يوثق الشاعر والإعلامي الفلسطيني نداء حيفا الجريح، ومن ديدن هذه الذاكرة الجريحة والموشومة في روحه يعيدنا الى المشهد المأساوي لأنبل القضايا الإنسانية فلسطين، عبر مسار طويل لرحلة الاغتراب والمنافي يتلمس خطوه اتجاه الأمكنة والناس وذاكرته الحية التي ترصد أدق نبض الأرض.

مثلما يبكي الحمام

أحمد بشيـر العيلة

مثلما يبكي الحمامُ
أجيئُ وحدي 
قربَ مقبرةٍ تقودُ الريحَ نحو عوالمٍ أخرى على جبلٍ بعيد
أجيئُ وحدي نيزكاً من كومةِ القشِّ الكبيرةِ في مجراتِ الحنين
أجيئُ وحدي 
أعبرُ النهرَ الطويل من التأوّهِ للتأوّه
وأعبُّ ماءً من قصائدَ مَنْ بَنُوه
مثلما يبكي الحمامُ
أضمُّ أجنحتي على مَثلٍ قديمٍ ضاع من شفةٍ تراودُهُ؛ 
فلا يأتي
وأطيرُ مثل غمامةٍ فوقَ الكلام المستطيرِ
من النساءِ العالقاتِ بفكرةٍ حول الأنوثة
يحزنني التكدّسُ قرب حزمةِ (مريمية)
أتعبوها في السؤال عن البتولِ 
عن الفوائد
يحزنني التراشق بالفضائح فوق جسرٍ 
من وشاياتِ النساءِ على النساء
كم من حكمةٍ سقطت بنهرِ الكيدِ 
حين أناقتي وقفت كطيرٍ في طريقٍ لا يصل.

 

مثلما يبكي الحمامُ
تجيئُ حيفا بالدقيقِ لأرسمَ الخبزَ المرصّعَ بالنجوم
وتقولُ:
"خذني من يديَّ لأرتوي"
يُغمى على النعناع بين أصابعي
وتقولُ:
"أطبق لي شفاهكَ في شفاهي"
يُغمى على البرقوق في لغة اشتهائي
وتقولُ: "زدني من جنونكَ ذاتَ ليل"
يُغمى على الضوء المعلّقِ فوق زر قميصها
يُغمى عليَّ؛ فتشتكيني للحنين.


أوّاه حيفا؛ حينَ يرتحلُ الكلامُ من القصائد
كيف لي أن أنثرَ الغيماتِ فوق منازل العشّاق فيكِ
كيف لي أن أجمعَ الطرقاتِ في صندوقِ تفاحٍ يُصَدَّرُ لاشتهائي
أجيئُ وحدي كي أُغسِّلَ ساعديكِ 
بُعيدَ تجويرٍ على الشجرِ الحزين
بالله يا حيفا؛ ارفعيني فوق أطولِ نخلةٍ
لأقولَ (آه)
واحضنيني حين أنسى قصتي في الريح
واسكنيني حين تهجرني المعاني
واسكبيني فوق موّالٍ تلاعبهُ الصبايا
وارحميني حين تهجرني يداكِ.

 

للبحرِ في الثوب الفلسطينيّ موجٌ هاربٌ
خلف التطاريزِ الكثيرةِ
وشوشِيه
سيُطلُّ نحوي كالسلاحف حين يقتلها الفضول
للبحرِ في الثوب الفلسطينيّ خمسُ سفائنٍ
عبرتْهُ 
فاحترق الحنين
وبكتْ نساءٌ في محطات القطار
وفي الموانئ والشوارع والخلايا
وبكيْتُ وحدي عندما سقط الحمامُ على الهواء
وجُننتُ وحدي
ومشيتُ في الأقوال والأفعال كالضوءِ الكسير
وقفزتُ فوق شتائمِ المتقهقرين من الحياة
ومسحتُ كُمّي في الظهيرةِ كي أنام
بالله يا حيفا أعيديني إلى بتلاتِ أمي
كي أقولَ .. أحبكِ
أعيديني إلى السَّعف القديم لوالدي
قد كنتُ أكبرَ من حديثكِ 
حين تسبقنا الوعولُ لفكرةٍ جبليةٍ في محفل الأرواح
قد كنتُ أكبرَ من شرودكِ
عندما ضاعتْ ليالينا 
وراء ستارةٍ سوداء في صفحاتِ توراةٍ عتيقة
قد كنتُ أطولَ من سياجٍ فوق سفح الكرمل الكوني
قد كنتُ أسندُ برجَ ساعتكِ المقامَ على يديّ
فيديَّ ريحٌ 
والبرجُ عطرٌ من زمن.

 

وبكى الحمامُ أمام كمثرى تنادي عاشقاً
احتارَ الحمامُ إذا رأى (متشائلاً) في وعي حيفا
وبكيتُ حيفا حين ضاعتْ.

 

في مهرجانٍ مثل وحشٍ في المواسم
ضاع الصغار
وضِعْتُ فيه
هو ضجّةٌ سُكِبَتْ على الرقَصات 
فانصهرت أمام الحاضرين
سقطتْ خيولٌ في بحيراتِ الصراخ
طارت الحلوى من (البسطاتِ) أسراباً يطاردها الرصاص
وبكى الحمام ...
طارَ الحمامُ من المواسم
تعبَ الحمامُ من المواسم
ضاع الحمامُ من المواسم
وأجيئُ وحدي قرب حيفا
رابطاً جَملي بريحٍ
كنتُ أحسبها 
نداءْ.

 

شاعر فلسطيني