الطرق وأبناء الحمير بالرضاعة. فهولا يصلح لتزكيتك في عمل يتطلب الثقة والامانة والذكاء. ارتحت قليلا عندما سألك ان كنت تعرف القراءة والكتابة. لأنه يحتاجك في تسجيل اسماء العملاء الذين يداينهم ويداينونه، وعندما قلت له انك اكملت الدراسة القرآنية، ظهرت على وجه علامات الرضا والارتياح دون ان يقول شيئا. وجاء على ذكر بعض التجار المعروفين من أهل البلدة الذين سبق ان تعامل معهم فوجدهم مثالا للامانة والنزاهة واشار إلى اسماء ثلاثة منهم فابلغته بانك تعرفهم، وان كل أهل القرية هم أبناء عمومة بالنسبة لك، ومعنى ذلك ان حتى هؤلاء التجار هم من اقربائك
ـ استطيع اذن ان اشتكيك إليهم إذا اهملت في عملك
لم تقل له ان التجار الثلاثة الذين ذكر اسماءهم قد انتقلوا إلى رحمة الله فقد كنت سعيدا إلى حد ان كدت تقوم من مقعدك وتـنكفي على يديه تقبلهما شكرا وامتنانا لأنه قبل بك عاملا في دكانه دون ان تسأله عن مقدار الاجر انها دكانة صغيرة بحجم الكف ولكن لا يهم. ستقضي الساعات الطوال وأنت محني الظهر والعنق. تضع المسامير في فمك كما يفعل هذا الرجل الذي نبتت في ظهره حدبة من كثرة الانحناء. لتدق هذه المسامير الدقيقة في كعوب وحواف الاحذية لايهم. فهذا هوموضع القدم الذي اعياك البحث عنه. حتى جاءت هذه القدم الحديدية المنتصبة أمام صاحب الدكان ترشدك إليه. عرفت فيما بعد ان الصانع الذي كان معه، واسمه فتحي اكترى لنفسه دكانة خاصة به في الشارع الغربي، فانعش هذا أحلامك بان تكون أنت نفسك صاحب دكان لصنع الاحذية تستخدم صانعا معك. تأملت الدكان الصغير، انه انيق جميل يتخصص صاحبه في صنع نوع من الاحذية الطرابلسية ذات النقوش والزخارف الكثيرة نسائية ورجالية لها ورود زاهية الألوان مصنوعة من شاش رقيق شفاف تزينها وتمنحها شكلا متميزا يعلقها حوله ويغطي بها كل الجدران ويجلس بينها كانه وسط حديقة ورد وليس داخل دكان احذية. ويضع بعضا منها في رف خشبي ملصق في واجهة الدكان على يمين الباب ورف آخر على شمال الباب، فيبدوالدكان وكأنه غرفة في متحف المصنوعات التقليدية. وددت لوسألته ان يسمح لك بالعمل في التوواللحظة، لكنه ابلغك وقبل ان تفتح فمك بالكلام، بان بداية العمل ستكون بعد يومين متوافقة مع بداية الشهر الميلادي الجديد. ومع ذلك فان كلامه لا يثنيك عن عزمك في مباشرة العمل منذ الغد قائلا بانك تتمنى ان تباشره حتى دون اجر، وأنت تفكر في المأوى أكثر مما تفكر في اجرتك. ومتأثرا بحماسك البالغ هز الرجل رأسه موافقا.
(5)
خرجت من دكان الاحذية، وأنت تنظر إلى شوارع طرابلس نظرة جديدة مختلفة عن الطريقة التي نظرت بها إليها قبل اليوم. تنظر إليها لا نظرة الإنسان الباحث عن عمل كما كنت تفعل منذ أول دقيقة وصلت فيه إلى طرابلس. وانما نظرة إنسان وجد عملا يرضيه، وصار من حقه ان يمضي في الشوارع كما يمضي الناس، مبتهجا متأملا البشر والابنية والاسواق وواجهات المتاجر. مستمتعا بان تتجول بحرية ودون هدف غير هدف الفرجة والتسلية. انك حتى الان لم تأكل وجبة واحدة ساخنة في طرابلس. ولم تأكل وجبة مكتملة حتى بعد ان عملت في جمع الاحطاب. لأنك وضعت الأولية للجلباب الذي اشتريته. وما تبقى لم يكن يكفي لغير وجبتك الدائمة الشاي والخبز. وتحس في هذه اللحظة بان معدتك فارغة تتوق لوجبة شهية من تلك التي تطهوها المطاعم الشعبية الفائحة برائحة الثوم والبهارات. إلا أنها تستطيع ان تنتظر. فأنت الان ورغم حاجة المعدة للطعام، في غاية الابتهاج بعد ان صار لك عمل ومأوى. وما تتشوق المعدة له من طعام وما تراه في نوافذ دكاكين الحلويات ويسيل له لعابك. أوما تراه في واجهات المتاجر التي تبيع الالبسة وتشتهي ان ترتديه، تحس انه اضحى الان في متناول يدك. وانك لست مستعجلا عليه. فقد صار لديك عمل ثابت يدر نقودا. وسيكون بامكانك ان تتناول هذه المآكل وترتدي هذه الملابس، مثل أهل المدينة لأنك تشعر انك أصيحت الان واحدا منهم.
وبحماس شديد لمهنتك الجديدة بدأت في صباح اليوم التالي العمل في دكان الحاج المهدي النعال. اكتشفت ان فوق رأسك سدة يتخذها الحاج المهدي، مخزنا لخاماته من خيوط وجلود. تصنع للدكان سقفا ثانيا غير سقفه الأول. تفصله عنه مسافة نصف متر. فرأيت انها كافية لكي تكون مخدعا لك. تتسلق إليها بضع درجات خشبية، وتدخلها منحنيا تتلمس لك مكانا بين الجلود والأنوال لتنام. ولم يكن مهما بالنسبة لك ان يكون الدكان خاليا من المرافق الضرورية لحياة الإنسان. لأن مسجد سيدي محمود القريب كان كفيلا بسد هذه النواقص. فهومفتوح للمصلين ليل نهار. أما الطعام فان عليك ان تعيش على الاطعمة الناشفة الجافة، وانتظار المناسبات التي يتغذى فيها الحاج داخل الدكانة، فتشاركه الغذاء الذي يأتيه ساخنا من البيت، دون ان تنسى صاحبك "الشارف" صانع الشاي، الذي لابد من زيارته وفي يدك رغيف الخبز الإيطالي نوع "البانينا". ولا بأس من ان يمتد طموحك إلى يوم تؤهلك فيه مواردك إلى وجبة في مطعم البرعي، تتكون من طبق المشويات الذي يشتهر به هذ المطعم الشعبي الذائع الصيت.
كان الحاج يجلسك بجواره لترى كل صغيرة وكبيرة يفعلها. وكانت المهمة الأولى التي اسندها إليك هي ان تمسك مقصا وان تقص الجلد وفقا للعلامات التي خطها لك بالقلم الرصاص فوق الجلد لتصبح سلخا وسيورا يصنع بها الحذاء. ولأنه لم يكن يعرف القراءة والكتابة، معتمدا على صانعه السابق في كتابة اسماء زبائنه الذين يشترون بالدفع المؤجل. خاصة بعض اصحاب الدكاكين، الذين لا يستطيعون سداد ثمن الحذاء الا بعد بيعه فقد اسلمك الدفتر لتبدأ بتسجيل من لم يقم بتسجيلهم من هؤلا ء الزبائن. ثم تبدأ في تسجيل ما يستجد بعد ذلك. اكتشفت وأنت تراقبه عن كثب، ان الرجل فنان وليس مجرد صانع احذية. انه صاحب موهبة وابداع وخيال. يضع الالوان والزخارف والنقوش على ظهر الحذاء بحذق ومهارة الفنانين. ويرشق زهرة القماش في المكان الذي يضفي جمالا واناقة على الحذاء. بل انك حاولت اثناء وجودك بمفردك في الدكان تقليده في وضع هذه الزخارف فلم تستطع نقش خط واحد. وادركت انها مسألة لا يستطيع الإنسان ان يتعلمها بمجرد المحاكاة. كما لا يمكن لمن لا يملك موهبة ان يكون رساما.
ودخلت في ايقاع الحياة بالمركز التجاري لمدينة طرابلس القديمة باعتبارك واحدا من أبناء السوق، ويدًا من الأيادي التي تنتج السلع والمصنوعات التقليدية. لم تعد مهددا بالعودة إلى البوادي ورعي الاغنام، ولم تعد خائفا من مصير كمصير عبد المولى الشحاذ. إلا أن الاثارة التي رافقت حصولك على العمل والمأوى كانت قد انتهت لتنظر إلىحياتك وهي رهينة مساحة هذا الدكان التي لا تزيد عن اربعة امتار في اربعة امتار. عليك ان تقضي فيها ليلك ونهارك، وتقوم داخل هذا المربع الضئيل، بعمل روتيني يكرر نفسه مع كل يوم جديد. ومع ذلك فأنت راض عن نفسك تمام الرضا، لأن هذا الدكان بمساحته المحدودة الضيقة التي لا تغادرها الا للاغتسال والصلاة في المسجد، أوإذا ارسلك الحاج في مشوار صغير للدكاكين المجاورة، يمنحك دائما ذلك الاحساس الجميل بالاستقرار والامان. بل أنت تشعر بالفخر لأنك امتهنت مهنة ارقى كثيرا من تلك المهن الوضيعة التي سعيت إليها في الغابة، أوفي سوق الثلاثاء أوبين المقابر تعاشر العتالين، والحطابين وحفاري القبور. ومن موجبات الفخر أيضاً انه بين دكاكين النعال أكثرها رقيا وشرفا فهويتخصص في الاحذية التي يرتديها العرسان وتفخر بارتدائها عرائس الطبقة العليا. ويحرص على التعامل معها صفوة القوم.
واستطعت خلال أيام قليلة ان ترى برهان ذلك، وتتعرف من خلال عملك في دكان الحاج المهدي إلى سيدات الطبقة الراقية في مدينة طرابلس. وتدرك انهن شيء آخر غير تلك الكائنات التي ينسبها أهل أولاد الشيخ لصنف النساء. تأتي السيدة منهن وقد ارتدت فراشيتها الناصعة البياض. محبوكة فوق جسمها حبكة شديدة حتى لتظهر مفاتن الجسد، وما فيه من دوائر ومنحنيات بشكل بالغ الفتنة والإغراء. تأتي وهوتنقر الرصيف بكعب حذائها، بايقاع منغوم كأنها تعزفا لحنا.. تسبقها رائحة عطرها النفاذة الزكية، وخلفها خادمتها السوداء ترتدي جلبابا، وتضع فوق رأسها منديلا وتحمل في يدها سلة من السعف الملون لتضع بها ما تشتريه السيدة من اغراض. وما ان تصل إلى عتبة الدكان حتى تكشف الغطاء عن وجهها وهي تتأمل الاحذية، فتظهر البشرة النقية الصافية كالبلور، والعينان السوداوان الواسعتان باهدابهما الطويلة التي زادها الكحل جمالا وجاذبية. وفوقهما حاجبان مرسومان بدقة كهلالين يشعان باضواء سوداء. ثم ذلك الفم الجميل الذي يزينه أحمر الشفاه الندي ويجعله يبدوكوردة بللها ندى الصبح. وغالبا ما تكون به علكة تطرقعها السيدة في غنج ودلال. وقد تدلت الاقراط الذهبية من الاذنين، وتحلت اليدان اللتان تخضبهما الحناء بخواتم الذهب. ورنت في الذراعين المصقولين اساور الذهب والعاج.ز وتتكلمت بلهجتها الطرابلسية اللذيذة، مصحوبة بتلك الايماءات والاشارات وحركات الغنج والاغراء التي تثير غرائز الرجال، وتبعث الرعشة في الجسم والقلب. طبعا ليست كل امرأة بهذا الجمال. ولكن هذا هوالنوع الغالب في نساء الطبقة الغنية من قاطني المدينة القديمة.
يرسلك الحاج المهدي إلى مدبغة الجلود في منطقة شعبية عربية هي "باب عكاره"، حيث تستقبلك رائحة المدبغة قبل عدة اميال كانها رائحة قطيع من الكلاب الميتة. وحيث يسكن الناس في عشش واكواخ مصنوعة من الصفيح وخيام مهترئة صحبة بهائمهم تغطيهم سحب الذباب وتسوخ اقدامهم في الطرق الموحلة. واطفال كالهياكل العظمية يرتدون الاسمال، ولا يفعلون شيئا سوى التسول، ويقفون يتبولون أمام هذه الأكواخ. فتعود واحساس بالغثيان والقرف يصاحبك حتى انقضاء النهار. ويرسلك في مشوار آخر إلى متجر بشارع ماتزيني يبيع الخيوط الملونة يملكه رجل إيطالي يستخدم عاملا ليبيا انيقا في سن الصبا اسمه نعمان حيث المركز الإيطالي للمدينة فترى الفرق الهائل بين الحي العربي والإيطالي. انك هنا في متنزه يضوع عطرا وجمالا. عامر بالاضواء والألوان. تفيض بالبهجة حيطانه وأشجاره وليس فقط وجوه قاطنيه. حتى الرصيف يبدومصقولا لامعا ترى فيه صورتك كالمرايا. والبشر كلهم إيطاليون الا بعض العاملين العرب، يرتدون بزاتهم الافرنجية الأنيقة النظيفة. يتحلقون حول الموائد المتناثرة على الرصيف. ويتنقلون في الشوارع فرادى اوجماعات. ورجل يطوي امرأته في حضنه اويضع يده في يدها ويسيران عبر احواض الزهور التي تزين الطرقات ويضرب المدفع الموجود بالسرايا الحمراء اطلاقته التقليدية لتحية العلم فتقف امتثالا للقانون. وترفع يدك بالتحية للعلم كما يفعل بقية الناس في الشارع لأنك لولم تفعل ذلك لاعتبروه اهانة لرمز السيادة الإيطالية، يعاقب عليها القانون.
وتحاشيا لاي تحرش يقوم به الإيطاليون ضدك صرت لا تأتي إلى هذه المناطق الا وأنت ترتدي الملابس الافرنجية. انيقا، نظيفا، حاسر الرأس مثل الإيطاليين. وقد حدث اثناء أيامك الأولى في طرابلس، ان رأيت أكثر من شرطي يتجه إليك ويسألك ان تغادر الشارع لأن ملابسك الشعبية لا تعجبه. فكنت تختفي في أول عطفة ثم تظهر بعد ان يبتعد الشرطي. كان التجوال في الاحياء الإيطالية نزهة للعين والقلب. إلا أنها لم تكن لحظات الفرح الوحيدة في حياتك. وانما هناك لحظة أخرى أكثر بهجة واثارة، عندما تأتي ثريا ابنة الحاج المهدي إلى الدكان. لتكسر روتين العمل البطيء المكرور. تحمل صحن الغذاء لوالدها، فيدعوك لمشاركته الطعام الذي غالبا ما يكون طبقا من المكرونة أوالرشتة أوالكسكسي أوطبيخة الفاصوليا أوالبازليا. وقد جاء هذا الصحن مرة وفيه قطعتان صغيرتان من اللحم، تؤكد ان أهل البيت عملوا لك حسابا عند اعداد الطبق.
ورغم انها تأتي وقد ارتدت فراشيتها، واطالت الطرف الذي يسقط على وجهها. إلا أنه لم يكن صعبا عليك ان ترى اثناء وضعها للطبق، ملامح هذا الوجه الذي وجدته جميلا بريئا كوجوه الاطفال. وجهًا حنطيًا مستديرًا يتوهج القا وبهجة ويتلألأ بدلائل النعمة. شيء مبهج مفرح ينطق به الوجه لا تدرك له تفسيرا. لعله هذه الابتسامة التي لا تفارق الوجه أوهاتان الغمازتان اللتان تضيفان إلى ابتسامة الثغر ابتسامتين على الخدين. تأتي مبتسمة وتمضي مبتسمة وتلقي تحيتها وهي مبتسمة دون ان تبقى غير لحظة قصيرة. فهي تترك لكما الطعام ولا تأخذ الصحن الفارغ الا في اليوم التالي، أوفي يوم بعده عند احضارها للوجبة التالية. وهناك دائما فضلة اكل تبقى في الصحن. تعود أنت إليها اثناء الليل وتنظف لها الصحن. فتجده ثريا عندما تأتي نظيفا خاليا من بقايا الطعام.
لم يكن في حياتك ما يستحق عناء الانتظار سوى تلك الهنيهات القصيرة العذبة عندما تأتي ثريا وتشرق ابتسامتها بين النعال. لم تكن في البداية قد انتبهت إلى سر الجاذبية في وجهها لأنك كنت لا ترفع رأسك نحوها إلا لتضعه في الأرض. خجلا ورهبة من والدها، ثم تدريجيا صرت تطيل النظر إليها وتهتبل فرصة المرات القليلة التي يكون خلالها والدها موجودا في الجامع لصلاة الظهر عند مجيئها فتتبادل معها الحديث وتطيل التأمل في وجهها دون حرج. مما ساعد على نشوء نوع من الالفة بينك وبينها. ثم صرت تسطيع ان تقرأ في ملامحها وعينيها كلاما لا تستطيع ان تقوله لك بلسانها. صرت تحاول أنت أيضاً ان ترد عليه بكلام صامت مثله. يعبر عن مدى استلطافك لها واعجابك بجمالها. وكان قلبك يخفق فرحا وأنت تقرأ التجاوب في عينيها. وتقول في نفسك ان الاقدار ساقتك إلى هذا الدكان، وأوجدت لك فيه عملا ومأوى لسبب واحد، هوان تلتقي بهذه الفتاة التي لها وحدها تتفتح زهرة القلب. تحول الكدح اليوم المليء بالضجر والتكرار إلى لحظات انتظار لموعد الفرح. مساحة الدكان ذات الامتار الاربعة تحولت إلى فضاء رحيب فسيح يتسع لمسقبل باسم الثغر ترى فيه نفسك صاحب غرفة في بيت من بيوت المدينة القديمة. وامراة تشاركك الاقامة في هذه الغرفة تكون سكنا لك وتكون سكنا لها. كما يقول القرآن في وصفه للحياة الزوجية. امرأة لها ابتسامة نقية صافية كابتسامة هذه الصبية، وعينان لوزيتان كعينيها، وغمازتان تفيضان سحرا مثل غمازتيها، تبادلك جيشان العواطف وقوة هديرها في صدرك.
بالغْتَ في اظهار الولاء والاخلاص لوالد ثريا. لا تريد ان تكون مجرد صانع في دكانه وانما تريد ان تكون ابنا له لم يأت من صلبه. وتتمنى ان تنجح هذه المساعي التي تبذلها للاقتراب منه في خلق تجاوب من طرفه يجعله يقبل بك صهرا له، ويكون فعلا الأب الذي تتمناه. فأنت صادق الإحساس نحوه، وتزداد احتراما ومودة له كلما تقادمت الأيام. فهورجل صلاح وتقوى دون ادعاء ولا رياء ولا مباهاة ولا افتعال. يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها. ويؤديها مع الجماعة في جامع شائب العين. وكان يحرص في بداية التحاقك بدكانه
ان يعود سريعا من صلاته لكي لا يترك الزبائن ينتظرونه. ثم صار يعهد إليك بمهمة التعامل مع هؤلاء الزبائن، مستمتعا بالحديث مع اصحابه فوق الدُّكة الحجرية الموجود بمدخل الجامع. تاركا لك ان تقوم مقامه في الدكان. مؤتمنا اياك على اسراره مع زبائنه فيما رأيته دليلا اكيدا على ما بلغته من منزلة عالية لديه، وما فزت به من ثقة قوية كتلك التي لا تكون الا بين الابن وابيه. دون ان ترى منه تقتيرا أواجحافا في حقك. بل يعاملك بكرم واريحية زادتك اعجابا به.
وحدث خلال احدى هذه المرات التي كنت فيها موجودا بمفردك في الدكان ان اهتزت الارض هزة عنيفة جعلت كل ما كان موجودا من جلد وخيوط فوق السدة ينهال فوق راسك. فانتزعت نفسك من مكانك ودفعت عنك الاكداس التي غطت راسك وخرجت من الدكان التي تصورت سينهار فوق راسك فوجدت الاحذية التي تملا الارفف الخشبية خارج العتبة قد سقطت كلها تتدحرج فوق الارض واردت ان تقوم بجمعها وارجاعها فوجدت الناس يتصايحون في الشارع يقرأون القرآن في فزع ويذكرون الشهادتين توقعا للموت في اية لحظة ورأيتهم يتنادون على بعضهم بعضا وسمعت من يحثك على الاستعجال في الذهاب معهم دون ان تعرف الى اين يذهبون فلعل هناك ملجا يقصدونه كما كانوا يفعلون ايام الحرب هروبا من القنابل ورمي المدافع فتركت الدكان مفتوحا والاحذية مرمية فوق الارض وذهبت تركض مثلهم فاذا بهم يدلفون الى جامع الدروج الذي لم يكن بعيدا وكان مزدحما الى حافته بالنساء والرجال والاطفال لكنهم افسحوا مكانا للقادمين الجدد دون ان تفهم لماذا تكون جدران الجامع وسقوفه اكثر امانا من المباني الاخرى مع انه اكثر قدما منها. وفهمت ان السبب ليس البحث عن قوة البناء بقدر ما هوالايمان بان المسجد باعتباره بيت الله فانه سيكون اكثر حماية من البيوت الاخرى. والنقطة الثانية ان الزلزال اذا وصل لتقويض المساجد وانهياره فوق رؤوس اللاجئين اليه فان الموت في مثل هذا المكان هواكثر شرفا من الموت في الاماكن الاخرى. ومغفرة الله ورحمته ورضوانه ستكون من نصيب كل انسان يلاقي ربه تحت اسقف بيت من بيوت العبادة التي يذكر فيها اسمه صباح مساء.
لقد انتهى الزلزال وزال خطره وظل ماثلا خطر الموت الذي يلحق بالانسان وهومكثوم الانفاس داخل هذا الزحام لان الناس كانوا يخشون تجدد الهزة الارضية ويريدون البقاء مدة من الزمن، يتأكدون خلالها من عدم ظهور هزة جديدة قوية خاصة وان اكثر من هزة بسيطة اعقبت الهزة الاولى القوية التي افزعت الناس. ولم تكن تنتظر الا ان ترى خروج بعض الناس الذين اعياهم الزحام فقرروا المغامرة بالخروج الى الشارع مجازفين بموت لا تباركه ملائكة الرحمن التي تسكن المساجدلتخرج معهم، فقد كان القلق يأكلك من اجل الدكان الذي تركته مفتوحا والاحذية التي كانت تتناثر بعرض الشارع تركت المسجد وعدت راكضا الى الدكان وانت اتوقع ان تجد الاحذية المرمية في الشارع قد اختفت فاذا بك تجد ان كل شيء موجود في مكانه رغم ان الحياة كانت قد عادت الى الشارع. والناس صغارا وكبار يمرون امام الدكان ويجتازون هذه الاحذيه دون ان يفكر احد في سرقتها رغم ان بينهم شحاتون وصبيان حفاة. ربما لان الهزة ذكرت الناس بالموت وجعلتهم يفكرون في البعث والحساب لانك على ثقة من ان هؤلاء الناس لووجدواحذية مرمية في الشارع على هذا النحوودكانا في غيبة صاحبه في غير هذا الوقت لما ترددوا في سرقة الاحذية ونهب الدكان.
وراودتك فكرة سرعان ما طردتها من رأسك وهي انك لووضعت في جيبك ثمن بعض الاحذية التي قمت ببيعها اثناء غيبة الحاج المهدي وقلت له انها نهبت اثناء حدوث الهزة الارضية لما وجد سببا لتكذيبك ولاعتبارها ثمنا زهيدا لنجاته ونجاة اهله من شرور هذه الهزة. ولكنك رايت انه سيكون امرا خسيسا ودنيئا ان تكافيء الرجل الذي منحك كل هذه الثقة بمثل هذ الخيانة فاعطيت له المبالغ عندما جاء وابلغته بما حدث لحظة وقوع الزلزال دون ان يضيع شيئا من رزقه. وتكررت المرات التي جاءت فيها ثريا إلى الدكان اثناء غيبة والدها لصلاة الظهر في المسجد. وانتقلت العلاقة الصامتة بينك وبينها إلى مرحلة الافصاح والكلام عندما قلت لها بانك رأيتها في الحلم وكنت سعيدا بهذه الرؤيا وتتمنى ان يتحول هذا الحلم إلى حقيقة

                            (6)
لم يكن ما قلته كذبا. وما كان باستطاعتك ان تكذب في امر كهذا. فقد رأيتها اثناء نومك تجلس معك وسط قارب يمضي بكما بعيدا في عمق البحر أخبرتها بما رأيت دون ان تجرؤ على ابلاغها بنهاية الحلم وهي انقلاب القارب اثر مداهمة العاصفة له. وكيف وجدتما نفسيكما مرميا بكما وسط الموج الهائج ولأنك فتى ريفي يجهل السباحة فقد ظللت تصرخ مستنجدا بها ان تنقذك من الغرق لتصورك ان كل أبناء وبنات المدينة يعرفون العوم. لم تقل لها شيئا عن عجزك وخيبتك اثناء الحلم واكتفيت بابداء تفسير لما رأيته في الحلم وهوان القارب والماء يعنيان في كتب تفسير الأحلام السعادة والهناء، وكان كل ما قالته ثريا هو:
ـ اللهم اجعله خيرا
ـ ولكن هل تعرفين السباحة
وردت ضاحكة:
ـ انني لا اعرف السباحة، فما سبب السؤال؟
كدت ان تقول لها بانكما قد ضعتما كلاكما، إلا أن والدها دخل الدكان عائدا من المسجد، فتوقفتما عن الكلام رفع الحاج المهدي الغطاء عن الصحن وقبل ان يدعوك كما هي عادته لأن تترك ما في يدك وتتفضل بمشاركته الطعام قال صائحا وهوينظر بفزع إلى صحن الكسكسي وقد علته قطعتان كبيرتان من اللحم:
ـ لحم؟ من اين جئتم باللحم وانا لم اشتره منذ شهر مضى؟
ـ جارتنا الحاجة نجمية، عاد إليها ابنها الذي كان مجندا في الجيش
فنلنا نصيبنا من الخروف الذي ذبحته بالمناسبة.
ـ اما كان لاحد ان يقول لنا كي نستعد لمثل هذه الوليمة ونسعد انفسنا قليلا بترقبها قبل ان نجد صحنا مليئا باللحم تحت انوفنا.
وقبل ان يمد يده إلى قطعة اللحم قال لابنته:
ـ للإنسان يا ابنتي ملائكة ترافقه وينالها ما يناله من خير وهذه الملائكة تفرحها وتطربها فترة الانتظار التي تسبق حلول المناسبات السعيدة.
والتفت إليك بالكلام قائلا:
ـ ما ضر لوعرفنا بامر هذا اللحم قبل يومين؟ اما كان ذلك سيطيل عمر الفرحة ثلاثة أيام بدل دقيقة واحدة هي هذه الدقيقة التي نضع فيه قطعة اللحم في افواهنا، هيا مد يدك وامرك لله.
تبادلتما الضحكات أنت وثريا ولعل الحاج المهدي قد رآى في هذه الالفة بينكما ما يوحي بوجود تعارف تم من وراء ظهره أكثر حميمية من التعارف الذي كان شاهدا عليه يحدث بينكما. إلا أن الرجل قد فتح لك قلبه منذ أول يوم رآك فيه. وصار يرى فيك صورة الابن االثاني لأن كل ما لديه صبي في مراحل الدراسة الأولى بالكتَّاب وثلاث بنات متزوجات من اقارب له في تاجوراء. وهذه هي آخر واصغر بناته، التي لا تزال تعيش في كنفه. اما الأمر الذي يدعوإلى القلق فهوان صبية في عمر ثريا ولها هذا الجمال الفاتن كجمالها لن تبقى حبيسة بيت ابيها لامد طويل ولابد ان ياتي في وقت قريب من يريدها عروسا له. وهذا العريس المرتقب سيأتي خلال أشهر لا خلال اعوام فماذا أنت فاعل يا ابن الشيخ؟ انها الان في سن الثامنة عشرة وهي سن مثالية لتزويج البنات. خاصة إذا كان لهن حظ ثريا من الحسب والنسب والفضيلة والجمال. لعل النظرة المستريبة التي رمقك بها الحاج المهدي ورمق بها ابنته في نفس الوقت تصلح مناسبة لمفاتحته في الموضوع وافهامه صراحة بانك تريد لعلاقة الود التي نشأت بينك وبينه ان تكتمل بالمصاهرة. لن يكون امرا صعبا بالنسبة لك. تدبير غرفة في بيت من بيوت المدينة القديمة ان لم يكن قريبا من بيت الحاج المهدي ففي بيوت أخرى خارج السور أكثر تواضعا وارخص ثمنا.
انقضت الان أكثر من سبعة اشهر منذ ان بدأت العمل مع الحاج المهدي. استطاع خلالها ان يختبر خصالك ويعرف إلى أي معدن تنتمي. اذ لا يكاد يمضي يوم دون ان يتحدث فيه عن نظريته في البشر والمعادن والاقمشة. فهذا رجل اصيل كالذهب الحقيقي واخر بلا اصالة كالذهب المزيف. وهذا قماشته من حرير واخر قماشته من كتان وثالث من خيش. وهكذا لا يمر زبون بدكانه الا وعنده تعريف لديه.
كان شهر رمضان الماضي فرصة يتبسط خلالها في شرح افكاره ويطيل الحديث حولها فالحياة في المدينة تأخذ شكلا اخر في هذا الشهر الكريم ويفتح الحاج المهدي بيته للاضياف واغلبهم غرباء يدعوهم اثناء التقائه بهم خلال صلاة المغرب. لأنه يكره في رمضان ان يتناول افطاره دون ان يشاركه ضيوفه الطعام فهويدعوك ويدعوبعض زبائنه ممن يأتون من خارج المدينة، أومن ضواحيها ويضيف إلى ذلك بعض من يجدهم في المسجد، ممن لا عائلات لهم في المدينة. وهوفي ذلك يتبع تقليدا موجودا لدى العائلات الموسرة في المدينة ممن يقيمون الولائم الكبيرة للفقراء، ويأتون بها إلى المساجد إذا تعذر نقل الضيوف آلي البيت. وتمتد الجلسات مع ضيوف الحاج المهدي إلى صلاة العشاء وأحياناً يعود بهم لاحياء السهرة بعد اتمام صلاة العشاء والتراويح في المسجد، لمشاركته في سحور مبكر. وخلال هذه الجلسات يأخذ الحاج المهدي غايته في شرح افكاره عن معادن الناس وانواع الاقمشة التي ينتمون إليها معززا كلامه بقصص وحكايات من معاملاته معهم، أورحلاته آلي مدن وبلاد أخرى عندما كان في مرحلة الشباب اورتثة فراسة في معرفة الناس.
انك على ثقة من ان ثريا تريدك كما تريدها، ولكن ما باهمية انها تريد أولا تريد، مادام الأمر أولا واخيرا بيد والدها. وأنت لا تستطيع ان تفاتحه في امور خطبتها بمفردك فمثل هذه الشئون لها اصول وقواعد لابد من مراعاتها. فأنت تحتاج في حالة كهذه آلي ان ترسل له قريبا من اقاربك يماثله في العمر يطلب لك يد ابنته لكي لا تبدوأمامه مقطوعا من شجرة ولكن من اين يمكن ان تأتي بهذا القريب وأنت لا تعرف لك اقارب في المدينة غير شحاذ بائس من صالحك ان تبتعد عنه قدر ما تستطيع لكي لا يظهر في حياتك ويفسد علاقة المصاهرة التي تريد ان تبنيها مع واحد من وجهاء اسواق المدينة هوالحاج المهدي النعال.
لم يكن واردا ولا ممكنا بطبيعة الحال ان تحضر امك وأباك من الاد الشيخ بل لعل من الافضل الا يعرف اصهارك ان لك ابا واما لأنك لا تستطيع حتى ان تأتي على ذكر العلاقة المرتبكة بينك وبينهما بعد ان خرجت من القرية هاربا منهما، ومن والفضيحة التي سببتها لهما، بل حتى من قبل هذه الفضيحة لم تكن الامور تمضي حسب النواميس الطبيعية التي تحكم الابن بابويه. ولأنهما مطلقان يعيش كل واحد منهما مستقلا باسرته التي سعى إلى تكوينها بعد الطلاق. كنت تنتقل بين البيتين فلا يراك زوج امك الا ضيفا ثقيلا ينتظر متى يغادر البيت، وتذهب إلى بيت ابيك فلا تراك زوجة ابيك الا متطفلا على بيتها تسعى لطردك منه. ولهذا فقد آثرت قبل سنوات من مغادرة القرية ان تعيش معتمدا على نفسك اتخذت من بقايا البناء فوق البئر المهجور قاعدة لبناء كوخ تختلي فيه بنفسك بين أشجار النخيل وتعاونت مع رعيان القرية منذ كنت صغيرا تسرح لهم بالجديان وتنام صحبتها في الأودية والحقاف القريبة من القرية فكبرت دون ان تكبر معك اية عاطفة نحوهما. انك لا تكرههما ولكنهما لم يقدما لك شيئا يساعدك على ان تحبهما. ولا تدري ما هوشعووهما الآن وأنت تغادر القرية هاربا من الفضيحة فلعلهما يشعران بالارتياح لهذه المغادرة باعتبار انك لن تستطيع ان تحرج احدا منهما أمام شريك حياته.
إلا أنك لا تشعر باية رغبة في موقفهما من غيابك، فأنت مشغول عنهما بتدبير حياتك، تحت ظروف لا مجال فيها لأن تعتمد على احد. غير نفسك وجهدك كانك في يوم الحشر حيث لا ينفع احد احدا الا من جاء الله بوجه سليم. وإذا كان الله عليمًا بالاسرار، يعرف الحقيقة خلف الوجوه فاي وجه ستقابل به اليوم والد ثريا وكيف يستطيع ان يعطيك يد ابنته قبل ان يعرف من أنت وما أصلك وفصلك. ثم حتى لوعرف انك من منبت طيب هل تراه حقا سيحيد عن الطريق الذي انتهجه سابقا في تزويج بناته من اقرباء له في تاجوراء وهل سيراك وأنت الصانع الصغير لديه أهلا للزواج من ابنته؟ لعل الاحسن والاريح بالنسبة لك أن تقتنع بأن ثريا ليست لك وأنها مجرد طيف يراود أحلامك، وليس لك منها إلا متعة الحلم. وقبل أن تجد وقتا لتختبر حلمك وترى إذا كان حقا قابلا للتحقيق أم سيبقى حلما معلقا في فضاء الوهم والخيال، داهم عساكر بالبوالسوق يبحثون عن شباب في سن التجنيد لأخذهم عنوة إلى معسكرات التدريب. فالحملة العسكرية الإيطالية على بلاد الأحباش وشيكة الوقوع وبالبووعد رئيسه بالمساهمة في إمداد الحملة بمحاربين من هذه المستعمرة الافريقية يجيدون تسلق الجبال والتعامل مع الطرقات الجبلية الوعرة، لأنهم ينتمون لبيئة عامرة بمثل هذه الطرقات والمسارب التي سبق أن كانت السبب في هزيمتهم أمام الأحباش، في حملات سابقة قام بها الجيش الإيطالي قبل وصول الفاشيين إلى الحكم.
إلا أن الحال يختلف الآن، فالشعب المعبأ بالعقيدة الفاشية لن يتراجع عن غزاوته التي قرر القيام بها، مهما كانت العراقيل والصعوبات. ودائرة النفوذ الإيطالي في القارة السمراء لابد أن تزداد اتساعا لكي تعيد أمجاد الإمبراطورية الرومانية. هكذا كانت تقول الدعاية الإيطالية، فالحملة على الجبشة لم تكن مفاجأة، ولكن المفاجأة هي الحملة على الأسواق والأحياء السكنية لتجنيد الناس. قبل أن تستطيع الهروب سد الجنود أمامك باب الدكان وأخذوك وأنت تحاول المقاومة والتملص من قبضتهم. فصاروا يجرونك جرًا فوق الأرض حتى أوصلوك إلى سيارة نقل عسكرية تقف على رأس الشارع. ألقوك فيها مع شبان آخرين التقطوهم من السوق وكانوا جميعا يصيحون ويحتجون ويشتبكون في عراك مع الجنود يريدون الفرار لكن الشاحنة التي يغطي جنباتها قماش شمعي سميك، ويقف على بابها جنديان مسلحان لا تدع لهم فرصة الإفلات.
تطلعت إلى وجوه هؤلاء الشباب بامل أن تجد أحدًا تعرفه وتستطيع أن تتدبر معه طريقة للهروب فيما بعد. إلا أنك وجدتهم جميعًا أغرابًا بالنسبة لك. ورغم أنك سبق أن رأيت بعض الوجوه ممن يعمل أصحابها صبيانا في دكاكين مجاورة، إلا أنه لم يحدث أي تعارف بينكم. أحسست باليأس والأسى وأنت ترى باب الامل في الهروب مغلقا. والمصير المحزن الذي ينتظرك ولا تستطيع له دفعا. إلا أن اليأس تبدد فجأة عندما لاحت فرصة للهروب بشكل عفوي ودون تدبير. فقد وصلت السيارة إلى باب المعسكر. ووقفت بانتظار أن يفتح الحارس البوابة الكبيرة. لحظتها انتهز عدد من الشباب الغاضبين الفرصة ودفعوا بالحارسين اللذين يسدان مدخل الشاحنة إلى الأرض. وارتمى سلاحهما بعيدا عنهما. فزادته ابعادا ركلات هؤلاء الشباب. الذي قفزوا من الشاحنة وركضوا باتجاه الغابة المحاذية للمعسكر. فلم تترك الفرصة تضيع منك، وقفزت خلفهم راكضا مثلهم باتجاه الغابة. انطلقت صفارات الجنود وانطلقت الاعيرة النارية تئز فوق رؤوسكم وأنتم تركضون وسط الغابة. وتحتمون بجذوع أشجارها من من تدفق الرصاص. تدافعت السيارات العسكرية تجري وراء الهاربين، ولكنها لم تستطع ان تمضي في الغابة الا مسافة قليلة، ثم اعترضتها كثافة الغابة وتشابك أشجارها، وتراكم الاتربة والاحجار في بعض مناطقها. ومنعتها من الاستمرار فهبط الجنود يطاردونكم على الاقدام. ويشهرون بنادقهم أمامهم يطلقون رصاصهم بكثافة وراءكم. سمعت أزيز رصاصة تمرق بجوار اذنك. ورأيت زميلا هاربا يسقط أمامك مضرجا بدمه. فواصلت الهروب لأنه لاوقت ولا سبيل لأن ينقذ احد احدا. كل ما فعلته عندما وجدت انك في مرمى الرصاص، هوان احتميت بجذ ع شجرة. ثم تسلقت الجذع إلى كثافة الورق باعلاها، تختبىء فيه محتمبا من أعين ورصاص الجنود.
وكنت تستطيع من هذا المخبأ ان ترى الجنود الذين امتلأ بهم هذا الجزء من الغابة فقد لحق بالحراس جنود كثيرون من داخل المعسكر. كما كنت تسطيع ان تسمع دوي رصاصهم وصراخ الهاربين الذين تم الامساك بهم. فمضوا يجرونهم باتجاه المعسكر ويُوسعونهم ضربا وركلا. كما كان يصل إليك انين زميلك الجريح دون ان تقدر على القيام بشيء لتخفيف الامه. حتى جاء من بين الجنود الإيطاليين من قام بنقله خارج الغابة. وكنت خائفا ترتعش كهذه الاغصان التي تختبيء بينها. تدعوالله الا يرفع احد هؤلاء الجنود عينيه فيكتشفك. ثم بدأت الحركة تتناقص إلا أنها لم تنته كلية. فلا تزال اطلاقات رصاص متفرقة ومتباعدة تدوي في الغابة، كما كان ممكنا ان تسمع وقع اقدام جندي يركض عائدا بعد أن انتهت المطاردة. يستعجل العودة إلى المعسكر قبل ان تستحكم حلقات الظلام فقد بدات العتمة تهبط فوق الأشجار، وتضيف إلى غطاء الأوراق غطاء الظلام، يخفيك عن أعين هؤلاء الجنود العائدين. ثم انقطعهت اصوات نعال الجنود كما انقطع دوي اطلاقاتهم وضجيج نداءاتهم. ولم تبق الا أصوات الجنادب وأزيز الحشرات ونقيق الضفادع في بعض برك الماء القريبة فبقيت في مكانك زمنا. حتى تيقنت انك في مأمن من قبضات أولئك الجنود.
