يعتمد الباحث العراقي على قراءة بعض أحدث تجارب الرواية العراقية التي ظهرت في السنوات الأخيرة سوسيوثقافيا، لأن تلك القراءة عنده تكشف عن اختلافها عما سبقها، وعن مضمرات الثقافة العراقية المعاصرة في آن. بصورة تعزز خصوصية الرواية العراقية الجديدة ونبرز ما تحمله من ارادة حقيقية للتجريب.

الأنساق الثقافية والتاريخية في الرواية العراقية المعاصرة

قراءة سوسيوثقافية

أمجـد نجم الزيـدي

من غير المفيد بتصوري ان نقتبس تعريفا جاهزا للثقافة وانساقها، ربما لا يحقق توافقاً تاما مع البنية الاجرائية التي نعتمدها في تحليل الظاهرة السوسيوثقافية في الرواية العراقية، لان (كل خطاب نقدي، مؤسس على قيم معينة ومنتزعة من مجال علمي محدد، لايمكنها ان تفرض على عمل ما –أو على كاتبه- إلا بصفة متعسفة)1، وفي هذا اقرار بإن الرواية او اي جنس ابداعي اخر يمتلك استقلالية خاصة، عن الطروحات السياقية او المناهج العلمية المقننة، حيث يمكننا اعتبار الرواية بحث – ان استعرنا توصيف ميشيل بوتور- وهو بحث مستقل يحمل بين تضاعيفه ما للرواية من استقلالية في بناها الفنية واشتراطاتها الكتابية كجنس أدبي صرف، خارج عن اي من المواضعات القياسية التي تضعها العلوم، وسياقاتها المنهجية، لذلك فقراءتنا هي محاولة لإكتشاف التصورات التي تحملها الرواية للبنية السوسيوثقافية للمجتمع العراقي، كما يراها روائيينا أوكما اظهرتها رواياتهم، وليس بناء وهم قائم على السياقات التي تمليها المناهج العلمية.

ولنأخذ للثقافة مفهوما اجرائيا متوائما مع ما نود طرحه ونترك تعريف الثقافة الذي نقصده يتبدى من خلال الارضية التي نضعها لإجرءاتنا وتحليلاتنا النقدية، من دون تحميل دراستنا ما يفرضه عليها التعريف العام والجاهز.

وصف عالما الانثربولوجيا الامريكيان كروبير (A.L.Kroeber) وكلوكهون (C.Kluckhohn) الثقافة بإنها «تتكون من نماذج ظاهرة وكامنة من السلوك المكتسب والمنتقل بواسطة الرموز، والتي تكون الانجاز المميز للجماعات الانسانية، والذي يظهر في شكل مصنوعات ومنتجات. أما قلب الثقافة فيتكون من الافكار التقليدية (المتكونة والمنتقاة تاريخياً) وبخاصة ما كان متصلا منها بالقيم. ويمكن ان نعد الانساق الثقافية نتاجا للفعل من ناحية، كما يمكن النظر بوصفها عوامل شرطية محددة لفعل مقبل.»2 وهذا التعريف ربما يقارب ما يراه غولدمان في «إن الفاعل الحقيقي في الابداع الثقافي هو الجماعات الاجتماعية لا الافراد المنعزلين»3، بمعنى ان الجماعة هي التي تنصهر فيها السمات الاجتماعية المميزة وانماط حياتها السوسيو ثقافية.

 وقد احصى هذين العالمين «ما لا يقل عن 160 تعريفا للثقافة قاما بفرزها على سبعة اصناف: وصفية وتاريخية وتقييمية وسيكولوجية وبنيوية وتكوينية، وجزئية غير كاملة»4، واعتقد ان هناك تعريفا جديدا للثقافة يأخذ العدد 161 في تسلسل احصاء كروبير وكلوكهون، وهو الناتج عن محصلة مجموع كل هذه التعاريف المئة والستون، وهذا يقودنا الى ان مفهوم الثقافة واسع وصعب الاحاطة به، لانه متغير ومتذبذب بين الذات والموضوع.

