يصور القاص المصري تفاصيل حياة ووجود إنسان فقير وعى السارد على وجوده وهو يجلس أمام بوابة عتيقة كانت مخزن يعود إلى عمته ويعني بالأطفال، ليس له أحد سوى أولاد عمته الذين يكسوه ويطعموه ومن خلال ما جرى لشخصية عبد من أحداث يرصد العنصرية الكامنة في مجتمعاتنا المتزمتة.

حكاية عبد

عيد اسطفانوس

وعبد هي اختصار للاسم الطويل (عبد الحميد أبو مرسي) وهو رجل داكن البشرة لا يعرف أحد على وجه اليقين- او نحن الصغار وقتها على الاقل- من أين جاء، وعدا بعض المقولات المتناثرة هنا وهناك عن نشأته وأصوله لم نكن نعرف شيئا غير أنه موجود كل يوم منذ الصباح الباكر جالسا على عتبة البوابة العتيقة  يدخن لفافات تبغ يعدها بنفسه من علبة من الصفيح الصدئ مادا ساقه المعطوبة موازية لعصا لا تفارقه أبدا، ولم يكن لـ (عبد) وظيفة محددة نعرفها في البيت سوى أن يهرع إليه الأطفال للاحتماء من عقاب أمهاتهم طيلة النهار.كانت كبرى شقبقات أبى  قد تزوجت  من ابن عمتها وهو أكبر أبناء غبربال أفندى الذي أشتهر بأنه الميكانيكي الأول والوحيد هو وأولاده على مدى منطقة تمتد أكثر من خمسين ميلا على جانبي النهر في أواسط الصعيد الأدنى، وكانت تلك المعدات من جرارات زراعية، ومحاريث، ورافعات مياه، ومولدات كهرباء، حديثة العهد في أربعينات القرن الماضي، وبالطبع ملاكها كانوا أعيان المنطقة وإقطاعييها، لبراعته وندرة مهنته حصد غبربال أفندي أموالا كثيرة، وفي المقابل كان مبذرا مسرفا وأشياء أخرى، وفي أواسط الخمسينات وافته المنية ولم يرث أولاده منه سوى المهنة والبيت القديم ومعهم (عبد) جالسا على البوابة العتيقة وبالطبع ورثوا لقب أولاد غبربال. جرت الأيام  وتناسل الأبناء الثلاثة وتوارثوا عملاء أبيهم من الأعيان على ضفتي النهر يتغيبون طيلة الأسبوع ويعودون مساء السبت حيث الموعد مع الحلاق وإزالة آثار أسبوع من الزيوت والشحوم وفي الصباح الكنيسة وبعدها الغذاء الاسبوعي الدسم  حيث يعتلي الجميع المصطبة الكبيرة حول الطبلية الواسعة، وكان عبد الحميد يتناول غداءه مكانه على عتبة الدار، تناوله عمتي  طبق الطبيخ به قطعة اللحم وبعض الأرز ويأكل الجميع ثم يتسامرون بما  فيهم عبد على صوت وابور الجاز بينما رائحة الشاي الأسود تعبق الأرجاء ، ثم يتفرقون كل إلى حجرته وتنسل خلفهم النساء لقضاء قيلولة الأحد، بينما يظل الأطفال يلعبون في حراسة عبد قابعا في مكانه الأثير على البوابة العتيقة مادا ساقه المعطوبة موازية لعصاه ويدخن لفافات التبغ التي يعدها بنفسه. في أواخر الخمسينات كانت الإقطاعيات الكبيرة قد تفتتت بعد الثورة، وركدت الأنشطة مما انعكس سلبا على دخل الأسرة ، وتشاور الأبناء في أشياء كثيرة، منها أن كل منهم يستقل بمعيشته، والأم مع الابن الأكبر كالعرف الساري، واتفق على موضوع عبد الحميد: بأن يتولى الابن الأكبر مسألة الإعاشة اليومية له، المأكل والمشرب، بينما الأخ الأوسط يتكفل  بالكسوة السنوية، جلباب من 'الكستور' في الشتاء وجلباب من 'الدمور' في الصيف، وصديري كل سنة مع غيارين داخليين، ويتولى الابن الأخير مصاريف التبغ والحلاقة، أما العيدية فيتقاسمها الثلاثة في المرتين الفطر والأضحى. قبل أن تستديم جلسة - عبد - على عتبة البوابة العتيقة كان دائم الخروج في العصاري ساعات