وهبطت من الشجرة تتحسس بعض الخدوش التي لم تكن تشعر بها وأنت تتسلق الشجرة اثناء شدة المطاردة. وركضت في منتصف الليل تقطع الغابة باتجاه معاكس لاتجاه المعسكر، حتى خرجت قريبا من ضاحية قرقارش، وسرت متجنبا الطريق الرئيسي عائدا آلي وسط المدينة، حتى وصلت قبيل الفجر إلى وكالة الشوشان وهناك كانت تقف احدى الشاحنات محملة بصناديق الخضار والفاكهة واشولة الدقيق تنتظر الانطلاق مع بداية النهار نحوأولاد الشيخ فاتخذت لنفسك مخبأ بين اشولة الدقيق تستنشق غبارها الابيض، عائدا إلى البلدة التي هربت منها، مختبئا بين اشولة الفحم وهوائها الأسود ولم ترفع جسمك من بين الاشولة حتى غادرت الشاحنة بوابة المدينة ودخلت الطريق الصحراوي المؤدي للجبل الغربي ثم أولاد الشيخ.
                            (7)
حمدت الله ان الهروب تم قبل ان يتم تسجيلك، ومعرفة اسمك وعنوانك أوإعطائك رقما، واعتبارك جنديا في الجيش الإيطالي. لأن الفرار من الجيش يكون عندئذ جريمة تستدعي عقابا قاسيا، كما انه لا سبيل الان لأن يعرفوا من أنت أواين تقيم، أويجري عليك قانون الهاربين من الجيش. كان منظرك غريبا وأنت تذهب بهذه البذلة الافرنجية إلى القرية. لأنه لم يكن متيسرا لك ان تعود إلى الدكان لتجلب منه متاعك وبذلتك العربية اذ لا احد من أبناء القرية يجرؤ على دخولها حاسر الرأس مرتديا مثل هذه البذلة التي يعتبرها الناس هنا لباس الاجانب الكفرة، كما تفعل أنت الان. خاصة وانها بذلة مهترئة ممزقة من اثر المطاردة والاختباء بين أغصان الشجرة وفوق جسم مليء بالخدوش التي لم ينج منها الوجه واليدين والذراعين.
وبرغم انك التزمت الحذر والحيطة، لكي لا تلتقي بالحشد الكبير الذي يقف في ساحة السوق لاستقبال اية سيارة قادمة. وطلبت من السائق ان ينزلك قبل دخول القرية حيث هبطت صاعدا عبر منعرجات خلفية تنفض بقايا الدقيق عن وجهك وشعرك وملابسك. متسللا إلى حيث بيت ابيك إلا أن احد اطفال العائلة رآك فذهب يجري بقميصه الابيض الطويل الذي نفخته الريح وصاريخفق كشراع قارب تضربه العاصفة مناديا اطفال العائلة الاخرين الذين جاءوا يزفونك إلى المنزل هاتفين " جاء عثمان، جاء عثمان" ولكي لا تجعل فرحتهم برؤيتك تنتهي إلى شعور بالخيبة والحزن عرجت على دكان بقالة واشتريت علبة من الحلوى وزعتها عليهم ووصلت إلى بيت ابيك متوجسا من كيفية استقباله لك فإذا به يقابلك غاضبا لاسباب أخرى غير التي كنت تخشاه، انه غاضب لأنك لم تبلغه بسفرك وهربت أمام تهمة باطلة وجهها إليك الفقي بركة مع ان العيادة الطبية اثبتت سلامة الفتاة الزنجية عزيزة، وانه لم يحدث أي شيء يخل بالشرف بينك وبينها.
وابلغك بانه حاول الاتصال بك في المدينة وارسل الرسل إليك يخبرك بنتيجة الفحص ويطلب عودتك إلا أنه لم يجد لك عنوانا ويعاتبك لأنك منذ ان غادرت أولاد الشيخ لم تبعت باية رسالة أواشارة إلى عنوانك فتعللت بانك انشغلت طوال المدة الماضية بالبحث عن عمل، وعندما وجدته وبدأت تشعر بالامان والاستقرار، جاء عساكر الطليان يريدون تجنيدك. فهربت منهم وركبت هذه الشاحنة التي أوصلتك لأولاد الشيخ، تبحث فيها عن مخبأ حتى تنتهي حملة التجنيد. عدت للاقامة في القرية التي كرهت الاقامة بها في غرفة علوية صغيرة فوق سطح البيت يتخذون نصفها مخزنا لحبوب القمح والشعير التي تشكل مصدر الغذاء الأساسي للعائلة، ونصفها يتركونه لاقامتك مستخدما الحد الادنى من الاثاث، وهوحشية صوف ووسادة وبطانية، وثلاثة مسامير في الحائط لتعليق الملابس. كنت لا تغادر البيت إلا نادرا. فأولاد الشيخ ليست محصنة ضد حملات التجنيد. وإذا غادرته فلكي تعود امك التي كانت تشكومن نزلة برد. تقضي اغلب وقتك جالسا على مصطبة أمام الغرفة مستمتعا بشمس الشتاء تقرأ كتب الأوراد وكتب الادعية والتسابيح واحبها إليك " دلائل الخيرات ". متفائلا بما فيه من ادعية الفرج وفك الازمات ورفع الخطوب والكربات. راجيا ان تجد الاستجابة والقبول من خالق الكون. بجوار ترتيل القرآن ومطالعة كتب الحديث.
وحل عيدالاضحى فخرجت لصلاة العيد مع أهل القرية في باحة الزاوية السنية. والتقيت هناك بعبد المولى الشحاذ، وقد عاد من طرابلس لمشاركة اسرته افراح العيد. مرتديا حلة قشيبة لا يرتديها الا علية القوم: الجريدي والزبون والفرملة والحذاء المزين بالنقوش. فاقبل عليك مرحبا وعيناه تمتلآن عرفانا بالجميل، لأنك لم تبح لاحد بالسر الذي عرفته عندما رأيته يتسول أمام جامع ميزران. والح على ان تزوره في كوخه عندما تكون في طرابلس، ورغم انك لم تكن تحب ان تلتقي به هناك. فانك لم تجد بأسا بوعده بالزيارة نزولا على الحاحه. والتقيت بعد الصلاة بشيخ من شيوخ زاوية السني الذي قال بان الشائعة التي ربطت اسمك بخطيئة الزنا تأكد الان انها ليست صحيحه مما يجعل من عودتك لتدريس القرأن لاطفال القرية في الزاوية امرا ممكنا فأخبرته بان هذه مرحلة من عمرك تجاوزتها ولن تعود إليها. لأن لديك فرصا افضل في العمل بالعاصمة التي تتحين الوقت المناسب للعودة إليها.
مرت على وجودك في القرية ثلاثة اشهر، تناقصت خلالها الحملات التي تهاجم الاسواق والشوارع لتجنيد الشباب لحملة الحبشة كما تقول الاخبار القادمة من طرابلس. وحل شهر ابريل وهونفس الشهر الذي غادرت فيه القرية منذ عام مضى فقررت ان تعتبرالسفر في هذا الشهر فالا طيبا. واستأذنت من امك وأبيك هذه المرة. وطلبت منهما الا ينسياك بالدعاء اثناء الصلاة. وغادرت القرية إلى طرابلس في احدى الشاحنات أيضاً ولكن دون ان تخفي نفسك بين اشولة ذات غبار ابيض أوأسود. وانما في مقعد مريح بجوار السائق الذي مضى يدندن بمحفوظاته من الغناء الشعبي طوال الطريق:
بالله خبر ياغزال القارة
نريد ننشدك عن زول سمح انظاره
لون مضحكة فضة
حزامه ذهب ودبلجه وسواره
حرير ملبسه
وخضاب حنه مشعشعات انواره
نجمات يلمعن
في جبهته وصوبعه، دايرين فيه اماره
ربيع خاطري وغزالي
وأجمل عبير يفوح بين ازهاره
هايم مثيلك في براري الحب،
وراهومثيلك شاردات افكاره
نريد ننشدك، غير قول تربح
يا غزال القاره
وين سافر المحبوب وين دياره
هللي ذبحني برقيق اشفاره
هللي سحرني بشديد اسحاره
هللي شعل في القلب نوره وناره
غير قول بالله
يا غزال القاره
ما أن وصلت الشاحنة إلى وكالة الشوشان، حتى ركضت مسرعا إلى دكان الحاج المهدي النعال الذي استقبلك معانقا لاعنا الطليان الذين نشروا حالة فزع في البلاد. اهانوا أهلها وافرغوها من شبابها قائلا لك بانه جاء بصانع آخر يحل محلك في الدكان فأخذوه، هوالاخر للتجنيد في احدى الحملات رغم قدمه العرجاء. ويسألك عن حالك في الجيش وحال التدريب معك. فابلغته بانك لم تدخل الجيش، وأنك هربت منذ اليوم الأول، مختبئا في بيت أهلك بقرية أولاد الشيخ. ولم تخرج حتى زال الخطر. وها قد جئت الآن لتستأنف العمل في الدكان كسابق عهدك. رأيت الرجل يمد رأسه وعنقه خارج الدكان، ويلتفت مرعوبا شمالا ويمينا يتطلع في الرائح والغادي قائلا لك بأنه يخاف انتقام الطليان، إن هوأعادك للعمل في الدكان لأن من يهرب من الجيش يدخرون له عقابا عظيما. ويلحق العقاب كذلك بمن قام باخفائه وتسترعليه فلم يبلغ عنه الحكومة. يعتذر بانه رجل في شتاء العمر لن يقوى على مناكفة الطليان، أويقدر على تحمل عنفهم وقسوتهم إذا اقتادوه وهوفي هذه السن إلى السجن. ويطلب إليك ان تعفيه من هذه المخاطرة.
شرحت للحاج المهدي ان خوفه في غير محله، لأن امرك يختلف عن امر الجندي الهارب فأنت لا تحمل رقما ولم يدخل اسمك اي سجل من سجلاتهم. وبالتالي فهم لا يعتبرونك جنديا هاربا وليس هناك في قانونهم شيء. لكن الحاج يبتسم ساخرا من كلامك، فالطليان في عرفه لا قانون لهم، وهم مثل الجن والمردة، لاشيء يستطيع ان يخفي عنهم شيئا، ويعرفون بالتأكيد انك هارب وملاحق. ويذكرونك عندما اخذوك من هذا الدكان وإذا لم يذكروك فما أكثر العيون التي ترصد لهم ما غفلوا عن رصده وتسجيله. ويضيف قائلا بان حملة الطليان لتجنيد الشباب مازالت مستمرة ومازالوا يواصلون مداهماتهم للبيوت والدكاكين والاسواق الشعبية وقد جاءوا إلى كوشة الصفار أكثر من مرة خلال الأيام الماضية، واقتادوا شبابا كثيرين من بيوتهم ومحلاتهم من بينهم قريبه فتحي، الذي كان معاونا له في الدكان قبلك. وأصيح له دكانه الخاص، ومع ذلك اقفلوا له الدكان واقتادوه آلي المعسكر رغم انه رجل حديث الزواج لم يمض على زواجه غير أسبوع واحد، ولم تكن زوجته غير ابنته ثريا، التي رجعت الان لتقيم في بيت ابيها، ومازالت حناء العرس تخضب أصابعها.
ومضى الحاج المهدي يقول كلاما آخر. وينصحك بالعودة إلى القرية والاختباء هناك لفترة أخرى. فالحملة لن تهدأ قبل مضي عدة اشهر. لكنك لم تكن تنصت إليه أوتستوعب ما يقول، لأن ذهنك وقلبك وجميع حواسك توقفت عند التقاط كلمة "ثريا"... "الزوجة ثريا"... "العروس ثريا". ها قد ضاعت منك ثريا إلى الابد. صرخت بصوت احتبس داخل حلقك لماذ؟ ولكن من اين للرجل ان يعرف انك تريدها زوجة لك؟ وأنت لم تفاتحه اطلاقا في هذا الموضوع. وثريا نفسها، هل كان بامكانها ان تفعل شيئا؟ أوتنقل لوالدها فكرة عن نواياك بشأنها؟ وهل عرفت منك شيئا واضحا حول تفكيرك في مصير واحد يجمعكما؟ ثم كيف تريدها ان تنتظر رجلا ذهب ليشارك الطليان في حروبهم مع الأحباش ولا احد يعرف مصيره الا الله لعلها لوعرفت على وجه اليقين انك ستتقدم لخطبتها وانك لم تلتحق بالجيش لتمنعت وماطلت وسعت لتأجيل الموضوع بعض الوقت لعلها حقا فعلت ذلك، فأنت لست واثقا من شيء.
كل ما تعرفه الان انك ضائع ضائع ضائع. لاعمل ولا مأوى ولا ثريا. حياتك ذاتها لم يعد لها معنى تقف الان عاريا من كل غطاء. بلا امس ولا حاضر ولا غد. لا يهم بعد الان ان تبقى أوتذهب، تحيا أوتموت استوى لديك الحق والباطل والشك واليقين والامل واليأس. كل شيء صرت تراه نوعا من العبث عاريا من المعني، باطلا وقبض ريح. وبخطى سريعة تركت الحاج المهدي واقفا يتكلم وغادرت دكانه متجها إلى معسكر الطليان في بومليانه. قادك احد جنود الحراسة إلى الضابط المناوب فابلغته بانك جئت بغرض الانضمام إلى جيش الحملة. اخفى اندهاشه من هذا الفتى الاحمق الذي دخل بوابة الجحيم بقدميه، تحت ابتسامة عريضة باهتة زائفة. فلابد انك أول شاب ليبي يراه يدخل هذا الجيش طواعية قادك بنفسه إلى طابور المستجدين وأوصى بك المشرفين خيرا، لأنك تختلف عن الاخرين الذين جاءوا يجرونهم بالسلاسل، ويضربونهم بالعصي ولذلك فان الواجب يقتضي ان تلقى معاملة خاصة هكذا قال لهم.
وهكذا رآك الإيطاليون كما رآك المجندون الليبيون رأوك شيئا مختلفا له خصوصيته فكيف يأتي الإنسان بقدميه لملاقاة المهانة والعذاب؟ هذا هوالعجب بعينه كما رأيته منعكساً في نظرات المجندين. بل وسمعت بعضهم يتهامسون به، مستغربين لهذا الذي يأتي راضيا طائعا إلى جُحر الافاعي ويلقي بنفسه آلي التهلكة بمحض ارادته. لقد حدث في السنوات التي اعقبت انتهاء المقاومة ان تقدم بعض الناس للعمل العسكري الإيطالي عسسا وحراسا. ولكن بعد ان بدأ التجنيد لغرض الحملة على بر الأحباش امتنع الجميع عن دخول السلك العسكري الإيطالي لأنه لا يمكن لعربي مسلم ان يذهب طواعية ليموت في حروب الطليان التي يشنونها على شعب افريقي بريء. نصفه من المسلمين
بالنسبة لك فقد كان المجيء إليهم بديلا عن الانتحار. إنه انتحار من نوع آخر. لأنك ستكون منتحرا وناحرا للآخرين. قاتلا وقتيلا في آنز هكذا كانت البداية التي كنت علي يقين من انها ستفضي بك إلى غابات القتل وأودية الموت والهلاك. لم تكن تعرف غير النذر اليسيرعن لغة هؤلاء الإيطاليين الذين عشت تحت حكمهم طيلة سني عمرك التي بلغت ستة وعشرين عاما دون ان تقترب منهم كثيرا. فعلت ما أملاه عليك أهلك وما يفعله عادة أبناء قريتك، وهوورفض التشبه بهم في طعامهم ولباسهم. وتجنب الاختلاط بهم ما امكن ذلك. والامتناع عن الذهاب إلى مدارسهم التي لا وجود لمدارس غيرها عدا الكتاتيب. وقد ذهبت عاما واحدا للمدرسة الإيطالية تم اخرجك منها والدك بعد ان افتى احد فقهاء القرية بتحريم ارسال الاطفال إليها. لأنها تعمل على اخراجهم من دينهم الاسلامي وادخالهم في دين النصارى كما خرج منها اطفال آخرون لم يرض لهم أهلهم بهذا الحرام. وصرت تتردد على بيت ذلك الفقيه الذي خصص غرفة في منزله لتدريس القرآن للاطفال مقابل ما يتلقاه من بيض وتمر وتين مجفف لأنه لا يجوز ان يأخذ مقابلا نقديا عن تدريسه للقرآن.
لم تعرف الا في وقت متأخر ان المدارس الإيطالية لم تكن تسعى لاخراج احد من دينه أوادخاله في دين جديد. وان الفتوى التي قدمها ذلك الفقيه رحمة الله عليه، باعتباره يحتاج لمثل هذه الرحمة بعد ان ذهب للقاء ربه محملا باثم حرمان اطفال القرية من التعليم الحديث لم يكن دافعه إليها غير التقاط طعامه من هؤلاء الاطفال في أزمنة عز فيها وجود الطعام. كنت تعتمر طاقيتك وترتدي قميصك الابيض الطويل وسراويلك العربية ولا ترى شيئا من الطليان الاعلمهم الثلاثي الالوان معلقا فوق سارية المبنى الذي يتخذه الحاكم مقرا له تقدم لهذا العمل التحية عندما تسمع نداء البوق. ولا تلتقط من كلامهم الا ما صرت وأنت فتى يافع تستعين به على قضاء مصالحك في مراكزهم وبواباتهم ومكاتبهم ومع دورياتهم. محاولا استذكار ما تعلمته في تلك السنة اليتيمة التي قضيتها وأنت في السادسة من عمرك في مدرستهم. الأمر يختلف الان بعد ان صرت جنديا إيطاليا يدين بالولاء لمليكهم ويرهن عمره لهم. فأنت مطالب بان تتقن هذه اللغة كواحد من أهلها، إذا اردت ان تضمن لنفسك أي مستوى من النجاح في العمل والحياة.
اعطوك بطانيتك وملابسك العسكرية وزمزمية الماء الخاصة بك وخرج صغير من قماش شمعي فيه بعض المعدات والادوات التي تحتاجها. عند الذهاب في مناورات أومهمات خارج المعسكر مثل الصحن والملعقة والمصباح اليدوي وغيرها. وطلبوا منك ان تنحشر اثناء الليل وسط عدد من المستجدين في عنبر مستطيل الشكل اشبه بالرواق، يطلق عليه المجندون قبر سيدنا نوح باعتباره كان عملاقا كما تقول كتب التراث حيث يتكدس في هذا القبر الاسطوري مئة وخمسون مجندا لا حماية لك من برد البلاط الا حشية بالية. ارتعشت اطرافك رعبا وأنت ترى جدران العنبر ملطخة بالدماء. ثم ارتحت قليلا عندما سألت فعرفت من زملاء العنبر انها دماء البق الذي يسحقونه بأصابعهم على الجدار. وسرعان ما غادرك هذا الاحساس الضيئل بالراحة عندما وجدت نفسك وفي أول ليلة تقضيها في المعسكر فريسة لاسراب لا حصر لها من البق مهما اعملت فيها قتلا وسحقا فهي لا تنتهي ولا تتناقص. كنت تسأل نفسك من اين ياتي كل هذا البق؟
وقبل ان تعثر على الاجابة وجدت نفسك تواجه جيشا آخر يستخدم تقنيات أكثر تقدما في التمويه والاختفاء هوجيش القمل الذي اتخذ شعر رأسك مستوطنة له منذ ليلتك الأولى في المعسكر. وعرفت عنئد ئذ السر في ان المجندين يحلقون شعر رؤوسهم حلاقة كاملة لقطع الفرصة على احتكاره من قبل جيش القمل. وتبدي في اليوم التالي انزعاجك واستغرابك لمن سبقوك إلى حياة لمعسكر وكيف استطاعوا التعايش مع هذه الحشرات. فيقولون لك ساخرين بانه جزء من التدريب على مواجهة جيش الاعداء. فهذا البق وهذا القمل وهذه البراغيث لا تقل سطوة وجبروتا عن اعتى الجيوش. فعمدت أنت أيضاً إلى شعر رأسك تحلقه حلاقة كاملة، إلا أن القمل تسرب إلى ملابسك. وصار ينام في كل طية من طياتها. ولم تستغرب ان تجد ان البوق الذي يوقظ المجندين من النوم. يوقظهم ساعة قبل موعد الايقاظ الرسمي يقضونها في حك وهرش جلودهم.
ورأيت الشاويش عنتر المشرف على العنابر يمر على المجندين يضربهم بعصاه ويوقظهم من نومهم قائلا:
ـ هيا قوموا حكوا جلودكم
في الليلة الرابعة أوالخامسة رأيت بين المجندين النائمين بجوارك من جاء زاحفا في الظلام ليلتصق بك التصاقا شديدا. ادركت غرضه فقمت من مرقدك صارخا غاضبا وأنت ترى نفسك هدفا لعمليةاغتصاب جنسي صريحة. اضأت النور وأخذت بخناق الرجل الذي صار يدفعك عنه محاولا ان يعود للاختباء تحت البطانية. وأنت تصر على اخراجه من تحتها ليرى كل من في العنبر بشاعة ما كان يريد ان يفعله بك. رأيتهم جميعا يدسون رؤوسهم في وسائدهم ويهمهمون بكلمات احتجاج وتدمر طالبين منك أن تطفىء النور وتعود إلى النوم. أدركت أنك اخترقت قانون التواطؤ الذي يتعامل به أهل هذا العنبر. فليس من حق احد ان يفضح أحدا. يمكنك أن ترفض أن يتحرش بك أحد، ولكن بصمت ودون ضجيج.
ولم يكن غريبا أن تصل أخبار هذه الضجة إلى أسماع الشاويش عنتر الذي جاء ومعه اثنان من مرافقيه يسألون عن سبب الضجيج وعندما عرف الشاويش ان عراكا نشب بين اثنين من المتدربين أحدهما أنت امر بان تقفا وظهريكما إلى الحائط ليجلدكما بالسوط خمس جلدات على الظهر وهذه هي ادنى عقوبة في سلم العقوبات التي ينفذها الشاويش عنتر واعوانه. ودون سؤال عمن كان الظالم أوالمظلوم.
عافت نفسك البقاء في هذا العنبر الذي لم يخطىء من اسماه قبرا. فهوقبر مكتمل الشروط والأوصاف بما في ذلك ناكر ونكير، وزبانية الجحيم متمثلين في الشاويش عنتر وجلاوزته. بل عافت نفسك البقاء في المعسكر كله. ومرافقة من فيه من عرب وإيطاليين مدربين ومتدربين فكلهم اسوأ من بعض. يلعبون مباراة يومية فيمن هوأكثر نذالة وقبحا. وبالتالي صرت كارها للخدمة العسكرية كلها التي جئتها بارادتك. لعنت لحظة الضعف التي دفعتك للالتحاق بهذا المكان والمرعب حقا ان مسالك الخروج مقفلة. فلا خلاص ولا منفذ للهروب ومغادرة المعسكر ممنوعة ولولساعة واحدة قبل الانتهاء من التدريب الأساسي. الزيارات أيضاً ممنوعة في هذه المرحلة من التدريب.
معزولون في ضواحي المدينة على حافة الغابة المحاذية لبئر بومليانة
ــ صب العسل يا بئر بوماليانه
هكذا تقول الاغنية الشعبية التي لم تكن تدري ان حرم هذا البئر سيكون موقعا لمعسكر يتجرع قاطنوه عُصارة الحنظل بدلا من عسل النحل. كنت تزداد مع كل يوم يمر غيظا وقرفا وكراهية. تحول الغيظ بداخلك إلى كرة صارت تنتفخ وتواصل تضخمها وانتفاخها حتى انفجرت في وجه عريف إيطالي يتولى الاشراف على قاعة الطعام. اكتشفت جزءا من جسم خنفسة في حساء الفاصوليا الذي يداومون على تقديمه لكم كل يوم. لم تشأ ان تشكولأحد من المشرفين العرب باعتبارهم بؤساء مثلك، لا يملكون شيئا يفعلونه وقررت ان تفتح المعركة مع مندوب القيادة الإيطالية في هذه القاعة. وقفت تحمل صحنك وذهبت إليه وهويقف في سقيفة المطعم يرشق يديه في خصره ويضع رأسه في السقف. كأنه يملك تفويضا الهيا بادارة الكون نيابة عن خالقه. كنت تعرف انه سيؤنبك إذا تماديت في الاحتجاج ولكن ما الذي تخشاه؟ فأقصى ما سيفعلونه معك هووضعك في الحبس الانفرادي ليوم أويومين ستعتبرهما راحة من التدريب. ولذلك تقدمت نحوه بخطوات ثابتة تسأله ان يرى بنفسه بقايا الخنفسة الكبيرة السوداء التي انفلقت إلى نصفين نصفها بقي في صحنك، ونصفها الثاني ذهب إلى صحن زميل آخر وربما ذهب إلى معدته. فسألك ان تعود إلى مكانك لكي لا يحدث ما يثير الفوضى في المطعم، فقد اخذ علما بالموضوع. وسيصدر تعليماته بضرورة ان يتحرى الطباخون النظافة.
ولكنك اظهارا للقرف والاشمئزاز الذي لم يكن سببه الوحيد الخنفسة المطهوة في قدر الفاصوليا قذفت بمحتويات الصحن أمام المطعم باعتباره طعاما لا يليق بالبشر ومرحبا بالسجن الانفرادي بعد هذا التنفيس عما كان مكبوتا داخل صدرك وكأن العريف كان يعرف هدفك من هذه المبالغة في التعبير عن احتجاجك، فلم يأمر بسجنك وانما امر بان يصنعوا لك طعاما بديلا لحساء الفاصوليا حساء مصنوعا من الخنافس فقط ليكون وجبتك ذلك المساء. ولا تدري كيف استطاعوا جمع كل هذا العدد من الخنافس الكبيرة السوداء في وقت قصير لا يزيد على نصف ساعة. صنعوا منه طبقا جاءوا به إليك.
ووقف ذات العريف يحمل في يده سوطا ويأمرك ان تشرب الحساء وتأكل محتويات الطبق. لم تسطع حتى وهويأمر اثنين من جنوده الامساك بك ليستطيع ان يهوي بسوطه على ظهرك وعندما رفضت ان تأكل امر الاثنين باحكام وثاقك وان يغرفا الخنافس من الصحن ويضعاها في فمك اغمى عليك وعندما استأنفت حياتك في اليوم التالي بقيت لأكثر من يومين وأنت تتقيأ دون ان تجرؤ على ابتلاع لقمة طعام واحدة. وكان الأمر مؤلما لأن معدتك كانت فارغة اثناء هذا القيئ فكنت تشعر بانك تتقيأ امعاءك ومتألما تظل ضاغطا بيدك على موضع الالم في معدتك طوال النهار ادركت وأنت تعاني آثار موقفك الغاضب ان عليك ان تكتسب طبيعة أخرى للتعامل مع هذا العالم الذي دخلته فجأة دون تمهيد ولا ترتيب، ولا معرفة كاملة بطقوسه ونواميسه. انك لا تستطيع ان تكون معه وضده في نفس الوقت لأنك عندئد لن تجد سوى الالم الممزوج بالمهانة دائما. ليس هناك حل وسط. اما أن تبقى بعيدا عن هذا المعسكر كما فعلت في المرة الأولى، عندما جازفت بالهروب تحت وابل الرصاص عائدا إلى الارياف، محتميا بجدران بيت ذويك الذي يبعد مئات الاميال عن اسوار هذا المعسكر واماان تكون بداخله وتندمج اندماجا كاملا فيه تمنحه عقلك كله وقلبك كله، وتقدم واجب الطاعة والولاء لقواعده ونواميسه. وتعرف من هوالسيد في هذا المكان فتقوم بخدمته ونيل رضاه. وتعرف ماهوالمسكوت عنه فتدير وجهك إلى الناحية الأخرى حين تراه وتعرف ماهومطلوب منك فتقوم بأدائه
بحب وحماس شديدين.

                            (8)
هذه هي اصول اللعبة في عالم غريب عنك لا تملك فيه قريبا ولا حبيبا وما أكثر ما احتجت ان تدفع عن نفسك الظلم وأنت تعيش في قريتك متنقلا بين بيت ابيك وبيت امك فكيف بك الان وأنت تعيش بين جدران معسكر إيطالي عليك ان تتآلف معه وتعرف نواميسه وتدخل في لعبته وتدرك جيدا انه لا حماية لك من ظلمه وجوره الا بما تقدمه من طاعة واستسلام. وإلا أنكسر ظهرك كالعود اليابس الذي يستعصى على الثني. وليكن مثلك الاعلى مواطنك الشاويش عنتر الذى نسي كيف ينطق اسمه نطقا عربيا صحيحا لأنه منذ ان التحق بالعمل مع الإيطاليين، صار ينطقه كما ينطقونه هم " سيرجينتي انتار". وهذا ما يفعله باسماء الاخرين كما حدث معك أنت وهويناديك في حضور رئيسه الإيطالي قائلا " اوسمان"! يجلد أبناء جلدته بأكثر قسوة وشدة مما يفعل أي إيطالي، ويغلظ لهم القول كانهم اعداء شخصيون له. لا يكتفي بالخدمة اثناء ساعات الدوام وانما يسرق وقتا من ساعات نومه وراحته يضيفه إلى وقت العمل فتراه موجودًا جاهزا في كامل قيافته العسكرية في اية حالة طارئة. اناء الليل واطراف النهار قبل وبعد واثناء ساعات الدوام.
وإذا حدث ان اضطرب النظام قليلا في أحد العنابر اثناء الليل فلا أحد يأتي لمعالجة الاختلال، واعادة النظام إلى سياقه الصحيح غير الشاويش عنتر الذي ينبثق فجأة من لا مكان يطرقع سوطه في الفضاء ويرطن بالإيطالية هادرا مزمجرا كانه قد تلبس روح الدوتشي نفسه. ورغم سمرته التي تنبىء بمنبته البدوي، فان عضوا في وجهه صار يكتسب لونا إيطاليا هوانفه الذي تحولت سمرته إلى لون أحمر كلون بشرة الإيطاليين وبذلك صار انفه هوالجزء الوحيد الذي استجاب لرغبته القوية في ان يتحول عن فيزيقيته العربية البدوية الافريقية إلى أخرى ذات ارومة إيطالية.
أنت تكره الشاويش عنتر وشخصيته الذائبة في شخصية الغزاة، ولكنك لا تملك غير الاعجاب بما حققه من سطوة. وما يتمتع به داخل المعسكر من نفوذ وسلطان على رقاب هؤلاء البشر الذين لا يجيدون شيئا غير حك جلودهم. يحكونها دائما بايديهم باظافرهم وأحياناً يستخدمون العصي لحك تلك المنطقة من ظهورهم التي لا تصلها الأظفار. ومرة كل أسبوع ترى الشاويش عنتر قادما إلى العنبر يحمل معه مادة مطهرة لها رائحة الغاز يرش بها المجندين وهم في مراقدهم بعد ان يسألهم ان يغمضوا أعينهم ويغرق اجسادهم وملابسهم وبطاطاينهم والجدران التي حولهم بهذه المادة الكريهه ومع ذلك فان القمل والبق والبراغيت لا تموت. وحصة الهرش لابد ان تقام في موعدها كل صباح رغم انف صانعي هذه المبيدات الحشرية.
كان العناء الذي تلقاه في المعسكر كفيلا بان ينسيك أي هم آخر بما في ذلك الهم الكبير الذي استوطن نفسك منذ ان خطفوا منك الغالية ثريا. فما عدت تذكرها الا في لحظات الهدنة القليلة التي تتركها لك تدريبات اللياقة العسكرية وحصص التمرين على استخدام السلاح. وهي تمارين وتدريبات غالبا ما تنتهي بساعة تذنيب تقضيها واقفا تحت الشمس على قدم واحدة ورافعا يديك إلى اعلى كالمصلوب بلا صليب حتى تحس بان جسمك يتفكك عضوا عضوا أوتقضي هذه الساعة زاحفا فوق الأرض حتى تتسلخ ركبتاك دون ان يتبرع أحد بمرهم تعالج به جراحك. فتضيف هذه الجراح إلى ازعاج البق والقمل ليلا ازعاج الذباب الذي يصنع من بدنك مستوطنة يلجأ إليها اثناء النهار. تعذيب هووليس تدريبا كما يسمونه آلي حد صرت تشك معه فيما إذا كان الهدف هوحقا التأهيل العسكري ام انتقام تقوم به المؤسسة العسكرية الإيطالية من الضربات القاسية التي تلقتها على ايدي المجاهدين باذلال واهانة وتعذيب من وقع في ايديهم من الليبيين نسيت أهلك أياما وعندما تذكرتهم وكتبت لهم خطابا اسرعت بتمزيقه. فقد ادركت انه سيمر على جهاز الرقابة العسكرية وخشيت العقاب الذي يلحقونه بك إذا قرأوا الشتائم التي وجهتها لهم في الخطاب.
وعرفت انهم يمنحون المجند بضع فرنكات كراتب شهري لا يصرف الا بعد انتهاء الاشهر الثلاثة الأولى من مرحلة التدريب فانتظرت اكتمال هذه المدة. وأودعت ما قبضته في جواب ارسلته لوالدك لا يحتوي سوى على أسطر قليلة تبلغه فيها بان يعطي نصف المبلغ لأمك وتعلمه بانك موجود في المعسكر الإيطالي بمنطقة بومليانة. وما أن عرف جنود المعسكر انك تجيد القراءة والكتابة حتى باتت لحظات الراحة نهارا مخصصة كل يوم لكتابة رسائل المجندين إلى أهاليهم اعفاك الخطاب الذي كتبته لأهلك من الانشغال بهم.
ولكن ماذا تستطيع ان تفعل لتعفي نفسك من عناء التفكير في ثريا عبثا تحاول ان تنتزع صورتها من خيالك، وتقول لنفسك ان امرها قد انتهى بالنسبة لك مادامت على ذمة رجل آخر. فامرها لا ينتهي اطلاقا بالنسبة لك، باعتبارها المرأة الوحيدة التي تفتح لها قلبك، كما تتفتح زهرة عباد الشمس لاشعة ا لشمس. وليس في حياتك امرأة سواها أوطيف انثوي آخر يمكنك ان تناجيه في لحظات الوحدة والارق غير طيفها. فكيف تستطيع ان تسلوها؟ بل أنت في حقيقة الأمر تحتاج إليها تحتاج إلى وجه مثل وجهها يومض كالنجمة في عتمة هذه الاقامة العسكرية ووسط أجوائها التي تشبه نفقا لا نهاية له. لولم تكن ثريا موجودة في حياتك فلاشك ان هذا النوع من الحياة الذي يشبه حياة السجن. يقتضي ان تخترع وجها بهيا مثل وجهها، يؤنس وحدتك وتفكر فيه وتتحترق شوقا للقائه. وتذهب إلى هذا الطيف بصبواتك في عنفها وتأججها تخاطبه وتعاشره وتعيش معه في أحلام النوم واليقظة. انك لن تنسى ثريا، لن تنساها أبدًا. وأنت في اسرهذه الحياة العسكرية، لأن ذكراها ضرورة لعافيتك البدنية والنفسية. انك وان وطنت نفسك على استحالة لقائها في هذه الدنيا فأنت علي يقين بانك ستلقاها وستحقق امنية القلب بوصالها في حياة افضل من هذه الحياة ودار أخرى هي دار البقاء والخلود. هكذا يقول كتاب "شمس العارفين في الاحاطة باسرار العاشقين". لأن الارواح التي اجتمعت على الحب الصافي في الدنيا وتعذر عليها ان تحظى بنعمة الوصال. لابد ان تلتقي في النعيم الابدي.
هكذا يقول الاسياد العارفون باسرار الوجود من أهل الله اذ ماهوالنعيم ان لم يكن تحقيق الاماني والأحلام التي عجز الإنسان عن تحقيقها في دار الفناء. وها قد اخترت اقصر طريق يقود إلى تلك الدار، وذلك النعيم باختيارك الانضمام إلى جيش الحملة الإيطالية على الحبشة. مدركا ان احتمالات الموت في هذه الحرب أكثر الف مرة من احتمالات النجاة. ولذلك فأنت لم تكذب على نفسك عندما اعتبرت انضمامك إلى هذا الجيش نوعا من الانتحار. ترتفع صيحات البوق تأمر بالنوم ويستجيب النوم سريعا كأنه هوالآخر. صار مجندا يطيع أوامر البوق بعد ان كان سلطاناخارج السور. ويشعشع الفجر فترتفع صيحات البوق مرة أخرى. تأمر بالاستيقاظ وسيمر النهار حافلا بعذاب التدريب الذي يعقبه عذاب التذنيب، قبل ان تأتي صيحات البوق ثانية تأمر بالنوم من جديد. روتين يومي مجتر مكرور لا فسحة فيه ولا راحة، غير هدنة صغيرة في نهاية النهار تتيح لك برغم مدتها القصيرة فرصة ان تعيش قليلا مع نفسك فتجوس عبر هذا الجزء من الغابة الذي يقع داخل اسوار المعسكر متأملا أشجار الصنوبر مستمتعا بشذاها الزكي متحسسا بنوع من المرح جذوعها الناعمة ذات الطابع الأنثوي مستذكرا بعض مقاطع الدعاء التي تطيب لها نفسك وتزرع السكينة في قلبك مثل:
اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا رب كل شي، فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والانجيل والفرقان. اعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته. اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء. وأنت الاخر فليس بعدك شيء. وأنت الظاهر فليس فوقك شيء. وأنت الباطن فليس دونك شيء. اسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي نحوك. وفوضت امري رغبة ورهبة لارادتك. فلا ملجأ منك الا لك. اللهم اني أعوذ بك من يوم سوء ومن ليلة سوء ومن ساعة سوء.، ومن صاحب سوء ومن جار سوء. اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يإذا الجلال والإكرام.
لم تكن تسطيع ان تنسى خلال الاشهر التي امضيتها في المعسكر ان هناك سورا يفصلك عن الدنيا وان فوق السور ابراج مراقبة ومناظير مكبرة ترقب وترصد كل حركة وهناك بنادق جاهزة لاطلاق نيرانها على كل من يقترب من السور. ورغم ما تقرأه من أوراد وايات فالهواجس تطاردك لأنك تعرف انهم هنا يهيئونكم لنوع من الموت ليس كبقية الميتات انه موت عار من كل شرف أوكرامة فوق أرض غريبة تحاربون بشرا ابرياء تحت راية يلعنها أهلكم كل يوم بسبب ما ارتكب باسمها من مجازر ومذابح في حقهم. وهوامر يعرفه ويشعر به كل إنسان ليبي يضمه هذا المعسكر مهما اظهر من حماس لعمله أوولاء لاسياده الطليان ولذلك فان الشعور بالرعب الممزوج باحتقار الذات هوما يجمع كل هؤلاء المجندين. ورغم انهم يختلفون عنك في انهم جاءوا مرغمين لاداء هذه المهمة القبيحة المهينة فحقيقة انكم قطيع يساق إلى حقول الموت تذيب مثل هذا الفارق. انك بالتأكيد لست أكثر منهم شجاعة أواقل منهم خوفا لمجرد انك اخترت هذا المصير بنفسك فأنت شريكهم في الاحساس بالرعب وهواحساس لا يفارقك حتى وأنت تنظر إلى السماء فترى نتف السحب المعلقة في الفضاء وكأنها الاف المشانق منصوبة في سقف الكون تنتظر عنقك وأعناق هؤلاء الليبيين الذين معك.