اعتمد كريستوفر جينز اربع معاني للثقافة، وكان اكثرها ارتباطا بالسوسيولوجيا هو الذي ينظر فيه الى الثقافة باعتبارها «اسلوب كامل في حياة الناس»5، هذه التعاريف ومنها تعريف جينز السابق؛ تنظر الى السلوك الانساني بانه فعل ثقافي، يظهر السمات الاجتماعية للجماعة الثقافية، حيث ان هذا السلوك هو فعل داخل حيز سوسيوثقافي يتبدى بتفاعلة مع مايؤثث هذا الحيز من اناس وامكنة وافكار، لان هذا التفاعل هو الذي يظهر لنا البنية الثقافية المضمرة، والتي لها خاصية إلزامية حسب اميل دوركايم، إذ ان المقاربة السوسيولوجية للثقافة «تعتبر ان النظم الاجتماعية ذات خاصية إلزامية تفرض نفسها على الافراد وتجبرهم على طاعتها، وهذه الخاصية مستمدة من المجتمع ممثلا في "العقل الجمعي»6، لذلك فإن اي فعل او تصرف للشخصية داخل الرواية خاضع الى اعتبارات هذا العقل ومحددا بأطره، وأي خروج عنها هو انحراف الى اطر اخرى غير تلك المعروفة سلفا، وهذا الخروج يأخذ ربما عدة اشكال منها ماهو خاضع الى ضرورة معينة حتمها عليها الواقع والظروف المحيطة، ومنها ماهو مقصود كتمرد على تلك الاطر وثورة على الاعراف الاجتماعية السائدة، إذ «إن انقياد السلوك الخارجي للنماذج والانماط السلوكية السائدة يرمز الى انتماء الشخص- الفاعل الى نظام معين من مراقب القيم، وأي انتماء الى القيم يرمز بدوره الى الانتساب الى المجتمع بعينه أو الى جماعة معينة.»7 فالحيز الذي تتفاعل فيه الشخصية يولد علاقات تبادلية بينهما –ان كان حيزاً اجتماعياً او ثقافياً او حتى مكانياً- من خلال التأثر والتأثير بتلك القيم، اي اسباغ هذه القيم عليه، من خلال ممارسة سلطة الوعي به، او الانقياد الى القيم التي يفرضها، بأعتباره ممثلا لسلطة اجتماعية وثقافية مهيمنة، وعملية التبادل هذه ربما تشير اليها الدراسات الحديثة المختصة بما يسمى الدراسات العبرثقافية او البينثقافية، والتي ترصد الاختلافات الثقافية بين المجتمعات، ليس من خلال اللغة فقط، وانما في الانماط الثقافية للسلوك الاجتماعي، حيث إن «هناك في العالم اليوم تحريفات هائلة في المعنى عندما يحاول البشر، ان يتواصلوا مع بعضهم البعض.»8 وهذا التواصل يكمن في الانعكاسات والاشارات الثقافية المضمرة، وفي الالية التي يتعامل بها طرفي عملية التواصل، لان اللغة محكومة بنظام لغوي مقنن، وخاضع لاشتراطات محددة سلفاً، مبنية على انساق تاريخية وثقافية، يمكن فهمها اسهل من الانساق المضمرة في بنية السلوك الانساني لثقافة معينة، والتي تلضم الحيز الذي تتعامل به الشخصية، او الافراد بلغة علماء الاجتماع، إذ «من المستحيل أن تفكر بالثقافة بدون لغة او مواد.»9 حيث يمثلان بوتقتين تنصهران فيهما كل مظاهر الثقافة ورموزها، ولفهم انماط السلوك الاجتماعي والسمات الثقافية لا يكتفى بأحدهما، بل ان احدهما يكمل الاخر، لان الانسان لا يتواصل فقط باللغة وانما هناك لغة اخرى (صامته) كما يسميها إدوار تي. هول.

* * *

كل فعل للشخصية الروائية هو واجهة اشارية او (موقف) اجتماعي يضمر مرجعيات ثقافية مهيمنة، تستبطن الفعل الثقافي المضمر، اي الفعل الثقافي الجمعي الذائب في ذلك الموقف، إذ «يعمد التحليل السوسيوثقافي الى تفكيك "الموقف" وإعادته الى جذوره من جهة، وتبيان آلية اشتغال العناصر الثقافية المتعددة وتفاعلها، والمفضية الى كشف العناصر المضمرة او المستورة»10، وذلك ربما يظهر من خلال النمط الثقافي المهيمن والمضمر في شخصية الزوجة الامريكية في رواية الروائي العراقي علي بدر (الركض وراء الذئاب)11، حيث غلب على رؤية الراوي التصور الذي يبنيه الخطاب الرسمي تجاه الآخر الامريكي، والواقع تحت هيمنة الرؤية النمطية للأخر الكولونيالي، من خلال كيفية تعاملها مع احداث الشرق الاوسط، اذ عندما تكثر الحروب والمشاكل في تلك المنطقة؛ تنتعش الحياة الاقتصادية للامريكي الذي لا يفكر سوى بتلك الرفاهية المتأتية منها، دون النظر الى الجانب الاخر أي الزوج العراقي، الذي تتقاسمه شخصيتان شخصية (باركر)، المحلل لقضايا الشرق الاوسط؛ المزيفة والوهمية، والشخصية العراقية الهاربة من مأسي هذا البلد ومنطقة الشرق الاوسط برمتها، اي تتنازعه حالتين بين الانتعاش الاقتصادي الذي تحققه له مهنته كمحلل، وخاصة عندما تكون منطقة الشرق الاوسط تحت الاستقطاب الاعلامي، بسبب الحروب والقتل والذي تتماهى معه زوجته وعائلته، وشخصيته الحقيقية التي يحاول تحجيمها ومحوها، لكنه خاضع لها بصورة مضمرة، والتي يواجهها بصورة متكررة بحكم عمله، «كلما تتفاقم الاحداث في الشرق الاوسط كثيرا، او كلما تتدهور الاوضاع السياسية هناك،حتى تبدأ زوجتي وعلى نحو مباشر بالتفكير في تغيير حياتنا وظروفنا وشروط معيشتنا، وتفكر بأنتقالنا الى منزل اخر. فهي تعرف - وهذا امر طبيعي- ان ثراءنا يعتمد على تفاقم الامور في هذه المنطقة، كلما كانت الامور اسوأ هناك كلما احتاجوني هنا أكثر، كلما صعد الغليان الشعبي والسياسي وانغمست البلاد في المشاكل والاضطرابات هناك كلما ربحت مالا اكثر.»12

