يقدم السينمائي والباحث العماني هذه الدراسة التأبينية لأبي السينما الأفريقية المستقلة، متابعا فيها مسيرة حياته الخصبة، وتجربته الشيقة في خلق سينما مستقلة، ومقدما قراءة تحليلية لأهم أفلامه.

وداعا عثمان صمبين

البَحَّار الفقير أَبُ السينما الافريقية المستقلة

عبدالله حبيب

 


«إنني أسائل نفسي باستمرار. لا أبحث عن مدرسة ولا عن حل بل أوجه أسئلة وأجعل الآخرين يفكرون» .
عثمان صمبين

لا شك أن جلل الفقدان والقامة الباسقة والعالية للراحل الكبير يقتضيان ما هو أكثر وأعمق من هذه المادة، لكن اللجوء إلي أضعف الإيمان والحد الأدني، حيث لا حول ولا قوة أمام الموت وعدم مواتاة الظرف الشخصي هو المتاح للمرء راهناً، خاصة في ظل تجاهل الخبر الحزين في الغالب المغلوب من صحافة بقعة كبيرة من الأرض كان الراحل، وهو بالمناسبة أحد الموقعين علي بيان قرطاج السينمائي، قد زار بعضاً منها وأودع فيها كلّها الكثير من أحلامه وطموحاته ومراهناته علي مستقبل إنساني أفضل. إذاً فقد توفي عثمان صمبين، المخرج السينمائي الافريقي الأشهر باستحقاق شديد، بل وأول المخرجين الأفارقة الذين تمكنوا ضمن تحديات كانت تبدو مستحيلة لفرط صعوبتها من وضع صورة الافريقي علي الشاشة باعتبارها ذاتاً خلاقة فاعلة وليس موضوعاً غَيْرِيَّاً و إكزوتيكيَّاً.  يتذكر المرء هنا أن المناضل والمثقف الإفريقي الأشهر فرانز فانون الذي دُفِنَ في الجزائر بناء علي رغبته، كان قد كتب مرة أنه كان يصاب بالرعب حين يري صورة الإفريقي علي الشاشة. توفي صمبين في منزله الصغير والمتواضع في داكَّار، عاصمة بلاده السنغال، بسبب تعقيدات صحية ناجمة عن إصابته الطويلة بمرض السرطان عن عمر بلغ أربعة وثمانين عاماً (وهذا عمرٌ، علي الرغم من مديده الظاهري، قصير للغاية بالنظر إلي ما كان صمبين مؤهلاً وناضجاً للقيام به لو أمهله العمر وتوفرت له الإمكانيات الإنتاجية أكثر).

توفي عثمان صمبين، إذاً، في وقت متأخر من يوم السبت 9 حزيران (يونيو) 2007. وقد جاء خبر الوفاة (ربما بناء علي رغبة صمبين نفسه المعروف بنأيه المتطرف بذاته عن كل ما هو سُلطوي ورسمي) عبر نعي شخصي قصير صادر من عائلة الفقيد وليس من الحكومة السنغالية التي احترمته وأعجبت به دوماً (لكن من دون أن تستطيع مجرد احتوائه نسبيَّاً علي الأقل، هذا ناهيك عن شراء ذمته وتدجين نزعته النقدية أو تجييرها لصالحها) وغضبت عليه واستاءت منه (لكن من دون أن تتمكن من أن تنكر أهميته أو تحدَّ من شعبيته والتقدير الذي ناله في بلاده بل وفي بلاد الأرض قاطبة، بل انها كانت تزهو وتفاخر به العالم حتي في بعض اجتماعات منظمة الأمم المتحدة).

بهذا المعني يقف عثمان صمبين بقامته المُتَرَفِعَّة الرفيعة مثالاً فريداً علي شروط الكبرياء والأنفة والنزاهة والمواقف السياسية والفكرية المبدئية والأخلاقية العالية في تعامل المثقف مع السُّلطة خاصة في بلدان العالم الثالث التي لا يحتفظ فيها كثير من المثقفين بسجل شريف نظيف في علاقتهم بالمؤسسة للأسف الشديد - بل انهم يساهمون بسخاء مقبوض الثَّمن نهاراً جهاراً - في ستر عوراتها وتجميلها ومأسستها الديكورية الحداثيَّة الكاذبة أمام الرأي العام محليَّاً وخارجيَّاً. وقد دفن صمبين صباح يوم الإثنين 11 حزيران (يونيو) بحضور عدد كبير من رجالات السياسة والفكر والثقافة التاريخيين السنغاليين وغيرهم من أقرانهم الأفارقة الذين توافدوا إلي دكَّار في مدة قصيرة من مختلف بقاع القارة السمراء للمشاركة في تشييع صمبين الذي اكتسب احترامهم العميق وتقديرهم وإعجابهم بجدارة عالية طوال مسيرته الإنسانية والسياسية والإبداعية الاستثنائية والمذهلة.
وفي مراسم الدفن صرَّح عبدو ضيوف، الرئيس السنغالي السابق قائلاً: لقد خسرت افريقيا واحداً من أعظم مخرجيها السينمائيين ، وأضاف ما يعرفه الجميع تقريباً وهو أن القارة الافريقية فقدت مُدَافِعاً متوهجاً عن الحرية والعدالة الاجتماعية. أما شيخ عمر سيسوكو، المخرج السينمائي الافريقي المعروف ووزير الثقافة في جمهورية مالي وصديق صمبين القديم الذي أصر علي حضور الجنازة، فقد قال ببساطة: لقد فقدت السينما الافريقية واحداً من فناراتها ، وأضاف مُلَخِّصَاً المشروع التاريخي والجمالي للراحل الكبير: لقد قاد صمبين افريقيا نحو فهم هويَّتها وبناء أفقها الثقافي. أما بابا هاما، الأمين العام لمهرجان أوغادوغو السينمائي في جمهورية بوركينا فاسو والذي أصرَّ بدوره علي السفر إلي دكَّار بسرعة وإلقاء النظرة الأخيرة علي صديقه القديم صمبين والمشاركة في تشييعه إلي مثواه الأخير، فقد أوجز مسيرة الراحل الكبير في كلمات قليلة وعميقة: لقد كان صمبين نموذجاً للنضال، والحب، والتواضع .