كنت تفخر دائما أن اثنين من اعمامك استشهدا في يوم واحد وهما يقاومان الطليان. كان ذلك عندما هب كل الناس لمواجهة الغزوالإيطالي في أيامه الأولى في مناطق الهاني والشط بمنشية طرابلس. اخوة ثلاثة انتقلوا من قريتهم مع الجموع التي زحفت من مناطق الجنوب إلى الساحل تلبية لنداء الجهاد لرد الهجمة الإيطالية. ولم يعد من هولاء الاخوة الثلاثة سوى والدك الذي كان اصغرهم سنا واسندت إليه مهمات في الخطوط الخلفية انجته من موت اختطف ارواح الاخرين "التريس ماتوا يوم الهاني " هكذا يصف المثل الشعبي ذلك اليوم الذي انطلق فيه أهل الشهامة يهبون دمهم للوطن، حتى نضبت منهم الأرض وما أن وصلت سن الادراك حتى كانت حرب التحرير قد انتهت. وانكسرت شوكة المقاومة واعلن الجنرال بادوليوالحاكم الإيطالي لليبيا ان كل مناطق البلاد تم اخضاعها للسيطرة الإيطالية وحل فيها السلام. ولكن أي سلام هذا الذي يقوم بين شعب من الرهائن والسجناء وبين جند الاحتلال. وكان لابد لكل مواطن ليبي ان يبحث عن لقمة عيشه اجيرا في المزارع التي انشأها الإيطاليون فوق اراض انتزعوها قسْرًا من أهلها البدو، الذين يستخدمونها للرعي، فلا عمل ولا مورد رزق بقي لابن البلاد الا ذلك الذي يجود به المستوطنون الإيطاليون. وهم غالبا لا يجودون عليه الا باحقر الاعمال، مثل العمل كناسا أوعتالا أوحارسا ليليا، وإذا اعيته الحيلة ارغم نفسه على العمل شرطيا أوجنديا في الجيش، مادام احتمال ان يواجه أحد من أهله على أرض المعركة قد انتهى.
لقد بدأ الاستعداد للحملة الإيطالية على الحبشة ورغم ان هذا الحملة لم تبدأ إلا أن حشد القوات ونقلها إلى المناطق الخاضعة للاحتلال الإيطالي مثل اريتريا والصومال التي تتاخم الحبشة قائم على قدم وساق والاخبار تتواتر عن قرب الاجتياح. وهناك قواد كبار سبق ان قادوا الحرب في ليبيا مثل جرسياني ودي بونووبادوليوقد انتقلوا إلى هناك لاعداد المسرح للعمليات العسكرية. وبمثل ماجاءوا في زمن مضي بجنود من بر الأحباش يحاربون بهم الليبيين هاهم الأن يجندون شبابا من ليبيا يخوضون بهم حربهم ضد الأحباش خدمة لمبادىء المساواة والعدالة والتواصل بين الشعوب على الطريقة الاستعمارية. والابواق في معسكر بومليانة للتدريب تواصل النعيق صباح مساء. للنوم بوق وللاسيقاظ بوق ولطابور الصباح بوق ولرفع العلم بوق وللطعام بوق وللبوق سلطة وقداسة كانه حاشَ الله. صوت القوة العليا التي تحكم الكون.
ـ افرحوا
هكذا قال البوق البشري، الشاويش عنتر عندما جاء في حصة الهرش يصيح في سكان العنبر:
ـ افرحوا يا أولاد!
كان غريبا ان يصدر عن الرجل امرا يتناقض تماما مع جبينه المعقود وسحنته الرمادية البائسة وسمته العابس البائس الغاضب في كل ساعات الليل والنهار
ـ اليوم فيشطة، عطلة رسمية.
لماذا؟ لأن اليوم هوالذكرى الثالثة عشرة لوصول الحزب الفاشيستي إلى الحكم، ولم يكن مقررًا لمثل هذا المعسكر في أزمنة الطوارىء أن يستمتع بأية عطلات رسمية أودينية، إلا أنه لأسباب تتصل اهمية هذا العام صدر في اللحظا ت الاخيرة قرار بان يستمتع به كل الناس، حتى الذين يعيشون في حالة طوارىء. ثم اضاف ضاحكا كاشفا عن اسنان صفراء لايراها الناس كثيرا بسبب ندرة لحظات الابتسام لديه بعد ان اخذ نفسا عميقا من سيحارة البافرا:
ـ يمكنكم اليوم ان تحكوا جلودكم طوال النهار اذا اردتم
ولكن ماذا تعني فيشطه؟ سأل بعضكم بعضا. وعرفتم ان معناها لا تدريب اليوم ولا تأنيب وانما عطلة واحتفالات موصولة منذ بداية النهار إلى حلول الظلام. قضيتم الصباح في تنظيم مباريات في كرة القدم داخل المعسكر وجاءت فرقة الموسيقى النحاسية تتجول بين المجندين، وتعزف الالحان العسكرية الإيطالية والأناشيد التي تمجد الحزب والزعيم. واهدوكم مجموعة خراف تتولون ذبحها وسلخها وتقومون بشيها وطهيها في اطراف الغابة. ستفرحون حقا وصدقا لا لأنه عيد الفاشست، ولا لأن الشاويش عنتر امركم بذلك، ولكن لأنه اليوم الذي لن تطرقع فيه السياط فوق رؤوسكم مثل الخيول التي تجر عربات الشحن. ولن تطاردكم فيه الشتائم واللعنات بسبب ودون سبب. حيث انتقل كل أهل العنابر إلى الغابة يشعلون مواقد نارهم، وينتظمون بعد ان اعياهم الركض وراء الكرة اثنا ء المباريات في حلقات تجلس وسط ادخنة سوداء. وقد مضى بعضهم يصفق ويضرب على الصناديق، وقصاع الخشب ايقاع الاغنية الرائجة في اعراس المدينة التي تقول كلماتها:
آه يا العنب ويا العنب
الله يبارك ع الدالية
سفرة وفناجيل ذهب
وسنيورة من طاليا
تستحضر الاغنية عالما جميلا غنيا عامرا بالولائم الباذخة والنساء الجميلات ليكون بديلا للواقع البائس الفقير الخالي من هذه الموائد والنساء. وتستحضر أنت صورة ثريا الغائبة وراء جدران الصمت والفراق التي تابى إلا أن تبقى مولعا بها رغم ادراكك انه حب بلا امل. ترى اين اخذوا زوجها فتحي الذي اختلط حظه السعيد عندما فاز بثريا بضربات الحظ التعيس عندما داهمه عساكر الطليان يأخذونه من بين احضانها، ويقودونه إلى معسكرات الحرب والموت. لا تدري ان كنت تستطيع التعرف إليه، لأنك لم تره الا خطفا لمرة واحدة وهويمرق أمام دكان الحاج المهدي ويطلق السلام. وحاولت فعلا ان تترصد له إلا أنك لم تعثرعليه حتى الان. مع يقينك انه هوأيضاً أحد مجندي هذا المعسكر، وربما يكون يوما احتفاليا كهذا اليوم يجتمع فيه المجندون جميعا في مكان واحد هوانسب الأوقات للبحث عنه. ولذلك اخذت تطوف بين الحلقات التي تتوزع بين أشجار الصنوبر متفرسا في الوجوه بامل ان تهتدي إليه. إلا أنك لم تجده. بدلا منه وجدت رفيقا آخر من أبناء قريتك اسمه سالم. راك قبل ان تراه وانبثق فجأة ياخذك بالاحضان، فكانت مفاجأة جميلة ان تجد زميلا في المدرسة القرآنية يزاملك أيضاً في معسكر الحملة الإيطالية على بر الأحباش. سألته باندهاش عما جاء به إلى هذا المكان، وكم مضى من الوقت وهوموجود في هذا المعسكر دون ان تلتقي به. فأخبرك بان يد الطليان لم تصل إليه الا منذ أسبوع مضى ولأن معسكر التدريب الذي اقاموه لأهل المنطقة في سفح ابي غيلان صار عاجزا عن استيعاب مزيد من المجندين. جاءوا به وبعض المستجدين إلى معسكر بومليانة. اسعدك حقا ان تلقى رفيقا قديما يتقاسم معك الحياة العسكرية. انها أول مرة تتحدث فيها مع إنسان تعرفه منذ أيام الحرية خارج المعسكر ثم انه شاب يجمع أهل أولاد الشيخ على حبه نتيجة ما يتمتع به من امانة ونزاهة واتزان مع قدر من روح الدعابة جاءك صوته ساخرا:
ــ لولا انتصار موسيليني الذي كان سبب هذه الفيشطة ما كان بامكاننا ان نلتقي، فشكرا لاعياد الفاشست.
ـ نعم فقد نقضي عاما كاملا داخـل هذا المعسكر دون ان يرى أحدنـا الاخـر.
تخليت عن بحثك عن فتحي وقضيت بقية اليوم صحبة سالم تستذكران عالم أولاد الشيخ، قال سالم:
ــ انقطعت اخبارك وجاء من ينعاك إلى أهلك قائلا بان الطليان
 قتلوك بعد ان حاولت الفرار من المعسكر، ولم يبطل هذه الشائعة الا الجواب الذي ارسلته إلى أهلك.
ـ ربما تكون هذه الشائعة تمرينا مفيدا للعائلة عندما يصل النعي الحقيقي.
ـ لا تقل هذا الكلام وتفاءل بالخير تلقه.
مشيتم معا بين حلقات المحتفلين حتى وجدت نفسك قريبا من جماعتك الذين اكملوا طهوقدر كبير من لحم الخراف وصاروا يتخاطفون قطع اللحم. اخذت لنفسك واحدة وأعطيت أخرى لزميلك وعاد الجماعة للغناء منتقلين من اغنية شعبية إلى أخرى كما عادوا إلى تكوين حلقات راقصة على ايقاع اغنية الموسم:
ـ آه يا العنب ويا العنب
الله يبارك ع الدالية
سفرة وفناجيل ذهب
وسنيورة من طاليا
طرقع السوط فوق رؤوسكم وجاء الحراس يأمرون حلقتكم التي كانت تغني هذه الاغنية بان تعود إلى العنابر لأنها محرومة من المشاركة في الاحتفال بسبب ان ضابطا إيطاليا يعرف العربية وصل إلى اذنه غناء المجموعة واستفزه ان يغني المجندون العرب عن النساء الإيطاليات بهذه الطريقة. وراى في ذلك اهانة لبنات وطنه. فامر بايقاف المجموعة التي تغني الاغنية قال سالم وقد باشر الحراس دفعكم وسوقكم كالماعز إلى العنابر:
ــ هذا جزاء من يحتفل بعيد انتصار الفاشست
وفي المساء توافد على نادي الضباط الإيطاليين الذي يشكل جزءا من المعسكر ضيوف من خارج
الهيئة العسكرية بينهم نساء في ملابس السهرة ورجال يحملون الالات الموسيقية وسيارات تحمل اطباق الطعام وصناديق المشروبات واستمر الاحتفال اغلب ساعات الليل. يصل ضجيجه إلىالعنابر يمنع النوم عن أعين الجنود ويملأ القلوب اسى وحسرة على حياة الحرمان التي يعيشونها. واصلت الالتقاء بسالم كل مساء. اللحظات التي كنت تقضيها بمفردك اثناء فترة الغروب عند اطراف الغابة وجدت شريكا يقضيها معك جاء في اليوم التالي ضاحكا مستبشرا:
ــ امروني اليوم ان اقف على ساق واحدة لمدة ساعة كاملة
 فغافلتهم ووقفت لمدة ساعتين.
ــ لا ادري متى ينتهي مسلسل المهانة والإذلال؟
أفرحك وجود سالم بجوارك ليقينك بان وجوده معك في هذا المكان كان ضروريا لعافيتك النفسية كما أن وجودك مفيد لعافيته وصحته كلاكما يعين الاخر على تحمل هذا العناء حين يجد بجواره إنسانا لا يتحرج في البوح أمامه بهذه الشحنات الانفعالية الغاضبة التي تضغط على القفص الصدري ويطرح أمامه اسئلة تخنق الحلق. ليس فقط عن معنى وجوده في هذا المكان ولكن أيضاً عن معنى وجوده في هذه الحياة ذاتها. رآك تسأل عن جدوى هذه المعيشة فالقى أمامك بسؤاله الحائر باعتبارك اكبر منه سنا وأكثر علما لماذا اختار الله بلادنا دون بقيةالبلدان لابتلائها بهذه الحلقات المستمرة المتواصلة من حكم الغزاة منذ فجر التاريخ والغزويتلوه غزوآخر دون هدنة صغيرة. لاشك ان الله حق فلماذا يرضى بهذا الظلم ولماذا لا يستجيب للدعاء الذي ترسله القلوب من اعماقها. قلوب هؤلاء البسطاء الأنقياء من اباء وامهات يسألون في كل صلاة ان يرفع سخطه وغضبه عنهمز ويبعد هؤلاء القوم الظالمين من طريقهم وينجيهم من شرهم لكي يعيشوا هانئين آمنين راضين بالرزق القليل الذي كتبه لهم. ويعبدوه بقلوب خاشعة مؤمنة متفانية في حبه وتقواه. ثم ينامون في انتظار شروق رحمته وعدله، فلا يجدون في اليوم التالي الا مزيدا من الظلم والعذاب والقهر
ــ فقل لي بالله عليك: اين يذهب كل هذا الدعاء؟
انه سؤال طالما طرحته أنت أيضاً على نفسك، حتى وأنت تقرأ كل صباح تسابيحك وأورادك باحثا عن جدوى هذه التسابيح. إلا أنك هنا في هذا الموقف وأمام هذا الفتى الذي يثق في علمك، ويؤمن بانك تملك الاجابات عن الاسئلة الحائرة التي تدور في ذهنه لابد ان تقول شيئا ترد به عليه غير الوقوف الحائر أمام الاسئلة الحائرة. لابد ان تسعى للعثور على تفسير يرضيه آملا ان يرضيك أنت أيضاً
ــ كيف يصرفهم عنا ويستجيب لدعائنا فيهم وهم جزء من ارادته.
وتجد سالم ينظر إليك بعينين تملؤهما الحيرة، فتحاول ان تصل معه إلى رأي أكثر وضوحا:
ــ اليس الشيطان رمزا لكل شر في الدنيا؟ فهل نستطيع ان نسأل الله ان يهلك هذا الشيطان؟ واذا سألناه ان يهلكه فهل سيستجيب لنا؟ انه لن يفعل لأن ارادته شاءت منذ الازل ان تكون الحياة الدنيا صراعا بين الخير والشر ولابد من وجود العنصرين كضرورة لوجود الحياة واستمرارها فأنت لا تستطيع ان تقول ان الزلازل والبراكين والفيضانات والاوبئة والأمراض التي تفتك بالبشر ليست جزءا من الارادة الالهية
لن يستطيع سالم ان يذهب معك أكثر من ذلك خوف الضلال ولذلك فهوبطريقته الساخرة يجد معبرا يخرجه من الموضوع الشائك:
ــ الزلزال لا يدوم أكثر من دقيقة أوبضع دقيقة، والفيضانات تاتي يوما وتمضي والطاعون قد يدوم أسبوعا أوشهرا يحصد أي منهم ما شاء من الارواح ويمضي. اما البلاء الاخير الذي ابتلانا به الله وهوالاستعمار الإيطالي فعمره الآن أكثر من ربع قرن ولا يزداد الا قوة وعنفا ورسوخا حاربناه حتى هلك نصف أهلنا كما حاربنا قبله اعاجم آخرين لا حصر لهم دون فائدة فهل ترانا سنجد هذه الفائدة عندما نذهب ونحارب تحت راية المحتل كما نفعل الان بدل ان نحاربه؟
سمعت صوت البوق يأذن بوجبة الطعام التي يعقبها النوم ويأمر بانتهاء هذه الفسحة فلم تشأ ان تترك الحديث معلقا عند هذه النقطة، قلت تواسيه وتواسي نفسك:
ــ لقد هجا العلماء والفقهاء هذه الحياة الفانية وما وجودنا في هذا المكان الا هجاء عملي لها.
احلت الموضوع إلى حياة أخرى ستكون أكثر عدلا وانصافا وما مجيئك إلى هذا المعسكر وانضمامك إلى جيش يعتزم الذهاب إلى الحرب في مجاهل القارة الافريقية الا تعجيل بلقاء هذا المصير أوهكذا اردت تبرير مجيئك الاختياري لهذا المعسكر. هاهوالعنبر يحتويك كجوف الحوت الذي احتوى النبي يونس مظلما، رطبا، ساخنا، كريه الرائحة. ويونس في بطن الحوت لا يحيا، كما يقول النص الديني، ولا يموت فلتعتبر ان شئت بمعاناة هذا النبي الذي حباه الله بالنبوة دون ان يعصمه من العذاب. نعم نعم وسواء جئت إلى عالم البق والقمل والبراغيث بارادتك أوبارادة عليا تسوق البشر الفانين إلى مصيرهم المحتوم. المقرر منذ الازل في لوح محفوظ فأنت الان هنا، في هذا المعسكر المحاط بالحراسات وابراج المراقبة. هذا هوعالمك الذي لا عالم لك سواه. فلماذا تتكلم كثيرا عن رغبتك في تحقيق الاندماج معه دون ان تفعل شيئا لتحقيق هذه الرغبة؟ لماذا تبقى ساخطا متذمرا، كأن السخط والتذمر سيضعان حدا لمحنتك ايها الاحمق؟ انك تختلف عن الاخرين الذين جاءوا إلى هنا مسحوبين بالسلاسل، تنغرس في ظهورهم سناكي البنادق الإيطاليون أيضاً يعتبرونك مختلفا عن بقية المجندين ويضعونك في مكانة اعلى منهم لأنك جئت إليهم باختيارك واقتناعك فلتكن في مستوى هذا التقدير ولتبدأ مسيرة الاندماج مع الاجواء السائدة في هذا المكان والانسجام مع روحه وبذل أقصى ما تستطيع من جهد للانتماء إليه. ولتكن منذ هذه اللحظة جزءا اصيلا من مؤسسة الرعب والموت التي يمثلها هذا المعسكر.
هاهوعراك ينشب في عنبرك بين أحد المجندين وبين المشرف على العنبر وهاهوالشاويش عنتر ياتي ومعه أحد اعوانه لتطبيق اللائحة التي تأمر بضرب المتمرد على النظام ثلاثين جلدة على قدميه. يزمجر الشاويش عنتر طالبا اثنين من قاطني العنبر يمسكان بالمذنب لكي يستطيع معاونه تطبيق العقوبة عليه فتتقدم مسرعا لتكون أحد الاثنين اللذين يمسكان به يبدأ المعاون في الجلد، إلا أنه جندي بليد، خامل لا يجيد استخدام السوط
إلى حد أنه أثناء إحدى الضربات رفع السوط عاليا حتى ضرب ذيله وجه رئيسه الشاويش عنتر الذي استشاط غيظا وافتك السوط من يده، وضربه به فوق ظهره، وتقدم لكي يباشر بنفسه تنفيذ العقوبة فوجدتها أنت فرصة لأن تبادر بعرض خدماتك عليه، ترجوه ان يسمح لك بان تتولى أنت المهمة. تأخذ منه السوط وتكمل ضرب زميلك هامسا لهذا الزميل بانك لم تأخذ السوط الا رغبة في ان تنقذه من ضربات الشاويش عنتر القاسية. بينما كانت ضرباتك في الحقيقة أكثر قسوة، لأنك كنت تسعى لإرضاء الشاويش عنتر عن طريقها، وكنت تنظر إليه بعد كل جلدة لترى مدى رضاه عنك. لا يهمك ان يصدق الزميل قولك أولايصدقه. فقد قررت ان ترتفع درجات عليه وعلى بقية رفاق العنبر. وتعلوقليلا فوق مستوى القاع الذي يلتصقون به. تريد ان يكون لك شأن مثل شأن الشاويش عنتر. انه هوسبيلك للنجاة من الانسحاق تحت الاقدام. والانضمام إلى عالم النفوذ والسلطة في المعسكر.
هاهويبتسم اعجابا بمهارتك في استعمال السوط وهاهويلقاك في اليوم التالي بكلمات الترحيب وياخذك من ذراعك ليدنيك من رئيسه الإيطالي اثناء طابور الصباح قائلا له انك عنصر يمكن الاعتماد عليه مذكرا اياه بانك الجندي الذى دخل إلى الجيش باختياره. وهاهي النتائج تأتي سريعا في مساء ذات اليوم عندما تحولت حشية القش التي تنام فوقها إلى سرير وفراش في مكان مستقل عن الاجسام المتكدسة فوق أرض العنبر بمفردك قرب الباب. فقد اختارك الشاويش عنتر لتكون عريفا للعنبر ومشرفا على ضبط النظام فيه بعد ان اخذ المشرف السابق إلى عنبر آخر. كلمتك الان هي الأولى في هذاالعنبر الذي يضم مئة وخمسين مجندا. وفوق هذا صار من حقك ان تنال حصة اكبر من مواد التنظيف بما في ذلك المطهر المستخدم في قتل البق والقمل والبراغيث والصراصير ها قد بدأت أولى خطواتك في تحقيق الاندماج تضاءلت لحظات التذنيب شيئا فشيئا حتى اختفت. ثم تضاءلت أيضاً ساعات التدريب نفسها بعد ان صار الشاويش عنتر يصطفيك لترافقه في بعض المهمات التأديبية. فأنت وحدك من اظهر مهارة في استخدام السوط والعصا أيضاً، مهارة يحسدك عليها أكثر الجلاوزة خبرة وقسوة. ومكافأة لك على هذه المهارة صار لك سوط تأخذه معك اينما ذهبت جاهزا للاستخدام كلما جاء الأمر من الشاويش عنتر بذلك. بل لك حق استخدامه دون الرجوع إلى الشاويش في بعض المناسبات كتلك اللحظات التي يتاخر فيها أحد المجندين في العنبر عن الاستيقاظ في الوقت المناسب لبدء الحك. فتذهب عندئذ إليه وتطرقع بالسوط فوق رأسه، أوتجلده على ظهره حتى يقوم. فهوسوط لا يفارقك وتعلقه اثناء النوم فوق رأسك، كانه عنوان وشعار، مثلك في ذلك مثل طاقم الحراسات دليلا اكيدا على مكانتك المتميزة في هذا المعسكر.
قال لك سالم هازلا:
ــ ها قد بدأ نجمك يسطع في هذه الربوع فهنيئا لك يا ابن العم.
ــ على الإنسان ان يختار بين ان يكون الضحية أوالجلاد، وأنت تعرف إلى أي مدى يكره أولاد الشيخ القيام بدور الضحية. لقد اختاروا حياة القحط والجفاف في تلك الصحراء هروبا من سيطرة الحاكمين في الاراضي الخصيبة.
ــ لا تجعل اثامك الشخصية اثاما لأهل أولاد الشيخ فهم مازالوا بشرا ولم يتحولوا إلى وحوش دعني أر ان كانت قد نبتت لك براثن وانياب لماذا تكذب على نفسك؟ لماذا لا تقول ان نفسك هانت عليك حتى لم تعد تعرف للهوان حدا؟ انني افضل الف مرة من اكون ضحية استقبل الضربات من ان اكون سوطا يستخدمه الطليان في ضرب أبناء بلده.
وكان لا بد ان تواجه اللهجة الغاضبة التي تكلم بها سالم بلهجة أكثر حدة وغضبا، عليك ان تلبس دورك الجديد حتى وأنت تواجه اقرب الناس إليك وان تمضي متقمصا شخصيتك المستعارة حتى النهاية اذا اردت تحقيق ما تصبوإليه من نجاح واي ضعف لن يكون غير شرخ في البناء الذي مازال في بدايته:
ــ اذا كان في الأمر مهانه يا ابن العم فانها مهانة من هم على شاكلتك وهي مهانة أكثر فداحة وبؤسا انها عار لم اعد اقوى على احتماله نعم سأكون سوطا يضرب، لا جلدا كجلد البغل أوالحمارأوالكلب لا يأنف من تحمل الضربات.
وغاضبا تركت سالم جالسا تحت أشجار الصنوبر وعدت للاحتماء بسيدك الذي اصطفاك معاونا له: الشاويش عنتر. فأنت بجواره تحس وكأنك لم تعد جزءا من هذه الكتلة الهلامية هذه الديدان التي كانت بشرا للسلطة بريقها ونشوتها ولها قيمتها التي لا يعرفها بدوي ساذج لا يريد ان يخرج من اقمطته القروية مثل سالم. أنت تعرف ان ما يحدث لك ولبلادك وللدنيا من حولك هوجزء من ارادة عليا لا تملك لها ردا دورة من دورات التاريخ لابد ان تمضي في طريقها حتى النهاية، وانك مهما فعلت فلن تستطيع لارادة الله تبديلا ولا تغييرا. فما العيب في ان تمضي مع هذا السياق وان تكون جزءا من هذه الكينونة أيها الاخ سالم العنيد البليد وفي اليوم التالي لم تصبر على فراقه ومقاطعة هذه الجلسة المسائية معه فذهبت تتجول بين أشجار الصنوبر تنتظر مجيئه لكن سالم لا ياتي ولم تكن تظن وأنت تراه يغيب لمدة اربع امسيات متواليات انه يدبر لك مكيدة حتى جاء الشاويش عنتر يسألك ان تترك حصة التمرين على فك السلاح لتأديب واحد من العصاة. ولم يكن هذا المجند الذي شق عصا الطاعة والذي استحق الجلد بالسوط غير صاحبك سالم. لقد افتعل عراكا مع أحد مدربيه ورفض ان يستجيب له عندما امره ان يقف في طابور المذنبين رافعا يده بجوار الجدار تحت شمس الظهيرة فحقت عليه العقوبة الاكبرالتي تنص عليها اللائحة وهي الجلد وجاء صوت الشاويش عنتر يحرضك على جلد صاحبك الذي تبدى ظهره عاريا أمامك يلمع تحت شمس الظهيرة، قائلا:
ــ هيا ثلاثون جلدة من جلداتك التي تعيد العقل الغائب لصاحبه.
وقفت حائرا، والسوط في يدك، لا تدري ماذا تفعل به. نداء القوة والسلطة يأتي هذه المرة متعارضا مع نداء الشرف والصداقة انها مهانة لإنسانيتك ورجولتك فالرجل صاحبك وقريبك وهي رابطة تدعوك لأن تدفع الاذى عنه ظالما أومظلوما لا ان تكون يد البطش التي تفتك به جاء صوت الشاويش عنتر مزمجرا:
ــ ما الذي تنتظر يا عثمان؟ اذقه من ويلات هذا السوط حتى يعرف ان الله حق.
انه يتكلم بلسان الشيطان متنكرا في صورة رجل يعرف الله ويعرف الحق كانت عينا سالم عندما التفت إليك تمتلئان تحديا وقوة كأنه يقـول لك:
ــ هيا اضرب ايها الحقير، لتعرف مهانتك وسقوطك.
رفعت يدك بالسوط مغمغما بكلمات اردت ان يسمعها سالم فقط:
ــ اجلدك انا خير من ان يجلدك غيري
فرقع السوط في الهواء دون ان يلامس ظهر الضحية وعندما لامسه في الضربة الثانية كان لمسا هينا ضعيفا جعل الشاويش عنتر يتميز غيظا:
ــ ما هذا الذي تفعله؟ أنت تلاعبه، لا تجلده، هات السوط اخذ منك السوط وامرك بلهجة حانقة ان تعود إلىحصة التمرين على فك وتركيب السلاح. ودون سوطك ذهبت إلى العنبرليلا. كان الخبر قد انتشر بين سكان عنبرك الذين رأوك تعود إليهم بلا سوط فصاروا يتضاحكون ويرمقونك بنظرات الاستهانة والسخرية. عرفوا انك الان مطرود من جنة سيدك، ولن تمضي سوى لحظات حتى يأتي لينزع الفراش والسرير من تحت عجيزتك ويعيدك ذليلا حقيرا إلى حشية القش. وجاء الشاويش عنتر يقف على رأسك، مبديا اعجابه بما يسود العنبر من هدوء ونظام. كان يقولك ذلك بلهجة ساخرة هازئة فقد كان الصخب والفوضي والمناكفة القائمة بين المجندين تجعل المعسكر مثالا لكل ماهوعكس النظام والهدوء والانضباط. كنت قد فشلت فعلا في فرض سيطرتك على الجماعة وكان صراخك يضيع في فضاء العنبر. واخشى ما كنت تخشاه الان هوان يأمر الشاويش عنتر أحدا غيرك بان يتولى الاشراف على العنبر الذي فشلت في ادارته ويكون عليك ان تمنحه صاغرا موقعك المتميز وفراشك ومفرشك وتعود لتصبح جزءامن الكتلة الهلامية لساكني العنبر. بل أكثر منهم جميعا ضعة وهوانا. انك لن تلومه اذا فعل بك ذلك فالنظام يريد حسما وعزما. وأنت أول من يعترف بتقصيره في ابداء هذا الحسم والعزم.
ولكنك لن تستطيع بعد ذلك ان تبقى في المعسكر. الشيء الوحيد الكريم هوان تقفز هاربا خارج السور. وليأت بعد ذلك رصاص الحراس يرديك قتيلا، فهذا افضل من رعب المهانة التي ستعيشها بين هذه الحشرات البشرية. هؤلاء الذين عاشروا القمل والبق والبراغيث طويلا حتى اكتسبوا خصائصها. ادهشك ان الشاويش عنتر لم يفعل شيئا مما كنت تتوقعه. زمجر في أهل العنبر أن يدخلوا تحت أغطيتهم وطرقع بالسوط فوق رؤوسهم فامتثلوا جميعا لتعلمياته. عاد العنبر إلى صمته وغادره الشاويش عنتر دون أن يقول لك شيئا. في اليوم التالي ذهبت إليه تطلب عفوه ورضاه تقبل يديه وتسأله أن يصفح عنك وتشرح له كيف ان المذنب الذي ابيت ان تضربه بقسوة كان ابن عم لك. جاء صوته حاسما:
ــ الواجب لا يعرف اخا ولا صديقا لا يعرف ابن عم أوخال أوخالة، هذا أول درس يجب ان تتعلمه في مهنتك هذه.
وهوكما يقول لا يصفح عنك إلا لأنك مازلت صغيرا. في طور التدريب والتعليم وقال لك بانه لن يتكلم معك بعد الآن باللغة العربية لأن أحد مؤهلات النجاح ان تتقن اللغة الإيطالية التي يجب ان تبذل أقصى ما لديك من جهد لاتقانها. وسيساعدك هوقدر استطاعته فادعيت انك لا تطمح لشيء إلا أن تكون تلميذًا في مدرسته تستفيد من خبرته وتجاربه. فأعاد لك السوط واصطحبك في مشوار من مشاويره لتأديب المارقين. استعدت بسرعة سيطرتك على العنبر بعد اليوم الذي اهتز فيه النظام. اقتضاك الحال أن تكون أكثر قسوة في معاملتهم فتعمدت جلد كل من أساء إليك ذلك اليوم. مستغلا رخصة الجلد التي تملكها لإيقاظ المجندين الكسالى. فكنت تجلد من تريد حتى لولم يكن نائما بحجة انك تريد ايقاظه. واستأذنت الشاويش عنتر في حرمانهم لمدة أسبوعين من رش ملابسهم ومراقدهم بدواء البق والقمل والبراغيث حتى يستجدوك ويطلبوا العفومنك. وصرت أكثر صرامة في تطبيق النظام بحيث حرمتهم حتى من تبادل الحديث بعد إطفاء النور، والدخول تحت الاغطية. قال لك سالم بعد ان عاد لصحبتك وانتهاء أيام القطيعة:
ــ اردت فقط ان اريك كم هي مهينة مهنة الجلاد.
ــ المهانة داخل هذا المعسكر ليست اختيارا انها اسلوب حياة مادة اجبارية في منهج العمل والدراسة كما ترى.
ــ لا ادري كيف تطاوعك نفسك على القيام بهذه الدور الذي اجده غريبا على شخصيتك التي عرفتها في القرية؟
ــ دعنا لا نعود إلى الحديث عن هذا الموضوع لكي لا يفسد صداقتنا.
ــ اعرف انه شيء عارض وليس شيئا اصيلا في شخصيتك، والا ما حرصت على هذه الصداقة.
بالغت فيما تلا ذلك من أيام في اظهار الود والولاء للشاويش عنتر بامل ان يبالغ هوأيضاً في الاشادة بك لدى رؤسائه الطليان في التقارير التي يكتبها لهم. وعرفت فيما بعد انه لم يقصر في تقديم هذه الاشادة وتعريفهم بانك بين قليلين جدا يجيدون القراءة والكتابة باللغة العربية ويجتهد في تعلم اللغة الإيطالية. وجاء الاحتفال بانتهاء مرحلة التدريب الأساسي في نهايةالشهر السادس مناسبة لأن تحصد نتائح ما زرعت، وان تحقق هذه المرة اعترافا إيطاليا بمهاراتك وذلك بنيلك شريطا يضعونه فوق زندك، ينقلك إلى عالم ارقى من عالم المجندين الذين لا شرائط فوق زنودهم. ويتصادف ان يأتي المارشال بالبونفسه الحاكم الإيطالي لليبيا ليحضر الحفل. ويشاء حظك ان تصافحه وتصوَّر معه وهويضع لك الشريط. لقد تم تعميدك من اكبر رأس في البلاد دليلا على ارتفاع مكانتك وعلوشأنك. وانك أصيحت منذ اليوم عضوا في الدائرة الاعلى التي تحيط باصحاب السلطة والنفوذ.

                            (9)
لم يعد الأمر مجرد سرير فوقه فراش بجوارالباب. وسوط معلق بمسمار فوق رأسك. وسلطة مؤقتة ممنوحة لك من الشاويش عنتر. وانما شريط يمنحك اسبقية على كل هذه الكائنات التي تزحف على ركبها اثناء ساعات التدريب والتذنيب ولا أحد يستطيع ان يسلبه منك ولوكان بالبونفسه، الا بحكم من محكمة عسكرية. ولم تمض سوى ساعات قليلة على تقليدك الشريط، حتى اكتشفت ان له مزايا أخرى لم تكن تعلم عنها شيئا. إنه يفتح أمامك عالما كان مغلقا على امثالك ولا سبيل لدخوله الا لمن زين ذراعه شريط كهذا الشريط، هوعالم النادي المخصص للضباط وضباط الصف الإيطاليين. فقد صار بامكانك الان ان تدخل إليه لا كعضومن اعضائه، فهذه العضوية حكر على الإيطاليين ولكن كخادم من الخدم المحظوظين المسموح لهم بدخول هذه الاماكن يستمتعون باجوائها الاحتفالية ويأكلون من ذات الصحاف التي كان يأكل منها الاعضاء ويشاهدون معهم الحفلات الراقصة والعروض السينمائية وينعمون مثلهم بانغام الموسيقى واستنشاق عطور النساء الجميلات اللاتي يزرن النادي. كما اتاح لك الشريط ان تخرج في مهمات خارج المعسكر، وان تعبر البوابات الكبيرة لترى الدنيا الفسيحة الرحيبة خلف الاسوار العالية. لقد صار بامكانك الان ان تتولى مهمات حمل الرسائل وجلب المؤن والمشاركة في حملات البحث عن مجندين جدد.
وقفت في أول هذه المهمات خارج المعسكر تستنشق هواء جديدا تعرف ان أحدا من زملائك لم يستنشقه منذ ان اختفى خلف هذه الاسوار. يخالجك احساس بالفرح وكأنك حققت انعتاقا كاملا من عالم المجندين. وراودتك وأنت ترى نفسك بعيدا عن الحراسات واجهزة الرصد والمراقبة أحلام العودة إلى قريتك. وان ترى امك المريضة وتهرب نهائيا من كوابيس هذا المعسكر. كان ذلك مجرد خاطر عابر فأنت تريد اليوم ان تكون محل ثقة هؤلاء الاسياد. لأنك تعرف ان لا فائدة من الهروب وكما كان يقول أحد الشيوخ المتعاونين مع الطليان لأهل قبيلته الخارجين عن طوعهم بان الحكومة الإيطالية هي الأرض وهم مثل الطائر الذي مهما نقلته جناحاه بعيدا في الاجواء العليا سيعود مرغما إلى الأرض. هكذا تقول حقائق الحياة. مهما كنت شاطرا ونجحت في هروبك لبعض الوقت، فما فائدة ان تقضي أيامك سجين جدران البيت الذي ستختبىء فيه؟ ما فائدة ان تستبدل سجنا انفراديًا بسجن جماعي؟
طردت الفكرة من رأسك معترفا بحقيقة انك الان أصيحت داخل المصيدة، مصيدة الحياة العسكرية في جيش المحتلين حيث لا فكاك ولا نجاة إلى ان تنتهي الحملة ليكون من حق الذين بقوا على قيد الحياة بعد الحرب العودة إلى حياتهم المدنية وخير وسيلة للتعامل مع هذه الحالة هوالحرص على تحسين ظروفك المعيشية داخل هذه البيئة وتحت هذه الشروط. وها أنت الان تنعم بمكانة افضل من زملائك وتلقى من الإيطاليين معاملة لا يحلم بها أحد منهم. فلا تجعل الوقت يضيع أكثر من ذلك وانطلق سريعا لقضاء حوائج الاسياد كي يزدادوا اعجابا بك. لم يعد الشاويش عنتر هوسيدك. لقد أصيحت من اصحاب الرتب أنت أيضاً. ولغتك الإيطالية تحسنت كثيرا بحيث صارت تسعفك لفهم ما تسمعه والرد عليه، فلا حاجة لك به، ولا حق له عليك الا اداء واجب الاحترام لرجل اكبر منك رتبة وسنا. جعلت هذا اليوم الذي عبرت فيه بوابة المعسكر لأول مرة إلى العالم الخارجي عيدا من اعياد الحرية.
كانت المهمة هي ايصال رسالة إلى مركز المدينة فسرت مسرع الخطى إلى الشارع الرئيسي حيث وجدت عربة شريول تستخدم لنقل الراكبين. قفزت إلى العربة لتي يجرها حصان يخب خببا أوصلتك بسرعة إلى المركز واكسبتك بعض الوقت الاضافي، تقضيه في التسرية عن نفسك. القيت الرسالة بسرعة لموظف الاستعلامات في بنك روما، ودخلت شارع الكورسوحيث المحلات الإيطالية التي تزين واجهاتها الاضواء والمرايا والديكور الجميل. وجدت حانوتا يبيع الجيلاتي فلم تتردد في دفع عشرين بارة وشراء قالب تلعقه وأنت تمشي في الشارع بملابسك العسكرية غير عابىء ان كان ذلك مخالفا للأوامر والنواهي العسكرية. ووقفت أمام سينما الأوديون حيث يعرض فيلم إيطالي وقد امتلأت الواجهة الزجاجية بصور النساء الجميلات والمشاهد الغرامية فقررت صرف مزيد من النقود على مشاهدة الفيلم. انها ساعة القيلولة في المعسكر ولن يكترث أحد لحضورك أوغيابك. هذه هي المرة الأولى التي تدخل فيها السينما التي سمعت عنها دون ان تراها دخلت وكدت تخرج هاربا صارخا عندما رأيت قطارا يأتي من عمق الشاشة ليداهمك قفزت مفزوعا ثم سيطرت على اعصابك وتسمرت في مقعدك ما نعا نفسك من الهروب وأنت ترى الناس بجوارك في عتمة السينما يلعقون الجيلاتي ويقزقزون السامينسا. غير مهتمين بالاندفاع الجنوني للقطار انهم يعرفون اكثر منك انها مجرد اخيلة على الشاشة.
