في مقاله يفكك الشاعر المرموق المحاورات والجدلات مع أدونيس، ويرى أن السجال لم يكن مع شاعر فحسب، إذ لا يحتمل الشعر وحده هذا السجال، بقدر ما هو سجال مع مفكّر حقبة من الثقافة الراهنة، لذا كانت خلاصة السجال من وجوه الجدل الثقافي العربي، ومن أكثر وجوهه تواتراً وصخباً.

النقاش الأدونيسي

عباس بيضون

يصح أن نقول في أدونيس إنه شاغل الناس، فالرجل منذ انخرط في الأدب والثقافة، وهو يخرج من معركة إلى معركة ومن خصومة إلى خصومة مع أوساط وتيارات ومدارس فكرية وأدبية، وحتى مع حكومات، رغم أن الرجل قلما يناوئ سلطة سياسية بعينها إلا أن ضلعاً سياسياً في كل خصومة تنشأ ضده. أدونيس ليس شاعراً مؤثراً وذائعاً فحسب، إنه إلى الشاعر يجمع تنظير الشعر، كما يجمع المفكّر وصاحب المواقف، وهذه جميعها لا تنجو من السياسة. أدونيس الشاعر والمفكّر والمنظّر، هو كل ذلك مجتمعاً في واحد. ذلك يمنحه حضوراً لافتاً بل أدونيس هو هذا الحضور المتعدّد المصادر والآفاق. في هذا الحضور الذي طغى على الثقافة العربية في بعض حقبها، كان سجال أدونيس حول التراث العربي والحداثة الشعرية والدين والثقافة العربية الراهنة، وهو سجال هجومي وإشكالي في آن معاً، يشكل عناوين بارزة في السجال العام، سرعان ما كانت تستفز العصبية القومية والدينية والتراثية فيتهم أدونيس بالشعوبية ومعاداة العرب والإسلام وتخريب الشعر العربي. هذه تهم قوامها سياسي رغم أنها بالدرجة نفسها ثقافية، إلا أن الركيزة الايديولوجية للخطاب القومي الديني، طالما اصطدمت بأطروحات أدونيس التي لم يكن مقلاً في طرحها واستدراج الخصومات عليها. وإذا شئنا أن نلخّص قلنا إن السجال مع أدونيس لم يكن سجالاً مع شاعر فحسب، إذ لا يحتمل الشعر وحده هذا السجال بقدر ما هو سجال مع مفكّر حقبة من الثقافة الراهنة، لذا كان هذا السجال من وجوه الجدل الثقافي العربي، ومن أكثر وجوهه تواتراً وصخباً.

الشعوبي، عدو العرب والإسلام، وبسبب ذلك عمد إلى تخريب الشعر وهو درة الأدب العربي وحامل الروح العربية وحافظها. هذا الخطاب الذي يختلط فيه الشعبوي بالايديولوجي بالدعوي والديماغوجي، يمكننا القول إنه الايديولوجيا السائدة التي تكرس أصناماً لفظية ونعرات شبه غريزية، لم يتجاهله أدونيس ولم يتعالَ عليه، بل عمد إلى مواجهته مباشرة واستفزازه مراراً، فكان بذلك مناضلاً. يختار ساحته وخصمه ولغته الهجومية والاستعدائية فيجرّ هكذا الخصم إلى موقعة عامرة عارمة، ويواجهه بلغة قطعية حاسمة، إن لم نقل استفزازية. لنقل إننا هكذا أمام خطاب شعبوي يحاصره الآخر في شعبويته ولا يمانع في أن يقلب عليه منطقه، ويصيبه من داخله. أدونيس المناضل لا ينفك يثير معارك حول الموضوعات نفسها، معاركه متوقعة الصدى والردود بل والهبوب، ينتقل بها أدونيس من مكان إلى آخر، أمكنة حساسة وغير حساسة، معبّأة وغير معبّأة. كأنه بذلك يذيع أفكاره ويثبتها ويغرسها غرساً ويقرّبها من المتناول.

لنعفّ عن هذا النقاش فهو ليس موجهاً إلينا. الخطاب الشعبوي الغريزي هو خطاب النعرة البعثية والأصوليات الدينية التي حاسبت أدونيس سياسياً، فحرم من دخول العراق والسعودية، وطرد من اتحاد الكتّاب العرب في دمشق، لكن تحت هذا النقاش نقاشاً آخر لا يثير معارك ولا يمر في معارك، إنه هامش نقاش أقلوي مشاركوه أفراد وأفراد فحسب.