سؤال الميلاد، قلق الهوية
ولد عثمان صمبين في منطقة زيغوينشور من إقليم كاسامانسي النَّهري في شمال السنغال في الأول من كانون الثاني (يناير) عام 1923 لأب مسلم متديِّن يعمل صياد أسماك نهريَّاً. وكان عمُّه فقيهاً وعالم دين مسلماً كبيراً خابت مراهناته وطموحاته الكثيرة في أن يخلِفه صمبين الصغير والشقي والرافض والمتمرد والقَلِق. وقد تركت صدفة الميلاد لعائلة مسلمة ضمن هذه الحيثيات الخاصة بصماتها وقلقها المتأججين علي أوجه حياة صمبين الشخصية، والسياسية، والفكرية، والفنية اللاحقة مع انضوائه تحت راية الفكر الماركسي في وقت مبكر. واعتناقه للأفكار العلمانيَّة والحداثيَّة في بلاد ذات تراث ديني جدلي متضارب، وتعاني- فوق ذلك - من توترات دينية وعرقية وطائفية كثيرة بين سكانها المسيحيين والمسلمين إن في مرحلتها الكولونيالية أو خلال فترة الدولة الوطنية المستقلة. وفي السياق هذا يقدم صمبين في فيلمه الملحمي( تشيدو) المنجز في 1977 (وتعني المفردة الأجانب بلغة الوولوف الافريقية وهي اللغة المحليَّة الأولي في السنغال) الذي يعتبره كثير من النقاد التحفة السينمائية الأهم في أعمال المخرج الراحل قراءة إشكاليَّة جريئة لأوجه التأثير الإسلامي والاستعمار الأوروبي علي التاريخ والثقافة الإفريقيين. ويسلط الضوء علي حقيقة ان تجارة الرقيق المرتبطة بمشروعات الهداية الدينيَّة إنما تشكلان عصب تاريخ افريقيا الحديث واصطدامها بالعالم الخارجي. وقد أثار هذا الفيلم الكثير من الجدل في السنغال، وتم منعه لسنوات طويلة خاصة وأن أحد الممثلين فيه يشبه تماماً ليوبولد سنغور، أول رئيس سنغالي.
لقد كان صمبين يبحث بكَدّ ودأب وعناد جليل عن افريقيا الأولي التي هي، من وجهة نظر الكثيرين بمن فيهم شخصي المتواضع، ضَرْبٌ من الحنين النبيل الموجع والمستحيل، وصورة مرآويَّة مثاليَّة (وإن كانت المثاليَّة ليست كلمة سيئة بالضرورة). والحقيقة أن صمبين تراجع إلي حدود كبيرة عن فكرة النقاء في أواخر حياته حيث صرَّح في 2005، مثلاً، ان مقولات النقاء قد أصبحت شيئاً ماضويَّاً. لكن الحقيقة أيضاً هي أن صمبين، ومنذ فيلمه الروائي الطويل الأول (بنت سوداء) 1966 أخذ يلجأ إلي استعمال وتجذير الأيقونات والرموز الدينية المحلية والثقافية الشعبية الإفريقية في مرحلة ما قبل وصول الديانات التوحيدية الكبري (الإسلام والمسيحية واليهودية) إلي القارة السوداء وذلك في عودة واستدعاء أسطوريين للذات الإفريقية القديمة عبر منابعها الثقافية والروحية الأولي التي من المفروغ منه انها شكّلت الكثير من اللَّبِنَات الأولي للحضارة البشرية كما نعرفها اليوم.
فلنتذكر، مثلاً، كتاب مارتن بيرنال الانقلابي القيِّم (أثينا السوداء: الجذور الأفرو ـ آسيويَّة للحضارة الكلاسيكية). يتذكر المرء في هذا السياق علي سبيل المثال ذلك الإنشاد الترتيلي الجماعي الافريقي الجليل بينما الشاشة مغمورة بالسواد في مفتتح فيلمه (بوروم ساريه) 1963. لقد كان ذلك الإنشاد المهيب يتدفق عبر ما يمكن وصفه بأنه مُرَافََََقَََة للتكوين ومُلازَمَة له. ويتذكر المرء أيضاً صورة ايقونيَّة ميثولوجيَّة افريقية تَرِدُ بصريَّاً بصورة يبدو للمشاهد العابر انها عابرة، لكنها في الحقيقة في غاية الحذق علي الرغم من سرعتها، في فيلمه البديع (خالا) 1974. وتبرز كذلك أسئلة الدين والتباساتها وانعكاساتها العاتية علي كافة شؤون الحياة في واحد من أفلام صمبين المتأخرة هو (غويلوار: أسطورة افريقية للقرن الواحد والعشرين) 1992. و غويلوار هو اسم شخصية لقسٍّ كاثوليكي راديكالي سياسياً يبدأ الفيلم بموتها ودفنها بطريق الخطأ في مقبرة إسلامية، لتتابع بعد ذلك أحداث الفيلم معرِّية التوترات الدينية والتاريخية بين المسلمين والمسيحيين وإعاقتها لبناء الدولة ما بعد الكولونيالية الحديثة في السنغال، وكذلك معرِّية التوترات بين المسلمين والمسيحيين من جهة، ومنظمات الإغاثة الدولية العاملة في إفريقيا ما بعد الكولونيالية من جهة أخري. لقد هاجم صمبين في عدة مناسبات منظمات الإغاثة الدولية تلك قائلاً انه لا يستطيع أن يفهم كيف ان افريقيا، وهي سلَّة غذاء العالم، تتقبل معونات غذائية من الشرق والغرب في استكمال مرير للتعهير الذاتي في الحقبة ما بعد الكولونيالية «إفريقيا عاهرة لكني أحبها» كما قال في محاضرة له في معهد الفيلم البريطاني ألقاها وهو مرتد زياً افريقيَّاً شعبيَّاً بسيطاً.
وبالنسبة إليَّ عليَّ الاعتراف هنا انه ظلَّ هناك دوماً ما يقلقني في هذا الفيلم اي (غويلوار)، حيث بدا لي ان صمبين قد وقع فيه في أفخاخ مفاضَلات اضطرارية من نوع ما، بل انها تكاد تكون مانويَّة في بعض المشاهد. وقد كنت أنوي إثارة قلقي مع صمبين مباشرة حيث حجزت لي موعداً معه حين كان يُزمَع حضوره للمشاركة في مهرجان كبير عن أعماله أقامته جامعة كاليفورنيا في لوس أنجيليس في 1997، غير انه للأسف ولسوء حظي تعرض الرجل لأزمة صحية مفاجئة اضطرته للاعتذار عن الحضور الذي أنابه فيه الفونس كاواويسي تيكبيتي، وهو ناقد سينمائي افريقي كان قد ألف كتاباً بعنوان الالتزام الاجتماعي والسياسي في أعمال عثمان صمبين. غير ان الأستاذ تيكبيتي لم يقتنع بوجهة نظري التي أثرتها ضمن مناقشات المهرجان، كما اني في المقابل لم أكن متحمساً لدفاعه البيداغوجي والمثالي أكثر مما ينبغي عن صمبين حسب اعتقادي. والحقيقة اني أزمع وقفة تفصيلية لدي هذه النقطة في مناسبة قادمة وأكثر تأنياً.

