يرى الكاتب أن الرؤية التوحيدية، القائمة على أساس الانفصال والاتصال بين الدال والمدلول، تمثل دعوة لتطويع الخطاب الديني ليتماشى مع الحاضر. الأمر الذي يستدعي إصلاحه بغية الحصول على أجوبة جديدة حول معناه، ويفضي إلى تجربة مغايرة ومتجددة باستمرار ومحايثة لزمنها المتبدل.

تأملات في علاقة اللغة بالرؤية التوحيدية الإسلامية والرؤية الحلولية الغربية

مراد ليمام

نعلم أن عبد الوهاب المسيري من القلائل الذين كتبوا، بالشكل الذي كتبوا عليه في قضايا تهم التلازم الوثيق بين البنيات الذهنية والبنيات اللغوية الممثلة في الصور الجازية. وسنكتفي في هذا المقام، ببعض ما فهمناه منه قدر فهمنا ومستطاعنا، بغية كشف واستجلاء االكوامن التكتيكية والإستراتيجية للروابط الخفية بين اللغوي والديني والنفسي في تشييد صلاحية رؤية الإنسان للكون. كما سنعمل ضمنيا على تعرية جذور بعض الخطابات التي انحبست في شرنقة الاستهلاك المجاني لمفاهيم وشعارات وآمال حول الحداثة والعلمانية واللائكية.. وتجدر الإشارة ٳلى أننا لا ندعي تلخيص محاور أطروحات عبد الوهاب المسيري حرفيا مادام مطلبنا في الأصل غير ذلك. ولعل العنوان يروم ضمنيا نحو مقام القول الذي نبتغي من خلاله فضح حيل الخطاب العلماني حين ادعائه الكونية والحيادية٬ علاوة على أن المقال يجمع بين الإشارات والتلميحات الشخصية في مستويات متداخلة من التحليل وٳعادة التركيب.

ومن المداخل التي ارتأيناها لمعالجة ٳشكالية علاقة اللغة برؤية الكون٬ مدخل عبد الوهاب المسيري حينما جعل من دراسة تمفصلات الدال في علاقته بالمدلول منطلقا لذلك. وتتخـذ هذه الدراسة ثلاثة أشكال أساسية: أولا: الانفصال الكامل: وتكون فيه اللغة نظاما استدلاليا مستقلا تماما عن الواقع شأنها شأن العقل، حيث يذعن هذا الأخير للعبة الدوال ولا يكترث للواقع. كما يلاحظ انتفاء الوظيفة المرجعية للغة حين تكف الكلمات عن الإحالة إلى الأشياء، فتمسي الكلمات كلمات في ذاتها. اللغة وفق هذا المعطى التصوري نسق مستقل عن الواقع شأنها شأن العقل الخاضع للعبة الدوال. ثانيا: الانفصال والاتصال: حيث يظل الدال مفارقا للمدلول وفي نفس الوقت قريبا منه. وهذا يفترض استقلال الفكر عن اللغة، واستقلال اللغة عن الواقع٬ لكنها صالحة للتواصل ودالة على الواقع وإن انوجدت بينهما مسافة. وبتعبير أدق؛ اللغة هنا استمرار تحويلي وقطيعة استدماجية تلعب دور الوسيط بين الفكر والواقع. ثالثا: الالتحام الكامل: أي مطابقة الدال للمدلول كما هو الحال في الأيقونات واللغة الجبرية والتفسيرات الحرفية، مما يعني أن العقل لا دخل له بالواقع، ما دام هو بالأصل جزء لا يتجزأ منه عليه إما أن يذعن له أو يهيمن عليه. فلا مجال للشرح بين الدال والمدلول المحكومين بمبدأ المماثلة. العقل هنا يحاكي الواقع فهو جزء لا يتجزأ منه.

ليست ثنائية الدال والمدلول سوى وجها من وجوه التعبير عن علاقة الفكر بالواقع٬ تأخذ شكلين أساسيين: أولا٬ هناك: علاقة بسيطة بين الدال والمدلول، يكون فيها للعقل دور سلبي يتمثل في عكس الواقع بطريقة مباشرة دون تحوير أو إبداع؛ ٳن دور العقل هنا محصور في التلقي السلبي لمعطيات الواقع. هناك٬ ثانيا: علاقة مركبة بين الدال والمدلول شأنها شأن علاقة العقل بالواقع تكون فيها اللغة غير شفافة فيما نتصوره عن الواقع. غير أنه توجد وسائل وآليات لتحسين الأداء اللغوي للوصول أو الاقتراب مما نتصور أنه حقيقة٬ حيث ظهرت أشكال مختلفة من الإفصاح ومستويات مختلفة من الأسلوب لإحساس الإنسان بأن تجاربه فريدة وثرية للغاية.