 اما الروايات التي عالجت الوضع العراقي من الداخل، فتختلف في معالجاتها ونظرتها للخطاب الرسمي وغير الرسمي، كرواية (فرانكشتاين في بغداد)13 للروائي أحمد سعداوي حيث ان تأويل دلالات النص تقودنا الى إن العلاقات الاجتماعية مبنية على التعدد الذي يميز البيئة العراقية المتنوعة، وهذا التعدد يحكم فعل الشخصيات وموقفها تجاه الاحداث، كشخصية العجوز المسيحية ام دانيال وجاراتها او الصحفي الجنوبي الاصل الذي يريد ان ينخرط في مجتمع بغداد وطبقاته الصاعدة ماوراء 2003، وكذلك افعال (الشسمة)14 والذي اراد له الروائي ان يتحرر من تلك الموجهات من خلال مارسمه للشخصية منذ البداية وكتصور لمسخ فرانكشتاين العراقي الذي هو مجموعة من الاشلاء او الهويات المتشظية للهوية الاصل وهي الهوية العراقية المستهدف الاول من التدمير، ولكن وبصورة مضمرة لازالت تحكم هذه الشخصية/ اللاشخصية، العلاقات المؤطرة للسمات الثقافية، والتي تبدو من خلال افعالها وردود افعالها، وقد تبدو انها اشارات لحالة الدمج بين (الشسمة) وشخصية العتاك مخترعها، لانها مروية شفاهية مشفرة بالابعاد الثقافية للشخصية التي انتجتها داخل الرواية، بحيث ان مجموعة السمات الثقافية التي تظهر في الخطاب الظاهر لتلك العلاقات والتي تشكل النمط الثقافي الذي يميز كل فئة او هوية معينة، تصور في هذا الخطاب بأنها نمط ثقافي واحد، لكنه في الحقيقة انماط متعددة، مع ما حاول سعداوي ان يوجده من تقارب بين شخصياته، الا انها تصطدم بحالة الغياب المكاني والزماني للآخر في الخطاب المضمر، الذي ينتجه الفعل، والذي يعمل داخل حيز الثقافة، اي النمط الثقافي المحرك للشخصية وافق تفكيرها ومعالجتها لوجودها داخل الزمان والمكان، «كانت إيليشوا جالسة في سيارة الكيا مستغرقة مع نفسها وكأنها مصابة بالصمم أو غير موجودة ولم تسمع بالانفجار المهول الذي حصل خلفها على مسافة مئتي متر تقريبا. تتكوم بجسدها الضئيل في الكرسي بجوار النافذة، تنظر من دون أن ترى شيئاً، وتفكر بطعم فمها المر، وكتلة الظلام التي تكبس على صدرها منذ ايام.»15 حيث ان ذلك الخطاب المضمر يظهر لنا الانفعالية العالية والانغلاق الذي تحيط كل فئة اجتماعية وثقافية به نفسها، تعيش في اطار منغلق هو انتماءاتها وما تمليه هذه الانتماءات من محددات لانساق الفعل التي تتقاطع في بعض الاحيان. حيث ان رد فعل شخصية العجوز المسيحية ام دانيا وتقبلها للشسمه، لا ينبع من خطاب الامومة والتقارب الذي اوحت به الرواية بخطابها السطحي وانما من خلال حالة التشوش التي يصنعها ضعف البصر والذهان الذي سببه فقدان الابن، الذي هو حي بتصورها والذي تتقارب فيه مع الكثير من الامهات العراقيات اللائي خسرن ابنائهن في الحرب، الا ان هذا الفعل في الرواية يأخذ بعدا اخر، عندما نضعه في نسق الفعل التاريخي ككل، والمبني على ثلاث انساق اولها هو زمن موت الابن او استشهاده في الحرب ماقبل 2003، الثاني زمن تعويض ذلك الفقدان وهو في مابعد 2003 اما النسق الثالث فهو البنية الدلالية التي تحكم بناء شخصية هذا (الشسمه)، وتفاعل هذه الأنساق هي التي ستظهر الخطاب الثقافي الذي يحكم تلك العلاقة، فموت الابن/ النموذج الثقافي الفرعي كان بصورة فردية، ليكون البديل عنه ابنا/ نموذجا ثقافيا مشتركا، هو خليط من اموات الزمن الحاضر، المحدد والمرتبط بوعي ام دانيال المضبب، والواقع تحت الحاح تركه، من قبل الجماعة الفرعية الذي تنتمي اليها؛ كسر الرابط الافتراضي الذي بناه الروائي، فأصبح الامر ينحصر بين (الرؤية المضببة والذهانية للابن وضغط الجماعة/ الهوية الفرعية التي تعترف بالفقدان الاول)، وما يحجب هذه العلاقات ويبني ذلك الرابط الافتراضي هو ما يسميه بارسونز بـ"نسق الفعل" الذي يتكون من «العلاقات القائمة بين الفاعلين، وهذا النسق يركز على معايير وقيم، تشكل مع الفاعلين الاخرين جزءا من بيئة الفاعلين وبالتالي اذا مادخل الفاعل في تفاعل مع اخرين وحصل في ذلك التفاعل على الاشباع، فذلك مدعاة لتكرار التفاعل. وسيصل الامر بالفاعلين بعد حين الى ان يتوقعوا استجابات معينة من بعضهم البعض، وبذلك ستشكل بينهم قواعد ومعايير اجتماعية مع قيم متفق عليها، وتكون هذه القيم ضمانا لا ستمرار تلك الاستجابات.»16 وهذا ما يجعل تلك القواعد والمعايير الاجتماعية خطابا رسميا يحجر ويحجم الخطاب الغير رسمي المضمر، والذي يبني الانماط الثقافية والسمات الاجتماعية العامة، والتي يخضع اليها سعداوي في رسم العلاقة بين العجوز المسيحية و(الشسمة).

