هذه دراسة تكشف عن التحولات التي انتابت الدستور الألماني، والمشاعر الألمانية تجاه الأجانب والمهاجرين، وتجاه تصورهم لأنفسهم، وعبء الإرث النازي عليهم، كاشفة عما تنطوي عليه من إيجابيات، دون أن تغفل عما يعتورها من سلبيات، رغم عنوانها الصادم الذي يكشف عن تآكل حريات الآخرين وحقوقهم.

ألمانيا قامت عملياً بإلغاء اللجوء كحق أساسي

نافيد كيرماني

ترجمة: فادية فضة(1) حامد فضل الله(2) 

نحن أمام سابقة تاريخية لم تحدث قط في ألمانيا، وهي أن يتحدث باحث ألماني من أصول مهاجرة في أحياء ذكرى كتابة الدستور أو كما يطلق عليه بالقانون الأساس الألماني. هذا الحدث، السابقة استغله د. نافيد كيرماني، الألماني من أصول إيرانية، بخطاب نقدي هام شمل الدستور والتعديلات والقيود التي أدخلت عليه في السنوات الأخيرة. والتعرض لقضايا الهجرة والاِندماج. قمنا بترجمة الخطاب ووجدناه فرصة لاطلاع القارئ العربي.

التناقض والجمل المبهمة ليست من وسائل التعبير المعتادة في النصوص القانونية، فالمواد القانونية ينبغي أن تكون على أعلى قدر ممكن من الوضوح. فالتناقض في بعض الأحيان يصبح مهما لتوضيح المعاني الغامضة حتي يستقيم فهم النص ولا يصبح الوضوح كذبة. وفي الشعر مثلا يعتبر الغموض والإبهام واحداً من أكثر الوسائل استخداماً في الشعر. وإذا طبقنا هذا المبدأ في أهمية وضوح النص القانوني نجد تعارضا في القانون الأساس لجمهورية ألمانيا الاتحادية إذ تبدأ المادة الأولي فيه بتناقض صريح وواضح، إذ أنها تقر بأن كرامة الاِنسان غير قابلة للمساس بها، كما جاء في الجملة الأولى، فيستوجب على الدولة احترامها ناهيك عن حمايتها. إذ ورد نصها في القانون الأساس في الجملة التالية:.( فاحترامها وحمايتها يمثلان واجباً إلزامياً على جميع سلطات الدولة).

كانت الدولة في مقدمة الدساتير السابقة غاية في حد ذاتها ولكن في الدستور الراهن والذي يعتبر أكثر شمولا أصبحت الدولة خادما للشعب والناس والإنسانية عموما. ومن الناحية اللغوية يمكن للمرء أن يصف هذا الدستور بأنه رائع وأنه يحقق إدراكا جماليا عاليا. بشكل عام، لا يمكن للمرء تفسير قوة التأثير والنجاح الخالص غير المحدود للقانون الأساس دون تقدير لجودته الأدبية. وعلى كل حال هو نص جميل بشكل ملحوظ في معالمه الأساسية وأقواله، وينبغي أن يكون كذلك. وكما هو معروف فقد رفض تيودور هويس(3) Theodor Heuss الصياغة الأولية من المادة الأولى، بحجة بأنها كتبت بلغة ألمانية سيئة. إن جملة "كرامة الإنسان غير قابلة للمساس بها، هي جملة ألمانية رائعة ولكنها سهلة وصعبة في نفس الوقت. ولكن عند ربطها بجملة. (فاحترامها وحمايتها يمثلان واجباً إلزامياً على جميع سلطات الدولة) يكتشف المرء أن هاتين الجملتين لا يمكن أن تكونا صادقتين في نفس الوقت (كرامة الإنسان غير قابلة للمساس بها، فاحترامها وحمايتها يمثلان واجباً إلزامياً على جميع سلطات الدولة). حيث لم يكن أي شخص يعتقد في الجلسة التي عقدت يوم 23 مايو 1949 هذا ممكنا. وربما قد يمكن مقارنتهما في المحيط الناطق باللغة الألمانية، فقط مع الكتاب المقدس للوثر(4) ، فقد استطاع القانون الأساس خلق واقع حقيقي من خلال قوة الكلمة.