كان الشيء الذي اثار انتباهك أكثر من الفيلم نفسه، النشرة الاخبارية المصورة التي تعرض قبل الفيلم الدوتشي في روما بملامح وجهه الغليظة وفكه القاسي الذي يبدومنحوتا من صخرالجرانيت. يقف خطيبا في واحد من ميادين روما الكبيرة وسط حشود بشرية تتلاطم كأمواج البحر تصرخ باسمه في حالة هستيرية وترد على كل فقرة من خطابه بالهتافات والصياح المجنون. ايتالوبالبويقود طيارته الصغيرة وبجواره امرأة شقراء يتفقد المناطق الداخلية في ليبيا حيث يخرج له في كل منطقة أهلها في جموع كبيرة مرحبين هاتفين باسمه وهويلوح لهم بيده. احتفال كبير يقام على رصيف الميناء لسفينة إيطالية تحمل ثلاثة الاف مهاجر من باليرمويهبطون من الباخرة ليجدوا المارشال بالبوواقفا مع رجال السلطة يرحبون بهم صحبة فرقة موسيقة تعزف الأناشيد، وعدد من سيدات المجتمع الإيطالي في طرابلس يحملن باقات الأزهار ترحيبا بالوافدين الجدد هناك بالتأكيد عالم جديد يبنيه الإيطاليون لأنفسهم في هذه البلاد، تذكرت وأنت تشاهد المواقف الغرامية التي امتلأ بها الفيلم ثريا، وندمت لأنك اضعت هذا الوقت في مشاهدة الصور المتحركة بدل ان تمضي لزيارتها. تركت الفيلم قبل ان يكتمل وخرجت من السينما بقصد الذهاب إليها اكتشفت وأنت في الشارع انك تأخرت أكثر من ساعة عن موعد عودتك إلى المعسكر فأخذت على نفسك عهدا الا تسمح بانقضا ء دقيقة واحدة من وقتك في المرة القادمة التي تخرج فيها من المعسكر لا تكون مسخرة لهدف واحد هوزيارة ثريا
كانت مفاجأة وأنت تخدم الإيطاليين في سهرة نهاية الأسبوع بنادي الضباط ان تجد بين الجالسن في النادي امرأة ليبية. لم يكن هناك شيء في مظهرها ينبى بمنبتها العربي الليبي. فهي ترتدي فستانا كثيراللمعان يكشف عن جزء من جسمها أكثر بريقا ولمعانا، هوظهرها وكتفيها وصدرها حتى منبت النهدين. مثلها مثل أكثر النساء الإيطاليات اناقة وتحررا ذات بشرة بيضاء حمراء شديدة النقاء لا يملكها الا قلة من أهل البلاد القاطنين بالمدينة. وتصفف شعرها الفاحم السواد على شكل تاج من تيجان ملوك روما وتضع في عنقها قلادة من الذهب محلاة بفصوص من الاحجار الكريمة لا تشبه قلائد الذهب الشرقية التقليدية التي ترتديها النساء الليبيات. وفوق هذا وذاك فقد كانت تفعل شيئا مهولا لم تسمع بان امرأة ليبية اقدمت عليه من قبل هواحتساء كؤوس النبيذ وتبادل الانخاب مع من حولها من الضباط فكان شيئا مستحيلا رغم جمالها الشرقي الذي تبدى واضحا في عينيها الواسعتين السوداوين ان تهتدي إلى هويتها الليبية.
كان المحترفون من قدماء الخدم الذين يعملون طهاة وجرسونات هم الذين يقومون بخدمة الضيوف وتلبية طلباتهم وكانت مهمتك ادنى من ذلك قليلا مثل نقل المناضد من مكان إلى آخر وجلب الكراسي من المخزن واعادتها إليه، والاهتمام بنظافة المكان. وكنت قد جئت إلى حيت تجلس المرأة تضع شموعا جديدة في الشمعدان الفضي الكبير الذي يزين ركنا من اركان النادي تصادف ان جلست المرأة قريبا منه. فقد كان النادي ورغم اضاءة الكهرباء يستعين بالشموع لتنوير بعض الاركان لخدمة غرضين: الأول اضفاء لمسة شاعرية رومانسية على هذه الاركان، والثاني انه في حالة هروب الكهرباء وهي كثيرا ما تهرب في هذه المناطق يبقى المكان مضاء بالشموع فلا تحدث حالة فزع بين الزبائن. وجدتها تنظر إليك ووجها يفيض بابتسامة مبهجة
ثم سمعتها تقول لك بلغة عربية لييبة خالية من اية لكنة:
ـ عربي اليس كذلك؟
ـ عربي من أولاد الشيخ واسمي عثمان
كنت قد ظننت في البداية أنها إحدى الإيطاليات ممن يجدن الحديث باللهجة الليبية. وكانت مفاجأة مذهلة عندما اخذت نفسا من سيجارتها عبر المبسم الطويل ونفثت الدخان في الهواء وقد كورت شفتيها بشكل شديد الاغراء وقالت وهي تضع هباء السيجارة في المنفضة بحركة رشيقة:
ـ وأنا أيضاً عربية من طرابلس
امعنت فيها النظر ترفع بصرك وتهبط به وكانك لا تصدق ما تقول هذه المرأة متأملا اياها من مشبك الذهب في اعلى رأسها إلى الفصوص البيضاء المتوهجة تحت مسقط النور التي ترصع الاساور في معصميها والخواتم في أصابعها إلى منطقة السحروالاغراء في الجزء العاري من صدرها، إلى الفستان الأسود اللامع الذي تزين حواشيه خيوط الفضة. كل ما فيها ينبيء بانها امرأة تنتمي إلى ارقى طبقات المجتمع الإيطالي فكيف تأتى لها ان تكون امرأة ليبية. تحظى بانحناءات هؤلاء الضباط الذين تسارعوا لاشعال سيجارتها وهؤلاء الجرسونات الذين يقفون بانتظار اشارة من اصبعها فيهرعون لخدمتها كانها ملكة كيف يمكن لاي كائن ذكر أوأنثى ينتمي لدنيا العرب الليبيين المساكين أن يصل إلى هذه المراتب العالية في مجتمع الإيطاليين، بل كان واضحا انها تتعامل باحتقار مع كل هؤلاء الضباط الذين قطعت الاستماع إليهم وانصرفت للحديث معك كانها تريد ابلاغهم رسالة بهذه الالتفاتة لعامل الشموع الذي هوأنت.
كنت قد ازلت بقايا الشموع المطفأة من الشمعدان ووضعت بدلا منها شموعا جديدة واشعلتها وطأطأت رأسك منسحبا وأنت تقول في لهجة هامسة:
ـ تشرفنا اعظم الشرف يا سيدتي
سألتك السيدة باشارة من يدها أن تبقى، قبل ان تقول لك:
ـ إنه شمعدان جميل وأنيق أريد واحدا مثله في بيتي
فهل تعرف كيف أحصل عليه؟
ـ من المخزن طبعا يا سيدتي.
ـ إنني أتحدث عن السوق أريد أن اشتري واحدا مثله
فهل تعينني على ذلك؟
ـ بكل فرح
ـ إذن أعرف لي ثمنه ثم أحضر إلى بيتي لاعطيك النقود
أريد واحدا مثله تماما منزلي بشارع البريد رقم 7 سانتظرك غدا صباحا
ـ الأمر يحتاج إلى إذن من الضابط المناوب في المعسكر
ـ أخبرهم فقط انك ذاهب لاداء خدمة تخص السنيورة حورية.
عندما عدت إلى المطبخ لتخبر العرب الاخرين باكتشافك المدهش وجدت ان امر السنيورة حورية ليس جديدا بالنسبة لهم. فهم جميع يعرفونها لأنها كثيرا ما جاءت لحضور الحفلات التي تقام بنادي الضباط. وكثيرا ما تبسطت مع العرب الذين يخدمون الطليان في النادي تسأل عن احوالهم وتوصي بهم رؤساءهم خيرا. وتمنحهم الهبات والعطايا السخية في الاعياد والمناسبات تأكيدا للصلة التي تجمعها بهم. فهي رغم حياتها مع الطليان وعلومكانتها بينهم لا تنكر أهلها واصلها مما زاد من محبة هؤلاء الخدم لها. وكان اخطر ما ابلغوك به هامسين هوان السنيورة حورية ليست الا المحظية الأولى لحاكم البلاد المارشال ايتالوبالبو. ولذلك فان الكثيرين يعتبرونها ثاني اقوى شخصية في البلاد لأن المارشال لا يرد لها طلبا. ولهذا مضى بعض الخدم الليبيين يهنئونك على هذه الفرصة، التي جعلتك تحظى برضا السيدة حورية إلى حد ان تطلب خدمة منك وتدعوك للمجيء إلى بيتها. وهي التي يتزاحم على خدمتها كبار القوم من عرب وإيطاليين. ولوطلبت هذا الشمعدان من جنرال إيطالي لذهب سعيدا يلبي مطلبها.
برغم هذا الكلام الجميل فقد امتلأ قلبك كدرا وضيقا ولم تر في هذه المهمة التي كلفتك بها السيدة سوى مازق جديد قد يقودك إلى ما هوأكثر شرا. فأنت تعرف مما سمعت وقرأت خطورة الاقتراب من نساء الحكام خاصة اذا كانت العلاقة بين الحاكم وامرأته على هذه الدرجة من التحرر والاباحية. انك وان عشت في المدينة عاما كاملا قبل التحاقك بالمعسكر فأنت قروي ما تزال، تحمل مايحمله أهل قريتك من احتقار لاي امراة ترتبط بعلاقة آثمة بالرجال. فكيف وأنت ترى امرأة من لحمك ودمك ليبية مثلك، تبيع لحمها رخيصا لرئيس الغزاة الطليان، وعليك بعد ذلك ان تذهب إلى بيتها خادما ذليلا يقدم لها آيات الطاعة والولاء. تمنيت في اليوم التالي وأنت تطلب اذنا من الضابط الإيطالي المناوب ان يرفض طلبك ولكنه خيب ظنك ومنحك تصريحا تغيب بموجبه عن المعسكر حتى الساعة السادسة مساء أي انه منحك نهارا كاملا لتقديم هذه الخدمة التافهة للسنيورة حورية تركت المعسكر وخرجت إلى فضاءات العالم الخارجي بين يديك اثنتا عشرة ساعة بالتمام والكمال حتى يحين موعد عودتك إلى المعسكر، فما عساك ان تفعل بهذا الوقت كله وامر السنيورة حورية لا يقتضي أكثر من ساعة واحدة ورأيت انه لا قيمة ولا اهمية لكل هذا القدر من الحرية ان لم يكن سبيلا للقاء ثريا.
قررت ان تعطي الأولوية لثريا ولم تشأ اضاعة الوقت بالمرور على دكان الحاج المهدي تتسقط اخبارها فأنت تعلم علم اليقين انها تقيم الان في بيت والدها بعد ان غاب عنها زوجهاواشتريت فاكهة من دكان قريب وصعدت الدرج تحمل قرطاس الفاكهة وتطرق باب البيت. سألت عنها الصبي الذي فتح لك الباب وذكرت له اسمك فذهب وعاد مسرعا يخبرك بانها قادمة. ثريا قادمة، اليس هذا في حد ذاته مجلبة للفرحز فلماذا اذن تعذب نفسك بالاسئلة؟ عن لماذا جئت تركض خلفها؟ وما الذي تريده منها وما الذي يمكنك ان تقوله لها وتختلقه كذريعة للسؤال عنها؟ وما حاجتك للعثور على اجوبة لهذه الاسئلة؟ يكفي ان تراها وتطفىء هذه الحرقة التي تملأ القلب والوجدان.
جاءت ثريا وأنت لا تكاد تصدق بان المرأة التي ما عشق القلب سواها هي الان أمامك بقوامها الانسيابي ووجهها المستدير الجميل وعينهيها العسليتين. ترتدي ثوبا قطنيا ينسكب فوق جسمها انسكابا ويظهر بشكل فاتن استدارة نهديها. يضيء وجهها القمحي الابتسام رغم محنتها. كيف لك ان تسكت هذا الهدير الذي يصنعه جريان الدم في عروقك؟ هذا الدوي الذي تصنعه دقات القلب في صدرك؟ انها لا يمكن الا تكون قد سمعت هذا الهدير وهذا الدوي. ولا يمكن ان لا تكون قد رأت هذه الرعشة التي تهز بدنك كله. انك مفضوح أمامها ولا شي يستر عري عواطفك. كنت غائبا عن الدنيا وراء اسوا ر المعسكر لمدة ستة اشهر حدث خلالها احتقان لهذه العواطف والانفعالات التي ارادت ان تتفجر لحظة ان رأت الدنيا.
ثريا هي الدنيا. ثريا تلخيص موجز وعبقري لكل ما فيها من مباهج وملذات وفرح، وما فيها من حسرة واسى وحرمان، ها أنت تمد يدك لتصافح يدها، لكي تكون هذه الملامسة اتصالا سحريا مع اكسير الحياة الذي يتحول إلى سائل نادر يجري مجرى الدم في العروق، يصنع عيدا للجسد والروح توارت قليلا خلف الباب وهي تخاطبك:
ـ أهلا عثمان، امازلت على قيد الحياة؟
قالتها بطريقة مرحة، ازالت جهامة الموت المضمر داخل الجملة. وبرغم الاندهاش الذي مازال يعقد لسانك وأنت تراها. فقد وجدت نفسك تقول بذات الطريقة التي تهزأ بالموت:
ـ وهل جاءكم الناعي يحمل اخبار موتي؟
قالت مفزوعة:
ـ ابعد الله عنك الشر.
ثم استأنفت حديثها:
ـ الناس يقيمون المناحات ويعتبرون كل من شملته حملة التجنيد في عداد الاموات. كيف استطعت الخروج؟ هل هربت؟
ـ لم اهرب.انني اكلف أحياناً باعمال خارج المعسكر.
ـ ماذا يفعلون بكم هناك؟ هل حقا يضربونكم حتى تشرفوا على الهلاك؟
لم تقل لها انك انتقلت من خانة المضروبين، إلى خانة حاملي السياط لضرب الاخرين. بدلا من ذلك سألتها مستنكرا ما قالته:
ـ من قال لك هذا الكلام الفارغ؟
ـ هذا ما يقوله الناس.
وقبل ان تجد فرصة لتفنيد كلام الناس سالتك ثريا بشيء من اللهفة:
ـ هل رأيت فتحي؟
ـ لم اره. الا تعرفون أنتم اخباره؟
ـ غريب انك لم تره، لأن كل ما نعرفه عنه انه محجوز بواحد من هذه المعسكرات التي لا يزورها احد ولا يخرج منها احد.
ـ هناك معسكر آخر في تاجوراء لعله هناك.
ـ سأل عنه والدي كثيرا دون فائدة قالوا بانهم سيسمحون لهم بالخروج لزيارة أهلهم قبل الرحيل إلى بر الأحباش. كنت تستطيع ان ترى تشوقها لمعرفة اخبار زوجها لعلها حقا تحبه ولكنك كنت دائما على يقين من انها تحمل لك أنت وحدك عاطفة لا تحملها لاحد سواك مهما كانت هذه العلاقة التي بينكما قوية، فلعلها أصبحت شيئا من الماضي بالنسبة لها بعد ان ساقتها الاقدار للزواج من هذا الرجل. الزوج يبقى دائما هوالزوج. انه الإنسان الذي ربطتها به علاقة قدر ومصير هي هذه الرابطة الشرعية التي تباركها الملائكة في السماء، وتحال بموجبها اية علاقة تربطها برجل اخر إلى ظلام النسيان واذا اطلت برأسها فهي علاقة آثمة تنسب إلى الشيطان والعياذ بالله. هكذا تفهم المرأة الشريفة في هذا المجتمع الزواج لم يعد لك مكان في حياتها وليس من حقك ان تلومها وهي تفعل ذلك. فلماذا تتعب نفسك بالسير في الطرق المسدودة؟ ما فائدة ان يركض الإنسان خلف جنازة حبه، وهويعرف انه لن يحصد الا النواح، ولن يزيده الجري الا مزيدا من العذاب؟ سألتها ان كان بامكانك ان تقدم اية خدمة تحتاجها فلم تقل ثريا شيئا اذ ماذا بامكانك ان تقدم لامرأة تنتظر عودة زوجها من معسكرات الحرب؟ دفعت إليها بقرطاس الفاكهة وهبطت الدرج مسرعا. هل هذه آخر مرة ترى فيها ثريا؟ كان هذا السؤال يملؤك فزعا، ولكن هاتفا ظل يهتف بك قائلا لا تفزع فان كل محنة مهما كانت كبيرة، لا بد ان تصحبها مكافأة ما. وربما كان حجم المكافأة بحجم المحنة نفسها.
كان الهاتف يقول لك بان ثريا امرأتك أنت، ويجب الا تكون امرأة سواك، مهما قالت مواثيق الزواج وعقوده الباطلة الكاذبة. فعقد الزواج لا يمكن ان يكون نهاية المطاف. وما أكثر ما تم اسقاطه وابطاله، لينال المحبان الانصاف الذي حرمهما منه ذاك الزواج الباطل. ويتحقق لهما الوصال بعد ان ظنا كل الظن الا تلاقيا المشكلة قلت لنفسك ان ثريا لم تعطك اية اشارة ولوصغيرة تنبىء بمثل هذا الكلام. انها زوجة لفتحي ومن حقه عليها وحقها على نفسها ان تحفظ عهده وتصون نفسها له بمثل ما تفعل الحرائر من النساء. وأنت لا تطالبها بالتمرد والعصيان والخروج على هذا العهد. ولكنك كنت تتمنى ان ترى تلك الاشارة الغائبة لحبكما القديم. ومع ذلك فان الهاتف مازال يلح عليك قائلا بان هذا ليس هونهاية الطريق مع ثريا. لعله يقول ذلك لمجرد المواساة والتمني. آه لوكنت متأكدا من ذلك، اذن لجعلت هدفك الوحيد اثناء الحرب، ان تبقى حيا حتى تعود إليها. بل ان هذا هوما ستفعله لأنك واثق من ان ذلك الحدس الذي يقول بانكما لم تخلقا الا لبعضكما، لن يخيب.
ـ ثريا، شكرا لله لأنه أوجدك في هذه الدنيا.
تركت بيت ثريا في الجزء القديم من المدينة، وانطلقت مسرعا إلى بيت السنيورة حورية، في الجزء الجديد منها وكانك تلقي بنفسك إلى التهلكة. مررت سريعا بمغازة تاجر يهودي يبيع الادوات المنزلية المصنوعة من الفضة بشارع الكورسو. وعرفت ثمن الشمعدان الذي تريده الهانم. ثم ذهبت دون ابطاء إلى شقتها بشارع البريد. وجدت بباب العمارة سيارة عسكرية وجنودا إيطاليين. يسألك احدهم وهويراك تهم بدخول العمارة عما تريد وعندما تخبره يقودك إلى باب الشقة، فيفتح الباب صبي أسود في منتصف العقد الثاني من عمره يتكلم العربية بلكنة افريقية يسمع اسمك فيقودك إلى الردهة الواسعة بالداخل.

                            (10)
غاصت قدماك في البسط السميكة التي تغطي أرضية البيت وأنت تدخل إلى حيث الارائك والكراسي الفوتيل ذات القماش الوبري الازرق وقد طليت حوافها الخشبية بماء الذهب والمرايا التي تغطي اجزاء كثيرة من الجدران يؤطرها خشب كثير النقوش والزخارف، واصص الأزهار التي تفوح بروائح زكية والموزعة في اركان الردهة والصالون وصورة شمسية كبيرة للمارشال بالبوبلحيته الصغيرة الأنيقة المدببة كانها مرسومة بالحبر الصيني الداكن السواد وبزته العسكرية المرقشة بالنياشين معلقة على جدار الصالون بجوار صورة أخرى له وهويصافح الدوتشي ومن وسط السقف تدلت بيضة نعام كبيرة مشدودة بسيور من الجلد الأحمر ورأيت عندما جلست صورا أخرى على الجدار المقابل تضم حورية وبالبوفي لقطات ذات طابع حميمي تسند في احداها رأسها على كتفه وتجلس في الأخرى بجواره وهوفي مقعد القيادة بالطائرة الصغيرة التي يتولى دائما قيادتها بنفسه متنقلا بين بيوته الكثيرة في المدن الليبية. وبين هذه الصور والمرايا تتوزع في ترتيب جميل مجموعة من جلود الحيوانات: نمر وغزال واسد وحمار وحشي، وفوقها رقعة تحمل سن الفيل معلقة بها قلائد من العقيق الازرق والأحمر وفاحت في ارجاء البيت رائحة بخور كالمسك غطت على رائحة الزهور واضفت على جوالبيت شيئا من الالفة. لأنك تحب هذه الرائحة منذ ان تنشقتها لأول مرة في احدى الاحتفالات الدينية بالقرية يعطر بها شيخ الزاوية المحتفلين إلا أن هذه الرائحة المحببة آلي نفسك وهذا الجوالحافل بالرموز والتكوينات الجمالية الشرقية الافريقية لم تفلح في ازالة شعورك بالقلق والارتباك.
ودون ابطاء جاء ت حورية ترتدي في قدميها خفا له سيور ملونة تظهر منه أصابع قدميها المخضبة بالحناء ولف جسمها في روب ابيض، تجفف شعرها وتغطيه بفوطة الحمام وقد تساقطت بعض قطرات الماء فوق وجهها المتورد فزادها ذلك جمالا وفتنة وجعل وجهها يأخذ شكل وردة حمراء بللها الندى. وقفت لحظة ظهورها تستقبلها في وضع انتباه فضحكت حورية ضحكة لها رنين ارتفع معها رأسها وانثنى جسمها إلى الخلف. فبدا صدرها أكثر بروزا وانحسر الروب عن جيد مصقول شديد التوهج واللمعان. ادركت انك وقعت في شر اعمالك وان حالك الان يشبه حال سيدنا آدم وهويقف أمام شجرة الفاكهة المحرمة وبدا واضحا ان بالبولم يترك نساء الطليان ويختار هذه المرأة عبثا لقد عرف كيف ينتقي أجمل جوهرة انجبتها صحراء الشمس والرمال الحمراء. قالت بعد ان فرغت من الضحك:
ـ انني لست جنرالا فلا تقف متخشبا هكذا استرح وانزع عن وجهك هذا القناع العسكري.
جلست حورية ودعتك في مرح واريحية إلى الجلوس في المقعد الذي يجاورها انها امرأة تعاشر عسكريا مخضرما شارك في الزحف على روما وتعرف كيف تنفذ بسحرها إلى قلوب الرجال كبارا وصغارا. جلست على طرف المقعد تستحلب لعابك لترطيب الجفاف الذي تحس به في حلقك، وكأنك في حضرة ساحرة من ساحرات الاساطير تستطيع بسحرها ان تقلب الإنسان حجرا. ليس هناك ما تخشاه فأنت على دراية بما ينتظرك في هذا البيت. ولكن حجم المفارقة كان كبيرا. فهذه السيدة بعد كل شيء امرأة من أهلك ليبية مثلك تعاشر رجلا كافرا بالحرام، وتعيش في بيت من بيوته مما يجعلها بحكم التقاليد والاعراف التي يرجع إليها الناس في تقييمهم لأبناء وبنات مجتمعهاتهم امرأة سوء لا تستحق سوى الاحتقار. اضف إلى ذلك ان الرجل الذي تعاشره ليس سوى رئيس جيش الغزاة وجلاد هذه البلاد. هكذا سيراه الناس دائما حتى لوظهر في ثياب المصلحين. ومعنى ذلك انها تستحق احتقارا أكثر من ذلك الذي تستحقه النساء الساقطات اللاتي يبعن الهوى في اكواخ خارج السور.
المفارقة ان هذه المرأة الساقطة التى جئت تخدمها وتقدم لها فروض الولاء والطاعة اضحت وبسبب سقوطها هذا اقوى شخصية عربية في بلادها. بل ان بعض خدم النادي يتناقلون باكبار واعجاب مختلف الحكايات عن كرمها واعمال الخير التي تقوم بها لصالح المعوزين والفقراء
ـ اذن فاسمك عثمان وتقول انك من
ـ أولاد الشيخ منطقة القبلة والحمادة الحمراء.
ـ ايتالويحب الواحات كثيرا جعلني احبها انا أيضاً
وكثيرا ما نقضي العطلة الأسبوعية في غدامس. لدينا بيت هناك يطل على عين الفرس أجمل وقت هناك هوالصباح الباكر، شروق الشمس هناك شيء فظيع مدمر مرعب.
لم تكن تنقصك النباهة لتفهم ان ايتالوالذي تتحدث عنه ليس الا المارشال بالبونفسه. فقد اضحت علاقتها به علاقة علنية تعرفها ليبيا كلها. والرجل لا يبالي ان يراها الناس معه اينما ذهب. يدخل بها الاحتفالات ويسافر بها إلى مدن الدواخل ويتنقل معها في سيارته المكشوفة في شوارع طرابلس. اللكنة التي تتكلم بها تنتمي إلى المدينة. ولكن ما هذا الذي تراه فظيعا ومدمرا ومرعبا في مشهد الشروق؟ لقد اقتضى الأمر ان تسمع المزيد من حديثها لتدرك ان هذه هي طريقتها في التعبير عن اعجابها بالاشياء. فلا يعادل فظاعة الشروق في غدامس الا فظاعة ورعب الغروب في جزيرة فروة من شرفة الاستراحة التي شيدها المارشال بالبوهناك وهكذا فان الانتقال بين الصحراء والبحر يتيح للإنسان فرصةالاستمتاع بتعدد المشاهد الطبيعية، وتنوع الجمال والوانه في بلادنا كما تقول حورية.
انها لا تأتي على ذكر الشمعدان الذي من أجله جئت إلى هذا البيت وكأنه سقط من ذاكرتها. وبرغم الكهرباء التي تنعم بها بيوت الحكام في طرابلس، إلا أن الشموع لم تفقد بعد مكانتها حتى في هذه البيوت
ـ كنت اتمنى ان اشتري الشمعدان واقدمه هدية إليك
ولكن صاحب المتجر لا يبيع بالدين. سألتك عن الثمن وأنت تقف استعدادا للخروج، فدعتك للبقاء حتى تنتهي من تناول فنجان القهوة الذي جاء به الصبي الزنجي مرجان. وظلت هي في جلستها الانسيابية وقد انحسر الروب عن جزء من ساقها، فبدا تحت ضوءالنافذة لامعا كالبلور. وجاءت قطة جميلة مزركشة تتهادى وتتثاءب وتتمسح بها. فقالت حورية وهي تنحني تلتقط القطة وتضعها في حجرهاثم تمرر أصابعها بفروتها وأنت تنظر في حسد إليها:
ـ اذن فستكون ضمن المسافرين إلى بر الحبشة عند نهاية الشهر. فاجأك ما سمعت فأنت لأول مرة تعرف
ان السفر إلى الحبشة سيكون في نهاية الشهر، أي بعد عشرين يوما. وأنت على ثقة من ان احدا في المعسكرلا يعرف تاريخ السفر، حتى الضباط الإيطاليون انفسهم لا يعرفون والا ما استطاع احد ان يمنع مثل هذا الخبر من الانتشار بين المجندين. كل ما يهمك الان هوان تعود مسرعا إلى المعسكر لتكون أول من ينقل الخبر للناس هناك. انه سيضيف اهمية لاهميتك التي اكتسبتها حديثا. انك لا تطيق الانتظار حتى يحين موعد وصولك إلى هناك لترى كيف سيكون وقع الخبر على الشاويش عنتر. سينسى الاثارة التي يحملها الخبر لأنه سيكون مشغولا بمعرفة كيف استطعت الوصول قبله إلى مثل هذه المعلومات الخطيرة. لاحظت المرأة اندهاشك فحسبته شعورا بالرهبة والخوف من المهمة فقالت بلهجة رقيقة حانية:
ـ ستنهون مهمتكم العسكرية بنجاح وستعودون إلى أهلكم سريعا باذن الله.
انها تعتبر الحرب مهمة سريعة ناجحة. لعلك حقا ستعود منها سليما فالحياة تستحق ان تعاش مادام في الدنيا نساء جميلات كهذه الحورية من حوريات الأرض. "ولكن يا للخسارة" قلت في نفسك وأنت تقفل الباب وراءك ذاهبا لاحضار الشمعدان متأسيا لوضع هذه الجوهرة الثمينة. في اناء وضيع قبل انقضاء ساعة من غيابك عنها،عدت إليها صحبة صبي من صبيان المتجر يحمل عنك الشمعدان في صندوق من الورق المقوى حرصت على احضاره لأنك رأيت ان وجوده يحمل الصندوق بدلا منك يجعلك اقل ضعة وهوانا أمام السيدة حورية. وبسرعة قام الصبي بمهمته في تركيب الشمعدان، ووضعه في مكانه المناسب بالصالة المخصصة للطعام وانصرف، واكمالا لمهمتك اخذت الشموع الملونة التي يقدمها المتجر هدية مع الشمعدان، ورشقتها في مواضعها منه فازداد منظر الشمعدان الفضي بهاء ورونقا. وما كان من حورية إلا أن تناولت عود ثقاب واضاءت الشموع كلها وهي تضحك سعيدة بعراجين اللهب التي تتراقص وتصنع مشهدا مثيرا للبهجة، وتغني معها الاغنية الشعبية التي يغنيها الصغار في مولد الرسول:
ـ هذا قنديل وقنديل، فاطمة جابت خليل، هذا قنديلك يا حوا يشعل م المغرب لـ توا
وجدت ان مهمتك قد انتهت فاردت ان تستاذن وتخرج ولكنها استوقفتك واتجهت إلى رواق يقود إلى غرف النوم تخاطب شخصا هناك باللغة الإيطالية ثم تعود ولم يكن يخطر ببالك ان هذا الشخص الذي كان يستعد لمغادرة جناح النوم في الشقة لم يكن الا المارشال ايتالوبالبونفسه. سمعت خطاه قبل ان تراه ثم ظهر الرجل في كامل الابهة العسكرية مرتديا بذلة المارشال، في يده القبعة وتحت ابطه عصا المرشالية بسراويله المنفوخة وحذائه ذي العنق الطويل. وقد بدا وجهه لامعا زاده لمعانا هذا التباين الشديد بين بشرته الحمراء وبين سواد شاربه الأنيق ولحيته المدببة المدهونة بمرهم يمنحها بريقا أسود. عيناه تتألقان باشعاعهما الغريب المليء دهاء وذكاء وقفت أنت وقفة استعداد عسكري متجمدا مثل عمود من حجر تقدم نحوك رافعا رأسه ينظر إليك من عليائه متأملا، ثم يمد يده مبتسما:
ـ اردت ان اقول لك برافوفقد عرفت انك التحقت بالجيش متطوعا.
اجهدت نفسك وأنت تحاول ان تحرك شفتيك بكلمة الشكر الواجبة في مثل هذا المقام في حين واصل هوحديثه:
ـ كما عرفت فأنت تجيد القراءة والكتابة وهوامر نادر بين عساكرنا الليبيين للاسف الشديد.
ارادت حورية ان تعينك على فهم كلماته فصارت تترجمها
إلا أنه أوقفها قائلا:
ـ لا تستهيني بلغته الإيطالية فهي في تقدم مستمر.
انتظر منك تعليقا لكنك بقيت عاجزا عن الحديث فواصل هوالكلام:
ـ اتقان اللغة الإيطالية امر أساسي لمستقبل حياتك العسكرية.
ادركت ان الرجل قد اهتم بامرك وطلب تقريرا عنك، واعتبرت ان هذا الاهتمام مناسبة للفرح، لأنه دليل واضح على نجاحك. ولكنه فرح ناقص فأنت تدرك في ذات الوقت ان هذا يعني مزيدا من التورط في عالم ملوث هوعالم الفاشست وسلطات الاحتلال
ــ هل تراه حب المغامرة الذي ساقك إلى التحاق بالعسكرية؟
ترك الحديث غير المحدد واتجه إلى الاسئلة المباشرة الأكثر تحديدا كنت حائرا لا تدري ماذا تقول ولا يواتيك شيئا تقوله. واذا واتاك فأنت لا تقوى على قوله. كتفيت بهزة من رأسك فواصل حديثه:
ــ انك تمتلك روحا وثابة، هكذا هي عزيمة الشباب. لاشك انك تتطلع بشوق لرؤية ادغال الحبشة وهضابها.
مضت لحظة صمت قبل ان يعاود الحديث بلهجة أكثر جدية:
ـ ستسافر بعد اسابيع قليلة مع رفاقك لدعم
 الجبهة فى اثيوبيا، وسيكون مفيدا لوارسلت إلى مكتبي بين الحين والاخر تقريرا تخبرني فيه عن احوالكم. أريد أن اطمئن لحسن معاملتكم من قبل ضباط الجبهة. انه امر في غاية الاهمية مادمتُ أتولى مسئولية هذا البلد. فلابد ان ارى الصورة من وجهة نظر جندي عربي، ولا اكتفي بالتقارير التي يرفعها عنكم ضباط إيطاليون. أريد أن اعرف كل شيء. اخترتك دون غيرك لأنني اعرف حرصك على الواجب.
عرفت الان السبب الذي ارسلوك من أجله إلى هذا البيت. لم يكن الشمعدان سوى ذريعة لتجنيدك تجنيدا آخر لاداء مهمة سرية يكلفك بها المارشال بالبونفسه الذي لابد انه وضع عينه عليك منذ ان رآك في احتفالات التخرج، واصطفاك لتكون عينا من العيون التي تراقب له المشهد الاثيوبي قال كلمته وادار جسمه يلقى نظرة على المرآة يطمئن بها على هندامه ويضع قبعته فوق رأسه ثم يتجه نحوالباب قائلا وهويضع يده في الاكرة
ملتفتا إليك:
ــ ستكتب تقاريرك باللغة العربية طبعا
احنيت راسك قائلا بصوت بدا وقعه غريبا عليك لأنه جاء واهنا متحشرجا:
ــ انه شرف كبير يا سيدي المارشال
كل ما احسست به تلك اللحظة هوانك تريد ان تخرج من هذا المكان بأقصى سرعة ممكنة. شيء يضيق به صدرك، وهواء هذا البيت لا يصلح ابدا لازالة هذا الضيق، تريد ان تخرج إلى أرض فسيحة وسماء مفتوحة لتتنفس بعمق وحرية. جاءت كلمات حورية الحانية، بصوتها الهامس تنسكب كالبلسم في حلقك المخنوق:
ــ هل المهمة صعبة إلى هذا الحد؟ يبدوهذا واضحا من اللون الازرق الذي تلون به وجهك. هون على نفسك يا عثمان، واذا لم تشأ ان تكتب فلا تفعل.
ثم اضافت وهي تضع كأسا من عصير البرتقال في يدك:
ــ ما احب المارشال ان يقوله لك هوانك موضع اعجابه وانه لا يريدك ان تتحرج ابدا من الكتابة إليه بكل ما تود ان تقوله، قد لا تعلم انه لم يكن يريد ان يرسل احدا من الليبيين إلى هناك، خاصة وان احد قادة الحملة هوالجنرال جرسياني الذي لا يحبه بالبوبسبب سجله الأسود في ليبيا. باودوليوونائبه في حملة الحبشة دي بونووعداه بحسن معاملة الليبيين، فوافق ومع ذلك فهويريد ان يطمئن من الجنود الليبيين
 انفسهم على حقيقة الموقف هناك، واقول لك شيئا آخر يا عثمان وهو، ان كنت لا تريد ان تذهب إلى الحرب فانا استطيع ان اسأل ايتالوان يلحقك بالوحدات العسكرية المقيمة في ليبيا.
أكدت لها انك لست خائفا من الحرب وانك لا تحمل للمارشال الا التقدير والاحترام، واتجهت نحوالباب تبغي الانصراف. فجاءت تضع في يدك بعض العملات الورقية. اردت ان ترفض المنحة ولكنها ارغمتك على اخذها. عاودك الضيق والاختناق وأنت تغلق الباب وراءك. فتحت ازرار قميصك وأنت تستقبل هواء الشارع عله يزيل بعض هذه الغمة. ما قاله لك الحاكم العام لليبيا حمل اكبر من تحتفظ به لنفسك، ولابد ان تجد احدا يشاركك اعباء هذا الحمل لكي تزيح بعضا منه عن صدرك. توافق وصولك للمعسكر مع وقت الاستراحة التي تحل في آخر النهار فذهبت مباشرة للقاء سالم بين أشجار الصنوبر مؤجلا ابلاغ بقية الزملاء في المعسكر بموعد الرحلة البحرية إلى بلاد الأحباش، حتى صباح الغد. قلت لسالم لحظة ان رأيته:
ـ صدق أولا تصدق، ولكنه حدث. انني قادم لتوي من مقابلة المارشال ايتالوبالبوحاكم البلاد.
ـ وكيف تفوتك فرصة ان تغرس سكينا في صدره؟
ـ اسكت ايها الاحمق لكي لا يسمع مزاحك الثقيل احد الجواسيس فيقودك ويقودني معك إلى السجن بتهمة التدبير لاغتيال الحاكم العام.
ـ ما اقوله ليس مزاحًا ولووجدت فرصة لقتله لفعلت، ومرحبا بالموت بعد ذلك.
ـ لا تنس انه بالبووليس جرسياني، وهناك فرق كبير بين الاتنين.
ـ كلهم مستعمرون مجرمون. هل يمكن ان اعرف ما الذي ساقك إليه؟
ـ وما الذي يمكن ان يسوقني إليه غيرالصدفة؟
أخبرت صاحبك بامر لقائك بحورية في النادي، وذهابك إليها في شقتها ولقائك هناك بالحاكم العسكري. وكا ن سالم يتوقد غضبا، ويكز على اسنانه ويصف حورية باقبح الأوصاف مسبشعا ما تفعله. لأن شرف اية امرأة ليبية من شرف البلاد كما يقول. وأنت تضحك من مثل هذا الفكرة لأنه اذا اعتبرها مومسا فالمومسات موجودات في كل البلاد بما في ذلك دولة الخلفاء الراشدين دون ان يسيء وجودهن الا لأنفسهن ولا ينسحب على الدول والأوطان. وتسخر من حالة الفزع التي انتابته والتي تكاد تمنعك من اتمام القصة اشفاقا عليه كما أنه يراك قليل الهمة لأنك صبرت على رؤية هذا العار، وكنت شاهدا عليه راضيا بالتعامل معه، وكانه امر عادي طبيعي. كان يقول هذا الكلام قبل ان يسمع بقية القصة ويعرف ما هوأكثر هولا
ـ اذخر ما لديك من غضب حتى تسمع ما قاله لي المارشال.
ـ هل اخذته العزة بالاثم فصار يتباهى بانتصارات جنده علينا.
ـ المارشال بالبولا يرى هذا الفارق الذي تراه بيننا وبينهم فهوأوسع افقا من ذلك، نحن جميعا جنوده إيطاليين وليبيين على السواء، هكذا ينظر إلى الامور. كان حديثه لي حديثا شخصيا ودودا يحفل بالثناء على ما أحمله من روح المغامرة، وما برهنت عليه من اخلا ص ووفاء. ولذلك فقد اصطفاني لأداء مهمة خاصة هي أن أنقل له ما يحدث على الجبهة الاثيوبية حال وصولنا إلى هناك.
كنتما تجلسان على بعض جذوع الأشجارالمقطوعة المتناثرة فوق الأرض، فقفز سالم واقفا وهويصيح:
ـ يريدك المجرم ان تكون جاسوسا، اليس كذلك؟ الم تبصق في وجهه؟
ـ لا تصرخ ودعك من تحريف الكلام الذي تسمعه. انني لم اكن أتحدث مع إنسان لا اهمية أوحيثية له مثلي ومثلك كنت أتحدث مع اكبر رأس في هذه البلاد ولم ارد عليه بغير كلمات الشكر والاكبار.
ـ يالك من نذل، ليس غريبا ان تبادر بارسال تقاريرك إليه من الآن بادئا بنقل ما قلته الان من شتائم موجهة إليه.
ـ لماذا لا تفهم؟ لم يكن ما يريده شرا انه فقط يريد ان يطمئن على معاملة الليبيين باعتبارهم رعاياه.
ـ دستور ايها الاسياد، اسمعوا وصدقوا ولا تستغربوا، إذن فالمسألة مبعثها مشاعر الحب التي يحملها بالبولاخوته الليبيين، اليس كذلك؟
ـ كان واضحا أنه لا يسعى لاكراهي على ذلك. وأنه يترك الموضوع لتقديري الشخصي ولذلك فانني سانسى ما حدث جملة وتفصيلا.
عندما عدت إلى العنبر ورأيت الشاويش عنتر يأتي في جولته التفتيشية الروتينية لم تستطع صبرا على الانتظار إلى الصباح لكي تبوح بالسر الذي تعرفه عن بدء الرحلة إلى الحبشة، فانتحيت به جانبا وسألته ان كانت لديه فكرة عن موعد السفر إلى بر الأحباش. ابدى الرجل اندهاشه من هذا السؤال المفاجىء ثم قال بلهجة الواثق من معلوماته وبصوت مرتفع يصل إلى أسماع نزلاء العنبر جميعا باعتبار ان مثل هذه المعلومة تهم الجميع:
ـ ليس قبل ستة اشهر، هذا على اقل تقدير ولكن لماذا السؤال؟ وبنفس طبقة الصوت العالية التي تكلم بها رددت عليه:
ـ لأن لدي معلومات مختلفة
ـ مختلفة كيف؟ لدينا مستجدون يحتاجون لهذه المدة لتدريبهم على المبادىء الأولية دعك من التدريب الأكثر تقدما الذي يحتاجه غير المتسجدين وهومفتوح لاي عدد من الاشهر التي تزيد بالتأكيد عن ستة اشهر فمن اين لك هذه المعلومات المختلفة، وماهوبالضبط هذا الاختلاف؟ قلت بصوت أكثر ارتفاعا:
ـ اذن فاعلم يا شاويش عنتراننا سنسافر بعد عشرين يوما بالضبط.