للمكان علاقة وثيقة بالثقافة ولكنها علاقة نسبية وليست راسخة، عكس ما تحاول الخطابات الرسمية ان تعززها، والتي يقع تحت هيمنتها الروائيون باعتبارهم ناقلين لهذه الثقافة او متمثلين لها، «فعلى الرغم من استمرار المجتمع في المكان نفسه، فان الثقافات تتوالى على مر السنين. وهذا ماحصل مع ثقافة الهنود الحمر وثقافة السكان الاصليين في استراليا، لكن بكيفية مختلفة، فقد جاء الغزاة والمستعمرون الاوربيون بثقافة متقدمة وفرضوها بالقوة.»17 ولكن ما يحكم تلك العلاقة وثبات تصوراتنا عنها، هو ما ترسمه الانماط العمودية التي تحكم مجتمع ما، حيث تميل ربما تلك الانماط الى مقدار من الثبات، وكما في المثال المقتبس عن ثقافة الهنود الحمر، حيث ان النمط العمومي لهذه الثقافة بقي وان كان وجودا صوريا، ولكن ما سرع ذلك التغيير هي الانماط الثقافية الفردية، التي سرعان ما كونت بتراكمها انماطا ثقافية عمومية18، ولكن بقي النمط الصوري لثقافة الهنود الحمر ذا امتداد معرفي وتاريخي، حيث من غير الممكن عد هذه الانماط الوافدة جزءا اصيلا في الثقافة، كما في الانماط الثقافية الفردية في مجتمعاتنا، والتي هي ليست من صلب ثقافتنا العمومية، وهذا يرتبط ايضاً بالتقنية الحديثة التي تتعامل بها مجتمعات معينة، ولكنها –اي هذه التقنيات- تنتمي الى ثقافة اخرى احدث، اذ لم تستطع احداث تغييرات في الانماط الثقافية العامة المتجذرة في بنية تلك المجتمعات، الا إنها حققت نوعا من التأثير على الانماط الفردية، حيث ان الانفتاح العولمي من خلال ثورة الاتصالات ومنها الانترنيت، لم تؤثر تأثيرا يذكر على نمط الانغلاق القبائلي في المجتمع الريفي العراقي مثلا، واي تغيير ربما يعتمد على الظروف الخالقة لتلك الثقافة، او «عندما تتغير ظروف الحياة فإن الاشكال التقليدية للثقافة تتوقف عن مد الانسان بالحد الادنى من الاشباع، لذلك فهي تستبعد او تظهر حاجات جديدة وتكيفات ثقافية جديدة، يعيش الانسان من خلاله.»19 لذلك فعلى الروائي عندما يتعامل مع بيئة اجتماعية او حيز ثقافي معين؛ ان يراعي تلك الخصوصيات الفرعية التي تخرج عن السياق الذي تخطه عموميات النمط او الانماط الاجتماعية، لانه بذلك يمسخ الروح الثقافية المتحكمة بتلك البيئة او ذلك الحيز، والذي يعطيها تميزها وخصوصيتها، والتي تأخذ دور المحرض الثقافي المضاف، دون اعتبارها وسيطا خاملا دلاليا وثقافيا، يتضافر مع محركات اخرى كالمكان اي الحيز المكاني الذي يلعب دورا كبيرا بكشف طبيعة البيئة الثقافية التي ترمي بثقلها على لاوعي الشخصية الروائية وتحدد حركتها، فالمكان هو الحاضن للحدث الروائي، وتفاعل الشخصية وردود افعالها تجاه المكان محكومة بنوعية الحدث إن كان ايجابيا او سلبيا، اي ان يكون للمكان فعل اجتماعي، كاشفا نمط معيشة الشخصيات والمرجعيات الثقافية التي تصنع هويتها المكانية، إذ «تختلف النظم الاجتماعية كما تختلف انماط الثقافة في مدى شمولها فهناك انماط تشمل جميع افراد المجتمع الواحد وتسمى العموميات Universal ... ومع ذلك فمن الناحية العملية لا تتمتع كل الانماط الثقافية بهذا الشمول وبخاصة في المجتمعات الحديثة، فهناك الكثير من الخصوصيات Specialties التي تشمل جماعة معينة داخل المجتمع الواحد، كما ان هناك بدائل Alternatives وهي عناصر ثقافية متعددة، للفرد حرية الاختيار بينها.»20