خريج جامعة الحياة
لم يكن صمبين عضواً في نادي النخبة المتعلمة في إفريقيا الذي تنتمي إليه رموز وطنية كبيرة ومهمة في العمل السياسي والثقافة الإفريقيين كالكاتب وأول رئيس سنغالي في فترة الاستقلال ليوبولد سنغور (الذي استقال من منصبه الرئاسي المُنْتَخَب لأجله كي يتفرغ لاهتماماته الأدبية في خطوة عالمثالثية غير مسبوقة خاصة بالنسبة لبعض الحكَّام العرب (الذين فاجأونا مؤخراً، ضمن مفاجآتهم التي لا تنتهي، بإصدار مجموعات قصصية وروايات) والكاتب والسياسي المارتينيكي أيمي سيزير، الذي بالطبع لا يمكن الحديث عن افريقيا الحديثة من دون الحديث عنه)، إذ ان صمبين لم ينل إلا قسطاً ضئيلاً من التعليم الابتدائي الحديث بعد أن قرأ قليلاً في المدرسة الإسلامية، ذلك ان صمبين غادر المدرسة الفرنسية مفصولاً فصلاً نهائياً بعد أن قام بضرب ناظر المدرسة الفرنسي في علقة ساخنة أمام التلاميذ. لأن هذا كان يتعمد إهانته (كانت المصارعة أحد اهتمامات صمبين المبكرة). وفي أية حال لم تكن ظروف صمبين المعيشية القاسية لتسمح له بمواصلة التعليم الابتدائي حتي ولو لم يحصل ذلك الشجار. ومن هنا فقد أكمل صمبين تعليم وتثقيف نفسه بنفسه بالطريقة العصاميَّة، متنقلاً خلال ذلك من العمل كصياد أسماك، وعامل بناء، ونجَّار، وسبَّاك، وميكانيكي، وعتَّال. وفي هذا الصدد يقول صمبين الشغوف بالقراءة النهمة منذ صغره انه تلقي تعليمه في جامعة الحياة. وخلال الحرب العالمية الثانية تم تجنيد صمبين إلزاميَّاً في القوات الفرنسية الحرة، وقاتل في افريقيا وأوروبا ضمن وحدة خاصة للرُّماة المَهَرَة نظراً لمهاراته العالية في دقة التصويب الناري، ومعروف انه أبلي بلاء حسناً في العديد من العمليات، لكنه عاد إلي بلاده في 1946 من أجل المشاركة في التحضير لإضراب عمال السكك الحديدية الضخم الذي تم في 1947، وهو أكبر إضراب عمَّالي في تاريخ السنغال (استعاد صمبين أحداث هذا الإضراب لاحقاً في روايته الأشهر قِطَعُ خشب الإله الصغيرة). وفي العام التالي ـ 1948 ـ أبحر صمبين إلي فرنسا متخفياً بين بحارة سفينة، ومتظاهراً انه واحد منهم لأنه كان ملاحَقاً سياسياً ولأنه أيضاً لم يكن يملك قيمة التذكرة,
ولمدة السنين العشر اللاحقة اشتغل صمبين عاملاً علي رصيف سفن في مرفأ مرسيليا، وهي المدة الأطول في حياته لثباته في مهنة واحدة. وبمجرد وصوله إلي فرنسا انخرط الرجل في نضالات نقابات واتحادات العمال ليصبح خلال فترة قصيرة قائداً عماليَّاً بارزاً، وهما انخراط وقيادة أدَّيا تلقائياً إلي انضمامه للحزب الشيوعي الفرنسي في 1950 الذي تركه في 1960 عندما نالت السنغال استقلالها خاصة بسبب تراكم استياءات لديه من قيادة الحزب فيما يخص نظرتها لافريقيا. وخلال فترة الخمسينيات، وإضافة إلي انهماكه في العمل البدني المضني علي رصيف السفن ومنحه بقية وقته للنشاط السياسي، وجد صمبين وقتاً مع ذلك للرسم وكتابة الشعر بالفرنسية. وفي 1956 نشر روايته الأولي (العتَّال الأسود) التي تدور حول معاناة عمال الموانيء الأفارقة في فرنسا بناء علي تجربة ذاتية مباشرة، وقد حققت الرواية نجاحاً فورياً جعلت اسم صمبين يقفز إلي الواجهة الأدبية. وفي غمرة هذا النشاط السياسي والإبداعي المذهل علي تلك الصُّعد كافة مُنِيَ صمبين بإصابة كبيرة في ظهره أثناء أدائه لوظيفته علي رصيف السفن، مما أدي إلي عدم تمكنه من مواصلة العمل اليدوي وتفرغه للكتابة. والحقيقة أن صمبين معروف في الوطن العربي عموماً بأنه المخرج السينمائي الافريقي البديل الأكثر شهرة، إلا انه معروف في إفريقيا والغرب كذلك باعتباره قاصاً وروائياً مهماً بالمقدار نفسه منذ بداية الستينيات، ومعظم أعماله السينمائية هي في الحقيقة اقتباسات لبعض أعماله الروائية (علي حد علمي، وأتمني أن أكون مخطئاً، لم يترجم أي من أعماله الشعرية والقصصية والروائية إلي العربية لغاية الآن). وعلي اثر إصابته البدنية البليغة وتفرغه للكتابة قام صمبين برحلات سياسية وثقافية كثيرة إلي بلدان متعددة منها الصين وفيتنام ضمن الآفاق الثورية المتوهجة خلال ذلك الوقت.
لقد كان صمبين شغوفاً دوماً في سباق مع الزمن بإيصال رؤاه وأفكاره إلي الناس البسطاء والعاديين من بني قومه، مهموماً بالأسئلة الجوهرية الملحَّة علي افريقيا وعموم العالم الثالث، وذلك خاصة لجهة نزعاته السياسية الثورية الأصيلة والعميقة، وانتمائه لخلفية طبقية وحياتية كادحة، وازدرائه لأية توجهات نخبويَّة في الثقافة والسياسة، لكنه رأي ان نسبة الأميَّة العالية في افريقيا (80% خلال ذلك الوقت) تحول دون أن يوصل ما يريد قوله للناس عبر الأدب، ومن هنا فقد اقتنع أن السينما هي الأداة الأكثر ملاءمة لواقع افريقيا الثقافي والاجتماعي. والحقيقة انه يصعب تصور أي مخرج سينمائي آخر في أي مكان من العالم تتألف شريحة واسعة من جمهوره السينمائي في بلاده من الضَّريرين الأميِّين ـ وهؤلاء يحضرون بكثرة باعتبارهم شخصيات في أعماله السينمائية لا سيما في (خالا) ـ الذين يحرصون علي مشاهدة أفلامه من أجل أن يتعلموا ويستمتعوا!. لقد كان صمبين مُحِقَّاً بالتأكيد عندما صرَّح في عام  2005 «أستطيع أن أذهب إلي قرية وأعرض فيلمي هناك، لأن كل شيء يمكن التعبير عنه سينمائياً ونقله إلي القرية الافريقية الأكثر نأيا».
وهكذا وبسبب من خلفياته الفكرية والنضالية اليسارية حصل صمبين في 1962 علي بعثة دراسية مكثَّفة من الاتحاد السوفييتي (سابقاً) لدراسة الإخراج والفنون السينمائية في معهد موسكو السينمائي. حيث درس علي مارك دونوسكوي صاحب ثلاثية غوركي الشهيرة، ثم اكتسب خبرات عمليَّة بإشراف سيرجي جيراسيموف في استوديو غوركي السينمائي. وفي مرحلتي الدراسة واكتساب الخبرة العملية أثبت صمبين موهبة سينمائية عالية جعلته محط تقدير واحترام أساتذته ومراهناتهم. استغرقت دراسة صمبين وتَمَهُّنه السينمائيان وقتاً قياسي القِصَر هو عام واحد فقط، شدَّ الرحال علي اثره عائداً علي الفور إلي إفريقيا حيث انخرط في انجاز فيلم وثائقي بعنوان (إمبراطورية سونجهي) 1963 عن هذه الإمبراطورية الافريقية الغابرة، والذي أنجزه صمبين بتمويل من حكومة مالي التي كانت سبَّاقةً إفريقيَّاً بالوعي بدور السينما في المعترك السياسي والثقافي. وفي العام نفسه أنجز صمبين فيلمه (بوروم ساريه) الذي حظي باحتفاء خاص في الأوساط السينمائية بحيث انه فاز بالجائزة الأولي لمهرجان تور السينمائي. وهذا فيلم شبه وثائقي وشبه روائي متأثر إلي حد بعيد بسينما الواقعية الجديدة الإيطالية، بحيث ان بعض النقاد قد ذهب إلي أن الفيلم هو النسخة الافريقية من فيلم فيتوريو دي سيكا الشهير (لص الدراجات الهوائية).