على ضوء هذه المقدمات يمكن تفسير مسألة كلام الله أهو محدث أم قديم في التراث الإسلامي. ٳذ رفض المعتزلة أية شبهة توحي بتعدد القدماء متمسكين بالتوحيد وفكرة الإله المتجاوز للطبيعة والمفارق للعالم. فقد قالوا أن القرآن كلام الله محدث ومخلوق، فجدوا واجتهدوا في هذه القضية لما رأوا أن ذلك هو الباب الذي دخل منه التثليث فأفسد توحيد المسيحية الأولى. فمنظور القرآن من وجهة نظرهم بخصوص عيسى عليه السلام أنه هو كلمة الله٬ ولو وصفت هذه الأخيرة والقرآن بالقدم لصحت عقيدة التثليث. بينما ميز الأشاعرة بين الكلام النفسي -الأزلي- الذي معناه قائم بالنفس، وبين الدلالات الموحية بهذا الكلام النفسي الأزلي القائم بذات الله سبحانه وتعالى. كما أوجدوا فروقا بين الألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء، وبين ما يرتبط بها من حروف وأصوات. فالكلام النفسي هنا، معادل موضوعي للمدلول بينما الألفاظ والحروف والأصوات المحدثة معادلها الموضوعي هي الدلالات المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء. مما يعني أن الدال والمدلول لا ينفصلان في كلام الله، وأن الانفصال يحدث فقط في حالة تنزيل القرآن. على هذا الأساس ينبغي الٳقرار بأن النسق التوحيدي الإسلامي يحتفظ بالمسافة بين الدال والمدلول معززا علاقة الانفصال والاتصال بين الخالق والمخلوق، عكس اليهودية والمسيحية.

أما داخل الاهتمام الفلسفي الحديث باللغة في الحضارة الغربية وعلى اعتبار أن علم اللغة من أهم المباحث الفلسفية ٬ فقد أكد معلم اللسانيات الحديثة فرديناند دو سوسير أن العلاقة بينهما علاقة اعتباطية٬ إذ لا يربطهما أي رابط طبيعي بل يقومان على المواضعة والاتفاق. حينها يصبح المعنى عبارة عن سلسلة من الفروق الصوتية المتزاوجة والمتضامنة مع سلسلة أخرى من الفروق التصورية. من هنا، تتناسل العديد من الأبعاد المعرفية المرتبطة بقضية دال/مدلول تضمر ما يلي:

أسبقية اللغة على العقل، تغدو عندها ذات بعد أنطولوجي.

اللغة نسق مغلق مكتف بذاته يستحيل تحديد انحدارها الجيني أو الأصلي، فتتحول نسقا للكون كامنة فيه متعالية على الإنسان.

و لعل هذا الأمر يجعلنا نتقاسم عناء التساؤل والحيرة مع عبد الوهاب المسيري عن أسباب اهتمام وتضخيم الفكر الغربي لهذه الإشكالية وجعلها قضية مركزية تسكن وجدانه، فنحصر أسباب ذلك فيما يلي:

à الأحداث التاريخية الكبرى في الحضارة الغربية.

à تقويض علاقة الذات بالموضوع من خلال الرؤى الفلسفية٬ مما يعني صعوبة وجود علاقة بين الذات المدركة والموضوع المدرك.

à تصاعد معدلات الترشيد والتعقيل خصوصا في إطار اقتصاديات السوق الحر بطغيان الليبرالية ذات المرجعية الاقتصادية التي لا تهتم سوى بالربح. أدى ذلك ٳلى ازدياد معدلات التشيؤ والتسليع فأصبحت معهما العلاقات الإنسانية أشياء ذات قيمة تبادلية.

 Ãانفصال العلم الطبيعي عن القيم، حيث أصبح التجريب منفصلا عن أي غايات إنسانية. مما أدى ٳلى بلوغ العلم مرحلة تسيده بانفصاله عن القيم٬ متحولا إلى تقنية لم يعد بوسع أي مجال منع تسللها إليه وسيطرتها عليه أو الفكاك منها٬ بل مندسّة في جميع جوانب الحياة، تقودنا صاغرين طوعا أو كراهية، فتحول الإنسان إلى دال تعطلت فيه مدلولاته.