* * *

تحدث علي بدر في بداية روايته (الجريمة، الفن، وقاموس بغداد)21 عن الطائفة الخواجية22 وعلاقاتها السرية، والتي تحيلني من طرف خفي الى اجواء رواية (اسمي احمر) للروائي التركي اورهان باموك، مع الاختلاف الكبير بين الروايتين، بين الجريمة المخفية في رواية باموك، والتحريض المعلن على القتل في رواية علي بدر، لكن مدى التشابه ربما هو في العلاقات الباطنية للجماعات في زمن تاريخي قديم، بعيداً عن النظم الاجتماعية الحديثة، حيث كانت تغلب العلاقات المغلقة والباطنية لمجموعات ثقافية معينة، ومدى قربها او بعدها عن السلطة المحرك الرئيسي للصراع، وهذا التقارب ربما يحيلنا ايضا وبطريقة اقل مباشرة الى رواية (السيد اصغر اكبر)23 للروائي العراقي مرتضى كزار، عدا ان الاخير يبني روايته على علاقات مفتوحة أكثر من الروايتين السابقتين، ويرجع ذلك ربما لتمحورها حول شخصية واحدة، ومدى تفاعلها مع المكان الباني للصراع وعلاقته بنمو الشخصية وتطورها الدرامي والثقافي، عكس الروايتين اللتين اشرت اليهما، اذ انها مجموعات ثقافية مغلقة؛ وهذا الانغلاق هو الذي يبني صراعاتها ويوجهها.

إن الالية البنائية التي يتبعها علي بدر تبني جدارين كبيرين، وذلك لأنها اعتمدت على ما يعرف بما وراء السرد التاريخي، والذي يشككنا بمدى صدقية الحدث التاريخي، مما يجعلنا نصطدم بجدار مدى اهلية هذه الاحداث لعكس الثقافة والسمات الاجتماعية المهيمنة لذلك العصر وايضا نصطدم بجدار قوة الحجة التي من الممكن ان نضعها لاخذنا هذه الاحداث التي تبني الرواية على اعتبار انها نوع من تمظهر الذات الثقافية للكاتب، وجزء من مضمرات الهوية الثقافية له. ما الذي ستلعبه الهوية في رسم البناء الثقافي المتحكم في الرواية، اذا كان الاطار واحداً وثابتاً؟ سنرى ذلك ان دققنا في رواية (الجريمة ، الفن وقاموس بغداد)، والتي تبدو كأنها تحليل ضمني للفعل الجماعي، الذي يقود ويصنع الجماعات الطائفية، والهويات الفرعية، حيث ان التركيز كان منصباً كما هو الحال في بعض روايات علي بدر؛ على الطرح الهوياتي الذي يمور فيه المجتمع العراقي. وايضا رواية (السيد اصغر اكبر)، واللتان تشتركان بان لهما اطارا واحدا وهو التاريخ، ولكنهما تفترقان بان الهوية الثقافية لذلك التاريخ متعارضة، حيث ان التاريخ العباسي لمدينة بغداد جامع، وهذا ربما ما عكسه سفر الخواجة نصر الدين الى طبرستان بصورة غير مباشرة من خلال الامتداد السياسي والثقافي لبغداد عاصمة الخلافة، وايضا باعتبار ان الثقافة العباسية مشتركة لدى كل الدول والبلاد التي كانت تحت سيطرتها، لأنها منضوية داخل هذه الثقافة وهذا التاريخ بصورة او بأخرى، بعكس الرواية الاخرى التي تستند الى تاريخ جامع وبإطار عام، وهو تاريخ الدولة العثمانية، ولكنه مع ذلك خاص لأنها محصورة بمدينة النجف التي ترتبط ثقافيا وتاريخيا بهوية فرعية خاصة، أي ان التاريخ لم يستطع ان يفرض هويته الجامعة مع ان كلا الروايتين اجتمعتا على ان التاريخ جامع، الا انهما افترقتا بكونهما استغلتا هويتين ثقافيتين مختلفتين، الاولى جامعة والثانية فرعية خاصة.

فبإمكاننا تطويع الاولى والبحث عن الخصائص الفردية للثقافة العراقية الخاصة، فإذا كان التاريخ جامع فالحاضر خاص وفردي، لذلك فربما البحث عن الاسقاطات داخل الرواية مع الحاضر الثقافي العراقي الخاص، ربما سيعطينا نسقا قرائيا يحدد لنا السمات الثقافية المضمرة في السدى الروائي، والتي ربما ستصطدم بالنمطية التي تسيطر على الخطابات الرسمية التي تهيمن على ثقافتنا وخاصة عند تعاملنا مع التاريخ، فطرح الرواية ان كان يعتمد على هذا الخطاب الرسمي؛ ربما يبتعد بنا عن الخصوصية التي نبحث عنها ولكننا سنجدها ان بحثنا بالمضمر او الخطاب غير الرسمي.