وفي هذا الفيلم يتتبع صمبين حياة ومعاناة صاحب عربة خشبية ذات عجلتين من عجلات السيارات يجرُّها حمار (جاري كما كنا نقول في عُمان) في صخب وقسوة مدينة دكَّار لمدة يوم كامل. إنه الإنسان اليومي البسيط المسحوق تحت عجلات الدولة الوطنية المستقلة الحديثة في افريقيا ما بعد الكولونيالية. وفي 1964 تجرأ صمبين في فيلمه القصير الثالث علي فضح واحدة من الممارسات غير النادرة في المجتمعات الافريقية التقليدية، ولكن يُعَدُّ الحديث عنها ومناقشتها علناً نوعاً من أنواع التابو ، ألا وهي ظاهرة زنا المحارم التي تصير فيها الضحيَّة ضحيَّةً مرتين: أولاهما في التعرض للجريمة الشنيعة التي ستترك آثارها البغيضة حتي الموت، وذلك من أقرب الناس وأكثرهم جدارة بالثقة والاطمئنان. والثانية، وهي لا تقل نكاية، تتمثل في ضرورة التكتم علي شخص المجرم المُغتصِب وإلصاق نتائجها بشخص آخر ظُلْمَاً، من أجل إنقاذ ما يمكن انقاذه أمام المجتمع المُرائي، وذلك في فيلمه (نايي) ـ وهذا هو اسم الفتاة التي تحبل بجنين من صلب أبيها في الفيلم. وقد فاز هذا الفيلم بجائزة مهرجان لوكارنو السينمائي.