"لكل فرد الحق في حرية بلورة شخصيته – أليس هذا خطلاً في الرأي؟ في ذات الوقت الذى كان فيه معظم الألمان، محاصرون تحت أنقاض مدنهم ويتدبرون أمرهم في مجابهة الحياة من أجل البقاء، الأ يظهر لهم هذا المقصد مجافياً وفضفاضاً، مثل الحرية في بلورة الشخصية الخاصة. "كل البشر سواسية أمام القانون– يا لها من فكرة مُغْرية - اليهود والسنتي والروما، والمثليين جنسيا والمعوقين، وكل من هم على الهامش، أصحاب الفكر المختلف والأجانب، الذين كانوا في الواقع قبل هذا القانون لا يحظون بالمساواة أمامه.

"الرجال والنساء متساوون في الحقوق " خلال أسابيع - وأشهر المقاومة ضد هذا القانون ظهر بكل وضوح أن الرجال والنساء في عام 1949 لم يتمتعوا بالمساواة اللازمة في الحقوق؛ ولم تظهر قيمة هذه المادة الا عندما تم التطبيق الحقيقي لها.

"إلغاء عقوبة الإعدام " والتي أعترض عليها غالبية الألمان، حيث صوت ثلاثة أرباع المستفتيين من أجل الإبقاء عليها، ولكن تمت الموافقة عليها اليوم على نطاق واسع.

"يتمتع كافة الألمان بحرية التنقل في جميع أرجاء الدولة الاتحادية". تكاد تكون هذه الفقرة محرجة لأعضاء المجلس النيابي نظرا لمشكلة اللاجئين والنقص في المساكن، وينطبق هذا أيضاً بعد 65 عاما، ليس على المانيا الموحدة فحسب بل على نصف اوروبا كذلك.

يستطيع الاتحاد الألماني "قبول محددات لحقوق سيادية من شأنها أن تؤدي الى اقامة نظام سلمي دائم في أوروبا" - والذي اتخذ من قبل عام 1949! أوروبا الموحدة، أي: الدول الأوروبية المتحدة. عدم التمييز وحرية الدين وحرية الفن والعلم وحرية التعبير وحرية التجمع –هذا كله كان عندما صدر القانون الأساس قبل 65 عاما، عبارة عن مجرد اعتراف بها ولم تكن تصف الواقع في ألمانيا آنذاك. ولا يبدو بأن النداء لهذه العقائد البسيطة والتوفيقية والمُلحة قد وجدت آذاناً صاغية عند الألمان حينذاك.

كان اهتمام الرأي العام بالقانون الأساس متدنياً بدرجة مخجلة بمنظور اليوم، وكان تأييده هامشياً في أوساط الشعب. في استطلاع رأي جرى عام 1951 ورداً على سؤال: متى كان أفضل وقت بالنسبة لكم؟، كانت الإجابات، وبنسبة 45% من الألمان ذكروا بأنه زمن الإمبراطورية القيصرية، 7% لجمهورية فايمار، و42% صوتوا للفترة الاشتراكية القومية، و2% فقط لجمهورية ألمانيا الاتحادية. ويتعجب المرء من هذه النسبة 2%، وينبغي أن نكون سعداء لأن السياسيين في بداية جمهورية الاتحادية لم يتصرفوا بناء على استطلاعات الرأي ولكن وفقا  لقناعاتهم. ولكن ماذا يحدث اليوم؟

ليس لدي أي شك بأنه ينبغي أن يشعر أعضاء المجلس النيابي، في ساعة احتفالنا ونحن نُتابع من منصة الشرف العلوية، بالسعادة والدهشة الشديدة، جذور الحرية والتي رسخت خلال السنوات 65 الماضية في ألمانيا. ولعلهم أيضا سيلحظون المغزى والموافقة، بأن اليوم، يُذكر طفل من المهاجرين بصدور القانون الأساس، وعلاوة على ذلك ينتمي إلى دين أخر لا يتبع دين الأغلبية. ولم يكن هذا ممكناً في كثير من بلدان العالم. وحتى في ألمانيا نفسها كان يصعب التصور أن يحدث ذلك مثلاً في الذكرى السنوية الخمسين لصدور القانون الأساس، بأن يقف ألمانياً يلقى خطاباً احتفاليا تحت قبة البرلمان الاتحادي، والذي ينحدر من أصول أخري. في الدولة الأخرى التي أحمل جواز سفرها، ما زال هذا غير وارد، على الرغم من كل الاحتجاجات والتضحيات من أجل الحرية. ولكن من هذا المنبر أود أن أقول، سيادة الرئيس، السيدة المستشارة، السيدات والسادة النواب، الضيوف الأعزاء وليس آخراً سعادة سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والذي يجلس اليوم أيضا في المدرج: لن يستغرق هذا 65 عاما ولا حتى 15 عاما حتى يتمكن أيضا في إيران مسيحي، ويهودي، وزرادشتي أو بهائي، أن يكون لديه الحق بشكل طبيعي في إلقاء الكلمة الاحتفالية في برلمان منتخب بحرية.