حدجك بنظرة ساخرة هبط بها إلى اخمص قدميك ثم صعد بها إلى ما فوق رأسك وكأنه يسألك هازئا من أنت حتى تقول هذا الكلام. ومبالغة في اظهار نصرك عليه خاطبته هامسا:
ـ احتفظ بما قلته لك لنفسك، فهومازال سرا عسكريا
ابتسم قبل ان يمضي وهوينظر نحوك في رثاء كأنه ينظر الى إنسان مخبول. وفي اليوم التالي جاءك في ميدان الرماية حيث كنت تواصل تدريبك ليستأذن من مدربك لحظة، يحدثك فيها على انفراد ثم انفجر في وجهك قائلا:
ـ ما الهدف من تلفيق المعلومات الكاذبة التي قلتها لي البارحة؟
ـ كيف عرفت انها كاذبة؟
ـ سألت آمر المعسكر نفسه فقال بان تاريخ السفر لم يتحدد بعد
ـ لقد تحدد وانتهى الأمر.
ـ من انت حتى تقول هذا الكلام؟ هل تعرف أكثر مما يعرفه آمر المعسكر؟
لم تشأ ان تفضح العلاقة التي نشأت بينك وبين سيد هؤلاءالقوم. اكتفيت بان قلت له بانه سيرى بعد ساعات قليلة ان ما قلته هوالموعد الصحيح ولم تتردد أوتتحرج من ان تعلن لكل من تراه من المجندين هذه المعلومة التي لم يات منتصف النهار حتى صارت معلومة رسمية يؤكدها ضباط المعسكر الذين تلقوا بها تبليغا رسميا من القيادة العليا للجيش. عرفوا من خلاله ان هذا هوالموعد الذي تقرر لسفرهم. وان ثلاث بواخر ستأتي من إيطاليا إلى الشواطيء الليبية أول الشهر، لتنقل الجنود من موانيء طرابلس ومصراته وبنغازي. ها قد سجلت انتصارا خطيراعلى اكبر منافسيك الشاويش عنتر الذي اختلفت نظرته لك. فصار يتجنب الالتقاء بك والحديث معك، كأنه يخشى ان ترمي عقربًا في وجهه. كنت لا تراه الا ساخطا على هذا القرار لأنه شمل المستجدين أيضاً، قائلا كأنه يخاطب نفسه:
ـ ماذا سنفعل لهم؟ اذا لم يجدوا وقتا كافيا للتدريب هنا فكيف سيجدون هذا الوقت بعد وصولهم لأرض المعركة. ومعنى ذلك انهم سيموتون دون قتال. هكذا كان يقول. وكنت تحس لحظة سماعه ان للرجل ضميرا يتألم، وان له قلبا يرتجف خوفا على المصير الذي سيلاقيه هؤلاء المستجدون. لم تنته المهمات التي تستوجب ذهابك إلى خارج المعسكر. وكنت في كل مرة تجد فيها وقتا فائضا لا تفكر في احد غير ثريا. تود ان تزورها فهي نقطة الاستقطاب الوحيدة في حياتك انها المرأة التي لا ينبض القلب لهفة وشوقا الا لها. ترى باي عذر أوذريعة يمكن ان تذهب إليها وتطرق بابهالأن ذهابك بدون هذا العذر سيكون تطفلا يثير الشبهات أكثر مما يدعوإلى الاطمئنان والمودة. وأنت تريد ان تبقى صورتك لديها ولدى اسرتها نقية صافية.
اما اخبار أهلك في أولاد الشيخ فان بامكانك ان تحصل عليها من عبد المولى الشحاذ، إلا أنك لا تجد في نفسك اية رغبة في زيارة كوخ الصفيح الذي يعيش فيه لأن منظره لن يزيدك الا كدرا وتعبا وليس من الحكمة اهدار هذه اللحظات الثمينة التي تقضيها خارج السور في البحث عن رجل بائس مثل عبد المولى. وجدت نفسك، وأنت تذرع شوارع المدينة متفرجا على واجهات المتاجر ونوافذها تمضغ حلوى العلك التي اشتريته من كشك أمام سينما الهامبرا. قد وصلت في تجوالك إلى شارع البريد حيث البناية التي تسكنها السنيورة حورية.
لم تكن هناك، كما حدث في المرة الماضية، سيارة عسكرية وجنود حراسة إيطاليون، تتدلى من احزمتهم المسدسات ولم يكن أمام البناية غير حارس مدني متقدم في السن يجلس بمفرده على دكته. وقفت حائرا قريبا من العمارة تسأل نفسك ان كان من اللائق ان تطرق بابها الان. لم تكن تملك سببا وجيها لزيارتها ولذلك نفضت الفكرة من رأسك وواصلت المسير. وقبل ان تمضي بضع خطوات لاح لك خادمها مرجان يحمل في احدى يديه حزمة مجلات، وفي يده الأخرى سلة مليئة بالفاكهة والخضروات. هرعت إليه تذكره بنفسك وتأخذ منه السلة لتعينه في حملها حتى باب العمارة. وهناك اراد استردادها ولكنك لم تأبه له. وسرت صاعدا سلالم الطابق الأول وهووراءك. قلت له وهويفتح الباب ان يستأذن لك سيدته في الدخول. انتظرت أمام الباب الموصد حتى فتح من جديد. جاءك الاذن وجلست في ذات الصالون تنتظر قدومها فهي لم تستيقظ من نومها الا منذ لحظات. كان الوقت ظهرا وكان صوت المؤذن الذي جاء قويا من جامع قريب يثير في ذهنك شتى التداعيات والشجون. خاصة وهويتسلل إليك في هذا البيت الذي خصصه الحاكم الإيطالي للقاء عشيقته الليبية.
كنت قد اعددت سببا يعفيك من الحرج ويبرر هذه الزيارة إلى بيتها، إلا أنك لا تستطيع إلا أن تسأل نفسك عن لماذا تختلق الاسباب لرؤيتها؟ وعما هي الحاجة الحقيقية التي تدعوك لمثل هذه الزيارة؟ هل لأنك رأيت في هذا البيت امرأة باهرة الجمال فاردت ان تكتحل عيناك برؤيتها مرة أخرى؟ وهل هذا يكفي لارتكاب هذه المغامرة؟ انك تعرف خطورة الاقتراب من مثل هذه المناطق، أولمس الالعاب الثمينة التي يتسلى بها الحاكمون. هيا اهرب الان، اسرع بالخروج وقل للخادم انك تعتذر عن المجيء في هذا الوقت المبكر الذي يسبق موعد استيقاظ سيدة البيت. انسحب قبل ان تجلب الضرر لنفسك، ولكنك رغم هذه الخواطر التي تطالبك بالانسحاب بقيت متسمرا في مقعدك، لا تقوى على الحركة، لقد جئت وانتهى الأمر، ولا تستطيع اصلاح خطأ الزيارة بخطأ آخر هوالانسحاب. وجاءت كلمات حورية تزيل ما تحس به من حرج وندم
ـ حسنا فعلت عندما جئت فقد كنت فعلا أريد أن اراك.
وقفت لاستقبالها وهي قادمة بقامتها الهيفاء التي زادتها اناقة بذلة كاملة رمادية اللون مقلمة بخطوط بيضاء تضع في يدها حقيبتها وكأنها تستعد للخروج
ـ اذن فهي الصدفة التي جاءت بك إلى هنا.
ـ لم ارد ان اتطفل على حياتك بلا سبب ولكن وجود مرجان في الشارع شجعني على المجيء. ودون ابطاء دخلت في الموضوع الذي اصطنعته ليكون سببا لمجيئك:
ــ تعلمين ان موعد الرحيل لم يعد بعيدا وقد وجدت نفسي حائرا، كيف ابعث هذه الرسائل التي يريدها سيادة المرشال؟
وردت ضاحكة:
ــ تعرف انك لوكتبت فوق الظرف المارشال بالبوليبيا لما تاهت في الوصول إليه. ومع ذلك اتفقت معك على انها تفصيلة مهمة يجب ان تعرفها منذ البداية بسبب الطابع السري لهذه الرسائل، وابلغتك بانه لا حاجة بك لأن تبعث بتقاريرك لاي عنوان لأن المارشال بالبوسيرسل ضابطا من العاملين في مكتبه إلى الجبهة يكون حلقة وصل بينه وبين الجيش هناك وهذا الشخص هوالذي سيتصل بك ويتسلم منك أي تقرير تكتبه ثم بادرت بالحديث عن بالبوالذي لا يعرفه الناس وتعرفه هي وتريدك ان تنقل صورة صادقة عنه لزملائك الليبيين:
ـ لابد ان يعرف كل الليبيين ان بالبوليس كانيفا ولا فولبي ولا دي بونوولا بادوليوولا جرسياني انه يحب ليبيا. ويريدها ان تكون مثل "فيرارا" المدينة الإيطالية التي جاء منها وكان مسئولا عن تعميرها وازدهارها. يريد ليبيا ان تكون محلا للعيش السعيد لليبيين والإيطاليين ولذلك فهويستحق ان يساعده الليبيون في بناء ليبيا والنهوض بها
اثارت المرأة فضولك أكثر من ذي قبل. تكلمت بحب وحماس عن الرجل الذي اختارها للحياة معه انها لا ترى فيه ما يراه المواطنون من بعيد أي الزعيم الفاشي الذي جاء لتطبيق سياسة حزبه ودولته في تثبيت اركانالاحتلال الاستطاني الإيطالي في ليبيا وتوطين العاطلينمن أبناء شعبه في أرض الليبيين. لعل الأمر بحاجة إلى اعادة نظر لأنها ليست حورية وحدها التي تراه على هذه الصورة وانما ليبيون آخرون كان بعضهم من زعما ء الجهاد وصاروا يتعاملون مع واقع الاحتلال باعتباره قدرا لا مهرب منه، انهم يتعاملون مع قائد قوات الاحتلال الإيطالية. لا من موقع الرفض ولا من موقع القبول ولكن موقع ثالث اخترعوه لأنفسهم ووجدوا انه يلائم ظروف الاحتلال التي تعيشها بلادهم والذي رأوه شرا لا خلاص منه. ولا سبيل للتعامل معه الا بمحاولة استرضائه واسترحامه لكي يرفع اذاه عن الليبيين.
بعض شعراء الوطنية القدامي كتبوا قصائد التمجيد التي تشبه عرائض الاسترحام لبالبو، اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه. انهم يتحركون في هذه الدائرة التي لا تستطيع ان تدعي انك أنت نفسك لا تتحرك فيها الان. ولذلك فانك لا تستطيع ان تلومهم ولا ان تلوم نفسك اذا تعاملتم مع معطيات الواقع دون أوهام ولا أحلام. ولا تستطيع بطبيعة الحال ان تلوم السنيورة حورية في ان تتحدث عن عشيقها المارشال من خلال الصورة التي تراها له في مرايا هذا البيت لا في مرآة البلاد الذي جاء لاحتلالها.
خرجت من بيتها لترى بصمات بالبوولمساته الجمالية في كل مكان تتجه إليه في مدينة طرابلس لقد سبقه ولاة إيطاليون في بناء بعض الاجزاء الجديدة من هذه المدينة لكنه جاء بفهم أكثر تطورا لمسألة التعمير وأكثر استجابة لمعطيات ومفردات الواقع المحلي لتبقى طرابلس مدينة ليبية ذات طابع عربي شرقي، لا نسخة للمدن الإيطالية. مع اهتمام خاص بابراز الجوانب الجمالية وقد تجلى هذا واضحا في اهتمامه بالحدائق العامة ووضع التماثيل فيها وفي الميادين، مراعيا ان تكون اغلب هذه التماثيل ذات علاقة بالبيئة كتمثال الغزالة وتمثال الجياد الموصولة بنافورة الماء وغيرها. وتزويق الواجهات بالوان اشتهرت بها طرابلس مثل الابيض والازرق وتنسيق الانارة ووضع فوانيس ذات طابع شرقي في الشوارع والساحات والاسراع في بناء المباني الحكومية مثل القصر الذي وجده جاهزا فاضفى عليه لمسات اخيرة جمالية، واتخذه المقر الرسمي لاقامته.
اتجهت إلى الكورنيش الجديد الجميل الذي صار مظهرا بديعا من مظاهرهذه المدينة في عهد بالبووتمشيت عبره حتى وجدت نفسك قريبا من ضريح سيدى الشعاب ومسجده المطلين على البحر ودخلت لتتوضا وتؤدي صلاة الظهر. فقد آمنت دائما بان هناك سيدا عظيما لهذا الكون يجب ان تعطيه حقه أولا ثم يأتي حق اسياد الأرض. انها بقعة جميلة يطل منها هذا الولي الصالح على البحر جلست على صخرة فوق اعلى الهضبة ترقب مشهد الأمواج المتلاطمة اسفل الهضبة. لقد تآلفت الان مع هذا المدى الممتد بلا نهاية من زبد وموج والذي ملأ قلبك بمشاعر الرهبة عندما رأيته لأول مرة. صرت بعد ذلك تحس بالراحة وأنت تلتقي به منفردا كانك تلامس عند الاقتراب من هذا الكائن الابدي الذي لا يلحقه التغيير والتحول، جوهر الحياة وصيرورة الزمن في دورته التي تصل الازل بالابد.
حورية ليست مجرد دمية جميلة. انها امرأة لها حضور قوي ولها رأي ووجهة نظر. انها تحاول ان ترتفع بموقعها المتدني إلى مرتبة اكبر، كانها تقول بانها ليست مجرد بضاعة رخيصة للبيع والشراء. وانها هنا في هذا البيت، وصحبة هذا الرجل، لأنها تحبه وبحذر شديد حاولت، وأنت تعود إلى المعسكر، ان تتسلل إلى نادي الضباط وان تعرف المزيد عن هذه المرأة ذات الشخصية الآسرة. اذ لايمكن ان يكون المارشال قد التقطها من حي البغايا كما لا يمكن لاية اسرة تنتمي لهذا المحيط الاجتماعي باساليبة المتزمتة في التربية، ان تسمح لبنت من بناتها ان تنمووتصير لها هذه الشخصية وهذا الكيان، حتى لواجبرتها الظروف فيما بعد على الانحراف فاية نبتة هي؟ وماهي ياترى التربة التي انبتتها؟
وكما عرفت من خدم النادي، فان قصتها بدأت منذ تسع سنوات عندما ارسل الوالي دي بونوجرافاته العملاقة تداهم مجموعة الأكواخ والزرائب الموجودة في شارع ماكينة بقلب طرابلس، تفسح مكانا لبناء اكبر كاتدرائية في البلاد. وكانت حورية وامها تسكنان كوخا من هذه الأكواخ ورأفة بحالهما امر الوالي باحالتهما إلى مقر سكن الممرضات بمستشفى كاتانيا العسكري الذي أصيح فيما بعد مستشفي كانيفا حيث اشتغلت الام باعمال التنظيف، بينما أنخرطت ابنتها الصبية في التدريب على اعمال التمريض مع السوريلات الإيطاليات. وحدث في بداية عهد بالبومنذ عام ونصف مضى ان دخل المستشفي للعلاج من جروح وكدمات حدثت له اثر هبوط اضطراري بطائرته في الارياف والتقى اثناء اقامته في المستشفى بحورية التي كانت ضمن طاقم التمريض الخاص به وقد نضجت انوثتها واظهرت الاقامة المريحة في المستشفى ما اخفاه الفقر من مؤهلات الفتنة والجمال لديها. فاعجب بها ولم يخرج من المستشفى الا وهي برفقته حيث خصص لها بيتا قريبا من قصر الولاية.
ورغم وجود زوجة له مقيمة في إيطاليا وعشيقات كثيرات يزرنه من خارج البلاد فان صديقته الدائمة، الثابتة، التي تظهر معه في حفلات الرقص بالأندية الإيطالية والمناسبات الخاصة والعامة هي حورية. ولكن لماذا، تسأل نفسك، تبدي هذا الاهتمام البالغ بامراة لا تربطك بها اية رابطة، ولا مجال لأن تنشأ بينك وبينها اية علاقة، من أي نوع؟ وما اهمية ان تعرف أولا تعرف قصة حياة امرأة قد لا تلتقي بها بعد اليوم ابدا؟ انك تحبها وتكرهها تجلها وتحتقرها، فما فائدة ان تعيش مثل هذا الصراع الذي لا طائل منه ولا جدوى من أجلها؟ انك لا تستطيع فعلا أن تجد دافعا وضحا لهذا الاهتمام بها فلعلك وقد فقدت ثريا ولا تعرف في هذه المدينة امرأة غير حورية تتجه إليها بعواطفك المشنوقة اردت من حيث لا تدري أن تشغل نفسك بامرأة بعيدة المنال لا يشكل التفكير فيها عبئا كبيرا على وجدانك لأنك حتى لوتعلقت بها فلن يختلف ذلك عن تعلق متفرج السينما بصورة الممثلة التي يرى خيالها على الشاشة، أووجهها مرسوما على لوحة الإعلانات. ولعل التفكير في امرأة مثل حورية يعينك إلى حد ما على أن تنسى ثريا أوعلى الاقل تنقل الانشغال بها إلى الانشغال بمنطقة جذب انثوي أخرى. فلا تتعذب بالتفكير فيها واستحضار صورتها واستبقائها تضغط على عقلك ووجدانك، وأنت على أعتاب مرحلة جديدة في حياتك وسفر طويل لا تدري ان كنت ستعود منه أولا تعود ابدا.

                            (11)
ولكن المناسبة فرضت نفسها وجاءت تدعوك بالحاح إلى ان تذهب لرؤية ثريا. كنت قد نسيت خلال انشغالك بالمهمات الجديدة التي اسندت إليك مسألة البحث عن زوجها فتحي، وعما اذا كان واحدا من افراد المعسكر الذي يضمك ام لا. بل أنت مازلت غير واثق من انك تستطيع حقا تمييزه لورأيته يقف أمامك، اذ لم يبق في الذاكرة من ذلك اللقاء العابر الا ملامح باهتة لا تكاد تبين. والذي حدث، أن سلطات المعسكر، وقد تحدد نهائيا يوم السفر وتحت الحاح المجندين الذين كتبوا عرائض الاسترحام يرجون تمكينهم من رؤية أهلهم قبل الذهاب إلى الحرب استجابت بشكل ماكر إلى هذا الرجاء. وقررت بدل أن تسمح بخروج المجندين وذهابهم إلى أهلهم، أن تفتح باب زيارة المعسكر أمام عائلات هؤلاء المجندين، لرؤية أبنائهم وتضمن بهذه الطريقة وجود المجندين تحت ايديها، حتي يتم تسليمهم إلى وحداتهم في الحبشة. فهي تعرف كراهية الليبيين لهذه الحرب، ولا تأمن عودة أي واحد من هؤلاء المجندين إلى المعسكر بعد خروجهم، مهما كانت العقوبات التي تهدد بها الهاربين لأن لهم كلهم أهلا في هذه الصحارى التي يصعب فيها العثور على كل من يلجأ إليها.
ودون صدور إعلان رسمي من آمر المعسكر صار يتم اعلام المجندين بشكل شخصي لكي لا يتكدس سكان المدينة كلهم في يوم واحد أمام المعسكر. ورغم التكتم على قرار الزيارات فقد بدأ الناس يتوافدون على المعسكر بغزارة ويخلقون زحاما أمام بوابته الرئيسة. ورأيتها أنت فرصة ان تسدي هذا المعروف لثريا واسرتها وان تبلغهم الخبر ليسرعوا بزيارة فتحي قبل ان يقرر الإيطاليون قفل هذا الباب. وما أن جاء وقت خروجك من المعسكر حتى ذهبت إلى المدينة القديمة وإلى زنقة بنت الباشا تطرق باب ثريا التي جاءت بنفسها هذه المرة تفتح الباب. لم تبد هذه المرة تحفظا كالذي ابدته في المرة السابقة ولم تر منها اصرارا على الاختباء خلف الباب أواخفاء وجهها عنك. بادرتك بالتحية وهي تذكر اسمك وتدعوك للدخول كأنك واحد من افراد الاسرة. ولم تعرف سبب هذه الدعوة الغريبة للدخول الا عندما ابلغتك بان والدها الحاج المهدي موجود بالداخل. ادركت على الفور ان الرجل يعاني من وعكة صحية والا ما كان ليبقى بعيدا عن دكانه في مثل هذه الساعة من ساعات الصباح. سألتها ان كان بخير وعافية فلم تزد على ان قالت:
ـ الحمد لله، تفضل.
وسارت أمامك تقودك إلى غرفة والدها وتختفي هل سينتهي لقاؤك بها عند هذا الحد؟ هل هذه الكلمات القليلة التي قالتها لك كل ما ستعود به من حصاد هذه الزيارة؟ كان الحاج مهدي النعال بمفرده في الغرفة التي تغطي الحصران كامل أرضيتها وقد تمدد فوق حشية قرب الجدار علقت فوق رأسه أطباق مزخرفة ومزاود. وفي الجدار المقابل وأكثر من رف به بعض السلال الصغيرة المصنوعة من سعف ملون وسورة " الفلق" مكتوبة بخط الرقعة في برواز مذهب. برّادة الماء بجوار رأسه وفي مكان ليس ببعيد عنه خابية زيت كبيرة وهناك ستارة تخفي جزءا من الغرفة حيث سدة النوم. تحامل الرجل على نفسه وقام من مرقده حتى استطاع ان يجلس مستندا إلى الحائط ودعاك بصوت واهن للجلوس بجانبه. فوق الوسادة التي وضعها على الحصير. كان شديد الانهاك، ذابل الوجه يبدووكان عشرة اعوام اضافها المرض إلى عمره منذ آخر مرة رأيته فيها وردا على لهفة استفسارك عن حالته وطبيعة المرض الذي اقعده عن الخروج إلى دكانه قال لك:
ـ وهل هناك مرض غير هؤلاء الطليان؟
ـ وما الذي يريده الطليان من شيخ مثلك؟
ـ وهل يتركون احدا في حاله، كبيرا أوصغيرا؟
وصمت الشيخ وهنا واعياء فشجعته على الافصاح عما حدث قائلا:
ـ هل حدث شيء للدكان؟
ـ ليس الدكان ولكنها أرضي بتاجوراء التي تركها لي ابائي واجدادي.
ـ تلك التي تزرعها في موسم البطيخ بعد ان يسيل الوادي
ـ أصبحت تلك الأرض والحقول والمراعي التي تجاورها ملكا للشروع الاستيطاني للمهاجرين الطليان احاطوها بالاسلاك ووضعوا عليها الحراس.
ـ ولكن هذا ظلم.
ـ اخذوها بحجة اننا لا نقوم بزراعتها طول العام وقالوا سندفع تعويضا وكله كذب وضحك على الناس والله لوكنت اقوى على حربهم لحاربتهم بمفردي ولكن للعمر احكامه.
ـ هل رآك الطبيب؟
ـ سقتني خالتك الحاجة شرابا من مخلوط الاعشاب فيه الخيروالبركة.
ـ استطيع ان اذهب الان لاحضار ممرض عربي اعرفه.
ـ لا تتعب نفسك فلا اشكومن أي مرض غير هذا الضيق الذي لا علاج له لدى الحكما ء ولا احتاج لغير الراحة بضعة أيام حتى يزول. ومرت لحظة صمت قبل ان يقول بصوت ضعيف ولهجة يملأها الأسى والقنوط:
ـ هذه الأرض هي كل ما ادخرته لغدر الزمان.
انتهت كلمات المواساة وأخبرته وعينك على الوقت كيف ان السفر إلى بلاد الأحباش بات وشيكا وكيف ان قيادة المعسكر سمحت لعائلات المجندين بزيارتهم داخل المعسكر وان بامكانهم زيارة صهرهم فتحي اذا ارادوا. ابتهج الشيخ المريض للخبر فسيتيح له ذلك معرفة اخبار الصهر الغائب منذ أكثرمن ستة اشهر دون ان يتلقوا اية معلومات عنه. دعا الحاج ابنته وزوجته للتشاور في كيفية ترتيب الزيارة واتفقوا على الذهاب إليه في زيارة أولى غدا والبحث عمن ينقل رسالة لأهله بتاجوراء ليرافقوهم في زيارة ثانية إليه
ـ ليتني استطيع الذهاب ولكن امرالله حال دون ذلك. الاعتماد عليك ياعثمان يا ابني في مصاحبة العائلة إلى المعسكر.
لم يكن صعبا ان تتدبر في اليوم التالي وقتا وان تكتري من موقف العربات التي تقودها الجياد، المرصوصة أمام السرايا كروسة تدخل بها حتى باب بيت الحاج في زنقة بنت الباشا. وجدت ثريا ترتدي لحافا ابيض فوق ردائها المزركش وبصحبتها اخيها الصبي في بذلته العربية بينما تخلفت الام لأنها لم تشأ ان تترك الشيخ المريض بمفرده في البيت. راودتك افكار كثيرة وأنت تجد نفسك جالسا بجوارها داخل الكروسة وقد ادار مندوب العائلة التي يرافقها ظهره لكما جالسا بجوار الحوذي وثريا متلفعة بردائها الابيض تنظر صامتة إلى الطريق. كان يجب ان تكون هذه المرأة لك، لأنك عرفتها واحببتها قبل ان يأتي الرجل الاخر ويخطفها منك. ولذلك فأنت لا ترى حرجا من السعي لاسترداد حق ضائع حتى لوتجرأت في هذه اللحظة وانتهزت فرصة المرور بزقاق معتم فارغ وعانقتها واطبقت بفمك على فمها الشهي الجميل. فلن يكون ذلك خيانة لامانة اؤتمنت عليها أوطعنة في شرف رفيق سلاح هوزوجها، وانما استرداد لحق اخذوه منك عسفا واغتصابا، انك لن تفعل ذلك لأنك لا تريد ان ترعبها أوتفعل معها شيئا ضد ارادتها ولكنك لن تدع هذه الفرصة دون ان تفصح لها عما في قلبك وترمي لها بكل الاسئلة التي ما تزال تحرق صدرك، لماذا تركتك وتخلت عنك وهي تعرف على وجه اليقين انك تحبها؟
نعم، لقد أوضحت لها حبك منذ ان شعرت بهذا الحب يخترق صدرك كسهم من نار، واشعرتك هي أيضاً بانها تبادلك حبا بحب، فهل كانت حقا تحبك؟ هل اخطأت في فهم اشاراتها وقرأت ما قالته لك قراءة خاطئة جعلتك تقتنع بانها تبادلك الحب، في حين انها ليست كذلك، ولم يكن حبك لها الا حبا من طرف واحد. سألتها هامسا بانك ترغب بتوجيه سؤال خاص إليها لوسمحت بذلك، وقبل ان تعرف اجابتها، قلت لها، وأنت تضع فمك قريبا من اذنها، انك كنت دائما تحمل لها عاطفة متأججة لا تنطفي، وتفسح لها مكانا خاصا في قلبك منذ ان رأيتها لأول مرة. ولم تزد على ان قالت بانها تعتبرك الان شقيقا ثانيا لها. ليس هذا ما تريد ان تسمعه منها ولذلك وصلت حديثك الذي تحول معها إلى مناجاة فردية لأنها لم تنبس بحرف واحد ردا عليك أوتعليقا على ما تقول
ـ كان هناك امل واحد تمحورت عليه حياتي منذ ان عرفتك هوان افوز بك زوجة لي، هل تعرفين ذلك؟
ـ
ـ كنت على يقين من انك تبادلينني عاطفة بعاطفة وحبا بحب، فهل تراني كنت واهما؟
ـ
ـ قد لا تعلمين انك أنت من دفع بي إلى العسكرية.
ـ
ـ كنت قد هربت عند القبض على واقتيادي للعسكرية ولم يكن بامكانهم الاهتداء الي ولكنني وجدت ان حياتي لم يعد لها معنى بعد زواجك.
ـ
ـ فكرت في ان اقتل نفسي ولكنني خفت عقاب الله الذي اعتبر الانتحار شركا به ووجدت ان البديل الوحيد للانتحار هوان القي بنفسي في معسكرات الطليان لأموت في حروبهم.
ـ
ـ هل عرفت الان إلى أي مدى كان حبي لك حارقا قويا وكيف كانت الصدمة قاتلة؟
ـ
ـ انني هنا لا الومك أواطلب منك اعتذارا أوتفسيرا لزواجك، لأنني اعرف ما يحدث في مثل هذه المناسبات، انني فقط احاول ان اقدم تفسيرا لموقفي ولماذا ما زلت احبك حتى وأنت على ذمة رجل آخر.
ـ
ـ كل ما استطيع ان اقوله لك هوانني ساحارب هذا الهوى الذي يسكن روحي ووجداني بأقصى ما استطيع من قوة، عارفا انه سيهزمني ولن اهزمه.
وصلتم إلى المعسكر حيث كان الحراس الإيطاليون يحاولون بجهد فائق تحويل الفوضى التي يصنعها الزائرون إلى نظام وإعطاء ارقام للناس وفقا لاسبقية الوصول والسماح بدخول الناس على دفعات صغيرة إلى صالة الاستقبال خمس أوست عائلات في المرة الواحدة. تركت ثريا واخاها ينتظرانك ودخلت إلى المعسكر للبحث عن وسيلة تنجيهما من عنت الانتظار الطويل في الشمس. لم تجد استجابة لدى الضابط الايطالي المشرف على الزيارات لما اعتبره اختراقا للنظام ولم يكن أمامك سوى الحيلة فاستنجدت باسم السنيورة حورية ورميت به في اذن الضابط ظهرت على وجهه علامات الاهتمام والانتباه فابلغته بان لديها قريبة تريد ان ترى زوجها. نجح الخداع وفتحت الكلمة السحرية باب المعسكر فدخلت ثريا صحبة اخيها إلى صالة الاستقبال واجتهد مساعد الضابط في البحث عن اسم فتحي بين القوائم حتى استطاع العثور عليه وتحديد فرقته وعنبره ورقمه وكتب ورقة بهذه المعلومات ارسل بها جنديا إلى الداخل وفي القاعة المخصصة للقاء المجندين بأهلهم كان المشهد عامرا باقوى الانفعالات والمشاعر، حيث يعقب اللقاء الحار الذي لا يدوم سوى بضع دقائق، انفصال مؤلم موجع. وحيث تواجه العائلة حقيقة انه آخر لقاء مع هذا الابن قبل سفره لخوض حرب في بلاد بعيدة قد لا يعود منها ابدا. وكان أكثر هذه المشاهد ايلاما الام التي ارتمت فوق صدر ابنها تعانقه وتبكي وترفض ان تتركه عندما حان موعد انصرافها مما اضطر جنود الحراسة إلى انتزاعها بالقوة من حضن ابنها.
سألتك ثريا أثناء انتظار المقابلة كيف فاتك ان ترى فتحي وأنتما تعيشان معا في معسكرواحد. اسعدك ان صوتها جاء صافيا نقيا بلا اية تلوينات توحي بالغضب نتيجة ما قلته لها من كلام اثناء الرحلة إلى المعسكر اذن فهي لا تستنكر ما بحت لها به من اعترافات.بل لعلها، دون ان تفصح عن ذلك، ما زالت تحتفظ لك بعاطفة كالتي تحملها لها. نظرت في عينيها اللوزيتين تبحث فيهما عن تأكيد لهذه الظنون، فلم تجد فيهما الا مايوحي بجمال الكون وبهاء الحقول وصفاء السماء الموشاة بلون الذهب لحظة استقبالهالاشعة شمس الشروق. انك واثق الان من العاطفة التي شحنت قلبك بالأحلام الكبيرة لم تولد من فراغ وانما من عاطفة جياشة حملتها لك هذه الأنثى الشهية، الصغيرة، الجميلة قبل ان تأتي الاعراف والتقاليد والصدف العمياء تختار لها زوجا غير الرجل الذي احبته. ويفرض عليها هذا الزواج ولاء والتزاما مناقضا لما يريده قلبها. هذا هوكل ما يهمك من حديثها الان اما أن تعرف فتحي أولا تعرفه فهوامر غير ذي بال بال. ليته كان حقا يعيش في معسكر آخر اذن لاراحك من عناء رؤيته، وايقاظ مشاعر الحسد والغيرة التي تحملها له.
جاء فتحي ليقف قريبا من مدخل الصالة يبحث بعينيه عن زوجته وسط الزحام لم تستطع ان تعرف انه هوعلى وجه اليقين، الا بعد ان رأيت ثريا تناديه وتتقدم خطوات باتجاهه، فانتحيت انت جانبا لتترك لهما فرصة الحديث بحرية. بل وجدت من الأنسب ان تداري نفسك عن انظاره حتى تنتهي الزيارة دون حاجة لأن يعرف انك احضرت ثريا وشقيقها إلى هنا، أويعلم بالعلاقة التي تربطك بعائلتها. وهذا ما سألت ثريا أيضاً الا تقوله له، لأنك لا تريد ان تتورط في اية علاقة معه. وطالما أنه لا يعرفك، فليبق الأمر على هذا الحال لأنه انفع لراحتك وهناء بالك. ولعله انفع لراحته وهناء باله هوأيضاً وقفت بعيدا تراقبه وهويأتي مهرولا يضع يديه الاثنتين في يدي ثريا. ثم ينتبه إلى وجود الصغير فيأخذه إلى حضنه ويقبل جبينه يضيء وجهه الابتسام. يبدومتميزا بين بقية المجندين الموجودين بهذه الوسامة التي تبدت في نقاء بشرته وبياض اسنانه وما يفيض به حضوره من حيوية ونشاط فرحا بلقاء زوجته التي لم ينعم بالحياة معها سوى بضعة أيام.
لم تكن ابدا تتصور انه على هذه الوسامة وهذا الالق الذي يشع من وجهه وكأنه لم يعش تسعة اشهر تحت سياط وذل الاعتقال لم تكن قد انتبهت إلى وجوده بالمعسكر ولورأيته لما استطعت ان تعرفه. فقد غابت ذكرى مروره السريع أمام دكان النعال. ولم تبق منها الا صورة باهتة لوجه بلا ملامح. رأيت كيف ان ثريا، وفور انتهاء لقائها مع زوجها انهمرت في بكاء طويل استمر معها حتى بعد مغادرة المعسكر. سألتها بعد ان توقفت عن البكاء وأنتما تجلسان تحت مظلّة الكروسة عن الدافع وراء هذا البكاء الحارق الفاجع واذا كان بسبب رحيل فتحي إلى الحبشة فهي تعرف ذلك منذ اليوم الأول الذي أخذوه فيه إلى معسكر بومليانة فما الجديد الذي استوجب هذا الشعور البالغ بالصدمة؟ اجابت وهي لا تزال تجفف عبراتها:
ـ وهل هناك امرأة في الدنيا جديرة بالبكاء أكثر مني؟ أنني أبكي الاب المريض والزوج الذاهب للحرب
والحظ العاثر الذي يطاردني من مكان إلى مكان. وتوقفت قليلا قبل ان تقول:
ـ سمعتك تتكلم عن زواجنا الذي لم يحدث. هبه حدث فما فائدة ذلك مادمت ذاهبًا إلى الحرب؟ انظر إلى حالي الان وزوجي الذي لا ادري ان كنت ساراه مرة أخرى أولا اراه، وتسألني بعد ذلك لماذا أبكي؟
عادت ثريا إلى البكاء، وعدت أنت إلى الصمت. ذهبت عندما عدت إلى المعسكرآخر النهار للقاء صاحبك سالم فوجدته يجلس بمفرده متكئا إلى جذع شجرة سروواثار الدموع تبلل عينيه فبدا كأنك موعود بالدموع هذا اليوم فما الذي يبكي هذا الصديق؟ سألته عما اذا كان احد المجندين أوالمشرفين اساء إليه. فهز رأسه بالنفي وظل صامتا. واصلت الحاحك لتعرف ما الذي احال طبيعته الساخرة التي تميل إلى المرح والدعابة إلى لحزن والبكاء. فتردد كثيرا قبل ان يعترف بضعفه وشعور الاسى الذي انتابه وهويرى المجندين من أهل المدينة والارياف القريبة يقابلون أهلهم ويودعونهم في حين سيذهب هوإلى حرب في بر الأحباش قد لا يعود منها دون ان يمنح فرصة ان يرى امه وأباه كغيره من المجندين واضاف بلهجة ومصطلحات أهل أولاد الشيخ
ـ معذرة، فقد صغرت بي الدنيا يا ابن العم، ولم اعرف ماذا افعل بنفسي غير البكاء، اليس هذا ظلما؟ الا يكفي ظلم التجنيد والاعتقال ليضاف إليه ظلم حرماننا من ان نرى أهلنا قبل ان نذهب في رحلة الموت؟
ـ لا تقل الموت يا اخي، وابعدعن نفسك هذا التشاؤم والعياذ بالله.
تنبهت إلى ان حاله وحالك يتشابهان وانك أنت أيضاً لن تستطيع ان ترى احدا من أهلك قبل الذهاب إلى الحرب غير انك لم تكن تولي اهمية للموضوع كما يفعل سالم والا كنت سعيت لترتيب شي ما ازاءه. كأن تفاتح فيه السنيورة حورية وتسألها اعطاء القادمين من الارياف إذنا بزيارة أهلهم لمدة ساعات قليلة حتى لوذهبوا إليهم مخفورين بحراس ضمانا لعدم هروبهم. لأنه لن يكون متيسرا لعائلات بكاملها ان تأتي من المناطق النائية لزيارة ابن لها في المدينة بسبب بعد الطريق وتكاليف الرحلة. لقد تأخر الوقت للقيام بمثل هذه التدابير. طمأنت سالم بانك ستبحث عن طريقة لابلاغ أهلكما في "أولاد الشيخ" بخبر رحيلكما القريب إلى الحبشة فقد يجدون طريقة للحضور إلى طرابلس واذا لم يجدوا فيكفي انهم اخذوا علما بما يحدث لكما. طبيعة العلاقة التي تربط سالم بأهله تختلف كثيرا عن طبيعة العلاقة التي تربطك أنت بأهلك انك لا تفتقد احدا ولا يفتقدك احد وكان هذا يحدث منذ ان كنت في القرية بسبب ما حدث من انفصال بين امك وابيك. فما بالك وأنت بعيد عن أولاد الشيخ.
وهذا ما لم يحدث لسالم الذي عاش ما مضى من عمره في كنف امه وابيه. امك المريضة نفسها، التي تسبق دموعها كلماتها كلما رأتك تعودت على فراقك كما تعودت أنت على الحياة بعيدا عنها برغم حبك لها وحبها لك. إلا أن مسالة السفر إلى بر الأحباش والمشاركة في حرب الادغال والهضاب هناك والمصير المجهول الذي ينتظرك في بقاع تبعد عشرات الاف الاميال عن وطنك وفي مواجهة محاربين ضربوا المثل في الشراسة والقسوة كما يقول تاريخهم، وسبق ان ابادوا جيوشا جرارة أرسلها الإيطاليون في حملات سابقة منذ أول القرن، تجعل الموقف يختلف عن غيره من رحلات سابقة تركت فيها القرية إلى طرابلس أوإلى الشعاب والبوادي مع الرعاة قبل ذلك. وتجعلك تنظر خلفك بحنين وحب لكل أولئك الأهل الذين تركتهم وراءك في أولاد الشيخ صغارا وكبارا، والذين كنت تضيق بهم وتكره الاقامة بينهم. ومبكرا جدا في اليوم التالي ذهبت إلى زرائب سيدي خليفة تبحث عن كوخ عبد المولى الشحاذ لتلحق به قبل ان يستيقظ من نومه ويبدأ جولة التسول اليومية. ولم تزد على ان قلت له عندما وصلت إلى كوخه ان يبحث عن أول شاحنة مسافرة إلى أولاد الشيخ ويذهب ليبلغ عائلة سالم وعائلتك، بانكما ستسافران بعد أسبوع إلى الحبشة نفحته نقودا يتدبر بها امر السفر ذهابا وعودة. ونقودا أخرى يعطيها لبعض افراد عائلتك وعائلة سالم تعينهما على نفقات السفر إلى المدينة لوشاءوا ووعدته عند اكمال المهمة بتدبير مبلغ له لأنك استنفذت الان كل ما معك من مذخرات.