واعتقد من غير المجدي ان نبحث في هذا الخطاب ونحاول ان نجمل اسقاطاته الثقافية، لان خطابه رسمي نمطي يعتمد على اطر عامة، لذلك سندع الربط المباشر للانساق الثقافية المضمرة داخل هذا الخطاب وخطاب الرواية العام؛ يتكشف من خلال الاشارات التي سنجملها عنه، والتي ستظهر الانساق والسمات المنضوية في خطاب الروايات التي سنحللها، فربما لا يمتلك هذا الخطاب اي خصوصية ثقافية فردية، في رواية (الجريمة، الفن، وقاموس بغداد) لان تأثير الفعل الفردي للشخصية الروائية الخاضعة لهيمنة الجماعة المقدسة، وهي هنا الطائفة الخواجية، محكوم بالأطر الثقافية التي تبنيها تلك الطائفة، «تذكرت الخواجة الواسطي وهو يحدث والدي فيقول: "ما كان يجعلني متمزقا على الدوام، هو شعوري بإن الفن عمل فردي، لا تصنعه إلا روح مستقلة، وان الانخراط في جماعات وشيع وطوائف يهدم هذا الفن ويحرمه من حريته، ومن هنا كان ترددي، كنت اخشى على فرديتي واستقلالي ايضا»24، بينما الافعال الفردية للشخصية غير الخاضعة لتلك الجماعة، تخضع لمحددات نسقية تبنيها هي لنفسها كما العلاقة التفاعلية بين الشخصيات الرئيسية -خنصر علي مثلا- في رواية (السيد اصغر اكبر) والمكان المهيمن الثقافي، وتكون تلك المحددات النسقية هي التي تعطي للشخصية السمات الثقافية التي تتعامل وفقها مع المحيط.

ولكن من غير المنصف ان نضع كل الاشارات التي يوردها الروائي داخل المتن في خانة الخطابات الرسمية النمطية، اذ ان هناك مسارات ثابتة لبعض المظاهر الثقافية، وهي راسخة برسوخ تلك المظاهر، كالجماعات السرية والطوائف عبر التاريخ، حتى اننا يمكن ان نجد بعض السمات المشتركة بينها، والتي تخلق تلك المسارات الثابته، كالاسطرة التي تحيط الجماعات بها انفسها وبرموزها، من خلال الكرامات والمعاجز «حين كنت حدثا، وفي سني عمري الاولى في التنظيم، كنت معجبا جدا بهولاء الخواجات، وكنت اتوهم ان موت أحدهم سيصيب العالم كله بالخراب، بل كنت اظن ان قتل احدهم سيجعل اسراب الصقور تفز من مكامنها، وجوقات الزرازير تنطلق من اعشاشها في الصخور المحفورة وهي تصيح»25؛ وايضا المشهد الذي يصور التحاق الخواجة نصر الدين بالجماعة ومعسكرهم في الصحراء وخروجه من بغداد «خرجت من باب السلطان، احدى بوابات بغداد الكبيرة، هناك كان في استقبالي دليلي وهو من فتيان الطائفة، وابن احد خواجات بغداد الكبار، وبعد ان اعطيته كلمة السر تحركنا على جوادينا، وبعد اقل من ساعة حدث شيء غريب، كأن شيئا اشبه بالومض قد اضاء لنا بغداد من بعيد، واضاء لنا ومض مشع اخر اطول من سابقه، امتداد الصحراء الشاسعة، بعد ان ضرب بنوره المخيف كثبان الرمل امامنا»26 بيد ان الوعي المغاير وكسر تلك الانماط من التفكير المقولب، تنتج من خلال الاصطدام بهذه الاعراف وهذه الانماط من التفكير والسلوك، ويتشكل وعي اخر بالذات داخل الجماعة او الطائفة «فبعد ان اقتل الخواجة سنان سيتحول وجهي الى وجه اخر، سيتحول وجهي الى وجه سميك بقناع صلب، وجه رجل طائفي، جد متحمس ومتعصب»27، وهنا قد يبدو غريباً تردد الخواجة نصر الدين في قتل الخواجة سنان، وهو الذي قبل بهذا العمل ارضاءاً للطائفة وقادتها، لان تردده مرتبط بتكشف وعيه تجاه هذه الطائفة، وهنا قد يبدو وعياً متقدماً عن الوعي الدوغمائي الذي يسيطر على افراد طائفة معينة، وخاصة إن الامر صادر من كبارها، الذين يتمتعون بهالة قدسية، وينظر الى الامر الذي يصدر منهم، بإنه امر مفروغ منه ومقدس، ويبرر همجية ذلك الفعل، ويقلب سوءه الظاهر الى خير باطن، وايضا نظرة الخواجة نصر الدين لنفسه «كنت ادرك، ثم بعد، اني سأكون حامل الرسالة السرية، بعد ان حملها عظام البشرية، وضحو من اجلها، وكان علي ان اعد نفسي لهذه الرسالة العظيمة»28، وهذا الوعي المغاير سيغير بالتالي نمط اخر هو ناتج عن القدسية التي اضفاها اعضاء الطائفة على طائفتهم.