قال رئيس الجمهورية الاتحادي مؤخراً بأن المانيا جيدة وهى أفضل ما نعرف. وأنا لا أستطيع مخالفته. لم تكن المانيا في أي فترة أكثر حرية وسلاما وأكثر تسامحا كما في عصرنا الحالي. وهى الفترة التي لاتزال ماثلة أمام عيني، وبالرغم من ذلك لا تنساب جملة الرئيس الاتحادي من بين شفتي ببساطه. لماذا؟ إن عدم الارتياح بإظهار الفخر ببلده، يتطابق كنموذج ألماني في تخطى كراهية الذات، ولكن تم تجاهل ذلك السبب تماماً، لماذا أصبحت الحياة والمحبة قيمة في جمهورية ألمانيا الاتحادية؟ منذ متى ولماذا تشككت ألمانيا، في نزعتها العسكرية في القرن التاسع عشر وهي تتلبس عارها الشامل بقتل ستة ملايين يهودي، منذ متى ولماذا تمكنت من استعادة كرامتها تلك؟ إن أردتُ تحديد يوم واحد، حدث واحد، لفتة واحدة، والذي ظهرت فيه كلمة الكرامة في التاريخ الألماني بعد الحرب، وكان ذلك - وأنا متأكد، من أن أغلبية من في البرلمان، وأغلبية الألمان، وبالتأكيد في المقدمة أغلبية الجالسين في المدرج – فقد كانت انحناءة الركبتين في ارسو(5).

وهذا هو أكثر وضوحاً من التناقض الذي بدأ به القانون الأساس، وبل غير مسبوق في تاريخ الشعوب: هذه الدولة قد حققت الكرامة بفعل التواضع. ألا تكون البطولة مرتبطة بالرجولة وأيضاً بالقوة البدنية، والأكثر من ذلك كله بالفخر؟ ولكن هنا أظهر شخص سموه، بقمع اعتزازه وتحميل نفسه الشعور بالذنب – وأيضا فوق ذلك تحمل الذنب شخصياً، وكمعارض لهتلر ومنفي كان هو الأقل مسؤولية - هنا ثبت موقفه واحترام نفسه وشرفه بإعلان خجله على الملاً، وهكذا قد عبر عن وطنيته بالانحناء على ركبتيه أمام ضحايا ألمانيا.

أنا لست عاطفياً أمام الشاشات، لكنه جرى لي عكس ذلك تماما مثل الكثيرين، عندما أعيد عرض تسجيلات لمستشار ألماني في عيد ميلاده المئوي، وقد أظهره التسجيل وهو يخطو خطوة الى الخلف يكون فيها متردداً ثم بشكل مفاجئ ينحني على ركبتيه أمام النصب التذكاري في غيتو وارسو - لا استطيع حتى اليوم أن أرى هذا المنظر دون أن تنهمر الدموع من عيني. والشيء الغريب هو: بجانب كل الأشياء الأخرى والتأثر بذكرى الجرائم والتي دائما ما تثير الاستغراب من جديد، وأنها أيضا دموع فخر، واعتزاز لجمهورية ألمانيا الاتحادية، إنها أيضا ألمانيا، التي أحبها، وليس تلك المتبجحة، ولا المختالة بقوتها، وليس الفخر أن - تكون – المانياً- بل أكثر من ذلك انها الأمة التي تنظر بيأس إلى تاريخها، ويصل ذلك إلى درجة محاكمة الذات، وفي الوقت ذاته تجاوزت فشلها بالنضوج. وهي لم تعد أبدا بحاجة إلى العظمة، تتحدث عن قانونها الأساس بكثير من التواضع، وتفضل أن تلقى الغريب بغاية الود، وسلامة النية وتعمل أكثر من أي وقت مضى على إسقاط كراهية الأجانب والغطرسة مرة أخرى.