استثمار تقاليد السرد الشفاهي السحري

بنت سوداء: بلورة الهواجس
وفي 1966 أذهل صمبين عالم السينما البديلة والمستقلة بفيلمه الروائي الطويل التراجيدي الأول (بنت سوداء) (سأكتب المزيد حول الإشكالية اللغوية والبلاغيَّة للعنوان عمَّا قليل). وفي هذا الفيلم يسلط صمبين الضوء علي معاناة العمالة الإفريقية المنزلية المهاجرة في فرنسا من خلال تعرضه لقصة حقيقية لانتحار خادمة إفريقية شابة كانت تعمل لدي عائلة فرنسية ثريَّة، تقيم في منطقة الريفيرا الفاخرة. صحيح ان هناك ما يمكن نقده تقنيَّاً وغير ذلك في ذلك الفيلم عهدذاك، والآن بالنظر إلي انه الفيلم الأول المنتج بإمكانيات مادية متواضعة لمخرج سينمائي درس اللغة الروسية وبها درس السينما في خضم عام واحد فقط. لكن (بنت سوداء) كشف بوضوح عن حساسية سياسية وثقافية جمالية عالية جعلته يعتبر الإنتاج السينمائي الإفريقي الهام الأول في وثائق تاريخ السينما. ويبدو بقراءة سريعة لهذا الفيلم ان أسلوبه الوثائقي المتقشف متأثر بسينما الموجة الجديدة الفرنسية، التي كانت تحقق أمجادها خلال تلك الفترة، أكثر منه بالسينما الواقعية الاشتراكية السوفييتية التي كانت لا تزال حاضرة بقوة حتي خلال نفس الفترة. ولا شك ان هذا يحسب لصمبين لانحيازه إلي الابتكاريَّة والمغامرة في العمل الفني، علي الرغم من أن وازعه السينمائي المحرِّك وازع سياسي في الأساس، فالبطل (أو البطلة) في هذا الفيلم ليس إيجابيَّاً علي الطريقة الواقعية الاشتراكية، بل تراجيدي. والحقيقة انه حتي في الثاني ـ أي الوازع السياسي ـ فقد سجل الفيلم أيضاً بلورة لموقف نقدي صارم لصمبين من الدولة الافريقية المستقلة في العهد ما بعد الكولونيالي، والذي وسم بقية مسيرته السياسية والسينمائية،.حيث يري صمبين أن الدولة الافريقية المستقلة ليست إلا قناعاً وطنياً للكولونيالية الجديدة، يخفي نفس خِسَّة وشرور واستغلال الكولونيالية المباشرة القديمة التي تمارس الآن امتصاص خيرات افريقيا من خلال طبقةٍ نافذةٍ من الوكلاء المحليين.