 Ãفقدان مفهوم التقدم لمدلوله بفقدان غاياته وأهدافه الإنسانية٬ فتحول إلى دال في حالة لعب بلا نهاية. لقد تحول التقدم إلى دال يتم فيه إرجاء المدلول المتعالي (Logos) ليصبح مجرد حركة دون هدف إنساني أو مدلول.

 Ãمحاولات جعل اللغة أداة للتعبير عن ترميزات رياضية تجعل التعامل بين البشر شكلا تقنوقراطيا من خلال نماذج كمية منطقية ورياضية. أصبح الإنسان دالا تعطل مدلوله في عالم تطبق فيه الآلية، بحيث لم يعد لحياة الإنسان حرية خارج أنظمتها. فهي تدير الحياة التي أصبحت محكومة بمجموعة من الإواليات واللوائح والقواعد والمعايير تضبطها وتقننها وتعمل على تطويعها. اللغة هنا أداة للعقل الأداتي والتقنية.

à ظهور الفلسفة الوضعية المنطقية التي حاولت المطابقة بين الدال والمدلول عبر ربط اللغة بالواقع، في محاولة لوصلها بالغاية النفعية أو العملية المترتبة عليه كما في الرياضيات. غير أنها تفترض نظريا انفصال الدال عن المدلول.

 Ãظهور الصرح البنيوي الذي يؤمن بأسبقية البنية على العقل مع الاعتراف بالقدرة التوليدية للعقل والإقرار بوجود نوع من الترابط بين الدال والمدلول.

 Ãظهور النزعات ما بعد الحداثية التي جعلت العالم بدون مركز ليس له بداية ولا نهاية أو أي اتجاه، أي أنه ستسود الفوضى والنسبية٬ واللغة لا تختلف عن أي ظاهرة إنسانية، ليس لها مركز ولا قائد إذ تخضع للعبة تفتقد لأبسط القواعد.

بعد تحديد الدوافع والأسباب الكامنة وراء الانفصال أو الاتصال التام للدال بالمدلول،نواصل تحليل نفس القضية انطلاقا من الصرح البنيوي المرتكز على أسبقية البنية على العقل٬ مع الاعتراف بمقدرته على التوليد - بخلاف الوضعية المنطقية - ٬ ومع الإقرار بوجود نوع من الارتباط بين الدال والمدلول عكس أنصار ما بعد الحداثة. ٳذ يسعى هؤلاء إلى انتشال المعنى والحقيقة والحضور من حركة الدلالة، وبناء عقلانية تقطع مع (Logos) بوصفه عقلا أعلى ومرجعية متعالية للخطاب. مما يعني أنه ليس للغة من أصل محض، وأن الأصل يبدأ بالتلوث أو الابتعاد عن مقام الأصلية لمجرد أن يتشكل كأصل. وهذا ما يعنيه دريدا بالاختلاف الذي يكون في حقيقته إحالة للآخر وإرجاء لتحقيق الهوية.

من هذه المنطلقات يمكن القول؛ ٳن الافتراضات الكامنة لدعاة ما بعد الحداثة طفولية وساذجة، تتأرجح بين الانفصال أو الاتصال التام للدال بالمدلول، في حين أن هذه الثنائية لا بد وأن تحافظ في نفس الوقت على اتصالها وانفصالها بغية الحصول على قدر معقول من الحقيقة واليقين. إن تقويض المعنى يشير إلى حضارة الدال التي تعطلت فيها الدلالة بتهميش وقتل مفهوم المدلول المتعالي (الإله)٬ الأمر الذي أدى إلى مرحلة السيولة الشاملة حينها فُقد المعنى وانهارت المرجعيات والكليات...

ومن صميم المباحث المتعلقة بقضايا علاقة الدال بالمدلول نجد مسألة اللغة المجازية واللغة الحرفية في علاقتهما بالرؤية التوحيدية والحلولية. فالمجاز نموذج معرفي يدرك بواسطته الإله حين الانتقال من العالم المحسوس إلى ما وراء الطبيعة٬ فتتكشف ثنائية الخالق والمخلوق. فبوسع اللغة أن تشير إلى المدلول المتجاوز وإلى الوجود الإنساني في علاقته بالإله وبنفسه وبالطبيعة من خلال علاقات الاتصال والانفصال لكل من الدال والمدلول. فالرؤية التوحيدية تتخذ المجاز بوصفه نموذجا معرفيا يدرك بواسطته الإله حين الانتقال من العالم المحسوس إلى ما وراء المحسوس. اللغة هنا٬ تشير إلى الوجود الإلهي المتجاوز وإلى الوجود الإنساني المركب الذي لا يرد إلى عالم المادة. المجاز إذا: تعبير عن موقف مزدوج من اللغة، الدال منفصل عن المدلول، ولكنه رغم انفصاله متصل به، وبالتالي له معنى.