غالبا ما يقال، ولقد سمعت أيضاً من هذا المنبر خطباء يقولون، أنه يجب على الألمان أن يكونوا في نهاية المطاف على علاقة طبيعية، غير متشنجة مع أمتهم، والآن، وقد انقضى وقت طويل بما فيه الكفاية في مكافحة الاشتراكية القومية. وأنا أسأل نفسي دائما، ما الذي يعنيه الخطباء: لم تكن هناك أبدا هذه العلاقة الطبيعية وغير المتشنجة، ولا حتى قبل النازية. لقد كانت هناك قومية عدوانية متصاعدة، وفي المقابل كان هناك تحرك مضاد، لنقد ذاتي ألماني، ونداء لأوروبا، واتجاه إلى المواطنة العالمية وإلى الأدب العالمي أيضاً، كان هذا الاتجاه بتصميمه في القرن 19 فريداً في نوعه. قال فيلي براند Willy Brandt  بكل اعتاد بالنفس في خطابه بمناسبة حصوله علي جائزة نوبل للسلام "الألماني الجيد لا يمكن أن يكون قوميا" يعلم الألماني الجيد أنه لا يستطيع أن يتخلى عن توجهه الأوروبي. عبر أوروبا تعود ألمانيا الى ذاتها والى القوى البناءة لتاريخها.

منذ أواخر القرن الثامن عشر، وعلي الأكثر منذ عهد ليسينغ(6) Lessing - والذي احتقر التعصب الوطني وكأول ألماني استخدم كلمة كوني – وقد وقفت الثقافة الألمانية في كثير من الأحيان بمواجهة الأمة. جوته Goethe وشيلر Schiller، كانتKant وشوبنهاور Schopenhauer، هولدرلين Höldelin وبوشنر Büchner، هاينه Heine  ونيتشه Nietzsche، هيسا Hesse والإخوة مان Thomas وHeinrich Mann – جميعهم قد تنازعوا مع ألمانيا، وقد نظروا لأنفسهم باعتبارهم مواطنين كونيين (عالميين) وآمنوا بالوحدة الأوروبية، قبل وقت طويل من اكتشاف السياسة لهذا المشروع.

إنه الخط الكوني (العالمي) للروح الألمانية، والذي واصله فيلي براند - ليس في نضاله ضد القومية الألمانية فحسب بل ومن أجل أوروبا الموحدة، وكذلك في ندائه بوقت مبكر الى "سياسة داخلية عالمية، وفي التزامه لتقرير الشمال والجنوب خلال رئاسته للاشتراكية الدولية. وربما لا يوجد مثل التنوير في ألمانيا اليوم، عندما لا يكاد يتم التطرق اطلاقاً في المناظرات التلفزيونية قبل الانتخابات العامة عن السياسة الخارجية أو عندما تقوم هيئة دستورية بالتقليل من أهمية الانتخابات الأوروبية المقبلة، وعندما لا تصل المعونات والغوث الإنساني من بلد مثل ألمانيا قوية اقتصاديا ولا حتى الى متوسط دول منظمة التعاون الاقتصادي – أي في قبول المانيا لما لا يتعدى عشرة آلاف فقط، من بين تسعة ملايين سوري، الذين فقدوا منازلهم في الحرب الأهلية.

أخيرا، يعني الالتزام في العالم والذي يقف فيه فيلي براند كمثال حي لذلك والذي يعني في المحصلة أيضاً انفتاحاً أكثر على العالم. نحن لا يمكننا الاحتفال بالقانون الأساس، من دون أن نتذكر التشويهات، والتي أضيفت له هنا وهناك. حتى بالمقارنة مع دساتير دول أخرى، تم في كثير من الأحيان تغيير النص الدستوري بطريقة غير عادية، وهناك عدد قليل فقط من التدخلات التي كانت جيدة على النص.