ويجدر بي الآن أن أقول كلمة حول عنوان الفيلم، (بنت سوداء) ؛ فهذا العنوان هو الترجمة العربية الشائعة لعنوان الفيلم التي تستند إلي عنوانه الحِيادي أو التوفيقي المعتمَد في النسخة الإنكليزية، أي  Black Girl، هذا في الوقت الذي يلعب فيه صمبين علي المعرَّف والنَّكرة، والتباس العلاقة بين المضاف والمضاف إليه، والحذف البلاغي في العنوان الفرنسي الأصلي La Noire de..، أي: السوداء التي من... الذي يمكن أن يقرأه المُشاهد بعد مشاهدة الفيلم: السوداء التي من السنغال، حيث من تلك البلاد الافريقية جاءت هذه البنت السوداء التي انتحرت في فرنسا. كذلك يمكن أن يُقرأ العنوان علي انه سوداءُ فُلان أو عِلان من الناس الذي يمكن أن يقرأه المُشاهد بأنه: السوداء المملوكة من قِبَل العائلة الفرنسية البيضاء التي تعمل في خدمتها. وفي الحالتين فإننا نعرف من هي السوداء لكن علينا أن نخمِّن انتماءها الوطني و/أو المهني. وبذلك فإن المفارقة هنا هي أن السنغال ما بعد الكولونياليَّة التي تحررت من فرنسا والعائلة الفرنسية البيضاء التي تملك السوداء القادمة من السنغال المستقلَّة تتبادلان دور الاستعباد والاستغلال العنصري والاجتماعي والسياسي علي نحوٍ مِرآويٍّ مريرٍ وفاقع، حيث علينا أن نتذكر أن الفيلم قد أُنجز بصورةٍ استشرافيَّة للمستقبل الافريقي ما بعد الكولونيالي بعد ست سنوات فقط من استقلال السنغال.

ويصل موقف صمبين النقدي من الدولة الإفريقية الوطنية المستقلة في الحقبة ما بعد الكولونياليَّة إلي أقاصيه الهجائية، والتراجيكوميدية، والساخرة، والمريرة، واللاذعة، والمقذعة في فيلمه (خالا) الذي أنجزه في 1974 (سأكتب المزيد حول هذا الفيلم لاحقاً) وقد عرض فيلم (بنت سوداء) في كثير من المهرجانات السينمائية العالمية، كما فاز بجائزة جين فيغو السينمائية المرموقة والجائزة الكبري لمهرجان دكَّار للفنون الزنجيَّة في 1966 والذي أقيم احتفاء بحركة الزُّنُوجة (Ngritude) التي عملت علي توكيد قيمة ثقافة السُّود والوعي والافتخار بها والعمل لها، والتي كان مُواطِنُ صمبين، الكاتب والرئيس السنغالي السابق ليوبولد سنغور، أحد مُبَلوِرِيها. وفي 1968 أنجز صمبين فيلمه الروائي الثاني (الحوالة الماليَّة) المبني علي رواية له بنفس العنوان. وفي هذا الفيلم الذي يمكن تصنيفه بأنه من نوع كوميديا الأخطاء يسجل صمبين سخريته المباشرة من الأوضاع المأسوية المزرية لدرجة الإضحاك والقهقهة للدولة الإفريقية ما بعد الكولونياليَّة المستقلة، وصعود الفئات الاجتماعية الاستغلالية الطفيليَّة فيها. ومما ميَّز هذا الفيلم ان اللغات المستعملة في حواراته افريقية محلية إضافة إلي الفرنسية. والحقيقة ان صمبين قد دأب في كافة أفلامه تقريباً علي إبراز دور اللغات واللهجات المحلية باعتبارها رمزاً سياسياً وثقافياً أصيلاً في مواجهة تجليات الثقافة الفرانكوفونيَّة في المجتمع الافريقي ما بعد الكولونيالي.