يمشي متوكئا على عصاه ناحية النهر، وساعات ناحية دكان أحد معارفنا يتسامر حتى موعد الغروب، ثم يعود تعطيه عمتي عشاءه يليه كوب من الشاي ثم يشعل لفافة تبغ ويتوارى إلى احد الغرف الداخلية المهجورة ، ولم تختلف أي من تفاصيل هذه المنظومة سنين طوال حتى لاحظناه مرات يأتي مهموما، يرفض العشاء ويأوي إلى مكانه، ولم يستمر استغرابنا طويلا وعرفنا السبب، حيث كان يشيعه بعض الصبية بعبارات يعيرونه بعرجه، وأشياء أخرى لم نستوعبها يومها، لكنها ظلت مثار حديث وجدل وشد وجذب وبدأ تداول عبارة بدت غريبة على مسامعنا نحن الصغار وقتها وتدخل العمدة وشيخ البلد وجلسات صاخبة متوالية في 'المندرة' الخارجية .كانت تلك العبارة الغريبة (خدام النصارى ) هي القاسم المشترك في كل المناقشات  بعد أن هدأت العاصفة قليلا نصح زوج عمتي (عبد) بضرورة عدم الخروج كثيرا (هذه الأيام ) مدعيا الإشفاق عليه لعطب ساقه وضعف بصره، واستمع الرجل للنصيحة سريعا ومن يومها وكنا في أواسط السبعينات، اتخذ عبد موقعه على العتبة، مادا ساقه المعطوبة موازية لعصاه التي لا تفارقه أبدا، لكن مسحة من حزن مكتوم كانت قد كست وجهه منذ هذه الواقعة، وسرعان ما خلا موقعه على العتبة، فلم يعد يغادر مكان نومه تدخل له عمتي بوجبته حينا  يقبلها وأحيان  يرفضها حتى أصبح يرفضها باستمرار،ثم بدأ الارتباك واضحا على الجميع فالرجل بدا في مرحلة  النزع الأخير ويلزم له طقوس مغايرة يجب أن يتولاها أبناء جلدته.بالفعل وفي الصباح فاضت روح عبد الحميد ، اتشحت النساء بالسواد بسرعة، وعاد الرجال من أعمالهم على عجل، وانزوى الصغار في ركن يراقبون الأحداث. جلب الجيران الخشبة المستطيلة ذات الاذرع الاربعة من خلف المسجد العتيق، وتطوع جار عجوز بالغسل والتكفين، ووضعوه في الخشبة ولم ينسوا عصاه التي لم تفارقه أبدا، حملناه إلى المسجد الذي فوجئنا به مغلق على غير العادة وتطايرت الأخبار بسرعة، فقد رفض الإمام الصلاة عليه بحجج كثيرة قيلت وقتها، ولم نفهم في حينه ما يجري، إلا أنني لازلت أحتفظ بمشهد زوج عمتي يصيح بأعلى صوته أمام المسجد -وكان قد تجمع كثيرون-:إن لم تصلوا عليه الآن سوف ندفنه دون صلاة في مقابر الصدقة وعليكم سيقع ذنبه. سرت همهمات قطعها شيخ البلد الذي كان قد حضر للتو وأمر بفتح المسجد وأشار لأحد الواقفين ليؤم الصلاة التي لم تستغرق سوى دقائق ثم قذفوا الخشبة خارج المسجد وحملها الرجال مسرعين للدفن قبل المغيب سالكين أقصر الطرق لاختصار الوقت قبل المغيب لكن دونما سبب واضح، سلكت الجنازة طريق العودة إلى بيت غبربال أفندي، وأمام البوابة العتيقة التي طالما جلس على عتبتها، توقف النعش فجأة وأبى أن يتحرك - هكذا قيل- في مشهد غريب، وفهمنا بعدها ما معناه أن عبد الحميد- في نعشه- غير مسار الجنازة، ليكون طريقه الأخير من أمام بيت – غربال أفندي - وخرجت النساء يلوحن بمناديلهن السوداء، وخرج الأطفال والدموع في مآقيهم ، يلوحون بأيديهم الصغيرة لوداع عبد الحميد إلى الأبد، وأنطلق الرجل - بعد أن اطمأن لوداع الجميع- إلى مثواه الأخير، ومعه عصاه وأسرار كثيرة دفنت معه، وخلى موقع عبد على البوابة العتيقة وأشياء كثيرة تغيرت في قريتنا الهادئة، وكنا في أواخر السبعينات وأصبحنا نؤرخ بقبل وبعـــــــــــــــــد (رحيل عبد)