ما تركه المجلس الاستشاري النيابي عن عمد وبصورة عامة، يقوم البرلمان Bundestag من آن لآخر بتحميله بقواعد مفصله. أن المادة ( 16 أ- يتمتع الملاحقون سياسياً بحق اللجوء) لم يتم اثقالها لغوياً فحسب، بل وتشويهها ايضاً، وحسب الدستور الألماني الذي صاغت فيه المانيا انفتاحها إلى الأبد، تم بالتعديلات إقصاء انفتاحنا عن أولئك الاشخاص الذين هم في أمس الحاجة له: المضطهدين سياسيا. - "يتمتع الملاحقون سياسياً بحق اللجوء" جملة موجزة رائعة – انخفض سقف المادة هذه في عام 1993 إلى أمر إداري مشوه يتكون من 275 كلمة التي تكدست فوق بعضها وتداخلت في بعضها بشدة لإخفاء شيء واحد فقط: أن ألمانيا قامت عملياً بإلغاء اللجوء كحق أساسي. ألا يجدر بنا فعلا أن نتذكر، وبعد أن تمت تسمية الساحة المقابلة للمستشارية الاتحادية باسم فيلي براند، بأنه كان هارباً، لاجئاً؟

وأيضاً حتى اليوم يوجد أناس، كثير من الناس، الذين يعتمدون وجوديا على انفتاح الدول الديمقراطية الأخرى - وإدوارد سنودن Edward Snowden وهو واحد من أولئك الذين ندين له بالكثير من أجل حماية الحقوق الأساسية لدينا. آخرون يغرقون كل يوم في البحر الأبيض المتوسط، عدة آلاف في كل عام، وسيغرق على الارجح اشخاص أيضاً اثناء احتفالنا هذا. لا يتوجب على ألمانيا أن تستوعب جميع اليائسين والمحملين باُثقال الحياة في العالم، لكنها تملك ما يكفي من الموارد لحماية المضطهدين سياسيا، بدلا من تحويل المسؤولية إلى ما يسمى بالدول الثالثة(7). كما ينبغي ومن أجل المصلحة الذاتية المعروفة جيدا إعطاء فرصة عادلة لصالح أشخاص آخرين تقدموا بطلب قانوني للهجرة، كي لا نضطرهم للاعتماد على حق اللجوء. فقانون أوروبي موحد لحق اللجؤ، الذي اعتمد كمبرر للإصلاح عام 1993، لم يعد الحديث وارداً به بعد انقضاء عشرين عاما عليه، وما يؤلم أيضاً ما تعرض له القانون الأساس من تعد واستغلال لغوي. فقد تم تجريد محتوى المادة (16 أ) الحق في اللجوء من كرامتها. يا حبذا لو تم تنظيف القانون الأساس في موعد لا يتجاوز الذكرى 70 لإعلانه من هذه البقعة القبيحة التي لا قلب لها.

هذه ألمانيا جيدة، وهي أفضل ما نعرف. بدلا من الانغلاق على ذاتها، يمكن الفخر بأنها أصبحت جاذبة جدا، والداي لم يهربا من إيران لأسباب سياسية. ولكن بعد الانقلاب ضد حكومة مصدق الديمقراطية في عام 1953، غادرا ايران وكانا على غرار العديد من جيلهم من الإيرانيين سعداء في ان يكونا قادرين على الدراسة في بلد حرية وعدالة. بعد دراستهما وجدا عملاً، ومع مرور الوقت استطاعا رؤية الأبناء والأحفاد وحتى أبناء الأحفاد وهم يكبرون، لقد هرما هنا في المانيا. وكونا هذه الأسرة الكبيرة، التي وصل تعدادها الآن الى 26 شخصا، عندما أحسب فقط الأحفاد المباشرين وكذلك الأصهار، أجد انها كانت أسرة سعيدة حقا في هذا البلد. ولسنا نحن فقط: العديد من ملايين الناس المهاجرين إلى ألمانيا الاتحادية منذ الحرب العالمية الثانية، ومع اعتبار المشردين واللاجئين، نرى انهم أكثر من نصف السكان اليوم. وهذا وفقا للمعايير الدولية تغيير ديموغرافي هائل، والذي كان على ألمانيا أن تتعامل معه في غضون جيل واحد. وانا أعني أن ألمانيا عموماً قد تعاملت بشكل جيد مع ذلك. هناك، لا سيما في المناطق المكتظة، صراعات ثقافية ودينية وعلى الأخص اجتماعية، وهناك تحفظ بين الألمان، وكذلك مع الذين يعتبرون ليسوا ألمانا فقط، وللأسف هناك عنف أيضا وحتى إرهاب وقتل. لكن بنظرة عامة، تسير الأمور بصورة سلمية للغاية في المانيا، ولا تزال عادلة نسبيا ومتسامحة أكثر بكثير جدا مما كانت عليه في التسعينيات. دون أن يلاحظ حقا، أن جمهورية ألمانيا الاتحادية - وأنا لا أتكلم هنا عن اعادة الوحدة لشطري البلد !-بأنها حققت إنجازا رائعاً في مسائل الاندماج.

