يتناول الباحث العراقي المستويات المتعددة في إنتاج المعنى في المجموعة الشعرية "تزدادين سماءً وبساتين"، كما يستبين شعريتها، وكيفية استثمار الأسطورة فيها، والخصائص الفنية ذات الصلة بالقصيدة الأيقونية، التي ساهم بترسيخها جاك بريفير، وعددٌ آخر من الشعراء العالميين والعرب.

الأطراس الأسطورية في النص الأيقوني

قراءة في ديوان «تزدادين سماءً وبساتين» لموسى حوامدة

ناجح المعـموري

تثير المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر موسى حوامدة "تزدادين سماءً وبساتين" عدداً من الملاحظات الفنية، ذات الصلة بالتركيب الخاص بالقصيدة الأيقونية، أو ما يسمى أيضاً بقصيدة التوقيع، وسنحاول إضاءة هذه المجموعة، اعتماداً على عدد من نصوصها القصيرة. وأجد بأن ملاحظاتي تتمركز حصراً في الاستثمار الأسطوري، والخصائص الفنية لهذا النمط من الكتابة الشعرية التي ظلَّت حية منذ سنوات طويلة، من زمن الكتابة الشعرية هي زمن هذا الفن الصعب والمعقد، والذي ساهم بترسيخه جاك بريفير وعددٌ آخر من الشعراء العالميين والعرب.

استثمار الأسطورة في النص

العلاقة بين الشعر والأسطورة علاقة أزلية لأن المراحل الحضارية المبكرة جداً، عرفت الشعر وسيلة للخطاب التداولي اليومي، أي كان الشعر لغة الطقوس والشعائر السحرية، لأن المجتمعات القديمة، استطاعت حماية نفسها ضد النثر، كما قال هيغل. لذا فإن الأسطورة نص شعري، ويمثل الشعر مركزاً لها، والأسطورة محيطه الحيوي، ولهذا فإن العلاقة بين اللغة/ الشعر وبين الفن والدين علاقة متداخلة، ولا يمكن تأشير فاصل عزل بين الجميع كما قال كاسيرر، لأن اللغة/ الفن/ الدين كانوا معاً وسط حاضنة واحدة، حيث أصبح صعباً التفريق بين المسميات الثلاثة، ولكن بعد مضي فترة طويلة جداً، حصل عزل بسيط، وابتدأ ينمو كما قال كاسيرر، في سحرية الرموز، إلا أن حققت اللغة عزلاً لها، مثلما حصل للفن والدين، وباستقلال السحر والفن والأسطورة والطقوس، لم تستطع كلها التحرر من الشعرية التي عرفتها في المراحل الأولى المبكرة، لذا امتدت عميقاً ولم يستطع أحدهما التخلص من الثاني، وظلت الشعرية صفة كامنة والأسطورة مستمرة، في عمق اللغة، مانحة لها أخطر الموروثات التي حازت عليها اللغة من الأسطورة، وأعني به المجاز والذي ظل لحد الآن علامة مميزة للغة/ الشعر، وبدون المجاز والإستعارة والصورة، يفقد الشعر أهم عناصره وخصائصه الفنية المهمة. وتسلل الأسطورة إلى الشعر هو عودة إيجابية وطبيعية باتجاه اللغة وهو يمثل حنيناً لحاضنة حضارية قديمة جداً.

لذا ومن خلال اهتمامي بالخطابات الأسطورية، وكل ما له علاقة بالينابيع الأولى والأصول، أجد بأن الأسطورة متمركزة وتلعب دوراً سرياً ومخفياً في النص بشكل عام. لأن القصائد والطقوس –من خلال رموزها- استطونت في الذاكرة اللاواعية للجماعة –كما قال يونج- وتظل كامنة لفترات طويلة جداً. وتنهض في لحظة خارج الزمن السياقي/ الخطي، وبدون علم ودراية المبدع، ويتعامل معها تعاملاً فنياً، وتتجسد في النص الإبداعي، وسنحاول الإشارة إلى عدد من الرموز الأسطورية والشعائر السحرية التي استيقظت داخل النصوص الأيقونية، مع ضرورة ملاحظة تلك الرموز والعلامات الشعائرية التي انتجتها حاضنة الشرق الأدني القديم، وحصراً منطقة كنعان الجغرافية التي صاغت أهم الأساطير والقصائد، الخاصة بنظام الخصب وشعائر الإنبعاث والموات، ولأن مساحة لا توفر لنا فرصة سريعة تضيء المنطقة المخفية والمظلمة، حتى تسطع مساحة النصوص الأيقونية، وتمنح نفسها لذات أخرى، هي الذات المبدعة القادرة على قراءة النص بعيداً عن صفات القراءة الموضوعية كما قال هوسرل.

أهم الرموز والعلاقات التي تكررت في النصوص هي تلك المقترنة بنظام الخصب والإنبعاث، وبنسق الألوهة المؤنثة باعتبارها أصلاً حيوياً للدين، هذا النسق الذي صاغ أهم القصائد، وأمسك بالبواقي السحرية لزمن طويل جداً، وقدمت بعض الرموز باعتبارها شفرات أضاءت الإتصال الإدخالي/ الثنائي المقدس باعتباره وسيلة تعتمد عليها الحياة والألوان وانضباط الفصول بحركتها معاً.