تسعى الرواية ربما الى ايجاد اجابات بشأن كيفية تنظيم الحركات الباطنية، وماهي السمات الثقافية التي تميزها، والتي تتحكم بتصرفات ابناء هذه الجماعات، وبناء الوعي الايديولوجي لهم، وديماغوجية شعاراتهم، واهدافها والقدرة التبريرية التي يتمكن منها قادة ورؤساء تلك الجماعات «لقد تكلم معي طويلا، ظهيرة ذلك اليوم، ومن خلفه استبانت لي اشرعة الزوارق البيض وهي تعبر دجلة، كان هذا المشهد رائعا ومتناسقاً مع كلام الحكيم الذي كان يستخدم الفاظه بعناية كبيرة، (...) يستخدم عدته كاملة ليكون المثال الاعلى في الجدارة والتماس الحب، والذي كاد يضيع ضياعا تاماً بعد مقتل الخواجة عماد الدين بن ريحان النقاش مؤسس الفرقة ومبتكر النظام»29.

يلعب الوصف دورا ايديولوجيا، وذلك من خلال الصفات التي نسبغها على شخصية معينة والتي تظهر ميولنا تجاهها، وموقفنا منها او في كيفية تصوير الاخر المخالف، اذ تميل هذه الطوائف والجماعات الى الهجوم على معارضيهم او مخالفيهم بوصفهم بأقذع الصفات والحط منهم «هذا القاموس لم تخترعه الفرقة الخواجية ابداً، كما زعم القاضي عبد الرحمن بن ابي عبيدة السراء، ولا كما زعم المحرفون، والدجالون والموسوسون، انما هو موجود من زمن بعيد جدا»30، او وصف الخواجة نصر الدين لأحد الشيوخ الذي تكلم بالسوء عن الطائفة الخواجية «توقف بعض السابلة عند مجزرتها الوسخة الكائنة وسط الساحة المقابلة للجامع، حيث جزارها القبيح برائحته العطنة يذبح جدّي ويترك نصفة لشيخ الجامع والنصف الاخر يبيعه بثمن باهض للناس، وقد نادى الامام المؤمنين لإداء الصلاة، وسمعته وهو يحذر الناس من الطائفة الخواجية، ويتوعدهم بالموت والهلاك.»31 اذ ان فساد امام الجامع بعلاقته بالجزار القبيح، تفسد اقواله تجاه الطائفة، حيث ان الفاسد لا ينتج الا فساداً.

 ان ما اراده الخواجة سنان من كسر القاعدة العامة، التي بنيت عليها الجماعة/ الطائفة وهي السرية، عرضه للتصفية، مع الصورة التي ينظرون بها اليه، إذ ان النواميس التي قامت عليها الجماعة/ الطائفة تعتبر اهم واقدس من الاشخاص، إن علا او هبط شأنهم داخل تلك الجماعة، وهذا التغيير في تلك النواميس يرتبط دائما عند ابناء الطائفة بخراب العالم، وتدهور الاوضاع، لانهم يعتقدون ان المركز الذي يبنى عليه الكون برمته ليس سوى مجتمعهم الذي يعيشون فيه «لقد كانت طائفتنا ضحية فتنة سياسية كبيرة، اثارتها دعوات الخواجة سنان العلنية، ذلك ان اعلاننا عن قاموس بغداد وتهديم عنصر اساس من عناصر تشكيل طائفتنا وهي الاسرار استفز جهات عديدة، وقد تزامن صراعنا المأساوي هذا مع تهديد خلافتنا العالمية، وتعرض بغداد الى تهديد اكبر»32.

أما الانتماء الى الطائفة فيصطدم بمحاولة اكتشاف المغزى من ذلك الانتماء والذي يأخذ مسارين مشتقين من الخطاب الرسمي الذي يبني مفهوم الطائفة، الاول العلاقة المفترضة بين الطائفة كبناء روائي وارتباطها بالبنية السوسيوثقافية للزمن الحاضر، والثاني العلاقة القائمة اصلا في العمل الروائي بين شخصيات الرواية وطوائفها وانتماءاتها، وهذا ربما يبرز من خلال رغبة الانسان بالانتماء الى جهة ما، تحقق له الاشباع المعنوي، من خلال البحث عن معنى لحياته ووجوده «انا لم اقدم هنا من اجل نفسي فقط، انما من اجل الحياة المحيطة بي، مثلما يكتسب الحديد الصدأ، شعرت بها ذات مغزى بعد ان كانت باطلة وعقيمة ومن دون ماهية»33 وبالحقيقة تواجهنا صعوبة في اكتشاف مرامي الروائي من خلال ما يسرده، عندما لا نجد العلاقات المفترضة للمسارين الذين وضعناهما لمغزى الانتماء، والتي من الممكن ان يبثها النص في طريق محاولة اكتشاف البنية الثقافية والتاريخية، المحركة للحدث الروائي، حيث تبدو هذه الطائفة او الجماعة انها تشير الى النخبة المثقفة وما تصنعه من تغييرات تاريخية، أو ربما يقودنا الى استنتاج ان هذه الطائفة السرية بكل هيكليتها تحيل الى الجماعات الدينية الراديكالية، وكيف تتكون، وكيف تبني مفاهيمها من خلال اعتبار انها تحمل رسالة تغيير، قائمة على اسس دينية تنظر الى نواتج المدنية كملوثات لطبيعة الانسان وطهرانيته.