«الثابت والمتحوّل» بأجزائه الثلاثة قد يكون رائداً في بابه. إنه من أمهات الكتب التي تتناول الثقافة العربية ككل، وتنسقها في مندرجات نظرية وفي سيستام يجتمع فيه الأدب إلى الدين إلى علم الكلام إلى الفلسفة إلى التصوّف. أضاء «الثابت والمتحول» على جوانب كانت مغمورة من التراث كبعض التجارب الصوفية، «النفري» على سبيل المثال، وعرض التراث لنقاش جديد واستخرج منه وعليه أسئلة مبتكرة. كان على هذا النحو يساهم في إحياء التراث وقراءته قراءة معاصرة، لا بد أن هذا وحده رد على التهم الشعبوية الموجّهة لأدونيس «الشعوبية بوجه خاص» إذ أن الذين وجهوا هذه التهم لم يخدموا التراث العربي بمقدار ما خدمه أدونيس، ولم يكن له علم بالتراث كالعلم الذي له، إلا أن نقاشاً آخر ومن وجهة أخرى، يأخذ على «الثابت والمتحول» منهجه. فهو في إدراج للثقافة العربية في خطين متضادين «ثابت ومتحول» كان، يدخل في مأزق منهجي هو ثنائية أطلق عليها البعض «مانوية» أي مقابلة بين متضادين. الثابت والمتحول ليسا أقنومين صافيين، في الثابت نقع على عنصر متحول أو عناصر متحولة أو في المتحول نقع على عنصر أو عناصر ثابتة، ثم إن بين الثابت والمتحول درجات من التراسل والتفاعل والتبادل. فالمتحول في تحولاته يغدو ثابتاً والثابت متحولاً، فليس الثبات والتحول أقنومين جوهرانيين. ليس لهما بهذا المعنى جوهر دائم، إنهما عرضان متحولان هما أيضاً. كان هذا نقداً للرؤية الأدونيسية يتهمها بالجوهرانية والثنائية، ويرى أنها من هذه الناحية تقع في ما تنتقده فهي إذ تصم الثقافة العربية بالثبات والصنمية تجعل من التحول والتغيير جوهراً وأقنوماً ثابتين.

لا يخفي أدونيس في نقده للثقافة العربية الراهنة اعتبارها متخلفة بل وشبه غائبة وغير موجودة، هذا رأي يصح ولا يصحّ، لكن ما يؤخذ على أدونيس انه لا يعرض لدوره في هذه الثقافة التي كان من أوائل روادها ومؤسسيها. لا يبدو اعتراض أدونيس على الثقافة العربية الراهنة نقداً ذاتياً بأي حال. إذ لا شك في أن أدونيس يكاد يخرج نفسه من الثقافة التي كان أحد بناتها الأساسيين. إنه يتبرأ منها ولا يعترف، على الأقل، بمسؤوليته فيها.

شيء آخر، كان أدونيس من أول دعاة الحداثة، حداثة الأدب وحداثة الفكر وكان له إسهامه البارز في المجالين، غير أن داعية الحداثة في الشعر ما لبث أن وجد أن الثقافة العربية والشعر العربي لم يفهما الحداثة، وكل ما فعلاه هو أنهما انتكسا إلى تقليدية، لا تقلّل منها الأشكال التي يتخذها الشعر (قصيدة النثر على سبيل المثال)، لا يقول لنا أدونيس إلا أن رؤيا وفلسفة هذه القصيدة تقليديتان، لا يهم هنا الشكل. لا يقول لنا أدونيس أي رؤيا وأي فكر تضطلع بهما الحداثة، وبالطبع يخرج نفسه من الانتكاس إلى التقليد. هنا نجد أنفسنا أمام حداثة جوهرانية أيضاً، حداثة مثالية لا يمكن بلوغها. وقد يكون الأثر الأدونيسي، في هذا السياق، مثالها العربي الوحيد. هكذا تغدو الحداثة طلسماً لا يفك سحره ولا يفتي فيه سوى أدونيس، كما يغدو سرها عنده، إنه المؤسس وله بهذه الصفة الحق في أن يتحقق من الحداثة، كما أن له ملء الحق في أن ينعاها، إذا لم يؤد الأبناء والأحفاد الرسالة كما وعاها هو ورسمها، أو ضلوا وانحرفوا واختلفوا عن نموذجها الأدونيسي.

 

(عن السفير)