ويصل هذا التوتر اللغوي أقصاه السياسي والإبداعي في فيلمه (خالا) حيث يقوم مسؤول حكومي كبير بالتحدث بالفرنسية حتي وهو في بيته، بينما تقوم ابنته الشابة ـ التي تدرس في الجامعة بالفرنسية وتذهب الي مقر دراستها وهي مرتدية ثياباً أوروبية، وتقود دراجة نارية من النوع الصغير ـ بالرد علي أسئلة وتعليقات أبيها باستخدام لغة الوولوف المحلية، مما يؤدي إلي تأزم علاقتهما العائلية. وقد حاز فيلم (الحوالة المالية) علي ذكر خاص في قرار لجنة تحكيم مهرجان البندقية السينمائي في 1968، كما كان مرشحاً للفوز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان أتلانتا السينمائي في دورة 1970، وحصل علي الجائزة الأولي لمهرجان فيلادلفيا للفيلم الأسود في دورة 1973. وفي 1970 عاد صمبين إلي الأفلام القصيرة فأنجز فيلماً روائياً مدته 24 دقيقة بعنوان (تاو)، وهذا هو اسم بطل الفيلم الذي أراد صمبين من خلاله دحض الصورة النمطية الجائرة المستشرية ضد السود في كافة ثقافات العالم تقريباً بما في ذلك بلادنا وثقافتنا، وهي ان السود بطبيعتهم قومٌ كسالي و لا يحبون العمل و اتكاليون و لا يتمتعون بقدرات عقلية كبيرة .. إلخ. هذا في الوقت الذي قامت فيه الانجازات المادية للحضارات البشرية الكلاسيكية والحديثة علي أكتاف السود، بل وجماجمهم أيضاً. وقد حاز هذا الفيلم علي جائزة أسمرة الذهبي في مهرجان أديس بابا السينمائي في اثيوبيا لنفس العام (أي 1970). أما فيلم صمبين الروائي الطويل الثالث (إيميتاي) والمفردة الوولوفيَّة هذه تعني آلهة الرعد،  المنجز في 1971 فلم يخرج عن نطاق اهتمامه بالمواجهة التاريخية غير المتكافئة التي دارت بين الأفارقة والفرنسيين، والتي أدت بالنتيجة إلي الاستعمار الفرنسي لأجزاء شاسعة من القارة. وقد فاز بجائزة الدب الذهبي لمهرجان موسكو السينمائي في دورة 1971، وكذلك حصل علي الجائزة الأولي لمهرجان طشقند الأفرو ـ آسيوي في 1972. إلا ان هذا الفيلم جعل السيل يصل الزبي في فرنسا، حيث أدت تراكمات الاستياءات والاحتقانات المخفيَّة تهذيباً ومجاملة، والعلنيَّة وقاحةً وصلفاً في مختلف الأوساط الثقافية والسياسية الفرنسية من صمبين إلي انفجارها ضد هذا الافريقي الذي ما فتيء يسيء إلي سمعة بلاد النور والحضارة في كل فرصة تسنح له. وللأسف الشديد وصل هذا الاستياء وتم التعبير عنه حتي في أوساط طليعيَّة وتقدميَّة فرنسية نست أو تناست ان صمبين كان يعرض حياته للخطر باعتباره أحد أعضاء وحدة الرُّماةُ المَهَرَة من أجل تحرير فرنسا (و مستعمراتها الإفريقية!) من النازيين، هذا ناهيك عن عضويته القيادية في الحزب الشيوعي الفرنسي لمدة عشر سنوات.