اتجهت برفقته إلى مركز المدينة في أول شريول صادفتماه وتركته يذهب إلى وكالة الشوشان وعدت أنت مسرعا إلى المعسكر لأنه لم يكن معك اذن بالغياب لأكثر من ساعة واحدة.

                            (12)
وما أن وصلت إلى هناك حتى وجدت بانتظارك بلاغا لدى حارس البوابة يامرك بان تتجه فور عودتك إلى قيادة المعسكر انقبض قلبك وأنت تسمع الخبر. ما الذي يمكن لقيادة المعسكر ان تريده من مجند محلي ضئيل القيمة والرتبة مثلك؟ لن يكون خيرا بطبيعة الحال. والارجح ان احد المجندين وقعت في اذنه كلمة مما يدور بينك وبين سالم من كلمات ضد سلطات الاحتلال ففرح بها واراد ان يستخدمها في التزلف للإيطاليين وتحسين صورته في أعينهم فوشى بك لقيادة المعسكر. لست غشيما بالوسائل الخسيسة التي يمكن ان تلجأ إليها هذه الحشرات البشرية، وهوأمرٌ لا يفاجئك، ولا يفعل شيئا أكثر من تأكيد ما تحمله من قناعات عن خساسة هؤلاء الأوباش الليبيين الصغار الذين يضمهم المعسكر ممن صار الهوان والمهانة اسلوب حياة بالنسبة لهم. ليست لديك من وسيلة للتأكد من ظنونك قبل الذهاب إلى مركز القيادة، غير البحث عن سالم ومعرفة ما اذا كان قد تم استدعاؤه وابلاغه بمثل هذه التهمة قبلك.
ولكن الأمر القادم من القيادة لا يعطيك للأسف مثل هذا الترف ويريد منك تقديم نفسك للمنسق الاداري للقيادة فور وصولك للمعسكر. وبخطى بطيئة متثاقلة صعدت الدرجات الرخامية القليلة التي تقود إلى باب المبنى حيث قادك الحارس إلى مكتب بالطابق الأول، وادخلك على ضابط إيطالي برتبة ملازم، وكانت دهشتك كبيرة وأنت تجد الضابط الإيطالي يستقبلك بوجه هادىء باسم لا يحمل أي معنى من معاني الغضب أوالتحقيق أوالاتهام. وابلغك بكلمات مقتضبة انك ستباشر منذ الغد دورة في قيادة السيارات وإعطاك ورقة تذهب بها إلى قسم النقل والاليات، وهابطا الدرج صرت تفكر في معنى هذا التكليف انه عمل لا يتولاه عادة الا الإيطاليون ولم يحدث ان عهدوا لاي واحد من الجنود اللييبيين بمسئولية قيادة السيارات والاليات العسكرية، فهل هي الحاجة آلي كثرة السائقين في الحرب القادمة ارغمتهم على الاستفادة من الجنود المحليين؟ ولكن الوقت الذي تبقى على موعد السفر إلى الحبشة لا يكفي لاعدادك وتأهيلك لمثل هذه المهمة الفنية الصعبة التي لم ينس الضابط الذي اعطاك الورقة ان يذكرك بما تحتاجه من مثابرة واجتهاد ومهارة وبدا الأمر غامضا وعصيا على الفهم خاصة وانه جاء بشكل مفاجيء لم يسبقه تمهيد ولم يحدث ان فاتحك أي واحد من ضباط المعسكر في مثل هذا الموضوع الذي لا تدري من امر به ولماذا. وعندما حاولت ان تعرف قبل ذهابك في اليوم التالي إلى الورشة لم تجد أي استعداد لسماع السؤال. فهوامر عسكري عليك تنفيذه دون نقاش.
كان ماريوالذي عهدوا إليه بتعليمك شخصا مرحا طويل القامة، فوق الاربعين بقليل. اسنانه كبيرة بيضاء كاسنان الحمار، وشفته العليا بها شق خفيف تجعله يبتسم بشكل دائم نصف ابتسامة كان يرتدي الملابس المدنية لأنه ليس عسكريا وانما فني سيارات مدني استعانت به ورشة المعسكر للاستفادة من خبرته وعرفت منه ان هناك فنيين كثيرين مثله يعملون في معسكرات الجيش بصفاتهم المدنية. ويعمل في أوقات فراغه وأيام العطلات سائقا لسيارة اجرة يحصل منها على دخل اضافي والسبب كما يقول هي السنيورة فرانكا زوجته التي ترهقه بطلباتها التي لا تنتهي والتي ارغمته على التضحية بساعات الراحة لكي يكفل لها المستوى المعيشي الذي يزيد على المستوى الطبيعي لامثاله من الفنيين، وعندما رآك خائفا مترددا من هذه المهمة الجديدة، ربت على ظهرك مطمئنا قائلا لك بانه سيعلمك قيادة السيارة في يوم واحد فقط، ولكن لا تبح بذلك لاحد فهم يعتبرونها مهمة تحتاج بحد ادنى إلى اربعة أوخمسة اسابيع. وهويريد ان يستفيد من جهلهم هذا فيمطط المهمة لاطول وقت ممكن حتى يتيح لك ولنفسه الاستفادة من هذا الوقت في المرح واللعب ومعاكسة النساء واضاف ضاحكا مؤكدا على هذه النقطة الاخيرة:
ـ للسيارة عند النساء قوة مغناطيسية لا تقوى اية امرأة على مقاومتها. حلم النساء الازلي عن الفارس الذي يأتي فوق جواد ابيض، تحول الان إلى فارس يمتطي هذا الحصان المعدني اللامع الذي اسمه السيارة، هناك وسائل كثيرة استطيع ان احقق بها انتقامي من فرانكا، فلا تحزن من أجلي يا صديقي.
لم يستوقفك في هذه الثرثرة غير شيء واحد هوالاسابيع الاربعة أوالخمسة التي يعتبرونها حدا ادنى لاتقان القيادة باعتبار ان هذه المدة تتعارض مع المعلومات، التي تقول بان موعد رحيلك إلى الحبشة أنت وبقية المتدربين سيحين بعد أسبوع واحد. ضحك ماريوعندما أخبرته بذلك وقال باسلوبه السريع في الحديث المصحوب دائما بإيماءات من يديه وتحريك رأسه وكتفيهبل وجسمه كله في حالات الانفعال طربا أوغضبا:
ـ يمكنك ان تفرح لأنك لن تكون في الفوج الأول الذاهب إلى الجبهة والا ما ادخولك إلى مدرسة القيادة.
وبخطى سريعة اتجه إلى سيارة عسكرية صغيرة مكشوفة خاصة بتعليم السيارات وقفز في مقعد السائق وامرك ان تركب بجواره حيث توجد عجلة قيادة إضافية غير تلك التي أمام السائق. حذرك ان تعبت بالعجلة أوتلمس شيئا آخر من اجهزة السيارة بيدك أوبقدمك قبل ان تسمع الشرح الذي سيقوله لك. ولا تفعل شيئا له علاقة بقيادة السيارة دون استئذانه
ـ بمثل ما هذه البهيمة الحديدية وسيلة عبقرية للانتقال فهي اداة بارعة للقتل لا تنس ذلك ابدا تستطيع لواسأت استخدامها ان تقتل بها نفسك أوتقتل بها الاخرين، أوتكون أكثر براعة فتقتل نفسك والاخرين. حصل هذا مع كثيرين. لقد استطاعت هذه البدعة المعدنية منذ بدء اختراعها ان تنافس اعتى الحروب واقبح الأوبئة في ابادة البشر فاحذر وانتبه، انك أول عربي اقوم بتعليمه فارجوك ثم ارجوك الا تخيب ظني بالعرب.
وقبل ان تتمكن من قول أي شيء كان قد انطلق بالسيارة خارج المعسكر وعبر طريقا معبدا يشق الغابة باتجاه
مركز المدينة
ـ ما ينطبق على قيادة السيارة ينطبق على اية سيارة أخرى، اذا تعلمت كيف تقود هذه السيارة الصغيرة ذات الدفع الرباعي تعلمت قيادة كل السيارات بما في ذلك سيارات الشحن العملاقة.
اندفع يقود السيارة بسرعة اكبر:
ــ اريدك ان تشعر بالحرية التي تمنحها لك السيارة فهي تمنحك جناحين تنتقل بهما لاي مكان تريد استطيع ان اطوف بك طرابلس كلها من قلعة قرقارش إلى عين زاره وانقلك إلى باب تاجوراء والملاحة عائدا بك إلى شارع الملك فيتوريوايمانويل في مركز المدينة لن يستغرق ذلك كله غير ساعة واحدة شكرا للمارشال بالبوالذي كسا هذه الطرق بالاسفلت في وقت قياسي وقد وفر عملا لألاف العاطلين من أبناء جلدتك.
ـ متى نبدأ الدرس؟
ـ لقد بدأنا سنيور عثمان. ما نفعله الان هوالدرس. راقب جيدا ما افعله. أريد أن اجري تعارفا بينك وبين السيارة. اريدك ان تحس بها، لكي تستطيع هي أيضاً ان تحس بك وتتفاعل معك. هذا ما احاول ان افعله الان. انك لا تركب المرأة قبل ان يحصل تواصل وتعارف بينكما وهكذا السيارة لابد ان تعرفها وتحس بها لتستمتع بركوبها. السيارة سنيور عثمان تريد الرجل الذي يفهمها ويحبها لكي تمنح له نفسها بيسر وسهولة، وتمضي معه بلا مشاكل ولا مضايقات، هذه هي لحظة تقديمك إليها وتقديمها لك، فلا تقلق واصبر قليلا على ما اقول، وخذ هذه القطعة من البسكويت.
ـ شكرا.
ـ مشروع بالبوالعظيم هو" الليتورانيا " طريق طرابلس بنغازي لقد بدأ الاعداد له، وسيكون انجازا عالميا انتيرناسيونالي، جراندي، مولتومولتوجراندي.
ليته يتوقف عن الكلام قليلا ليتيح لك فرصة ان تسأله عما يعرف عن ترتيبات رفاقه الإيطاليين لحملة الحبشة، انها أول مرة تعرف فيها ان ذهابكم سيكون على افواج. وهوما يضع حلا للمشكلة التي كانت سببا في غضب الشاويش عنتر واستغرابه لأخذ المستجدين الذين لم يكملوا تدريبهم الأساسي لأن معنى ذلك هوانهم سيجدون وقتا لاتمام هذا التدريب
ــ الان راقبني جيدا وأنا أهدىء السرعة سأضع قدمي على المكابح ويدي على صندوق تعشيق التروس
دون أن أحيد ببصري عن الطريق
كانت هناك مفاجأة بانتظارك عندما عدت إلى المعسكر بعد انتهاء الدرس، فقد تم إبلاغ المجندين أثناء ساعات التدريب بأن الذهاب إلى الحبشة قد تم إرجاؤه إلى أجل سيحدد فيما بعد. سرت شائعات في البداية بأن السبب هوبعض التعقيدات التي تواجه الحملة الحبشية ومن بينها نجاح الامبراطور الحبشي هيلا سلاسي بمساعدة بريطانيا، في استنفار الرأي العام العالمي. وتهديد عصبة الامم لإيطاليا بالمقاطعة الاقتصادية العاليمة لها لوقامت بغزوالحبشةثم سرعان ما اتضح أن التأجيل حدث لأسباب ليبية داخلية محضه، وهوأن حركة جهادية ظهرت في الجبل الأخضر تقتفي خطى عمر المختار هي التي أفزعت الإيطاليين الذين يخشون اتساعها ولذلك أبقوا على القوات الليبية المزمع إرسالها إلى الحبشة بهدف استخدامها في سحق المقاومة الشعبية إذا دعا الأمر. هذا ما عرفتموه من ضباط إيطاليين بطريقة غير رسمية، وما أكده عدد من الناس الذين جاءوا من خارج المعسكر لزيارة أبنائهم، وهمسوا لهم بما يدور من كلام عن ظهور المقاومة من جديد في شرق االبلاد. وأحدث هذا التحول في مجرى الأحداث حالة من الغضب والغليان داخل المعسكر ِ لدى هولاء المجندين الذين وجدوا أنفسهم فجأة ينتقلون من خط المواجهة مع الأحباش إلى احتمال الوقوف على خط النار في حرب ضد مجاهدي بلادهم.
لم يكن هناك حديث آخر بين المجندين غير هذا الحديث يتذاكرونه همسا وقد يرتفع الهمس إلى صياح عصبي لدى البعض ينذر بأوخم العواقب. وقد تبدى هذا النوع من الاندفاع والتهور في ابلغ درجاته عندما التقيت قبل صلاة المغرب بصاحبك سالم الذي رأيته يأتي إلى مكان اللقاء غاضبا وقد اصطحب معه زميلا من رفاقه في العنبر شديد التوتر والعصبية. يتحدث لا بصوته فقط ولكن بيديه وعضلات وجهه. وقبل أن يجد سالم فرصة لتقديمه لك بدأ يطلق كلماته كاطلاقات الرصاص وهويهز قبضتة في الهواء ويكز على أسنانه وينتفض كالمحموم:
ـ أجبرونا على دخول الجندية لنحارب أناسا لا نعرفهم في بلاد لا نعرفها من أجل قضية لا تخصنا فرضينا بالظلم وامتثلنا لأمر الأسياد وصبرنا على هذا البلاء باعتباره حكم القوي على الضعيف ولكن إن نقاد صاغرين إلى خوض حرب ضد أهلنا وإطلاق النار على المجاهدين المدافعين عن تراب أرضنا لنقتلهم أونُقتل على أيديهم كافرين آثمين فهذا ما لن يحدث أبدًا، وسيحدث العكس بدلا منه ستكون صدور الإيطاليين هي الهدف لرصاص بنادقنا ومرحبا بالموت بعد ذلك
كان يتكلم بصوت كأنه الصراخ وقد احتقنت الدماء في وجهه حتى تحولت سمرته إلى سواد سألته بحزم أن يصمت. كنت تدير بصرك شمالا ويمينًا وتلتفت أحياناً إلى الخلف وأنت في حالة رعب من أن يكون أحد الناس. قد سمع الكلام الذي سمعته من هذا المجند إنك لا تدري ما الذى دعا سالم لأن يصطحب معه هذا الفتى الاحمق وهويعرف عصبيته التي تجلب المهالك؟ وهوإذا كان يريد الهلاك لنفسه فلماذا يقحمك سالم ويقحم نفسه في مثل هذا الأمرالخطير؟ ثم ما الذي تراه يريده منك؟ وبأية صفة يقول لك هذا الكلام؟ سواء كان هذا الكلام صحيحا أوغير صحيح وسواء أراد تطبيق ما يقوله أولا يريد. فالأمر يقتضي أن يعالج بالكتمان لا بهذا الأسلوب المكشوف الذي سيجعله بالتالي مكشوفا أمام الإيطاليين ولن يجلب له إلا الكوارث، تدخل سالم قائلا:
ـ إذا كان الآخرون قد أجبروا على التجنيد فأنت الوحيد في هذا المعسكر الذي جاءهم متطوعا
ـ هل هوتعزير؟
ـ لا ولكنه توضيح فأنت لم تتطوع لتحارب أهلك.
ـ طبعا لا.
ـ إذن فأنت أولى الناس بالاعتراض.
ـ مازال الموضوع مجرد شائعات.
ـ كلنا نعرف أنها أخبار صحيحة.
ـ هل لديك اقتراح محدد؟
ـ نعم يجب أن يعرف الإيطاليون أنهم لن يستطيعوا الاعتماد على المجندين الليبيين في هذه الحرب لأنهم ببساطة سينقلبون ضدهم في الميدان.
ـ وهل تعتقد أنهم سيعجزون عن الاهتداء إلى وسيلة يمنعون بها حدوث شيء كهذا وهم يعرفون حقيقة مشاعر الليبيين؟
وصاح الفتى الآخر الذي تحول إلى كتلة أعصاب مشتعلة:
ـ إنني لا أطيق البقاء في هذا المعسكر يجب أن نهرب ربما نجد فرصة للإلتحاق بالمجاهدين.
فهمته أن الهروب ليس سهلا وأن احتمال الموت أثناء الفرار أقرب كثيرًا من احتمال النجاة ومع ذلك أصر على موقفه الذي وجد تأييدا من سالم وكنت تريد أن تقول لهما ردا على عنادهما بان السور موجود أمامهمها وما عليهما إلا الإتجاه إليه منذ الآن وتدبير طريقة للقفز منه والهروب إذا استطاعا إلى ذلك سبيلا. ولكنك أثرت الأسلوب الهاديء الذي يتحرى مصلحة هذين الزميلين فطالبتهما بالانتظار قائلا لهما بإن كل هذا الكلام سابق لاوانه وأن زمن الحرب بين الإيطاليين والليبيين قد انتهى بعد أن ساد التفاهم بين الجانبين. وعرفت البلاد شيئا من الاستقرار والسلام واختفت المجاعات والأوبئة التي رافقت الحروب. وأن أية حركة تظهر الآن لن تكون غير حركة يائسة معزولة لن تدوم لغير أيام معدودة قبل ان تنطفىء وتموت
قلت هذا الكلام لتبطل مفعول ما قاله سالم وصاحبه الأرعن في حالة وجود أحد يتصنت عليكم ولا ترونه إلا أن كلامك هذا لم يزد صاحبيك إلا تشنجا وعصبية فانطلقت منهما الكلمات الطائشة التي تهدد بقتل الإيطاليين وتستنكر ما قلته لهما عن التفاهم والسلام الذي يسود بينهم وبين الليبيين لأنه لا وجود إلا للحقد والكراهية وانتظار يوم الانتقام وليس كثيرا على الليبيين أن تتأجج نار حقدهم وتصنع حالة انبعات للجهاد الذي كان قائما على مدى عشرين عاما. لمحت جنديا يمشي بين الأشجار القريبة فتركت صاحبيك يخطبان وعدت إلى حيث كان بقية المجندين يستعدون لدخول المطعم فتناولت طعامك وعدت مسرعا إلى العنبر وبقيت إلى ساعة متأخرة من الليل تتقلب في سريرك لا يواتيك النوم خوف أن يكون ذلك الجندي عينا من عيون الاجهزة الامنية يتصنت على الاخرين وينقل كلامهم لرؤسائه. ووجدت سؤالا يولد من حالة الأرق ويتشكل وسط الظلام الذي يحيط بك، وهوماذا سيكون موقفك لوساقوك مع الاخرين لمحاربة المجاهدين؟ لن يكون هذا التدبير جديدا على جيش الاحتلال الإيطالي. فتاريخ الحرب الإيطالية الليبية التي انتهت بشنق عمر المختار تقول بأن الإيطاليين خاضوا معاركهم ضد المجاهدين بجيش من المرتزقة الليبيين الذين التحقوا بصفوفهم بدافع العوز والفاقه وبحثا عن رغيف لا يجدونه إلا عن هذا الطريق المؤلم المهين إنك لا تريد أن تسلك هذا الطريق. ولا ان تأكل رغيفًا مغموسًا بدم أهلك، وتدعوالله في صلاتك ألا يصل الأمر إلى حد استخدامكم في الحرب ضد أنفسكم. إنك على يقين من أن النقمة ضد الإيطاليين ستصل حدها الأقصى في قلوب هؤلاء المجندين ولن يكون غريبًا أن يفعلوا ما فعله الزعيم رمضان السويحلي منذ أكثرمن عشرين عامًا مضت عندما سار بجنوده لمحاربة المجاهدين في معركة القرضابية ضمن كتائب الجيش الإيطالي ولحظة أن بدأت المعركة اتجه هووجنوده ببنادقهم إلى صدور رؤسائهم وزملائهم الإيطاليين.
وطبعا لن ينتهي الأمر عند هذا الحد وكما حدث قديما سيحدث من جديد لأن الطليان سيباشرون انتقامهم العظيم ضد الليبيين كما فعلوا إثر تلك المعركة التي حقق فيها الليبيون أعظم نصر في تاريخهم، وسيتفجر الصراع شرسًا عنيفًا مرة أخرى. سيكون حريقًا يكبر وينتشر حتى يعم كل المناطق وستنتهي حالة الاستقرار التي تعيشها البلاد الآن. هذا ما يجب أن يعرفه الإيطاليون أيضاً. يجب أن يعرفوا حجم النقمة التي صارت تملأ قلوب جنودهم الليبيين منذ أن عرفوا بفكرة استخدامهم لإخماد حركة التمرد في الجبل الأخضر
الأخبار تتواتر عن مجابهات بين المجاهدين وسلطات الاحتلال هناك وعن إعلان حالة الطوارىء ومنع التجوال في قرى الجبل والاحساس بالغضب يتنامى داخل المعسكر ويتحول إلى غليان وتمرد ورفض للأوامر ومجاهرة بكراهية الإيطاليين. كثرت حالات التأديب والتذنيب. كنت قد ابتعدت أياما عن عملك القديم في جلد المذنبين، منتظرا ان يتم اعفاؤك نهائيا من اداء هذه المهمة الثقيلة. وكان الشاويش عنتر قد اختار تابعا يحل محلك في القيام بهذا العمل. ولكن كثرة حالات التمرد اقتضت الاستعانة بك مؤقتا في جلد هؤلاء المتمردين. المهمة الان أكثر صعوبة من أي وقت مضى كنت تقوم بها في إطار المفهوم الذي يعتبرها جزءا من عملية تربوية تقتضيها أصول التدريب العسكري. أما الآن والمشاعر في غليانها بسبب ما يجري في شرق البلاد فإن الجلد يصبح جزءًا من قمع هذا الشعور الوطني الذي يمور في قلوب المجندين.
إنك لا تستطيع أن ترفض مهمة أنت الذي سعى إليها، وبفضلها انتقلت درجة أعلى في سلم الترقيات العسكرية. وتبوأت مكانة أكثر ارتفاعا من بقية المجندين ولا تقوى الآن على هدم كل ما بنيته بالهروب من أدائها أوالتهاون فيها فأنت ستذهب لتنفيذ الأمر الذي صدر إليك ولكن بقلب أكثر وجعًا وانكسًارا هذه المرة. فتبعات هذا العمل في مثل هذا الوقت، ليست هينة. وهذا ما لمسته منذ اللحظات الأولى لعودتك لرفع السوط على زملائك. فقد شعرت بأنك أصيحت أكثر عزلة وغربة وأنت ترى المجندين يحاصرونك بنظرات الكراهية والاحتقار. إنهم يصنفونك مع الإيطاليين وهناك من الليبيين من أعطاك كنية تحمل صفة أدنى من ذلك، لأنك سمعت أحدهم، ممن لم تتبين من يكون ينعتك بصفة كلب الحطية. والحطية هوالاسم الذي يطلقه بعض المجندين على ذلك الجزء من الغابة الذي تقضي به ساعات الفراغ فلم يتبادر إليك أي شك أن المجند الذي قال هذه الكلمة يعنيك وأنه وأمثاله من الحشرات البشرية يحملون لك حقدًا واحتقارًا يزيد على ذلك الذي يحملونه للإيطاليين. مع أن الإيطاليين لا يدركون معنى التضحيات التي تقوم بها من أجلهكم، ولا يرونك كما يراك الحاقدون من الليبيين واحدًا منهم. ومهما كُنت قريبا من موقفهم متفانيا في خدمتهم فستبقى دائمًا "الاراباتشو" أو" الأنديجينو" الذي يقل بدرجة صغيرة واحدة عن مرتبة البشر. وهكذا تجد نفسك وربما دون قصد منك وحيدا ومنفصلا عن الجميع من إيطالييين وليبيين. مقيما في تلك المنطقة التي تجف فيها الموارد الروحية وتتضاءل فيها مادتي الوداد والدفء الإنساني، وسط بيئة هذا المعسكر التي تقوم العلاقات فيها على المثلث الهمجي القمع والكراهية والاحتقار. هذه العناصر الثلاثة التي لابد أن تتوافر بكميات متساوية لضمان التوازن وتأكيد العلاقة المتتالية والاطّرادية بينهم فكلما تنامى عنصر تبعه العنصران المتبقيان بالاطراد والتنامي. فزيادة القمع لا تلد بالضرورة إلا مزيدًا من الكراهية والإحتقار. وهكذا صار المعسكر الآن يشهد إحدى لحظات الذروة في لعبة التوازنات والتنامي الاطرادى لهذه العناصر.
أنت هنا تستقطب مشاعر العداء التي تزيد من تأكيد وحدتك وانفصالك وكأنهما حصتك من العقاب الذي يجب ألا ينجومنه كل إنسان يقطن هذا المعسكر. أنه عقاب ينسجم مع تكوينك ولا يتعارض تعارضا كاملا مع رغبتك في التوحد والتميز والإنفراد. أنه حتى وإن بدا وضعا مفروضًا عليك فإنك لا تستطيع أن تقول أنك لم تلاقه في منتصف الطريق. لقد كنت دائما وحيدًا حتى وأنت تعيش بين أهلك في أولاد الشيخ. لم تكن أبدًا تشعر بالإنتماء لشيء، لا إلى العائلة الكبيرة التي يرى أهل القرية انهم ينتمون إليها، ولا حتى إلى عائلتك الصغيرة المقسومة نصفين. بقيت وحدك مقيما في تلك المنطقة التي تفصل بين القسمين. تقف هناك وحيدًا منفردا متحدا بنفسك منفصلا عن بقية العائلة وبقية الناس. وعندما تركت القرية لأول مرة تطاردك لعنات أهلها مختبئا بين أجولة الفحم في سيارة شحن كان ذلك تعبيرًا عن حقيقة علاقتك المفككة بالأهل، وانعدام تواصلك بظروف الحياة في القرية التي كنت منذ البداية نافرًا منه متطلعا على الدوام إلى يوم انعتاقها منها. ولم يخطىء من أسماك المعزة السوداء المنفصلة عن بقية القطيع فقد كان شكلك وأنت ترفع جسمك من بين أجولة الفحم لحظة مغادرة القرية يتطابق تمامًا مع هذا التوصيف الدقيق الخبيث:
ـ المعزة السوداء.
لعله كان وصفا يليق بك في تلك البيئة البدوية الرعوية التي لا تعرف مهنة غير رعي الماعز ومن حقها ان تقتبس تشبيهاتها من مفردات ذلك الواقع. إلا أن ما تشعر به الآن يبدومطابقا لذلك الشعور فأنت هنا أيضاً معزة سوداء ولكن في بيئة بلا ماعز ولا مرعي، تقف في تلك المنطقة الحدودية العازلة بين الإيطاليين والليبيين ولا أحد بجوارك غير أستاذك الذي جعلته قدوتك في الحياة العسكرية الشاويش عنتر ولكنه رفيق لا أمان له. فلا تعجب إن رأيته يمضي ويتركك وحيدًا في هذه المنطقة الرمادية بل هذا هوبالضبط ما فعله فقد امتنع نهائيا عن تطبيق العقوبات على المجندين بنفسه لكي يتحاشى نقمتهم. وزاد على ذلك بأن جاهر أمامهم بنفوره من فكرة الذهاب لمحاربة المجاهدين في الجبل الاخصر قائلا بلهجته البدوية:
ـ إنهم يحتمون هناك بواحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدي رافع، ياويل الواحد منا إذا اقترب منه فسيناله عذاب الدنيا والاخرة أجارنا الله
ماذا لوكانوا يجاهدون بعيدا عن ضريح الصحابي الجليل. لاشك ان الشاويش عنتر سيكون أكثر استعدادًا لتنفيذ أوامر الإيطاليين بقتل المجاهدين وهوسينفذها طبعا حتى لواحتمى هؤلاء المجاهدون بالكعبة الشريفة نفسها. ولكنه مجرد كلام لتفادي نقمة الليبيين ومع ذلك فقد أكبرت موقفه هذا فهذه بلاشك أول مرة في حياته يقول فيها كلاما لغير صالح الطليان. ويقوله وسط عنبر فيه عيون كثيرة ترى واذان كثيرة تسمع، والسنة يمكن أن تنقل ما يقول، وضمائر فقدت فعاليتها وأعلنت منذ امد طويل استقالتها فلا تشكل رادعا أمام أي عمل خسيس. كنت تستطيع أن ترى نظرات الاحتقار التي يشيعك بها المجندون خاصة بعد أن تنتهي من أداء مهمتك في جلد واحد من المتمردين على الأوامر العسكرية ودون أن تستطيع فعل شيء إزاءها. وحدث وانت خارج من قاعة الطعام ان وجدت مجندا لا تعرفه يعبر عن احتقاره لك بأكثر من مجرد النظر. إذ تقدم منكوألقى كلمة نابية مصحوبة بكلمة " كلب الحطية" وأعقبها ببصقة ألقى بها على وجهك. فمسحت بطرف كمك اللعاب من فوق وجهك دون أن ترد عليه. لأنك لم تشأ أن تخلق مشهدا يجتذب الزحام وتصنع تظاهرة لن تكون في صفك على مستوى الليبيين الذين ربما أكبروا ما فعله بك هذا الجربوع وهللوا له وصنعوا منه بطلاً، ولن يترك الإيطاليون عراكا كهذا يمر دون عقاب ينال الظالم والمظلوم كما جرى بذلك العرف في هذا المعسكر.
لم تفكر حتى بتقديم بلاغ ضده لسلطات المعسكر كي تنزل به العقاب الذي يستحقه والذي قد ينتهي بتعفير
جسمه بجلدات من سوطك، لن تتردد في أن تجعل كل جلدة منها، رحلة في جحيم الألم والعذاب. تركته يمشي ومشيت وراءه حتى بلغ منطقة معزولة من المعسكر حيث لا أحد يراكما وسحبته فجأة من ذراعه لاويا الذراع بكل ما لديك من قوة. وضعت وجهه بمواجهة الجدار وبعنف وغيظ أمسكت بفروة رأسه وضربت به الجدار مرة أولى وثانية وثالثة حتى صار الدم يشخب من جبينه. أخذته إلى المستوصف بحجة أنه سقط أثناء الهرولة وصدم رأسه بحرف الرصيف. وافهمته وأنت تسحبه من ذراعه إلى هناك بأنك لا تقل عنه حبا لوطنك وأنك لا تجلد الناس بمزاجك، وإنما استجابة لأوامر عسكرية لوخالفتها لجلبت الهلاك لنفسك. وأنكم جميعا تعيشون هنا تحت شروط لم يصنعها أحد منكم. ولم تكن لكم يد في اختيارها وواجبكم أن تفهموا بعضكم بعضا، وتقدروا ظروف كل واحد منكم. إذ يكفي ما يفعله الإيطاليون بكم فلا حاجة لأن تضيفوا إلى ذلك أوجاعًا تصنعونها بأنفسكم لأنفسكم. ثم تركته لدى ممرض المستوصف وانصرفت.
لم تذهب اليوم للقائك اليومي مع سالم خوف أن يأتي بصاحبه الذي جاء به بالأمس أوبصاحب آخر أكثر بؤسا منه إذ لم تكن في حالة نفسية تسمح بسماع مزيد من التعزير منه أومن صاحبه. ذهبت لتنام مبكرًا وصحوت لأخذ درسك اليومي في قيادة السيارة، وفي ذهنك شيء قررت القيام به، ولوأدى إلى وضعك موضع الشبهات لدى رؤسائك مدعيا أنك تقول ذلك بدافع الحرص على سلامة العلاقة بين الإيطاليين والليبيين ورغم تهريج ماريووبحثه عن المغامرات النسائية نكاية بامرأته فرانكا وانتقاما منها واعترافه لك بأنه يصاحب أكثر من امرأة من بائعات الهوى اللاتي يأخذهن إلى منطقة آمنة داخل الغابة أثناء النهار. وأنه لا مانع أن تكون شريكه في مغامرة اليوم شرط أن تدفع حصتك من التكاليف، إلا أنك أفهمته بأنك ستكتفي بأخذ درسك فقط، دون مغامرات نسائية في الغابة، لأن لديك مهمة بعد الدرس مكلفًا بأدائها، ذات طابع عاجل ومهم دون أن تدخل معه في حوار حول إلتزامك الديني الذي يمنعك من ارتكاب هذه المحرمات. ولم تعبأ بثرثرته عندما صار يزين لك مغامرة اليوم ومتعة ممارسة الحب وسط الغابة وما يعنيه ذلك من انسجام وتواصل مع الطبيعة. ثم قال قافزا إلى موضوع آخر:
ـ لماذا أنتم هكذا أيها العرب لماذا بحق الجحيم؟
ـ ماذا تعني؟
ـ هذا الحجر على النساء وحبسهن بين حيطان البيوت لماذا؟ ما هوالسبب؟ أية لعنة جلبتموها لأنفسكم رجالا ونساء وأية نعمة حرمتم أنفسكم منها أيها الرجال عندما صنعتم لأنفسكم عالما خاليا من النساء، كان هذا الموضوع مفاجأة مذهلة لي عندما جئت إلى بلادكم لأول مرة منذ عامين، لم أكن أعتقد أن هناك مكانا في الدنيا مثل هذا، مجتمع خاص بالنساء خلف الجدران ومجتمع آخر للرجال هذا ضد الطبيعة، ضد الإنسانية، ضد الحياة، ضد الله.
ضحكت من كلامه لأن ما يراه غريبا هوالأمر الطبيعي الذي يأمر به الدين وتقتضيه القيم والأصول والأخلاق. فالعيب ليس في صون الحرمات وتجنيب المرأة متاعب العمل ومشاكل الاختلاط بالرجال
في المكاتب والمحافل والاسواق لتبقى داخل بيتها معززة مكرمة, العيب، قلت له، فيما يفعله الإيطاليون الذين يبتذلون نساءهم ويرغمونهن على العمل في والمقاهي والأندية والاسواق وبيع شرفهن في الملاهي والحانات. وعلى طريقته في القفز من موضوع إلى آخر قال ماريو:
ـ إنني أمتلىء فضولا لأن أتعرف على جسد إمرأة عربية جسد المرأة هوأفضل وسيلة للتعرف على شخصية الشعب الذي تنتمي إليه هذه المرأة، وفهم ثقافته الحسية الجنسية، أريد أن اعرف كيف تتصرف في السرير، بعد ان عرفت كثيرا من الجنسيات، ليس عبثا هذا التجانس والتماثل بين الجنس الذي اتكلم عنه وبين الجنس بمعنى الجنسية كلاهما يشير الى الآخر ويدل عليه، لا اعني السرير بمعناه الحرفي فالله اراد الكرة الأرضية كلها ان تكون سريرا كبيرا يعاشر فوقه الرجال النسا ء. اعني اتعرف إليها جنسيا. اعرف من غير الإيطاليات، يهوديات ومالطيات ويونانيات وغجريات، وساجعلك تعرف من تشاء منهن من أجل أن تقضي أنت أيضاً لحظات ممتعة في الغابة. بالمقابل فإنني أريدك أن تحضر لي إمرأة عربية يجب ان تكون جميلة وصغيرة ومثيرة لكي لا يخيب ظني في النساء العربيات. لابد أنهن شبقات، متعطشات للحب والجنس فالرغبة المكبوتة المحبوسة خلف الأبواب والجدران لابد ان تتفجر كالبركان عندما تجد الفرصة. سألته قبل أن يكمل كلامه أن يوقف السيارة لأنك قررت ان تهبط منها وتهرب من ثرثراته الفارغة المملة وليقل في تقريره عنك ما شاء ان يقول.
لم يكن درس اليوم قد وصل إلى نهايته. ولكنك وجدت نفسك قريبا من وسط المدينة حيث لن تحتاج لغير دقائق قليلة حتى تصل إلى بيت السنيورة حورية في شارع البريد، التي قررت زيارتها. كنت واثقا من وجودها في البيت وانك جئت في وقت يناسب موعد استيقاظها قياسا بما عرفته في مرات سابقة. دخلت عندما فتح لك مرجان الباب وجلست بانتظارها في الصالون، لم تمض غير برهة صغيرة حتى جاءت يسبقها عطرها، واشعاع من ضوئها، للترحيب بك. لم تشأ ان تتركها تطيل التخمين في اسباب هذه الزيارة ودخلت مباشرة في الموضوع الذي جئت من أجله. قلت لها بانك فخور لأن سيادة المارشال اختارك لكي تزوده بتقارير دورية عن حالة الليبيين عند وصولهم أرض المعركة واشتراكهم في الحملة الإيطالية لاحتلال الهضاب الاثيوبية. ولذلك فانت لا تشعر باي حرج عندما تبدأ مهمتك منذ الان، وتزوده بتقرير عن حالة جنوده الليبيين قبل ذهابهم إلى هناك. ثم شرحت لها كيف ان معنويات هؤلاء الجنود الذين تريد إيطاليا الاعتماد عليهم في حروبها، في حالة هبوط بلغ ادنى درجاته وحالة غضب بلغ أقصى واعنف هذه الدرجات وقد حصلت لهم هذه الحالة عندما تأجل فجأة موعد الذهاب إلى الحبشة وعرفوا ان السبب يتصل بحركة التمرد التي ظهرت في الجبل الأخضر، واعتزام القيادة اخذهم إلى هناك لاخماد الثورة. ثم وجدت نفسك ودون وجل تقول لها رأيك بصراحة في هذا التدبير الذي سيخلق حالة من التأزم في البلاد. ويوقظ مشاعر الثأر والنقمة ويعيد العلاقة بين الشعب الليبي والإيطاليين إلى ما كانت عليه أيام جرسياني، بعد ان عرفت عهدا من الاستقرار والازدهار والسلام منذ ان أصيح المارشال بالبوحاكما يحمد له الليبيون انه لم يقتل مواطن ليبي واحد في عهده على ايدي الإيطاليين
ـ ومن قال لكم ان هناك تمردا في الجبل الأخضر؟
ـ هذا ما يقوله كل الناس.
وضاحكة اعادت حورية كلمة " كل الناس " ثم اضافت:
ـ اذا اعتبرتني واحدة من كل هؤلاء الناس فان هناك استثناء، هوانا.
وباندهاش سألتها ان كان ما يقولونه حول هذا التمرد يخالف الحقيقة التي تعرفها هي؟ فكان جوابها حاسما:
ـ لا يمكن لاي إنسان يعرف ما فعله ايتالوهناك ان يصدق مثل هذا الكلام، لقد اجرى منذ ان وصل إلى حكم الولاية اعادة بناء شملت كل انحاء الجبل الأخضر بما في ذلك المساجد والمدارس القرآنية وازال الاسلاك الشائكة وأطلق سراح كل من بقى في السجون والمعسكرات من اعضاء المقاومة الشعبية وعائلاتهم ومنح العاطلين منهم عملا في حفر آثار قورينا وبناء فندق الجبل وشق الطرقات الحديثه في تلك المنطقة، ولقد رأيت بنفسي عندما ذهبت معه منذ اشهر مضت لزيارة تلك المنطقة مقدار الحب الذي يحمله له الناس هناك كانوا يستقبلونه بالتصفيق والاهازيج والزغاريد في حشود كبيرة وهويطوف بينهم دون حراسات ويمد يده لمصافحة كل من تصل إليه يده. انه أيضاً يحب تلك المنطقة , انها ساحرة، مرعبة، مدمرة، فظيعة، فظيعة جدا، الفندق الذي يبنيه ايتالوهناك يطل على أجمل منطقة في العالم حيث البحر والغابة والجبل واثار قورينا، ومعابد ابوللو، وايزيس، وآمون،وزيوس التي تنتمي لاعظم الحضارات، وليس ببعيد عنها منتجع رأس الهلال وحمام كليوباترا وصخرة القديس مرقص وكهفه، عالم ليس من هذا العالم وتوليفه عجيبة، بديعة، مهلكة، خرافة خيال، مستحيل.
دق جرس الهاتف فقامت حورية للرد عليه ثم اخذت الجهاز وانسحبت به إلى اجنحة البيت الداخلية عادت لتقول لك:
ـ انه ايتالو. يبدوغريبا كيف تتحول الاحداث الصغيرة إلى حروب في خيال بعض الناس.