ربما فات هنا أو هناك لفتة من الاعتراف العلني الواضح، خاصة تجاه جيل أهلي هنا، نحو جيل العمال الوافدين، وتقدير قيمة ما قدموه لألمانيا. وفي المقابل، قد يكون أيضا أن المهاجرين لم يظهروا دائماً وبشكل واضح بما فيه الكفاية حجم تقديرهم للحرية التي يتمتعون بها في ألمانيا، المساواة الاجتماعية، وفرص العمل والمدارس والجامعات مجانا، بالمناسبة أيضا نظام رعاية صحية ممتازة، وسيادة القانون، وقيمة حرية التعبير وهي أحيانا مرهقة، حرية ممارسة الدين.

 وأرغب في نهاية خطابي هذا بالتحدث مرة واحدة وبحق وبالنيابة عن – لا، ليس بالنيابة عن كل المهاجرين، وليس نيابة عن جمعة اسو (8)  Djamma Isu الذي شنق نفسه بحزامه قبل عام تقريباً في مدينة ايزنهوتن شتات  Eisenhüttenstadt في معسكر اللاجئين، لأنه كان سيتم ترحيله قسريا دون النظر بأسباب لجوئه الى البلد الثالث الآمن9، وليس نيابة عن ميهمت كوبازيك(9) kMehmet Kubasi والضحايا الآخرين للنازيين المتخفين تحت الأرض، والذين جرى التعامل معهم من السلطات وصحف البلد الكبيرة لعدة سنوات زعما بأنهم مجرمين وليس بالنيابة فقط عن مهاجر أو عائد يهودي كاد ان يشهد موت شعبه كله مما لا يستطيع التغلب عليه أبدا – بل بأسماء كثيرين، من ملايين البشر، وبأسماء العمال الضيوف والذين ما عادوا ضيوفاً، وبأسماء أولادهم وأحفادهم والذين نشأوا وهم يحملون بداهة ثقافتين وأخيراً جوازي سفر، وبأسماء زملائي الكتاب، الذين يعتبرون اللغة الألمانية هدية لهم، بالنيابة عن لاعبي كرة القدم، والذين سيقدمون كل ما عندهم في البرازيل من أجل ألمانيا، والذين لا يرددون غناء النشيد الوطني، وبأسماء أيضاً أولئك الذين لم يحرزوا نجاحات كبيرة هنا، ومحتاجي الرعاية وحتى المذنبين الذين رغم ذلك ينتمون أيضا إلى ألمانيا، باسم المسلمين والذين يتمتعون في ألمانيا بالحقوق، وإحساسنا بالخجل والحقوق تُمنع اليوم عن المسيحيين في كثير من الدول الإسلامية، وأيضا باسم والدي وأسرتي المهاجرة التي تعد اليوم 26 فرداً –أريد ان أقول وأنا انحني على الأقل رمزياً: شكراً ألمانيا.

 

هوامش

*. كلمة ألقيت في مبنى البرلمان الاتحادي الألماني في برلين بتاريخ 23/05/2014 في الاحتفالية بذكرى 65 عاماً على إعلان القانون الأساس الألماني.

**. نافيد كيرماني Navid Kermani ألماني من أصل إيراني ويحمل الجنسيتين، درس في كولون Köln والقاهرة وبون Bonn كاتب ومخرج وباحث في الدراسات الاِسلامية، حاز على عدة جوائز منها جائزة ارنست بلوخ Ernst Bloch التشجيعية عام 2000 وجائزة كلايست Kleist المميزة عام 2014 وعضو فاعل في منظمات ثقافية وأكاديمية عديدة منها الأكاديمية الألمانية للغة والشعر. تتركز أبحاثه الأكاديمية في القرآن والتصوف الإسلامي وهنا نشير إلى بحثه الهام "الله جميل" معايشة الجمال في القرآن. وهو أحد طلاب نصر حامد أبو زيد.

(1)فادية فضة باحثة في قضايا الهجرة والاندماج وعضو الهيئة الإدارية لمؤسسة ابن رشد للفكر الحر \ ألمانيا

(2)حامد فضل الله طبيب وناشط حقوقي وعضو الهيئة الاستشارية لمؤسسة ابن رشد للفكر الحر \ ألمانيا.