يقيم المجاز في الرؤية التوحيدية صلة بين الدال والمدلول بحيث يبدو أن ثمة علاقة بين الحالة الذهنية والشعورية في المجال اللغوي إرسالا واستقبالا وبين حالة التجاوز التعبدية لدى المؤمن في إدراكه للإله. يغدو عندها المجاز-في اللغة التوحيدية- وسيلة لإدراك الوجود الإنساني في المركب وإدراك الإله في الآن ذاته. إذ أنه يربط بين بعض صفات الإله المتجاوزة للأسماع والأبصار وبعض الشواهد المادية المدركة. وبتعبير أدق الربط بين المحدود الإنساني واللامحدود الإلهي.

بينما في اللغة الحرفية نجد إلها متجسدا في النص ومخلوقاته يذوب فيها بحيث لا يصبح له وجود مستقل ومنفصل بذاته، فلا يبقى من الإله سوى اسمه٬ ممتزج بالطبيعة لا يمكنه الحديث إلا من خلالها. وقد سيطرت هذه النزعة منذ القرن 17م وٳن كانت بذورها الجنينية تعود ٳلى مراحل سحيقة في التاريخ. فمنذ ذاك القرن ظهرت محاولات لترشيد اللغة والقضاء على كل اللهجات المحلية والنزعات الخطابية، بغية التوصل إلى لغة واضحة يفهمها الجميع، لا يوجد فيها مجاز أو زخرف أو مبالغة. ومع نهايات القرن 18م وبداية الحركة الرومانسية انتقل البحث نحو لغة ذاتية، تعكس الواقع الفردي بدقة بالغة وتتطابق معه تماما. ولذلك فهي تلجأ إلى الرموز والأساطير والأيقونات التي تعادل الحالة الذاتية٬ باعتبارها لغة تحاول أن تصل إلى التعبير المطلق الكامل عما في الذات، بحيث تصبح اللغة والعاطفة شيئا واحدا. ومع بروز مرحلة السيولة الشاملة، ظهرت التفكيكية والعدمية بانتقال الحضارة الغربية من مرحلة الحداثة إلى مرحلة ما بعد الحداثة، حيث يطفوا الجنس كوسيلة تواصل تقوم بحل إشكالية علاقات الدال بالمدلول.

ضمن هذا المنظور حاول عبد الوهاب المسيري التأريخ للفن الحديث داخل الحضارة الغربية باعتباره عملية قفز من الثنائية الصلبة إلى مرحلة السيولة الشاملة٬ وقد وضع وحدد كل التيارات أو الحركات الفنية والأدبية التي تصطف بكل مرحلة حسب النموذج المعرفي الموافق للغة الموظفة. وتوضح الخطاطة التالية ذلك :

 

السيولة الشاملة

ابتداء من منتصف القرن 20م

الرواية الجديدة

الكتابة الشذرية

التفكيك (النقد)

من القرن 17 إلى 18م

-الفن النيوكلاسيكي

-الواقعية

من القرن 19 إلى منتصف القرن 20م

-الرومانسية

-السريالية

التجريدية

تيار الوعي

 

الثنائية الصلبة                     

انتقال

 

باث من الواضح أن الرؤية التوحيدية والرؤية الحلولية هما ٳحدى الأسس القاعدية الجوهرية لمعالجة

المنطلقات الثيولوجية للنص الديني من وجهة نظر التفسير الأصولي والتفسير الحرفي٬ في محاولة لٳيضاح صلة التفسير الثاني بالكوامن الخفية والمؤسسة للنص العلماني. ففي التفسير الأصولي دعوة إلى العودة لأصول الدين الأولى وتفسيره تفسيرا جديدا، مما يعني فتح الباب للاجتهاد وإعمال العقل. التفسير الأصولي ٳذا نقد بناء لممارسات الأولين الصالحين واجتهاداتهم في محاولة لتفسيرها ولتطويعها وفق مقتضيات العصر بتوليد معان جديدة. فالاجتهادات التي يصل إليها الإنسان في ضوء التفسير الأصولي ليست هي ذاتها النص المقدس وإنما تتراوح في قربها وبعدها عنه. أما التفسير الحرفي، فإنه يتمسك بحرفية النص دون اجتهاد أو إعمال للعقل، لاغيا المسافة بين الدال والمدلول، جاعلا النص خارج الزمن، ماحيا كل الثنائيات، مختزلا اللغة في بعدها الحرفي دون المجازي. ٳن التفسير الحرفي ينطلق من سيادة الاعتقاد القائل بأن اللغة الحرفية التي يتمسك بها المؤمن٬ تتيح ٳمكانية التفسير الواحد والوحيد للنص المقدس دون اجتهاد أو إعمال للعقل، وكأن النص يحمل رسالة واضحة مباشرة وصريحة مثل القاعدة العلمية.