ثم أخبرتك بما عرفته للتومن المارشال بالبونفسه قائلة بان اشتباكا وقع بين " المهاريستا" وهم حراس ليبيون يركبون المهاري ويراقبون المناطق المتاخمة للحدود، وبين قافلة من البدو، فالمهاريستا ينفذون تعليمات قديمة تطالب كل من يعبر تلك المناطق متجها صوب الحدود المصرية بترخيص من الحاكم العسكري، لم يكن هؤلاء البدويملكونه. مما نتج عنه سوء تفاهم ادى إلى ان يعتصم جماعة القافلة بكهف في الجبل ويقوموا باطلاق النار على جنود الدورية. وقد اصدر المارشال امره برفع كل الحواجز والغاء الأوامر التي تطالب بالتراخيص ومنح الناس حرية التنقل في هذه المناطق، وامر المهاريستا بالبقاء في النقاط الحدودية، والا يغادروها ابدا، وانتهت الازمة التي لم تستمر سوى أياما قليلة.
تعرف انت ان لأهل الحكم والسياسة اسبابا تدعوهم لتلوين الحقائق واخفائها في بعض الاحيان ولذلك فانت لا تستطيع تصديق ولا تكذيب ما قالته حورية أوما قاله لها المارشال المهم انك تشعر بارتياح كبير لأنك جئت لهذا البيت وقلت ما قلته ورفعت عن كاهلك ذلك العبء دون ان ينالك أذى أوتسبب حرجا لحورية أوتثير غضب صاحبها الحاكم الإيطالي. وقبل ان تسألها عن السبب الذي ادى إلى تأجيل رحيلكم إلى الحبشة واصلت هي الحديث قائلة بان التأجيل حدث لاسباب غير ليبية، ذات علاقة بجبهة القتال نفسها وبسبب رداءة الطقس تقرر تأجيل بدء العمليات العسكرية إلى حين انتهاء موسم الامطار. مما يتيح فرصة أكثر أمام المجندين الليبيين لمزيد من التدريب. ثم اضافت شيئا ايقظ في نفسك الشكوك حول نفيها لظهور المقاومة في الجبل الأخضر عندما جاء في حديثها ذكر الأرض التي ستدور فوقها المعارك في الحبشة وطبيعتها الجبلية التي تقتضي ان يشمل التدريب المتقدم انتقال بعض الجنود لاداء بعض التمارين القتالية في مناطق مشابهة ليسهل عليهم بالتالي تنفيذ العمليات العسكرية التي يكلفون بها هناك. قالت لك وهي تأخذ من الخادمة كأس عصير البرتقال وتقدمه لك:
ـ وكيف حال الدروس التي تأخذها في قيادة السيارة؟
ـ اذن فلا خبر يخفى على السنيورة حورية
ـ وكيف لا اعرف خبرا كهذا اذا كنت انا من رشحك لهذه المهمة.
اذهلك ما سمعت فقد كنت حائرا لا تدري الجهة التي اختارتك لهذه المهمة ولا السبب وراء هذا الاختيار ولا تعرف احدا تسأله. وعندما سألت لم تجد لدى احد ممن سألتهم جوابا سوى ان هذه هي طبيعة الأوامر العسكرية وها انت الان وجها لوجه مع المرأة التي كانت وراء ذلك كله، انها أوامر حريمية وليست أوامرعسكرية كما قالوا فما هي يا ترى المهمة التي تعدك لها وما الذي سيعود عليها من نفع ما دمت مندوراً لتصبح قربانا لاله الحرب في برالحبشان
ـ لدي مشكلة صغيرة مع سائقي عياد يريد ان يستقيل لأنه منذ اربعة اعوام لم يذهب إلى أهله في مرزق ولا يعرف ما حدث لأرضه الزراعية هناك. ولأنني تعودت عليه واعجبت بامانته فقد اتفقت معه ان يذهب لمدة ثلاثة اشهريقضيها مع أهله ويرتب امر مزرعته ثم يعود لمواصلة العمل معي وساحتاج خلال مدة غيابه
لمن يقوم مقامه ويكون محل ثقة مثله.
ـ سأبذل جهدي كي اكون أهلا لهذه الثقة.
ـ مهنة كهذه تفيدك كثيرا جدا في حياتك العسكرية.
ـ ومتى ابدأ العمل؟
ـ حالما تحصل على رخصة القيادة، عندها نطلق سراح عياد ونسلمك مفاتيح السيارة.

                            (13)
السيارة السيارة السيارة، جواد العصر الحديث، المصنوع من اسلاك وصفائح معدنية، رمز القوة والسرعة والحياة المرفهة الباذخة، كيف لا تطير فرحا وانت تجد نفسك موعودا بامتطاء إحدى أبهى وأجمل السيارات، تطوف بها المدينة وتنتقل بها من مكان إلى آخر كما يفعل اسياد هذه البلاد. كنت تظن يوم ان بدأت التدريب على القيادة انها مهمة ضمن مهماتك العسكرية ستؤديها اثناء الحرب وها انت تعرف الان ان الأمر يختلف، وان السيارة التي ستقودها بعد أيام ستكون سيارة مدنية من سيارات حاكم البلاد الذي لا يجوز لاحد ان يملك سيارة افخم أوأجمل من سياراته. تؤدي بها بعض المهمات للسنيورة حورية وفيما تبقى من الوقت ستكون السيارة لك تتجول بها حيث تشاء دون ان يجرؤ احد على ايقافك أومساءلتك أوتغريمك عند ارتكاب المخالفات. الا تحمل الارقام الخاصة بقصر الحاكم العام؟
كتمت خبر المهمة التي تقوم بها خارج المعسكر. ولم تخبر بها احدا من رفاقك المجندين بمن فيهم صاحبك سالم الذي لم تنتظر حتى مجيء المساء للقائه وانما اخترت موعد الغداء لتبليغه بانك رفعت شكوى المجندين الليبيين لاعلى سلطة في البلاد. انتحيت به جانبا خارج قاعة الطعام وأخبرته بان انبعات المقاومة الشعبية من جديد ليس الا حلما يداعب قلوب بعض الناس. وما أن سمعوا بان بدويا أطلق النار على بدوي آخر يعمل حارسا للمناطق الحدودية حتى اعتبروه ميلادا جديدا لكتائب عمر المختار
ـ فلتفرح اذا اردت الفرح لأن الإيطاليين لن يأخذوك إلى حرب في الجبل الأخضر ضد مجاهدين لا وجود لهم.
ـ وهل تصدق ما قالوه لك؟
ـ وماهوالسبب الذي يرغم الحاكم العام لليبيا على الكذب؟
ـ وهل هناك اكذب من هؤلاء الحكام؟
ـ اسكت ولا تلقي بنفسك إلى التهلكة. اطمئن انه صادق مئة في المئة ولعلك غاضب لأنه اضاع عليك فرصة ان تعيد للحياة العمل البطولي لرمضان السويحلي في القرضابية.
كنت تريده ان ينقل فحوى هذا الكلام إلى بعض المجندين كما ستحاول انت أيضاً نقله إلى بعضهم عند الانضمام إليهم داخل المطعم ولكنك رأيت فور جلوسك على منضدة الاكل الشاويش عنتر يقف وسط القاعة ويطلب من الموجودين الهدوء والاستماع إلى ما يريد ان يقوله. وهوانه لا صحة للشائعات التي تقول بانكم ستذهبون إلى الجبل الأخضر لمحاربة المتمردين لأنه لا وجود لمثل هذا التمرد الا في اذهان االحاقدين والموتورين مما يسود المجتمع من هناء وامان وسلام. والصحيح انهم سيختارون كل يوم فرقة تذهب إلى جبل غريان للتمرين على حرب الجبال وستعود في نفس اليوم لتنام في المعسكر
اشاع هذا الكلام القادم من مصدر رسمي جوا من الطمأنينة بين المجندين الذين انطلقت من صفوفهم كلمات الاستحسان، وعبارات الحمد الله، وحدث اثناء جلوسك بجوار سالم وانتما تتناولان الغداء وتغمسان الخبز في حساء الفاصوليا. ان سمعتما احد جنود المراسلة ينادي اسميكما عبر البوق ويطلب منكما الاتجاه إلى البوابة فتركتما الطعام واندفعتما باتجاه صالة الزوار فقد عرفتما أن هناك زيارة تخصكما. ووجدتما لحظة وصولكما هناك حشدا من أهلكما فى القرية ينتظركما، نساء ورجال واطفال يزيد عددهم على عشرة. أشخاص، فقد جاءت امك تصطحب معها زوجها، وجاء والدك يصطحب زوجته واثنين من أولاده. كما جاء لزيارة سالم والده وامه وعدد من اخوته واعمامه يقودهم عبد المولى الشحاذ وأمام البوابة كانت تنتظرهم سيارة نصف نقل هي التي جاءوا متكدسين في صندوقها الخلفي وهي التي ستعود بهم بعد انتهاء الزيارة، وكان والد سالم مساهما دائما في قيادة الأناشيد والمدائح النبوية فى الاحتفالات بالمولد النبوي، يحفظ بعض الايات والتعابير الدينية ولذلك فانه ما أن انتهت الاحضان والسلامات حتى رفع يديه بالدعاء يطلب من الله ان يرعامكما ويحفظكما وينجيكما من المهالك والاخطار ويرد غربتكما في اقرب الأوقات. ومن خلفه بقية الأهل يرددون آمين بصوت يلونه الانفعال ويختلط بالنشيج والبكاء. وما لبث ان شارك في هذا الطقس كل من كان في الصالة من زوار ومجندين واتخذ دعاء ابي سالم صفة الجمع بدلا من صفة المُثنى ليشمل بدعائه كل من سيذهب إلى الحرب من الحاضرين، وانتهى الدعاء فسألكما أن تقتربا منه ووضع يدا على رأس ابنه، والأخرى فوق رأسك وصار يقرأ تعويذة "الحصن الحصين" قائلا لأم سالم التي انهمكت في البكاء بان هذه التعويذه ستتكفل بارجاع ابنها ورفيقه سالمين مما ساعد على تخفيف حدة البكاء لديها ولدى امك التى كانت تبكى بحرقة أكثر منها، بل بدا البشر على وجهيهما ووجوه بقية الأهل، وكأن ما قاله الرجل من دعاء ستسجيب له المشيئة الالهية دون ابطاء.
انتهت الزيارة سريعا وعاد الأهل إلى التكدس في صندوق السيارة التي انطلقت بهم صوب قريتهم، بعد ان تركوا لكما زادا تسافرون به إلى بر الأحباش، صرة من السويق وجرة من القديد، وعلبة من كعك العيد رغم احساسك بالغبطة وانت تعانق امك واخويك وترتمي في احضان ابيك فان الزيارة لم تترك أي اثر في نفسك ولم توقظ لديك ما كنت تتوقعه من حنين إلى عالم القرية ومرابع الطفولة والبراءة بها، جاءوا اثناء الزيارة
على ذكر خالات وعمات واخوال واعمام يبعثون إليك بتحياتهم فكنت تحس كانهم يتحدثون عن اشباح من ماض سحيق. وبدت القرية في ذهنك مكانا بعيدا كأنك تركتها منذ عشرات السنين لا منذ اشهر قليلة مضت، وصارت صورتها وذكريات الحياة التي عشتها فيها وصورالبشر الذين خالطتهم وكبرت بينهم تتلاشى في ذهنك حتى تكاد تنمحي.
ومع انقضاء ساعات النهار واقتراب موعد النوم لم يبق في رأسك شيئ من الزيارة وعادت تحتله كلمات ماريوهذا الصباح ووعوده لك بمغامرة من مغامرات العمر كما يقول، ويبالغ في القول بكلماته التي تقع في اذنيك موقعا غريبا نتيجة لهجته الجنوبية القوية:
ـ دوماني سينيور أوسمان دوماني
غدا هوموعد المغامرة النسائية التي يدعوك إليها ماريو، ويلح في الدعوة، انها ليست المرة الأولى التي تقف فيها موقفا حائرا أمام غواية الجنس، فقد حدث شيء مماثل اثناء عملك بدكان الاحذية عندما ارادت زبونة من نساء شارع سيدي عمران غوايتك. أخبرتك دون مواربة بمهنتها وعرضت عليك زيارتها في بيتها بالشارع الشهير، واحبت حذاء نسائيا معروضا بالدكان ارادت ان تأخذه وتمنحك ثمنه جنسا استنكرت ما قالته وأويت إلى فراشك تلك الليلة وانت مسهد لا تعرف كيف تنام، كانت امرأة تتقن فنون الاغراء. جاءت إلى الدكان ملفوفة في فراشيتها، كتلة من البياض لا يظهر منها أي شيء، وجلست أمامك على الكرسي الصغيرالواطيء الذي لا مساند له المعد للزبائن اثناء اخذ القياس لاحذيتهم وتجريبها على اقدامهم، وكشفت أمامك وجهها الذي استخدمت في تزيينه كل فنون المكياج فبدا مثل وجوه العرائس، مغريا بالوانه الساطعة. ثم فتحت اللحاف عن صدرها وكشفت لك عن جمال واستدارة نهديها، وعندما رأتك ترتعش رهبة ودهشة مما سمعت ورأيت سألتك وهي تضحك ان تلمسهما اذا اردت. بعد ان حانت منها التفاتة إلى اليمين وأخرى إلى الشمال تطمئن إلى خلوالمكان من الفضوليين تريدك ان تعرف ان هذه النهدين اللذين ارعشاك وارعباك ليسا وحشين صغيرين سيعضانك. راتك تدير وجهك عنها رافضا عرضها فابدت استغرابها كيف لشاب في مثل عمرك ان يقاوم اغراء هذين النهدين. ثم نهضت وغادرت الدكان غاضبة، واثقة بانك مصاب بمرض ينتقص من رجولتك، بينما رأيت انت في امرأة سيدي عمران صورة مجسدة للشيطان الذي يفسد على الناس ايمانهم ويقودهم عبر طريق الضلال إلى ابواب الجحيم
لقد عشت قبل ان تخرج من القرية تجربة مريرة من هذ النوع عندما استجبت لضعفك ازاء دعوة تلك الصبية السمراء. وجاء عقاب الله عاجلا لا آجلا عندما افتضح سرك وخرجت من بلدتك مطرودا منبوذا. ولا تريد لهذه الخطيئة ان تحدث مرة أخرى، ولا لمثل ذاك العقاب ان يلاحقك في المكان الذي وجدت فيه ملاذا آمنا بعد أيام من العنت والعناء. بقيت لزمن طويل، رغم الامتناع عن ارتكاب الخطيئة اسير ذينك النهدين وسحرهما ولم تعرف وسيلة أوطريقا لنسيان صاحبتهما التي ظلت صورتها وهي مكشوفة الصدر تدس عينيها الكحيلتين في وجهك، لا تفارق ذاكرتك حتى هذا اليوم. انها لم تزرك بعد ذلك ابدا. ولم تمنحك فرصة ثانية تختبر فيها قدراتك على مقاومة الغواية. وهاهوماريوالذي يسميه اصحابه بالورشة، ماريوالعجوز، يقدم لك عرضا شديد الاغراء ويدعوك لأن تشاركه احدى ولائم اللحم الابيض الإيطالي فما تراك قائل هذه المرة؟
تحفظك الديني وخوفك من عقاب الله في الدنيا والاخرة يمنعانك من ولوج هذاالطريق، إلا أنك في دخيلة نفسك تتمنى ان تجد شيخ دين، متفتح المدارك، يقدر ظروف شاب في مثل سنك، وصل سن البلوغ منذ عشرة اعوام، تتدفق الرغبة في شرايينه حارقة مؤلمة كلما راى خيال امرأة أمامه، وليس بامكانه الزواج، وهويتمزق بين ضميره الديني وصراخ الدم في عروقه. لا يمكن لمثل هذا الشيخ ان يفشل في العثور على حل لمثل هذه الحالة الشائكة، التي كان السلف الصالح في أوج ازدهار الدولة الاسلامية يعالجونها بنظام الجواري وما ملكت ايمانكم، اما في العصور الحديثه فقد سمعت انه يكفي وانت تلتقي بالمرأة الطارئة العابرة التي تريد ان تعاشرها معاشرة جنسية ليوم أويومين فقط ان تضع يدك في يدها وتقرأ سورة الفاتحة بنية العقد عليها وتعطيها جزءا من اجرها فيما يمكن اعتباره مقدم الصداق لتصبح المعاشرة بالتالي حلالا. ثم تعطيها بعد ان تفرغ منها مؤخر صداقها وتعتبرها طالقا. هل يمكن ان يكون الحل سهلا وميسورا إلى هذا الحد؟ الا يبدوالتلاعب واضحا في مثل هذا الفعل من افعال المتاجرة بالجنس؟
استيقظت من نومك وذهبت للقاء ماريودون ان تصل إلى قرار. سألك اثناء التدريب ان تنتبه جيدا للدرس لأنه سيعطيك في حصة واحدة مايجب ان تأخذه في ثلاث حصص لتكريس بقية الوقت للمتعة والترفيه عن النفس. فقد واعد امرأتين من الغجر الإيطاليين لأخذهما بعد ساعتين من منطقة بورتا بينيتوالقريبة من الغابة، أوالبوسكوكما يسميها هو، ليدخل بهما إلى دغل آمن، سبق ان ذهب إليه ماريوفي مغامرة سالفة، ووجده انسب مكان لمثل هذه النزهة فهوبعيد عن الطرقات والمسارب التي تشق الغابة ولا تسطيع دخوله الا مثل هذه السيارة العسكرية ذات الدفع الرباعي. لم تعار ضه ولم توافقه، ولم تقل شيئا عندما انهى حصة التدريب واندفع مسرعا باتجاه المكان الذي واعد فيه المرأتين. وفي الطريق إليهما وقف أمام متجر لبيع الخمور واشترى زجاجة نبيذ أحمر، دون ان ترى حاجة لأن تبدي اعتراضا. كل ما في الأمر انك ستمتنع عن مشاركته شربها. فهوله دينه وانت لك دينك، وفي ركن منزومن شارع خلفي غارق في ظلال الأشجار وجدتما المرأتين تنتظران. لم تتبين ملامحهما نتيجة كثافة الظل. وسألهما ماريوفور ركوبهما في الكرسي الخلفي. ان يدسا جسميهما بين الكراسي كي لا يراهما احد. حتى يدخل بهما الغابة، وسلمت انت امرك لما يفعله ماريو. تاركا نفسك لما يمليه الموقف بلا تعليق، ولا تفكير، ولا شعور بالاثارة كما يحدث مع ماريوالذي تزداد ابتسامته اتساعا وكلماته سرعة وانفعالا وهويقود السيارة داخل الغابة، عبر طريق مترب تركت فيه السيارات آثار عجلاتها، قبل ان يترك الطريق إلى آخر لا اثر فيها لعجلات السيارات، متوغلا عبر الأشجار إلى الركن الظليل الذي تتشابك فيه الاغصان وتصنع مظلة تحميكم من أعين المتطفلين. أوقف السيارة واخرج من صندوق الامتعة منضدة مطوية ومجموعة من الكراسي الخشبية المطوية هي الأخرى، صار يفردها ويعد المكان لجلسة اللهووالمؤانسة، تحت هذه الخميلة الآمنة، ويحضر اكوابا للنبيذ وصحنا وضع فيه شرائح جبن ولانشيون وحبات زيتون. قبل ان يجلس ويدعوهما للجلوس والمشاركة في الشراب والطعام. إلا أن الشيء الذي افسد خطته هوخوف المرأتين من حراس الغابات، ولهذا فهما تريدان اتمام المهمة بسرعة قبل حدوث أي شيء طارىء يقلب اللهوغما ثم يمكن في رأيهما ان تقضيا وقتا في الطعام والشراب والدردشة بعد ذلك، وهذا مخالف لنظرية ماريوالذي يريد ان يبدأ بجلسة تعارف تخلق جوا من المودة والالفة يساعد بعد ذلك في العبور للحظة الجنس باعتبارها تكملة لما سبق. المشكلة كما فهمت من ماريوانهما لم تألفا الحياة في طرابلس فهما حديثتا عهد بالبلاد، لم يمض على وصولهما غير بضعة اسابيع لم تكن كافية لخلق علاقات مع ضباط الشرطة لحمايتهما كما تفعل نساء اخريات. ولذلك فهما تمضيان في ممارسة هذه المهنة دون حماية، كما أنهما تتكلمان الإيطالية بلهجة القبيلة الغجرية التي تنتميان إليها والتي كان ماريونفسه يجد صعوبة في فهمها. ولعلهما تجدان بالتالي صعوبة في التواصل حتى مع أبناء قومهما الطليان مما اضاف إلى طابع الخوف والحذر في شخصيتيهما. ولم يملك ماريوفي النهاية إلا أن يستجيب لطلبهما بضرورة ان يكون الجنس أولا وان يتخلى عن النظرية التي يؤمن بها في ان الجنس يأتي آخيرا تحرر ماريوبسرعة من ملابسه وبقى عاريا، يحاول تعرية احدى الغجريتين. ويسألك ان تفعل مثله.
هربت من منظر الرجل العاري إلى اعماق الدغل تتبعك المرأة الأخرى حيث وجدت نفسك تتقلب معها فوق فراش من العشب الأخضر. انهمكت في لعبة الجنس دون ان تسأل نفسك عن الخطأ والصواب، أوعن الحلال والحرام أوعن الثواب والعقاب. فهي المرة الأولى في حياتك التي تمارس فيها العملية الجنسية كاملة. لأن ما قمت به مع عزيزة كان لعبا بجسمها العاري فقط، لم تكن تعلم سبب اندهاش المرأة الغجرية وهي تراك لا تنتهي من ممارسة جنسية الا لتبدأ ممارسة أخرى. وكررتها كثيرا حتى وصلت عشر مرات احسست بعدها بالانهاك فارتميت على ظهرك عاريا فوق الأرض العارية الا من غطاء العشب، وقد تبعثرت اطرافك في كل اتجاه. كأن هاتين الساقين وهاتين القدمين وهاتين الذراعين وهاتين اليدين اعضاء مفصولة عن جسمك ومفكوكة من بعضها البعض. ونهضت الفتاة الغجرية تمسح اطرافها بمنديل اخرجته من حقيبتها، وتعيد ارتداء تنورتها وقميصها وسترتها. وتنادي باعلى صوتها على صاحبتها وتبلغها العجب الذي رأته، وكأنها تعرضت لفعل من افعال السحر مارسه عليها مشعوذ شرقي وظلت حتى بعد ان تحركت بكم السيارة تتحدث باندهاش واستغراب عما فعلته معها، وتقول لزميلتها بان عدد الممارسات بلغ رقما قياسيا وانها لولم تنسحب من تحتك لما توقفت عن ممارسة الجنس معها حتى بلغت المائة مرة. واعتبرت ان ذلك شيء خارق للمألوف لم تشاهد له مثيلا بينما كنت تظنه انت امرا طبيعيا، جاء بشكل عفوي. ودون ان تتعمد المبالغة أواظهار عمل من اعمال الفحولة الجنسية لظنك ان هذا هوما يفعله كل الناس، ولم تعرف الا الان، ومما سمعته من كلامها تعليق صاحبك وصاحبتها، ان ما فعلته كان حالة خاصة ولحظة تفجر لطاقة انحبست لأكثر من عشر سنوات منذ وصولك سن البلوغ، وكأنك اردت في ساعة واحدة تعويض كل هذه السنوات من الحرمان والكبت الجنسي.
لم تجد الغجرية الثانية فيما قالته زميلتها الا فرصة للمطالبة باجر مضاعف لما تقاضتة من ثمن حسب الاتفاق مع ماريو، لأن هذا الاتفاق لم يكن قد عمل حسابا لهذا العدد الكبير من الممارسات الجنسية. وبدلا من ان ياتي الاعتراض منك أومن ماريوجاء من المرأة نفسها التي اعترفت بانها حصلت على اجرها متعة خالصة لم تحصل عليها من مضاجعات سابقة. اما ماريوفلم يكن ممكنا لرجل ثرثار محب للمزاح والتنكيت مثله ان يترك فرصة كهذه دون ان يتخذها مناسبة للتعليق:
ـ انني لا اصدق ان يفعل أي رجل ما فعلت هل صحيح ما قالته ماريا عن هذا الرقم القياسي الذي يزيد على عشر مرات؟ انه مستحيل. انني بكل ما أحمله من شبق احتاج لشهر كامل كي افعل ما فعلته انت في ساعة واحدة. هل انت بشر من لحم ودم مثلنا؟ لا، لا، انت بالتأكيد هوالجني الازرق نفسه وسعيا منك لتغيير الموضوع الذي اصابك بالحرج اجبته قائلا:
ـ وهل للإيطاليين الكفرة معرفة بالجن حتى يمنحوهم الوانا زرقاء أوغير زرقاء.
ـ بمثل ما هناك الملاك الازرق مثلي انا، والذي كان موضوعا للأوبرا المشهورة بهذا الاسم، فان هناك الجني الازرق الذي هوانت، ثم تأتي وتدعي العفة والزهد في الاشياء لا، لا، انك لست الجني الازرق، وانما الشيطان الأحمر فهوأكثر خطورة، ديافلوروسو.
لم تشأ ان تعطي أهمية لاندهاش المرأة الغجرية، أوتعليقات ماريوالساخرة أوترى في ذلك سببا للمباهاة بما اسمياه فحولة الرجل الشرقي. فانت واثق من انها لحظة استثنائية املتها حالة الكبت والاحتقان التي عانت منها هذه الطاقة لاعوام طويلة كنت قد استجبت لضعفك ذات مرة وها انت مرة ثانية تجد نفسك مخلوقا، مقذوفا به في لجة اللذه المحرمة بعد ان قهرتك قوة الغريزة لقد تقلبت ليالي طويلة فوق فراش من الجمر وانت تحارب هذا الضعف في نفسك كنت تسمع همسات الشيطان كفحيح الافاعي في صدرك وتطرد الشيطان وتصم اذنيك عن سماع همساته وتنتصر عليه مرة وراء الأخرى حتى جاء هذا الماريواللعين وجاءت هذه الرحلة الآثمة إلى الغابة لتنهار تلك المقاومة التي واجهت بها ابليس نفسه لأن ماريولم يكتف بالهمس والفحيح وانما وضع أمامك الأنثى مسلحة بكل مباهجها ومفاتنها جعلها قريبة، متاحة، كمن يضع لوزة مقشرة في فمك فقطع عليك طريق العودة، لكنه لن يقطع عليك طريق التوبة وبمثل ما استطعت ان تنتشل نفسك من حالة الضعف في المرة السابقة فان بامكانك هذه المرة، رغم ان الخطيئة اكبر واسوأ، ان تنتشل نفسك من بؤرة السقوط التي وقعت فيها. ان ما يؤلمك الان ويفسد عليك ما حصلت عليه من متعة هوهذا الشعور بالاثم الذي لا يريد ان يزول أويتلاشى بل يزداد ثقلا ورسوخا ويجعلك تحس بانك مدنس بدنس لن يزول سريعا لأنك الان في مفترق الطرق ترى في إحداها ان هذا الاحساس بالاثم والدنس هوضمانتك للتوبة والعدولعن المضي في طريق الخطيئة وترى في ثانيتها ان وحش الغريزة الذي استيقظ لديك بهذا العنف وهذه القوة لن يبقى ساكنا ساكتا بعد اليوم، وسيحتاج إلى طعام جديد على الدوام، ولعل الحل الامثل الذي يوحد هذين الطريقين في طريق واحد، ويحقق لك الامن والسلام هوالزواج، ففيه ارضاء لوحش الغريزة بمثل ما فيه العصمة من الجنس الحرام، وفيه، ربما، حل لمسألة ثالثة هي تعلقك المرضي بامراة رجل آخر هي ثريا.
إلا أن انخراطك ضمن هذا الجيش الذي يعدونه لحملة الحبشة يجعل من اختيار الزواج اختيارا مستحيلا في هذه الفترة مما يعني ان المأزق سيبقى قائما والازمة التي تعاني منها ستبقى مفتوحة على كل الاحتمالات ومسرعا رجعت إلى المعسكر، لكي تبحث عن طريقة تتحرر فيها ولوقليلا من عبء هذا الدنس وضعت جسمك، فور وصولك، تحت رشاش الماء تتطهر وتؤدي طقوس الاغتسال من الجنابة. امضيت وقتا طويلا تحت الماء حتى ازلت الادران التي خلفها التمرغ فوق أرض الغابة ولكنك لم تشعر بانك نظيف من الدنس، أوانك تخلصت من الشعور بالاثم. انتهيت من الاغتسال والوضوء فارتديت جلبابك وشرعت في اداء الصلاة التي اطلت خلالها الاستغفار وقراء التسابيح وتلاوة القرآن. كنت ترى في الحصص التي تأخذها مع ماريوفضيلة واحدة هي فضيلة اعفائك من طابور الصباح ثم تدريجيا ومع زيادة الحصص وتكثيفها التي جاءت اثر تعليمات جديدة لماريوبمضاعفة حصص التدريب اختصارا للوقت ظهرت منفعة أخرى هي تحررك من مهمة جلد المجندين المذنبين. خاصة وان حالة التوتر التي استوجبت كثرة المتمردين وكثرة التذنيب انتهت بوصول الاخبار التي تنفي أي احتمال لدخول المجندين في حرب ضد أبناء وطنهم وبدأوا في المعسكر يتعودون على غيابك وبالتالي يتخلون عن اسناد اية مهمات إليك داخل المعسكر ثم جاءت الفضيلة الثالثة عندما بدأ ايقاظ المجندين قبيل الفجر لأخذهم في رحلة كل يوم إلى جبل غريان لتدريبهم على الحروب الجبلية وبقائك انت مستمتعا بنومك.
مقابل هذه الفضائل الثلاث ادخلتك حصص ماريوإلى أرض الخطيئة الموحلة التي يصعب الخروج منها ورغم هذا الاحساس الفادح بالاثم وقوة الوازع الديني لديك. وجدت ان قوة الغريزة هي التي تكسب الجولة، وتجعلك تهفولمعاودة التجربة وتستجدي ماريوان يرتب لكما مغامرة ثانية، لكنه يجد في هذا الاستجداء حافزا لابتزازك ووسيلة لتحقيق رغبته في التعرف على امرأة من بني قومك. فهويطالب بان تفي انت بحصتك من الصفقة. وزيادة في ابقائك مديونا له وافق على ترتيب زيارة أخرى إلى قلب الغابة مع امرأتين من عاهراته في سبيل ان يعطيك وقتا للوفاء بوعدك الذي لم يكن في الحقيقة وعدا، وانما مجرد اشارة من رأسك بالموافقة على ثرثراته واعتبر هذه الاشارة وعدا منك باحضار عاهرة عربية له. سحقا لكل هذه المباذل والبذاءات.

                            (14)
لوكنت في وضع غير وضع الجندي الموفد للحرب لوجدت الحل الذي يغنيك عن هذا كله الم تكن عائدا إلى المدينة، بعد هروبك منها، بنية ان تطلب يد ثريا؟ اذن كنت فعلا تتقصى الطريق الذي ينقذك من الضلال قبل ان تكتشف انها اختفت في بيت رجل آخر. وتختفى انت أيضاً في هذا النفق الذي سيمضي وقت طويل حتى يظهر الضوء في آخره، اذا ظهر على الاطلاق. ومع قوة الصدمة التي تلقيتها ورد الفعل العنيف الذي أوصلك إلى معسكر بومليانة، مازلت تشعر بهذا الشعور الذي لا تملك له تفسيرا ولا تعليلا، وهوان هذه المرأة خلقت لتكون امرأتك انت لا احد غيرك، وما دام قد حدث انها ذهبت لهذا الرجل الذي عقد عليها. فهوخطأ ستتكفل الأيام القادمة بتصحيحه، وهذا الحدس أوالاعتقاد هوما يجعلك تترك كل المسالك إلى بيتهامفتوحه، وكل الخيوط بينك وبينها موصولة. ولعل واحدا من اسباب سعادتك بتعلم قيادة السيارة هوانها ستوفر لك وسيلة للتواصل مع ثريا عندما تراك جالسا أمام مقود السيارة، وتدعوها إلى ان تركب بجوارك فتأتي مبهورة بما تراه، فخورة بوجودك في هذا المقعد، فتجلس متلصقة بك، وتأخذها بهذه الوسيلة السحرية في نزهة لم تنل مثلها الا المحظوظات من النساء. وتخطر على بالك الاغنية الجميلة ذات الشعبية الساحقة التي تغنيها ليليان اليهودية في اعراس طرابلس والتي تقول:
طالعة في كسوة مورة
جميلة وحلوة في الصورة
يا لونعمل بيها دورة
حتى عمري نعطيه
الله الله
حتى عمري نعطيه
وستكون هذه " الدورة " التي تنوي القيام بها رفقة ثريا أجمل كثيرا مما تقترحه الاغنية لأنها ستكون داخل سيارة من احدث وارقى طراز، تحمل لوحاتها الارقام المميزة الخاصة بسيارات حاكم البلاد. تذكرت انك لم تخبرها بتأجيل السفر إلى الحبشة. وانها مازالت تعتقد ان رحيلك وزوجها فتحي قد تم في موعده وانكما الان تقاتلان الأحباش بالنيابة عن الإيطاليين في مجاهل القارة السوداء. ورأيت ان شيئا كهذا ليس عدلا في حقها، قررت ان تذهب في اقرب فرصة إليها، تطمئنها، وتبلغها بما حدث من تأجيل. وما أن رأتك واقفا خلف عتبة البيت، حتى علت وجهها علامات الدهشة، تسألك ان كانت هذه صورتك الحقيقية ام صورة الشبح الذي يظهر بعد غياب صاحبه. لأنها ظنت بانك الان منخرط في حرب الأحباش. أخبرتها بانك شبح مسالم لايريد ان يؤذي أويفزع احدا فدعتك إلى الدخول والجلوس بجوار والدها المريض وبخلاف المرات السابقة عندما كانت تختفي في الغرف الداخلية ظلت هذه المرة واقفة قريبا من الباب، تسأل عما حدث بشأن السفر الذي كان مقررا منذ أيام مضت للالتحاق بالحرب. وعما اذا كان زوجها لا يزال هوالاخر موجودا في طرابلس.
فطمأنتها بان الجيش كله مازال موجودًا بعد ان تأجل السفر عدة اسابيع، وانهم ما زالوا يسمحون بزيارة المجندين وان جعلوا الزيارة تقتصر على يومي الخميس والجمعة وابديت استعدادك لمرافقة العائلة يوم الخميس القادم اذا شاءوا. كنت تقول هذا الكلام وانت تملأ بصرك من بهاء عينيها وجمال وجهها القمري الاستدارة الذي تركته ثريا سافرا هذه المرة رغم وجود والدها، فقد صار طبيعيا ان تنظر لك الاسرة كأنك أخ اكبر لها ولا ترى في ظهورها أمامك بوجه سافر شيئا يحمل ادنى شبهة خروج على الأصول وقواعد الاحتشام. انك تحبها، ذلك الحب الذي يصبح معه نداء الغريزة بكل حدته وقوته وسيطرته على الجوارح والاحاسيس شيئا ضئيلا وهامشيا يمكن ان يتواري ويغيب في زخم هذا التواصل الجميل والحميم بين روح وروح، حيث يصير الحب اكبر من ان يكون موضوعا حسيا شهوانيا يقتصر فيه التخاطب على لغة الاجساد. ويصير مجاله الحيوي أوسع من تلك الدوائر المغناطيسية التي تصنعها مفاتن الجسد وذكورة الرجل وما يقع بينهما من شد وجذب. انك في شوق دائم لها، يزداد توقدا واشتعالا كلما رأيتها. وتتمنى حقا ان تضع رأسك فوق وسادة صدرها وان تضم بين ذراعيك مخمل جسمها وتمرغ وجهك في جدائل شعرها وتخلط انفاسك بعطر وعبير أنفاسها.
ولكنك لا تتصورها بطلة لنزهة جنسية في الغابة كما يمكن ان يحدث مع اية امرأة جميلة مثيرة تقابلها ولا ترضى لنفسك ان تفكر فيها كما تفكر في نساء ماريوالعجوز، ولعل هذا الاحساس بتصعيد العاطفة نحوها إلى ذراها الروحية هوالذي افادك وانت تتقمص دور الاخ الاكبر الذي اسندته إليك عائلتها. بدا الدور لائقا بك، مقنعا حتى لغيرافراد الاسرة، بما في ذلك الجار الذي يراك وانت تدخل البيت أوتصطحب افراد الاسرة للقاء صهرهم. وابديت للاب ما تشعر به من اسى واسف لمرضه واستعدادك الدائم لاداء اية خدمة يحتاجها منك، ويمنعه المرض من القيام بها، فكان يطلب منك اخذ مفتاح الدكان لاحضار عدد من الاحذية النسائية والرجالية ستحاول زوجته بيعها لبيوت الجيران والاستعانة بثمنها في مصروف البيت. وكان هذا يزيد من تأكيد صورتك كفرد من افراد العائلة واخ اكبر للبنت واخيها ثريا وحدها، تعرف على وجه اليقين، حقيقة مشاعرك نحوها، ومدى حبك لها، الذي لا تضعه الاعراف والنواميس في خانة المشاعر الاخوية التي يحملها الشقيق لشقيقته. غير انها، مع ذلك، لم تر شيئا في سلوكك يجعلها تخاصمك أوتخشى على عفتها منك، بمعنى انه حتى وان لم يكن بريئا فانه لا يشكل خطورة عليها، بل لعله يرضي بشكل من الاشكال رغبة انثوية، بان ترى حبها معكوسا في مرايا رجل مثلك
حدث ان جاء يوم الخميس، والولد الصغير في المدرسة القرآنية، والام التي استعدت للذهاب مع ابنتها، وجدت ان نوبة السعال اشتدت على الاب بحيث صار متعذرا ان تخرج الام وابنتها وتتركاه بمفرده. كان العدول عن الزيارة امرا محرجا ولا ضرورة له، بعد ان جئت انت حسب الميعاد ومعك الكروسة واقفةأمام الباب، وانتهى الرأي بالا تحرم الام ابنتها من زيارة زوجها الغائب خلف اسوار المعسكر والمتجه في اية لحظة إلى أرض المعركة وان تتركها تذهب صحبة الاخ الاكبر الذي هوانت وجدت نفسك منفردا بها داخل الكروسة، فلم تشأ ان تنتهي هذه الفرصة بانتهاء الطريق الذي يقود إلى المعسكر وان تطيل عمر هذا اللقاء أكثر قليلا من هذه المسافة فاستاذنتها في عدم الذهاب مباشرة إلى هناك حتى ينتهي الزحام الذي تصنعه الافواج الأولى من الزائرين وقضاء هذه المدة تتنزهان في بعض الربوع الجميلة التي تزخر بها مدينة طرابلس، ولأنه لم يكن ممكنا ان تذهب بها إلى السينما أوالهبوط من العربة والتنزه في الحديقة العامة أوالجلوس بها في مقهى الميراماري أوغيره من المقاهي فقد بقيتما طوال النزهة في الكروسة، باعتبارها المكان الوحيد الآمن، تقضيان فيها الزمن الذي يسبق الزيارة دون ازعاج متجاورين فوق مقعد واحد فيما يشبه الخلوة التي تتيحها لكما المظلة التي تغطي العربة وبعض الستائر على جوانبها. وقد اعطاكما الحوذي ظهره منشغلا عنكما بقيادة عربته عبر شوارع المدينة المزدحمة بالسيارت والدراجات والعربات التي تجرها الخيول مثل هذه الكروسة.
وربما كان الافضل لك ولها ان تنسيها امر زيارة المعسكر هذا اليوم وتبحث عن حيلة تجعلها تعدل عن زيارة زوجها لأنه لن يرتاح لمجيئها إلى المعسكر بمفردها، وقد يبادر بسؤالها عمن جاء بها، فيفتح ذلك بابا لمتاعب وشكوك لا حاجة لاحد بها. لم تفصح لثريا عن شيء من هذه الرغبة وكل ما فعلته هوان امرت الحوذي بان يمضي بكما إلى طرابلس الحديثه والتي درج الناس على تسميتها طرابلس الإيطالية وإلى اهم معالمها، قصر الحاكم الذي استوى منذ اشهر قليلة،آية من آيات المعمار الحديث مثالا للفخامة والبهاء بابوابه العالية وقبابة المذهبة، وقد احاطت به النوافير وجداول الماء والأشجار التي تأوي إليها الطيور وتضيف بغنائها المتواصل الجميل صوتا يختلط بالاصوات الأخرى التي تصنع صخب المدينة وتمنح هذه الأرض الخضراء التي تحيط بالقصر مساحة ضرورية تمليها هيبة السلطة تفصله عما حوله من احياء، وفضاء مزهر مونق يظهر بهاء هذا القصر الذي امتزجت فيه جماليات البناء العصري مع روحانية المعمار الشرقي وسموه وكبريائه، قبل ان تبرز من حوله الابنية الأخرى التي وان كانت اقل فخامة وبذخا إلا أنها ليست اقل جمالا واهتماما بروح البيئة المحلية والوانها ومفرداتها في مجال المعماروالزخارف مع انتشار اللون الأخضر حولها وهيمنة لأشجار النخيل على هذه المساحات الخضراء بكل ما تمثلة من رمز للبيئة الشرقية البدوية، والتي تبدوأكثر جمالا واناقة في هذا الحي الإيطالي مما هي عليه في الضواحي المأهولة بأهل البلاد وكانهم هنا يغسلون جذوعها وكرنافها وسعفها وجريدها بالماء والصابون كل صباح، كما يفعلون مع الشوارع.