(3) تيودور هويس، (ولد 31 يناير 1884 في براكهايم ؛ توفي في 12 ديسمبر 1963 في شتوتغارت) صحفي ومتخصص بالعلوم السياسية وعمل ما يقرب من 60 عاما بالعمل السياسي الليبرالي النشط. مع تأسيس الحزب الديمقراطي الحر (FDP ) في عام 1948 وأصبح رئيسا له. وكان 1949-1959 أول رئيس لجمهورية ألمانيا الاتحادية.

(4)نسبة للقس الألماني مارتن لوثر(1483- 1546) المصلح الديني الكبير ومؤسس الكنيسة البروتستانتية.

(5)"إنحناءة وارسو: انحنى في 7 كانون الثاني/ ديسمبر من عام 1970 المستشار الألماني الأسبق فيلى براند (1913-1992) راكعاً أمام النصب التذكاري لضحايا النازية في مدينة وارسو، جاءت هذه الخطوة كجزء من سياسية التقارب مع أوروبا الشرقية التي قام بها براند وحكومته، واعتبرت هذه الانحناءة لفته رمزية مبدعة نظر اليها العالم كرمز قوي وفعال للتواضع وللاستغفار عن الجرائم الألمانية في الحرب العالمية الثانية (المترجم)

(6) غوتفريد افرايم ليسينغ(ولدفي 22 يناير 1729 كامينز، وتوفي في 15 فبراير 1781 فيبراونشفايغ) كان شاعرا هاما في التنوير الألماني. ركز في مسرحياته وكتاباته النظرية على ضرورة انتهاج المانيا الفكر المتسامح، قام هذا التنويري بالعمل على تطوير المسرح وما يزال تأثيرة الكبير ظاهراً الى اليوم على جمهور الأدب. ليسينغ هو أول كاتب مسرحي ألماني تم تنفيذ وعرض مسرحياته الى اليوم على خشبة المسرح.(المترجم)

(7) البلد الثالث الآمن " يستخدم هذا التعبير كمبرر قانوني لتسفير اللاجئين بعد توضيح الطرق التي وصلوا من خلالها إلى ألمانيا،في الوقت الذي وقعت الأخيرة اتفاقيات مع كل البلدان المحيطة بها لتحمل مسؤولية من يمروا عبرها إلى ألمانيا " (المترجم)

(8) جمعة آسو، لاجئ تشادي في العشرين من العمر قدم إلى ألمانيا في آذار 2013 عن طريق بولونيا ماراً بعدد من الدول، بعد ثلاثة أشهر أقدم على الانتحار في محل إقامته بسكن اللاجئين في ايزن هوتن شتات، يقول احد المرشدين الاجتماعيين الذين كانوا يتابعونه بأنه جرى إهمال وضعه النفسي وحال اليأس التي يعانيها مع فقدانه الأمل في إمكانية حصوله على حق الإقامة. (المترجم)

(9) ميهمت كوباسيك، تركي كان يمتلك محلاً صغيراً لبيع الصحف في شمال دورتموند. وجد مقتولا في محله في الرابع من نيسان 2006. تركزت تحريات البوليس الألماني حول الأتراك واحتمال التناحر والتنافس المافيوي بينهم وبحثت في هذا الاتجاه وقد غض النظر عن عدد من الخيوط التي ترتبط بهذه الجرائم وعطل التحقيق فيها مما حال دون الكشف المبكر عن تورط النازيين الجدد في هذه الجرائم. لكن تكرر جرائم القتل تجاه مهاجرين أتراك، وعلى مدى سنوات، وبعد البحث المتأخر بالخيوط المهملة أنيط اللثام أخيرا عن ارتباط هذه الجرائم بمجموعه من النازيين الجدد الذين عملوا على تصفية منهجية للمهاجرين لا سيما الأتراك منهم، من أصحاب المصالح التجارية الصغيرة،. تواطأت وسائل الإعلام في ألمانيا أيضا وسمت ما يحصل جرائم الدونر اذ اعتبرت ان مافيا تركية منافسه تقف خلف حوادث القتل (نسبة الى سلسلة المطاعم الشعبية التركية التي تبيع الدونر وعدد من الضحايا كانوا ممن يمتلكون محلات بيع الدونر). (المترجم)