خالا: عجز الذكورة وعجز الدولة
وفي 1974 أنجز صمبين خالدته السينمائية (خالا) التي تعني في لغة الوولوف: لعنة العجز الجنسي المؤقت الناجم عن رقية سحريَّة لا يمكن إبطال مفعولها إلا عبر  رقية سحرية مضادة يجب أن تكون أقوي من البصارة السحرية التي أدت إلي العجز الجنسي في المقام الأول، وهو مقتبس من رواية للمخرج بنفس العنوان. حصل هذا الفيلم علي الميدالية الفضية في مهرجان فيجوريا دي فُس البرتغالي في نفس العام (1974). لا يجدر بي أن أتحدث بصورة عاطفية عن فيلم صمبين المُفضَّل لديَّ، لكني سأزعم أن العشر الدقائق الأولي من خالا ستبقي خالدة في ذاكرة السينما إلي الأبد. إنه حدس شخصي فحسب، إذ يصعب تصور ذلك المزج الخلاق في الدقائق العشر تلك بين منتهي الواقعية ومنتهي السوريالية، منتهي التراجيديا ومنتهي الكوميديا، منتهي الجد ومنتهي الهزل، منتهي الفنتازيا ومنتهي ما يسمونه في لغة النظرية السينمائية  verisimilitude أي مماثلة الشيء من حيث كونه قابلاً للإمكانية الحدوثيَّة في الواقع. حقاً ان المرء لا يدري إن كان ينبغي عليه أن يضحك أم يبكي أم يردد المأثور العربي شر البليَّة ما يُضحك لدي مشاهدته ما يدور في تلك الدقائق العشر الفاقعة بصورة استثنائية. وفي هذا الفيلم يبلغ سخط صمبين علي الدولة الافريقية المستقلة في المرحلة ما بعد الكولونيالية وسخريته اللاذعة منها وهجاؤه المرير لها أقصاه، حيث يصاب مسؤول حكومي كبير متعدد الزوجات بالعجز الجنسي في ليلة دخوله علي زوجته الشابة الجديدة (الثالثة) الأصغر منه عمراً بكثير. وبالتالي فإن هذا العجز يصير مرادفاً رمزياً لعجز الدولة الافريقية المستقلة عن انجاز مهماتها في المرحلة ما بعد الكولونيالية، وتنفيذ الوعود التي قطعتها علي نفسها لشعبها خلال مرحلة النضال ضد الاستعمار من أجل الظفر بالاستقلال والحرية وتحقيق العدالة والمساواة. ويمتد نقد صمبين الساخر واللاذع في هذا الفيلم ليشمل القيم الاجتماعية والثقافية البطريركيَّة والذكوريَّة.
وفي 1987 أنجز صمبين فيلمه )معسكر ثِيارويْ( الذي يتعرض فيه لقصة تمرد عسكري قام به مئات من الجنود الأفارقة الذين قاتلوا من أجل تحرير فرنسا من النازي في الحرب العالمية الثانية التي خسروا فيها الألوف المؤلفة من زملائهم ومواطِنيهم، فكان جزاؤهم حرمانهم من رواتبهم علي الرغم من ان عائلاتهم تعيش الجوع، وهكذا تتم إبادتهم. وقد مُنِعَ عرض الفيلم في فرنسا لسنوات طويلة. وفي عام 2000 أنجز صمبين فيلمه (فات كيني) الذي يذهب فيه إلي استحالة التحرر السياسي والوطني من دون تحرر المرأة في المجتمع الافريقي ما بعد الكولونيالي. أما في عام 2004 فقد أنجز (مُولادي) الذي يتعرض فيه ضمن أشياء أخري، لظاهرة ختان الإناث في افريقيا، مؤكداً في ذلك ثيمته في الفيلم السابق، ومؤكداً كذلك علي موقفه النقدي من ثقافته المحلية علي الرغم من اعتزازه المعروف بها.
وفي 1994 قام المفكر السينمائي المالي الأصل مانثيا داياوارا (رئيس قسم الدراسات الافريقية في جامعة نيويورك حالياً) والكاتب والروائي والمسرحي الكيني الأصل نغوغي وا تينغو (أستاذ بلقب بروفيسور متميز للأدب الإنكليزي والمقارن رئيس مركز الكتابة والترجمة في جامعة كاليفورنيا في أرفاين حالياً) بإنجاز فيلم وثائقي عن صمبين عنوانه (صمبين: خَلْقُ السينما الافريقية). وقد أسهمت أفلام عثمان صمبين في تأسيس وتعزيز تيار السينما الثالثة الذي جاء تحدياً ونقيضاً عالمثالثيَّاً للسينما الأولي (سينما هوليوود الأمريكية) والسينما الثانية (سينما المؤلِّف الأوروبية)، فها هو علي سبيل المثال لا الحصر المفكر السينمائي الأثيوبي تيشوما غابرييل يستند الي أعمال صمبين السينمائية في كتابه التأسيسي (السينما الثالثة في العالم الثالث: جماليات التحرير) الذي يبحث فيه الخصائص الفكرية والسياسية والجمالية للسينما الثالثة. وكنت قد أجريت حواراً منشوراً مع المفكر السينمائي البريطاني/الأمريكي جون داوننغ وضع فيه عثمان صمبين في النقيض المقابل لموقفه من السينما العربية السائدة وذلك في معرض إجابته عن أحد أسئلتي حيث يقول: الأفلام العربية التي شاهدتُّها متفاوتة جداً، فبعضها متأثر علي نحوٍ تَلَبُّسيٍّ بسينما الموجة الجديدة الفرنسية مثلاً، والأخري بسينما الواقعية الجديدة الإيطالية. ومن خلال مشاهداتي أعتقد أن الأفلام المغاربيَّة مُحْكَمَةٌ في بنائها السردي أكثر من الأفلام المصريَّة التي تفتقر إلي الانضباط وتعاني من إقحام كثير من العناصر التي لا علاقة لها بالقصة. ولا يعني ذلك ان علي الفيلم أن يقتصر علي عدد قليل من العناصر، فعلي سبيل المثال ينجز السنغالي عثمان صمبين أفلاماً بطيئة وطويلة ومزدحمة بالأشياء، ولكن من دون مجانيَّة؛ فلكل عنصر غرض معيَّن في الصورة الكُليَّة للفيلم. أما الأفلام المصرية فإنها تخفق في تحقيق ذلك .
تحضرني مقولة لبودلير يذهب فيها إلي أن الحداثة هي تغيير الماضي ، أي ان الحداثة ليست القطيعة البتريَّة السِّكِّينيَّة مع الماضي كما يزعم أولئك الذين يحاولون استزراع النباتات الشيطانيَّة، بل الذهاب إليه واستنطاقه. ويبدو من الواضح لي ان صمبين يوافق علي رأي بودلير إذ انه، من الناحية الفنيَّة يؤثِِر، علي الرغم من حساسيته البصرية العالية، الاستناد إلي تقاليد السرد الشفاهي السحري في الثقافة الافريقية التقليدية (ما هو معروف بـ الغْرَيُو griot) وتحويلها وتثويرها سينمائياً في سرديات أفلامه من خلال استعمال تقنيات كالصمت والمزج الصوتي والبصري (كنت قد ذكرت سابقاً أن شريحة من جمهور صمبين السينمائي في السنغال تتكون من العميان الأميين). كما يذهب صمبين إلي تكريس اللقطات الكبيرة والطويلة (الصامتة في الغالب) واللقطات الأفقيَّة (pan) البانورامية البطيئة التي تبوح بالحضور الجليل للأرض والحضور الغامر للمكان (في البال مثلاً استخداماته الاستثنائية لهذه اللقطات في فيلمه تشيدو )، والاقتصاد البالغ في التقطيع المونتاجي، والابتعاد عن الفلاشباك ، والاحتفاء باللقطات ذات مستوي العين (eye level shots)، وادِّخار الأسلبة (stylization) لما هو ضروري جداً وجوهري في الفيلم، وذلك في ما يبدو انه ردة فعل سياسية وجمالية واعية ضد رسوخ سينما هوليوود والسينما الأوروبية في نقيض هذه التقنيات.
يا عثمان صمبين: يزداد العالم تقلصاً، وجحوداً، وتنكراً، ونكوصاً، وتراجعاً عن الأحلام والأفلام القديمة. يزداد العالم وحشة ووحشية، ولاإنسانية برحيلك عن هذه الأرض التي كافحتَ طويلاً ومريراً وبطرق شتي من أجل أن تكون أكثر عدلاً، وحقَّاً، وخيراً، وجمالاً، وحرية. لكننا يا صمبين سنظل نراهن علي طائر العنقاء. سنفتقدك كثيراً جداً وطويلاً جداً. وداعاً لك ألف ألف وداع.
شاعر وناقد من عمان يقيم في امريكا