ويقود هذا التوضيح ٳلى مناقشة التفسير الحرفي على ضوء بعض الحركات والتيارات المحسوبة على المسيحية أو اليهودية. ويمكن الٳشارة على سبيل التمثيل لا الحصر ٳلى العقيدة الألفية الاسترجاعية في التراث المسيحي: والتي تذهب إلى ضرورة توطين اليهود في فلسطين حتى يمكن أن يعود المسيح ويبدأ حكمه لمدة ألف عام. من هذا المنطق، تزعم المسيحية الكاثوليكية بأن ظهور المسيح إنكار لليهود. ومن نتائج ذلك فصل الكنيسة الكاثوليكية بين العبرانيين القدامى الذين كانوا يعتبرون شعبا مثاليا، وبين إسرائيل الجديدة التي تجسدها الكنيسة الكاثوليكية٬ أما اليهود المعاصرون فيقفون في ضعفهم شاهدا على عظمة الكنيسة المسيحية. غير أن التفسير البروتستانتي -خصوصا مع الحركة الكالفينية– فلا يرى في المسيح سوى وفاء بالعهد أوالوعد الإلهي لليهود الذي لا يمكن نقضه مع مر الزمن٬ بل هو متضمن في حياة الكنيسة أي أنه وعد أزلي. كما ساد الاعتقاد البروتستانتي في أن اليهود المعاصرين هم العبرانيون القدامى وهم الفلسطينيون الغرباء. ومن تجليات التفسير الأخير٬ الخلط بين المقدس والتاريخي وبين المطلق٬ وهي رؤية صهيونية في بنيتها تنكر الصيرورة التاريخية وتنتقل بسهولة من العهد القديم إلى فلسطين محولة اليهود المعاصرين إلى شعب الله المختار. ويظل التفسير البروتستانتي في مجمله نابعا من رؤية صهيونية تجمع بين الخطاب الديني وبين الخطاب العلماني المادي القائم على الحرفية بدل الخطاب الكاثوليكي الذي يعتمد المجاز.

وإذا كانت للصهيونية ديباجة مسيحية، فإن ذلك يصدق أيضا على اليهودية، حين اعتمادها على التفسير الحرفي، مما يعطي للصهيونية-مرة أخرى-أساسا دينيا لدعواها. ويعتقد عبد الوهاب المسيري أن أسباب تضييق الرقعة بين كل من اليهودية والمسيحية وبين الصهيونية، هو تصاعد معدلات الحلولية في كلتا الديانتين٬ أصبحت حينها الصهيونية نقطة التقاء الخطاب الديني بالعلماني.

ختاما٬ تمثل الرؤية التوحيدية القائمة على أساس الانفصال والاتصال بين الدال والمدلول دعوة صريحة لإعادة ترهين الخطاب الديني وتطويعه ليتماشى مع الحاضر وينفتح على المستقبل٬ باعتباره كائنا حيا صالحا لكل زمان ومكان. الأمر الذي يستدعي دمجه ضمن سياقات جديدة وتطبيقه على مواد جديدة، بغية الحصول على أجوبة وإيضاحات جديدة حول معناه، والحصول أيضا على كلمات خاصة بنا في شكل أجوبة للحظة الراهنة. إنها محاولة لتثبيت الخطاب الديني من إطاره اللامتناهي، باقتطاع مشروع مفهمة محايث لراهنيتنا. ويبقى صانع هذه الأخيرة زمني، تتكشف خصوصيتها عبر ربط الخطاب بالماضي والحاضر والمستقبل، وبمخزون معارفنا٬ الشيء الذي يفضي إلى تجربة شديدة الفردية محايثة لواقعنا الراهن. وتبقى كل تجربة متفردة وخاصة يستحيل أن تتكرر بنفس الصورة مادام المعنى يتغير بتغير البعد الزمني.