كنت تشرح لثريا ما سمعته من ماريوالذي أخبرك بان هناك فلسفة لدى المعماريين الإيطاليين وهم يبنون هذه الاحياء الجديدة بالا تكون نقلا واستنساخا للطرازالإيطالي وانما استلهام لمعطيات البيئة العربية الشرقية مع الاستفادة من تقنيات المعمار الإيطالي الحديث، ليكون لطرابلس طابع يختلف عن المدن الإيطالية، ولا يكرر عيوب المدن العربية المعاصرة التي فقدت هويتها ويؤكدون على ضرورة انبعات مدرسة جديدة في المعمار تستفيد من الشرق والغرب، تبرهن لكل من يأتي زائرا لطرابلس على روح التجديد والابتكار لدى هؤلاء المهاجرين الرواد الذين يؤسسون لإيطاليا وطنا جديدا وشاطئا رابعا لبلادهم. سارت بكما العربة عبر شارع الملك فيتوريوايمانويل وصولا إلى ميدان الكاتدرائية، حيث يفد الزوار إلى هذا المعلم المعماري الكبير، والصرح الديني، ملتقطين الصور لواجهة الكنيسة الحافلة بالنقوش وتصاوير المسيح والعذراء والقديسين، وقد تبدى الميدان صورة مصغرة للمجتمع الإيطالي الذي لا تخالطه اية اخلاط ليبية محلية، اكتظت ارصفته بالموائد والكراسي التي اخرجتها المطاعم والمقاهي الكثيرة، تضج باصوات روادها الإيطاليين من نساء ورجال وباعة جائلين ومصورين يحملون الات تصويرهم ويعرضون استعدادهم لتصوير الناس. وقد احضر بعضهم ديكورا لمن يريد التصوير مع صورة ممثلة مشهورة أوفوق كرسي يشبه العرش، يعلوه تاج من الورق المقوى. كما ارتفعت اصوات الموسيقى والغناء من دكاكين تبيع هذه الاغاني ومطاعم تستعمل اجواقا موسيقية للترفيه عن روادها امااصحاب المتاجر التي تبيع الملابس والتحف والورود والصحف والحلويات فقد اخذوا جانبا من الميدان تغطيه الاقواس واقاموا أرفف ومصاطب خشبية يعرضون فوقها بضاعتهم يصنعون بها زخما من الالوان والاشكال تمنح المكان نكهة خاصة وطبيعة تختلف عن معظم الاحياء الأخرى.
كان المشهد كله جديدا بالنسبة لثريا التي لم يسبق لها ان جاءت إلى هذا الجزء من المدينة، اذ ليس مألوفًا لعرب الاحياء الشعبية ارتياد هذه الاماكن خوفا من المضايقات، فما بالك بإمرأة صغيرة السن، امضت كل طفولتها داخل بيت اسرتها بزنقة بنت الباشا لا تغادره الا للعب في ذات الزنقة عندما كانت طفلة، وعندما احتجبت لا تتركه الا إلى دكان والدها أوللقيام برحلات موسمية مع أهلها إلى موطنهم الاصلي في تاجوراء وبعد ان دارت بكم الكروسة دورة ثالثة ورابعة في ميدان الكاتدرائية انتقلتم إلى شارع ماتزيني الذي كان اقل زحاما فسألت الحوذي ان يقف أمام كشك يبيع المرطبات واشتريت لها كوبا من الجيلاتي الممزوج باللوز والفستق وعددًا من أصابع الشيكولاته واشتريت لنفسك وللسائق قنينتي رنجاته ودفعت النقود للبائع وانت سعيد لأنك اردت ان تحتفي بوجود ثريا معك. وجلوسها بجوارك فوق هذه المحفة في رحلة اشبه بالحلم. بدا العالم خلالها مكانا مبهجا يصاعد منه ايقاع جميل تصنعه دقات حوافر الجواد فوق الاسفلت وشنشنة اجراس الزينة المعلقة بالعربة، وضجيج الحياة في هذه الشوارع والميادين، مختلطا ومنسجما مع ايقاع القلب في أكثر حالاته اثارة وانفعالا وطربا، كل شي أمام ناظريك يكتسي بلون الفرح وكل شيء حولك يتكلم لغة الفرح، وقد اختفت من عقلك وقلبك ومراكز التفكير لديك، كل مصادر الكدر والانزعاج بما في ذلك حياتك داخل المعسكر، واحاديث الحرب، وطقوس التأنيب والتعذيب ما مضى منها وما سيأتي، فلا تذكر شيئا ولا تستحضر في ذهنك احدا في الوقت الراهن، غير هذه المرأة ولا ترى ان للحياة ماضيا أومستقبلا غير هذه اللحظة المبهجة.
لم تكن متعة ثريا وهي تلعق الجيلاتي، باقل من متعتك وانت تراقبها وهي تفعل ذلك بنهم وفرح متوردة الشفتين متوردة الوجنتين في اطار تصنعه لها فراشيتها البيضاء، والدهشة لا تفارق وجهها الذي تضيئه مشاعر الاثارة والفرح، وتفيض ملامحه بعذوبة وبراءة تملك عليك مجامع قلبك، وتستقطب أجمل وابهي ما لديك من احاسيس ومشاعر، خاصة عندما تنظر في عينيها العسليتين وتكتشف ان لهما اشعاعا يخترق الضلوع ويحرق قلب القلب بناره المباركة، وعذابه اللذيذ، وتستمع بشوق ولهفة لما يصدر عنها بين لحظة وأخرى، من تعليقات سريعة تعبر عن هذه الدهشة التي تغطي ملامحها، تقولها بصوتها المخملي ولهجتها الطرابلسية التي تقطر حلاوة وعذوبة فتستقر في سمعك كعزف الة الناي:
ـ يا ربي يا مولاي، هل هذه طرابلس حقا، ام هي مدينة أخرى هبطت من السماء؟ هل هذا حلم ام علم؟
كانت الكروسة مكانا يناسب امرأة مثلها يمكن بواسطتها ان ترى المدينة ومظاهر الحياة في احيائها الجديدة من مكان آمن، تستطيع ان ترى منه الناس ومظاهر الحياة في الشوارع والميادين وهي واثقة ان لا احد يستطيع ان يراهاأويتعرف عليها، اذ انه ما كان لها ان تجول على قدميها في هذا الجزء من المدينة، وما كان لوسيلة أخرى مثل عربة الشريول المفتوحة التي يركبها الناس في الاحياء الشعبية ان توفر لها مثل هذا الموقع الامن، وهذه الوقاية من أعين الناس بما لها من غطاء يسبل ستره على الراكب دون ان يحجب الرؤية أمامه. وكانت ثريا، وبدافع الفضول الذي تثيره مناظر جديدة تراها لأول مرة، تطل برأسها خارج اطار العربة، ثم تسحبه وتميل بكامل جسمها إلى الوراء، وتسحب الرداء فوق وجهها لحظة ان يتهيأ لها انها رأت رجلا عربيا وسط زحام هؤلاء الاجانب، خشية ان يكون هذا الرجل من معارف أهلها، رغم ان من تراهم وتظنهم عربا لم يكونوا في الغالب كذلك، لنذرة وجود هؤلاء العرب ليس فقط لأن الإيطاليين لا يحبون ذلك. ولكن لأن أهل البلاد انفسهم يتجنبون الاختلاط بهذه البيئة الغريبة عنهم أوالاختلاط بهؤلاء الإيطاليين مما قد يتسبب في شجار تكون نتيجته السجن والضرب للعنصر الوطني بينما يبقى الطرف الإيطالي فوق الحساب والعقاب.
وتتوالى عليكما المناظر التي تثير قهقهات ثريا فهذه امرأة إيطالية بدينة جدا، ترتدي قبعة كبيرة مرشوقة بالريش، تتطاير منها الاشرطة الملونة، وتجر خلفها كلبا صغيرا في حجم الفأر، فتشير إليها ثريا تريدك ان تضحك مثلها. وهذا صبي مالطي يبيع البالونات وينادي عليها بلغته المالطية التي هى خليط من العربية والإيطالية المحرفتين، يركب دراجته بمحاذاة الكروسة التي تقلكما، وقد تأرجحت فوق راسه اكوام من البالونات الملونة، المنفوخة والمشدودة إلى خيط في يده يعرضها للبيع ويدفع بها حتى تلامس وجهيكما وتمران بمنظر النافورة التي تتوسط ميدان إيطاليا والتي تنبثق مياهها من طبق تحمله تماثيل الجياد البحرية الاسطورية ذات الاجنحة التي تمتد عدة امتار في فضاء الميدان. ورغم انك تمر كل يوم بهذه النافورة وهذا التمثال، لأنهما يقعان في مفترق الطريق بين المدينة القديمة والجديدة إلا أنك لم تكن اقل اندهاشا من ثريا التي تشاهدهما لأول مرة فقد بدت النافورة أكثر جمالا وجلالا واكبر حجما كما بدت لك الجياد الحجرية كانها جياد تملك حياة حقيقية تستعد للانطلاق باجنحتها السحرية العملاقة في فضاء الكون الفسيح، ربما لأنك ترى هذا المشهد صحبة ثريا، وتراه هذه المرة من موقع اعلى من موقعك وانت تمشي فوق الرصيف وتدس رأسك في الأرض، خائفا من رذاذ الماء فتظهر لك صورة جديدة، من زوايا مختلفة غير تلك التي كنت تراها سابقا وثريا بجوارك سعيدة بهذه النزهة غير المرتقبة تضحك بسبب ودون سبب، سواء ظهر المنظرالذي يدعوإلى ذلك أولم يظهر، وقد غاب عن ذهنها السبب الأساسي للقيام بهذه الرحلة فلم تأتي على ذكره أوتحاول تنبيهك إليه منهمكة تماما في مراقبة ما يتكشف لها من مشاهد ومناظر لا تترك فرصة الا وتفصح عن سعادتها بما اتاحته لها هذه الرحلة من لحظات نادرة من الحرية والانطلاق.
اكتست جدران الشوارع بالملصقات الكبيرة التي تعلن عن بضائع لا وجود لها في المدينة القديمة، انواع من العطور والخمور والسجاير وادوات التجميل غير إعلانات الحفلات الموسيقية التي يقدمها مسرح الميراماري ومسرح الهامبرا للإيطاليين وإعلانات عن افلام، وأخرى عن سباقات للسيارات وسباقات للقوارب ومباريات رياضية، وملصقات كثيرة أخرى ذوات الوان وجاذبية تعلن عن دورات لتعليم الرقص أوالموسيقى تقدمها المنتديات الإيطالية للراغبين من أبناء وبنات الجالية. كلها مكتوبة باللغة الإيطالية، ولكن الصور التي تصحبها وتشرح محتوياتها، تغنى الناظر عن قراءة الكتابة، وتغريه بالسعي ليكون واحدا من هذه الطبقة المحظوظة التي تقتني أوتستخدم أوتمارس ما تروج له هذه الإعلانات كما ظهرت تصاوير هؤلاء القوم في الملصقات، وقد بلغوا ارقى شكل للكمال الإنساني جمالا واناقة وصحة وعافية، نساء ورجالا.
وظهر أمامكما فجأة إعلان كبير يمتد بعرض الحائط فوق واجهة سينما الأوديون، عن فيلم إيطالي يحمل صورة البطل الشاب الوسيم بشعره المتهدل فوق عينيه وقد امال رأسه فوق وجه حبيبته الفاتنة، يهم بطبع قبلة فوق شفتيها اللتين كانتا في حالة استعداد لاستقبال قبلته. تأملتما سويا الصورة الموحية، وقد وقفت بكما العربة عند منعطف يعود بكما إلى طريق الكورنيش الذي كان مشروعا بدأه الولاة السابقون لبالبوولم يتحقق اتمامه الا عندما جاء هو، مصحوبا بميزانية ضخمة زوده بها الدوتشي فاكمله في سرعة قياسية، ليتباهى به أمام زواره من أبناء المدن الأوروبية الساحلية، وبما اضفاه من لمسات جمالية تمثلت في هذا الدرابزين الجميل، ونظام الاضاءة الذي لا يظهر جماله الا ليلا، وما غرسه من شتلات النخيل على امتداد الشاطيء جاءت انسام منعشة رطبة تضرب وجهيكما وتحمل إليكما رائحة البحر، وقد ظهرت أمواجه وهي تتكسر على سور الكورنيش فيتطاير رذاذها في الهواء قبل ان تتراجع وهي تصنع خطوطا متعرجة بيضاء وسط المفازة الزرقاء حيث لا شيء يظهر على مرمى البصر غير قوارب شراعية بعيده تلوح كانها نقاط بيضاء فوق البساط الازرق الذي لا ينتهي امتداده الا عندما يلتقي بحافة السماء.
طرقع سوط الحوذي فوق رأس الحصان عندما وجد نفسه وسط الطريق الواسع، المسفلت حديثا، الذي يبدوتحت انعكاس اشعة الشمس كانه شريط من المرايا السوداء ومضى يعدوكأنه واحد من جياد السباق، رغم انه لم يكن هناك شيء يدعوللاستعجال، فان عادة الحوذيين ان يفعلوا ذلك في الشوارع المسفلتة الفسيحة الخالية من زحمة المرور لخلق نوع من الإثارة التي تسعد الراكبين معهم كما فهمت من احد هؤلاء الحوذيين، خاصة وأن الحوذي هذه المرة، لم يتلق أمراً منكما بالذهاب الى هدف محدد، فاعتبرها نزهة حرة لاماكن الفرجة والفسحة. وبسبب الهزة التي حدثث للعربة عند بداية انطلاق الجواد، اختل توازن المرأة التي بجوارك ولم تنتبه الا وثريا تصبح في احضانك. اذهلتك المفاجأة عن نفسك وكنت دون تدبير ولا تفكير وبطريقة عفوية املتها اللحظة ذاتها، قد احتويت جسمها بذراعيك تهصر قدها، وتلصق صدرها بصدرك لوهلة قصيرة وتستنشق عبير العنبر فواحا يظهر من بين نهديها قبل ان تنتبه هي لنفسها فتستعيد توازنها وتنتزع جسمها
من جسمك عائدة إلى مكانها. احسست في تلك اللحظة القصيرة التي تشبه ومضة البرق كأنك وضعت الدنيا بكل كنوزها بين يديك، واغترفت جرعة من سحرها وجمال مباهجها، اشعرتك بالنشوة والتحقق والامتلاء، وبلغت ما تريده من هذه الحياة إلى حد اغمضت معه عينيك بغية ان تقبض لاطول فترة ممكنة على هذه اللحظة الهاربة.
اسرع الجواد يجر العربة عبر طريق الكورنيش حتى انتهاء مناطق البناء والعمران حيث ينفتح الافق على فضاء أخضر من المزارع والبساتين يجاور فضاء البحر عند نطقة شط الهنشير. لم يكن الطريق معبدا، إلا أنه كان ممهدا بطريقة لا تعيق الكروسة عن سيرها الذي ظل مشابها لسيرها فوق الطريق المعبد كان المكان خاليا في هذه الساعة من ساعات الضحى من الفلاحين وعابري السبيل، غاطس في الهدوء حيث لا شيء غير هسيس النجيلة الخضراء وزقزقة اطيار تتقافز فوق غصون الأشجار، ومنظر الفراشات، وهي تنشر اجنحتها الملونه، تسبح في اشعة الشمس صار بامكانكما أن تخرجا من تحت مظلة العربة وتقفان دون حرج أوخوف في المساحة المفتوحة خلف مقعد الحوذي، بعد ان أوقف العربة بناء على أوامرك، تتأملان المنظر الذي يعبق بالجلال والجمال والسكينة. وثريا التي كانت تسدل طرف ثوبها فوق وجهها، وتحكم أحياناً قبضتها على لحافها تركت اللحاف ينحسر عن وجهها وقد صار بسبب لسعات الهواء البارد، القادم من البحر، يشتعل بحمرة مبهجة تتخلل كألسنة اللهب بشرتها القمحية، فيتبدى أمامك، شفافا لامعا يطلق شراراته التي تلسع الفؤاد، وقد خرجت خصلة من شعرها الفاحم السواد من تحت غطاء الرأس، تهفهف فوق جبينها تحت تأثيرالانسام القادمة من البحر، فتضيف إلى ألوان الوجه تكوينا جماليا آخر وإلى فتنته مزيدا من الفتنة
بقيت هي تتأمل الحقول، وانت تتأمل وجهها، تريد ان تختزنه في ذاكرتك على هذه الصورة، وترحل به إلى البلاد البعيدة التي ستسافر عما قريب إليها ليكون زادا لك في أيام المسغبة والامحال الروحي والعاطفي، التي ستقضيها على الجبهة والتي قد تطول اعواما ظهر بين الحقول رجل يدفع أمامه عربة خضروات ماضيا باتجاه المدينة، ولم ينتبه احد منكما إلى وجوده، الا بعد ان اقترب من الكروسة، والقى التحية على الحوذي وما أن رأته ثريا حتى ارتمت بسرعة فوق مقعدها، واسدلت لحافها فوق وجهها، وانزوت تحت المظلة قائلة بانفاس متقطعة خائفة هامسة وهي تضرب صدرها بيدها:
ــ انه عمي عاشورالعاقل، جارنا في شارع بنت الباشا، لابد انه رآني، فيا ويلي مما سيحدث لي.
كنت واثقا من ان الرجل لم ينتبه لكما، لأنه كان مشغولا بدفع عربته الثقيلة، وتحية صاحبه الحوذي، وفوق ذلك فانه حتى لورآها، فلن يستطيع من مجرد نظرة عابرة ان يعرفها، لأنها لا تمشي في الشارع حاسرة الوجه، ولن يستطيع اليوم ان يعرف الطفلة التي كان يراها تلعب في الزقاق قبل أكثر من عشر سنوات في هذه المرأة الناضجة التي تركب كروسة تتهادى بها على شاطىء البحر، حتى على افتراض بعيد انه عرف من تكون فلا يشكل ذلك خطرا عليها، لأنها لم تخرج من بيت أهلها خفية وانما خرجت بامرهم، لكي تذهب بصحبتك لزيارة زوجها في المعسكر، لكنها لا تقتنع بهذا المنطق الواضح البسيط ولا تفلح كل الكلمات المطمئنة التي قلتها لها، في اعادة جوالبهجة الذي تبدد بسبب ظهور هذا الكرارطي المسمى عاشورالعاقل. اعدتها إلى بيتها، لأن هذا ما ارادته واصرت عليه مع ارجاء زيارة زوجها إلى يوم آخر، وعدت انت إلى المعسكر دون ان تدع ما حدث في آخر النزهة، ينقص ذرة واحدة من جمال هذه التجربة أوافساد احساسك الذي يشبه احساس رجل اكل ثمرة من شجرة السعادة، وما عاد بامكان أي شي ء يحدث بعد ذلك ان يسلب منه مذاقها اللذيذ الذي يستشعره على طرف لسانه. اخذت طريقك إلى المعسكر، مستخدما نفس الكروسة، لكي لا تتأخر عن ساعة الدخول إلى قاعة الطعام حيث يجرون التمام على الجنود ومن مكانك البعيد في الصالة، رأيت زوجها فتحي، فانتابك شيء من الضيق. ترى أي بركان من براكين البؤس والتعاسة والحظ السيء، قذف بهذا الرجل في طريقك ليرتمي حاجزا بينك وبين المرأة الوحيدة في العالم التي احببتها واحبتك؟ هل هوظالم ام مظلوم؟ ضحية ام جلاد؟
انه الزوج الذي تحسده على استحواذه على ثريا، ولكن اليس هونفسه الزوج المخدوع، الذي كنت منذ ساعات تستمتع بصحبة زوجته، وقد اخذتها من بين افراد عائلتها بحجة انك ستذهب بها لزيارته ثم تحايلت عليها لكي تبقيها معك بدلا من زيارةالزوج؟ فهل كنت حقا تسرق شيئا هوملك لهذا الرجل ام تراه هوالذي سرق شيئا ثمينا من حقك انت وحدك؟ ثريا لم تكن مجرد شيء ثمين في حياتك، وانما كانت تمثل الحياة التي سلبها منك. نعم انك انت الطرف المظلوم في القصة كلها. ومهما فعلت لرفع الظلم الذي وقع عليك، واسترداد حقك الضائع فهوجهد تباركه ملائكة السماء، الموكول إليها مساعدة المظلومين والمعذبين في الأرض. عدت لاستعادة اللحظات الجميلة التي قضيتها صحبتها كانت ثريا شديدة الفرح بالخروج معك في هذه النزهة تعاملك بود حقيقي، وترفع الكلفة بينك وبينها؟ ولا تبدي احتجاجا ولا اعتراضا على تغيير الخطة، كأنه لا يعنيها ان زارت هذا الزوج أولم تزره، كثيرة الامتنان لأنك اخرجتها من حالة الاختناق التي تعيشها داخل البيت، حيث ينام الاب طريح الفراش والام تبكي حزنا على زوجها، وخوفا من شبح الاملاق الذي يهدد الاسرة، لا تريد ان تخدع نفسك فتقول بانك انت مصدر هذا الفرح الغامر، الذي احست به ثريا، يكاد يقفز من كل كلمة قالتها وكل حركة صدرت عنها، لأن مصدره الأساسي هوان هذه المرأة التي قاربت العشرين من عمرها، لم تعش لحظة انطلاق وحرية خلال هذا العمر، كما حدث معها هذا الصباح، إلا أنها في ذات الوقت ما كانت لتستمتع بوقتها وهي بصحبتك، ان لم تكن تحتفظ لك بمنزلة خاصة في قلبها.
لم يكن ممكنا ان تسألها عن احساسها نحوزوجها، فانت تعرف انه لا يمكن لامرأة تنتمي لمجتمع عميق الايمان والتدين، تحكمه أكثر التقاليد صرامة في صون وحماية العلاقات الشرعية، ان تطرح على نفسها سؤالا مثل هذا السؤال. خاصة اذا كانت هذه المراة، كما هوحال الاغلبية الساحقة من نساء ليبيا، لم تنل أي تعليم ولم تقرأ في حياتها سطرا يعزز ملكات العقل والتفكير ويمنحها القدرة على مناقشة القوالب الجامدة المسكوكة المحفوظة التي اعدها المجتمع لنسائه الصالحات، بل لعله لم يكن مفيدا ولا مجديا لامراة مثلها ان تحصل على شيء من التعليم، لأن مثل هذا التعليم لن يفعل شيئا الا اضاءة مناطق المهانة والاذلال والعذاب في حياتها، دون ان تملك القدرة على تغييرها، فكيف لامراة متعلمة ان تستجيب للمفاهيم السائدة في معاملة النساء، وان تتعايش معها؟ وكيف سترضي بالاب الذي يقرر تزويجها من رجل لم تره ولم تعرفه وبعد ان تتزوج، كيف تستطيع وهي المرأة التي يحجبونها عن الانظار، ويمنعونها من اظهار اصبع من أصابعها أمام الرجل، ان تضع جسمها كاملا عاريا أمام هذا الرجل الغريب الذي لم تره ولم تعرفه وقد يكون شكله منفرا ومقززا بالنسبة إليها، ومع ذلك فان عليها ان تقبل به وان تنام في فراشه كل ليلة، وهكذا يصبح بالنسبة إليها، كما هوالحال الان مع ثريا، زوجها بحكم الشرع والقانون، الذي يربطها به رباط الزوجية المقدس. وصفة المقدس هنا، صفة كاذبة، مزيفة لأنه في حقيقة الأمر عقد اذعان وخداع وعبودية، باطل بحكم الشرع والقانون أيضاً. لأنه لا يتم بموافقة الطرفين. وقد منحته هذه الصفة الزائفة حصانة، تجعل اية محاولة للخروج عنه، انحرافا وخيانة.
وما فعلته ثريا معك هذا الصباح لم يكن يدل على ادنى درجة من درجات التمرد على هذا الرباط أوالخروج عليه. انها حتى وان اظهرت اهتماما بك يزيد عن مجرد اهتمام امرأة بصديق الاسرة، أوأكثر من مجرد الحنين لاطياف علاقة حب ناقصة، فليس بالضرورة انها تقصد ذلك، وان هذا التصور الذي تتصوره عن ميلها إليك، مجرد مبالغات منك ورغبة تحتدم لديك بان تلقى عندها صدى واستجابة للعاطفة القوية التي تحملها لها. وأكثر من ذلك فانت لا تريد لهذه الجولة، ان تكون الأولى والاخيرة، وانما بداية لمشاوير وجولات أكثر الفة وحميمية خاصة وانت الان في طريقك للحصول على اداة تسحر قلوب النساء، هي هذه السيارة التي تفتح أمامك الافاق، وتختصر بك المسافات بما في ذلك المسافة إلى قلب من تحب. لأنه حتى اذا لم يكن الدافع حبا وراء ما تفعله لك ثريا، كما يحلولك ان تتصور بمزاج سوداوي فسيقع شيء قريب من الحب عند ظهور السيارة، لأنك ستكبر دون ريب، في عينيها وستنال مزيدا من رضاها عنك واعجابها بك، وهي تراك تركب هذا الشيء الذي لا يحظى بامتطائه الا علية القوم.
حرصت حقا على ان تمنح عينيك واذنيك وعقلك كله لالتقاط ما يقوله ماريوالعجوز اثنا ء حصة التدريب، بامل ان تكون في مستوى الثقة التي وضعتها فيك حورية وان تختصر المدة إلى حدها الادنى استعجالا لليوم الذي تقود فيه السيارة بمفردك. لم يختف المفعول الساحر لتلك النزهة التي جاءتك على غير انتظار صحبة المرأة التي يهيم بها القلب حتى وانت تعود إلى الجلوس بجوار ماريوفي السيارة العسكرية، في صباح اليوم التالي، منصتا لثرثراته المليئة بالايماءات والعبارات الجنسية. واذا كانت اللحظات التي قضيتها صحبة ثريا، قد أرضت الجانب الروحي لديك، بما فيه من سموورفعة، فان السفوح التي تقطنها الشهوات الترابية، ظلت جائعة، شبقة، نهمة، تطلب مزيدا من ولائم اللحم الرخيص.

انتهت الرواية الاولى وتليها الرواية الثانية من "خرائط الروح "

 

 


ملاحظة تمهيدية
 يشكل الرقم 12 قاسما مشتركا بين الحضارات والثقافات التي احتفت به وجعلته في احيان كثيرة رقما مقدسا، فهوعدد اشهر السنة، وهوعدد الابراج الشمسية والقمرية في دورة زودياك الفلكية سواء بالحسابات البوذية الصينية التي تمنح للسنوات اسماء الحيوانات، وتقوم بتجديد تسميتها كل اثنتى عشر عاما، اوعلى الطريقة الغربية التي تعتمد على ما الفناه من اسماء النجوم، وكان لهذا الرقم في بابل وبلاد الرافدين شأوكبير حيث نسبوا الى كبير الهتهم " مردوخ " شرف تأسيس نظام الابراج الاثنى عشري، واقاموا عيدا لرأس السنة ( اكيتو) يمتد اثنى عشر يوما، يبدأ في اول نيسان وينتهي في الثاني عشرة منه، وقد تجلى الايقاع الاثنى عشري، كما يقول كتاب " في ظلال العدد" لصاحبه كمال قنطار، في الاسلوب الذي كتبت به الملحمة السومرية البابلية "جلجامش"، وهويرى ان هذا الايقاع الاثنى عشري يتكرر في ملحمة الاوديسة واساطير يونانية اخرى، لان التراث اليوناني ايضا احتفى بهذا الرقم الذي يمثل عدد الابناء الذين انجبهم الاتحاد برباط الزوجية بين الهي الارض والسماء، كما ان زيوس كبير الالهة صنع من دويه مجمعا الها يضم 12 الها، ويجعل هوميروس عدد السفن التي يرحل بها عوليس بطل الادويسة 12 سفينة، وهوايضا عدد الالهة في التراث الروماني بزعامة جوبيتير، ويتكرر هذا الرقم على مستوى التراث الديني لكل الاناجيل باعتبار هذا الرقم يمثل عدد حواريي السيد المسيح وعدد الاعياد التي تمثل مراحل الخلاص، كما ان العام الثاني عشر هوعام النضج والاكتمال في حياة السيد المسيح وصعوده الى المدبح، وفي التراث الاسلامي فان الاثنى عشرية هي الاسم الثاني للمذهب الشيعي الذي يؤمن بتوالي اثنى عشرة اماما، اولهم الامام علي كرم الله وجهه، وآخرهم الامام المهدي الملقب بصاحب الزمان الذي اختفى وسيعود لاصلاح العالم، ويقسم اخوان الصفا الفلك الى اثنى عشر بيتا ويتحدث كتاب في ظلال العدد على تفاصيل كثيرة تتصل بهذا الرقم مثل البركة الاثنى عشرية التي حظي بها سيدنا يوسف، ويضيف كتاب باللغة الانجليزية عنوانه " اسرار الرقم 12" لمؤلفه برانيمي بوجال معلومات كثيرة اخرى عن هذا الرقم.
 في بحثي عن الروايات المتعددة الاجزاء، وجدت روايات كثيرة لعل اطولها في الادب العالمي رواية بروست " البحث عن الزمن
الضائع " المنشورة في سبعة مجلدات، وهناك رواية واحدة اثنى عشرية هي رواية الكاتب الانجليزي انتوني باول المسماة
" الرقص على موسيقى الزمان " ورغم انها رواية اجيال وتعاقب ازمنة وليست كهذه الرواية التي تتحدث عن لحظات في حياة بطلها عثمان الحبشي، فان هناك، برغم هذا الفرق، الكثير من الوشائج التي تربط بين العملين، فكلاهما روايات متصلة منفصلة، وهذا الانفصال والاتصال يتعدد في اشكاله وضعفه وقوته، فهواتصال وثيق قوي بين كل ثلاث روايات، تشكل فيما بينها ثلاثية يمكن ان تكتفي بذاتها، برغم وجود الخيط الذي يربطها ببقية الروايات، وبذلك تكون " خرائط الروح " اشبه بالاثنى عشرة شهرا ضمن العام الواحد التي تشكل كل ثلاثة منها فصلا من فصول هذا العام له شكل ولون ونكهة تميزه عن بقية الفصول، وبالاضافة تشبيه تقسيماته هذه بالفصول، يقتبس كاتب "الرقص على موسيقى الزمان " تشبيها آخرِ من التقسيمات المعتمدة في التأليف السيمفوني، ويرى ان عمله يشبه سيمفونية من اربع حركات، باعتبار ان هذا العدد هوالذي تتكون منه السمفونية في الاغلب والاعم وان لكل حركة ايقاعها وبنائها الذي يجعلها كيانا مكتملا داخل السيمفونية، تؤدي وظيفة غير معزولة اومفصولة عن السياق العام للعمل السيمفوني في صيغته الاشمال والاكبر، وهوما حدا بالكاتب على الارجح ان يجعل كلمة الموسيقى جزءا من عنوان الرواية، ولا ادري ان كنت استطيع، ككاتب يخاطب قارئا عربيا لا تدخل السيمفونيات في تراثه الموسيقى الشرقي، ان استعير هذا الوصف وادعي وجود قصدية في تقسيم رواياتي بهذا الشكل السيمفوني، تاركا للقارئ ان يختار الطريقة التي تناسبه في قراءة هذا العمل، مكتفيا بان اقول ان فصول العام تمثل اقرب تصور لواقع هذه الحوليات التي تتعرض لفصول من حياة عثمان الحبشي بحلقاتها الاثنى عشرة، وتؤرخ لما طرأ من تحولات على حياته الروحية، الوجدانية، العاطفة، ولم اختر اسم خرائط الروح عنوانا يجمع هذه الرواية الا اشارة الى هذا الاهتمام بالروح وملاحقتها في شتى هذه الدروب والمعارج والمنعطفات والاقانيم التي ترحل عبرها، وتصويرها في لحظات ضعفها وقوتها وارتفاعها وهبوطها واضمحلالها وتضخمها، والتأكيد على ان موضوع الروح هوالثيمة الاساسية لمجموع روايات هذه الرواية الملحمة، من خلال مسيرة الحب والحرب التي خاضها بطل الرواية، بادئا رحلته من صحراء الحمادة الحمراء، منتقلا الى عاصمة بلاده طرابلس، ثم الى بر الاحباش ضمن جنود الحملة الايطالية على الحبشة، ثم الى القاهرة والصحراء الغربية خلال الحرب العالمية الثانية عائشا تلك المفارقة التي عاشها كثير من الليبيين الذين بدأوا الحرب مجندين مع المحور يحاربون في صفوفه جيوش الحلفاء، ثم انتهوا الى محاربين في جيش الحلفاء ضد قوات المحور،، عائدا الى وطنه والى وظيفة قيادية في بلاده خلال فترة الحماية البريطانية لليبيا، ثم الى الصحراء التي منها بدأ، لتكتمل الدائرة وتنتهي اجزاء الرواية الاثنى عشرية.
 انها ملحمة زاخرة بالاتراح والافراح والاحداث الجسيمة،عاشها ابناء الجيل الذي ينتمي اليه عثمان الحبشي، حاولت الرواية تقديم اقباس منها بلغة السرد الروائي وتقنياته وجمالياتة، التي لا تكتفي بتسجيل الاحداث ولا تجعل ذلك هما رئيسيا لها، فمهمتها الاساسية هي خلق عالم سحري يوازي الواقع بدلا من ان تسعى لنقله على الورق، باعتبار الفن تقطيرا للتجربة الانسانية وليس تسجيلا لها اوترحيلا لاحداثها سواء باستخدام عامل الانتقاء اوبمحاولة نقل هذه الاحداث بعجرها وبجرها الى عالم القصة، وهي لغة لا تكتفي بالبقاء لغة وصفية نثرية , وانما تشحن سردها بلغة الشعر وجدل الواقع والاسطورة والحقيقة والفانتازيا والحوار والمونولوج والاسترجاع من اجل ان تفلح في خلق عالم زاخر بالدلالات الفلسفية والفكرية، عامر بالايحاءات والرموز،تتم معالجته برؤية مفتوحة على مكابدات النفس البشرية وسبر اغوارها ورصد الجراح البشرية الانسانية التي تصنعها الحروب والواقع الاستعماري وما تركه من تشوهات وعاهات لدى كثير من ضحاياه، ومقاربة الاسئلة الازلية في الوجود التي تتصل بالحب والكراهية، والخير والشر، والحياة والموت، والالم واللذة، والاخفاق والنجاح، والعدل والظلم، والشقاء والسعادة، والقلق والرضا، عبر احقاب زمنية، كما هوالحال مع هذه الرواية، شملت اوقات الحرب والسلم، وعهود الاحتلال والاستقلال والمقاومة، وعبر امكنة شملت القرية والمدينة، والغابة والصحراء، والجبل وساحل البحر، محاولا الكاتب القبض على روح هذه الامكنة والازمنة بكل ما تتيجه استراتيجيات السرد من بوح وكشف وتعرية وما تملكه من امكانيات البحث والاستقصاء وما تقدر عليه من تجاوز الظاهر الى الباطن ومن اختراق السطح الى عمق الحقائق والوقائع والاحداث، وبكل ما اسعفته به ملكاته من امانة وصدق فني.
 لم يكن ممكنا في رواية متعددة الأجزاء بهذا القدر، ان اكتفي بسارد واحد للأحداث، اوباستخدام وجهة النظر الشخصية الذاتية من زاوية البطل اوالراوي العليم بكل شيء، وانما استعنت بكل ما تتيحه تقنيات واليات السرد الفني من وسائل في عرض الأحداث بدءا من ضمير المخاطب في الروايات الثلاثة الاولي، ثم ضمير المتكلم في الروايات الرابعة والخامسة والسادسة، ثم ضمير الغائب في الروايات السادسة والسابعة والثامنة واخترت تعدد الرواة ووجهات النظر في الرويات الثلاثة الاخيرة من الاثنى عشرية، سيلاحظ القاريء ايضا انني كتبت مقتطفات ووضعتها في مستهل كل رواية،بدأت باقوال المفكرين والفلاسفة احتفاء بمعاني التواصل في مجالات الفكر الانساني والتواشج بين الاعمال الابداعية والفكرية وتأكيدا لقيمة التراكم في هذا المجال فلا شي يولد من فراغ اوبمعزل عما سبقه من انجازات ادبية، كما وضعت بعض الشذرات في مستهل كل رواية اسميتها مفتتح، اردت بها ان تكون اشبه بتوصيلات اوlinks بلغة الانترنيت، بين احداث القصة واحداث اوافكار اخرى، بما في ذلك بعض الاحداث المعاصرة فمن قال ان الحادث الارهابي الاجرامي الذي يحدث اليوم في نيويورك اولندن اوروما، معزول عن حادث اجرامي تاريخي مثل غزوالحبشة الذي تدور حوله احدى الروايات.
 ساتوقف عند هذا الحد مكتفيا بابداء هذه الملاحظات الاولية التي اردت تقديمها للقارىء كمدخل لقراءة الرواية، تاركا له ان يرى النص برؤيته هولا رؤية تأتيه من خارج النص حتى لوكان صاحبها المؤلف، وان يتلقى الاجابة من النص مباشرة على ما لديه من اسئلة، كل ما اضيفه في ختام هذا التمهيد، الذي اكتبه بعد ان فرغت من كتابة الرواية في نسختها النهائية، هوانني بوصولي الى هذه اللحظة، اكون قد حققت انجازا بدا في بعض مراحله انه صعب التحقيق، خاصة اثناء تلك اللحظات التي تواجه كاتبا ينتمي الى العالم الثالث، لابد ان يراوده فيها شيء من الشك في جدوى الكتابة واهميتها، ويعتريه شيء من الوهن بسبب ضآلة المردود المادي والمعنوي للكتابة الابداعية، الذي لا يتكافأ دائما مع حجم الجهد المبذول، فانفض يدي من الكتابة لبضعة ايام، قبل ان استجمع قدرا من الهمة والعزيمة يسعفني لاستئناف الكتابة، وارجوان يصدقني القارىء عندما اقول انني كتبت اوراقا ومزقتها يبلغ عددها ثلاثة اواربعة اضعاف هذه الاوراق التي بين يديه، استهلكتها في بدايات لا ارضى عنها واتركها الى بدايات جديدة عبر مراحل كتابة هذه الرواية، ولهذا كان احساسي بالارتياح كبيرا، لانني وصلت الى نقطة الختام في هذا العمل، وانتهاء هذه المهمة التي اخذتها على عاتقي وانا اكتب اكبر واطول رواية في تارخ الادب العربي الحديث، مضحيا بساعات الراحة بعد الجهد الذي يأخذه عمل الصباح الذي اكسب منه قوتي، حيث كنت خلال كتابة هذه الرواية التي اخذت اعواما كثيرة، اواصل عملا لم أتأخر يوما واحدا عن الذهاب اليه، عدا ايام الاجازات، وها قد قمت باداء ما يخصني في هذه المهمة، مدركا ان هناك جانبا آخر يخرج عن نطاق سيطرتي وهومدى ما اصبته فيها من نجاح وتوفيق، لان ذلك عائد الى الطرف الثاني في هذه العملية وهوالقارىء، الذي من اجله يكتب الكتاب اعمالهم الادبية ويتوجهون بها اليه، والله من وراء القصد. المؤلف

______________________

(1) ثمة ملاحظة تمهيدية يمكن أن يقرأها القارئ قبل بداية قراءته الرواية ويمكنه أن يقرأها بعدها أوفي أي وقت يشاء، فهي من النصوص المرافقة للرواية وليست جزءا أساسيا منها، ولهذا أوردناها في نهاية النص..