إعلمي ان المطر العابر

يشبهني

ويشبهك الياسمين(ص131)

المطر من أكثر المتوزايات الرمزية صلة بالإنبعاث، وعلاقة مع الإتصال الإدخالي المقدس، وهو من الرموز النازلة، والقرين الأسطوري أو العنصر الأنثوي هو الياسيمن الرمز الأفقي/ الرغبة، وللمطر عناصر مهمة وكثيرة اقترن مع الذكورة والأنوثة في آن واحد، ولذا فقد اهتمت الدراسات الانثروبولوجية بالمطر/ الماء لأنه من عناصر لا بل من أهم عناصر الخصب، وعقائده، ويبدو لي بأن المطر من الرموز التي حازت على ثنائية الدلالة، وإنتاج المعنى، فهو رمز ذكري وأنثوي. واعتبرت بعض الدراسات المطر/ الماء أكثر ارتبطاً مع الأنثى مما هو عليه، مع الذكورة، باعتباره مرموزاً لها. لذا فإن المطر/ الماء هو مثنى الأنثى.

ويتناغم النص الشعري مع الرموز الشعرية، ليؤشر مدار التوقف والعقم/ العقر، باعتباره القطب الآخر، في نظام الخصب، أو هو الوجه الآخر والذي يتبدى في فصول الخريف والجفاف، ونص (تايتنك) مُجسدٌ للتعطل:

أيتها المرافئ لن آتي قريبا

أفتقد السارية التي تعانق الريح

أفتقر المجداف الذي يحتضن الموج

أنتظر العين التي تروم الطريق

البوصلة ضاعت

السفينة تاهتْ في الُلجَّةْ

قبطانها غفا

فوق صليبي

مَسَّته لعنة الفراعنة

وركابها ميتون.(ص139)

يشف النص المزدحم بالدلالة المُرحلة للمساحة المعتمة في الحياة، مساحة العقم والإنقطاع، وهي المدار الآخر للثنائية المعروفة في الحياة والأنظمة المعرفية التي صاغتها البنى الذهنية في الشرق الأدني القديم.

وسنحاول عزل الرموز الذكورية عن الأخرى الأنثوية، حتى يتجسد أمامنا العطل الحياتي والفلسفي؛

الرموز الذكورية: السارية/ المجذاف/ قبطانها/ الصليب/

الرموز الأنثوية: المرافئ/ الريح/ الموج/ العين/ الطريق/ البوصلة/ السفينة/

ويؤكد التوزيع الثنائي للرموز عمودية الرمز الذكري، وأفقية الرمز الأنثوي، وكلاهما يقدمان لسلطة القراءة توقفاً وتعطلاً واضحاً.

ومن الرموز التي تحولت إلى حاضنة فكرية للألوهة المؤنثة، ولدرجة كادت أغلب النصوص تشف عن الأنوثة الصاعدة، أو المعطلة حيناً على علامات دائماً ما تبدت من خلالها، وعبرها، سلطة الأنثى، وأهم تلك الرموز والعلامات: الحمام والذي كثيراً ما تردد في النصوص/ الزيتون/ الصفصاف/ الصدف/ المحار/ اللؤلؤ/ الفيروز/ الحقل.

الخصائص الفنية في النص

من الملاحظات الفنية التي يمكن الإشارة لها حول ديوان الشاعر موسى حوامدة، وهي ملاحظات تبدو منعزلة عن محيطها، وذلك لاختلاف النص الأيقوني، بعناصره الفنية عن غيره من الأنماط الشعرية، ولعل أهم تلك الملاحظات، إنشغال الشاعر موسى حوامدة بالتكرار الذي عرفته القصيدة العربية، ابتداء من نازك الملائكة والتي اعتبرته عنصراً فنياً مهماً داخل النص، واستعانت به أيضاً الشعرية الجديدة/ النثر، لأنه وسيلة توليد للإيقاع. لكني أجد بأن النص الأيقوني غير مهتم بالتكرار، لأنه يتحول إلى عبء ثقيل داخل النص، لأن النص الأيقوني اهتم بالاختزال والتركيز، فالتكرار يعاكس هذا ويمارس ثقيلاً في النص. وبالامكان تحقيق حرف لتكرار بسيط، حتى يوفر إنزياحاً، وهذا ما يمكن ملاحظته في نصوص:

إملاء

أُملي عليكِ ما يلي/

بالترتيب الذي ترتئينه/

وبالكلمات التي تختارينها:

إني أحبك

وأحبكِ أنتِ

وأنتِ حبيبتي

وحبيبتي أنتِ.(ص18)

* * *

وأنساك/

امنحيني قليلا

قليلا من الوقت

كي أموت قليلا

وأنساكِ.(ص23 وهيئت لك ص41)

* * *

وشفقة

أشفقُ عليكِ من يديكِ

أشفق عليك من نفسك

وأكرهكِ حتى الشفقةْ.

أُشفق عليك مني

أشفق مني عليك

وأحبُكِ حتى الشفقة.(ص52)

* * *

وانتظار

في انتظارِكِ

قضيتُ نصفَ عمري

ونصفه الآخر

قضيته .. إمعانا في انتظارك.(ص54)

لكن القراءة لا يمكن لها إلا الإشارة إلى نص ضجة (ص76)، والتنبه له، لأنه يمثل مداراً شعرياً مهماً وخطيراً، في طريقة الصياغة، واللعب على اللغة، واستثمارها في التكرار الذي تحدثنا عنه، وحقق الشاعر نموذجاً فريداً في هذه المجموعة:

لم يبق منكِ سواي

**

لم يبق مني سواكِ

**

لم يبق مني سواي.

كما تلاحظ القراءة الإنشغال بالقافية والتشاكل المورفولوجي الثقيل والذي ما عادت تهتم به الكتابة الحديثة. كما في نص تفاحة(ص43)، شتاء(ص50)، شفقة(ص52).

أخيراً أشعر بأن القراءة لم تستطع ملاحقة المستويات العديدة لهذه النصوص والإعلان عن التباين في إنتاج المعنى وترسيم المفهوم وربما تتاح لي فرصة قادمة للحديث عن هذه التجربة الشعرية الشابة.

(ناقد وباحث عراقي في الأساطير)