اذ تمثل حياة المدينة حياة اللهو، وحياة الصحراء والانعزال حياة الصفاء والنقاء «لقد جئت هاربا من ظل الخدر الذي كنت اعيش فيه مع عائلتي في محلة الحربية. وكنت سعيدا لاني فارقت حياة المدنية اللاهية المتبطلة، لا عيش بين مجموعة من الشباب كانت الصحراء موضعهم الأليف الذي يشدهم، وهم من جانبهم قد ابتعدوا منذ زمن بعيد عن اللهو والعبث، وماكانوا يرومون زيارة المدينة بسبب صفاء ارواحهم وخشية تلويثها.»34 وقد تبدو هذه رؤية بدوية تقليدية ترى بالصحراء رمزا للصفاء والنقاء عكس المدن التي ترمز للشرور واللهو والتلوث الاخلاقي، وهذا ما يتوائم مع توصيف الطوائف والجماعات المنغلقة التي تسير في طريق التمترس العقائدي والبنية العسكراتارية لها، ولكن هناك الكثير من المواضع وخاصة المتعلقة بالقضايا الثقافية؛ توحي بانفتاح هذه الجماعة، ونبل مقاصدها، وايضا الاشارات المتكررة لدستور هذه الطائفة، وهو قاموس بغداد، اذ ان من بنى بغداد -حسب قاموسهم- وصنع تاريخها الحضاري؛ ليس الحكام والسلاطين العباسيين، وانما الخواجات (المثقفين)، الذين كانوا يهتمون بالعمارة والبناء والفلسفة والموسيقى وغيرها من الفنون والمعارف، وهم الذين يمنعونها من الخراب، رغم سيطرة النظرة الطبقية النمطية التي تعلي من شأن الاثرياء وابنائهم، على اعتبار انهم افضل تربية وتعليما وتثقيفا، وهم من عليهم التعويل في استمرار الحياة للطائفة/ الجماعة.

«وقد استمدت طائفتنا عظمتها من هؤلاء الفتيان. فلا يمكن للعين ان تخطئهم، فإنهم وان كانوا من شبان المدينة الاثرياء إلا انهم ليسوا من الفاسدين الذين يمضون الوقت بخيالاتهم المتعطلة التي تطفو على حياة ابناء الاثرياء والاسر الموسرة.»35 ولكن هناك اشارة اخرى مختلفة تتهم الطبقة الموسرة من التجار انها بعيدة عن الشأن العام، عندما يتحدث الراوي عن الخواجة سنان وعائلته «وليس غريبا ان ينخرط احد شبابهم وممن يتمتعون بالعلم والمعرفة في سلك الطائفة او الانخراط في تنظيماتها، مع ان عائلات التجار المنغمسين في اللهو والمتعة نادرا ما كانوا يشتركون في قضايا الشأن العام.»36 وربما هذا ما يولد لدينا انطباعا بإن الفن والمعرفة التي كانت تمثلها الطائفة، اخرجت الخواجة سنان من حيز طائفته لتدخله في الفضاء الانساني العام، لكن ما يشككنا بهذه الرؤية؛ هو الموقف المناقض من الخواجه عباس والذي ينتمي بأصله على طبقة الفقراء، ولكنه يأخذ موقفاً من طبقته وينظر الى الفقراء بدونية وتعالي، حيث كان فتاً فارسيا بدون نسب «وكانت له رغبة عارمة في الانخراط في حياة بغداد، وعيشها كمدينة مثالية على طريقته، اي مدينة معرفة وعلم وفلسفة، مدينة المدارس الاسرارية والحركات والطوائف الجديدة والنزعات التي لايمكن ان يعثر عليها في الريف الذي قدم منه.»37

وهذا ينقض البناء او الرؤية التي فسرنا بها موقف الخواجه سنان تجاه تعاليم الطائفة، واشاعة مبادئها في قاموس بغداد، على العامة والخاصة بدون استثناء، وربما هذا يقودنا الى استنتاج ان العمل المعرفي والثقافي وتأثيراتها على بنية الشخصية وعلاقتها بمجتمعها؛ هو تأثير فردي وذاتي يختلف من شخص لأخر، دون تأثير من اي جماعة كانت، اي ان الطائفة او الجماعة التي ينتمي اليها الشخص لا تشكل مفاهيمه ومواقفه تجاه الحياة والمجتمع، إلا ذلك الدوغمائي الخاضع السلبي لهيمنة الجماعة او الطائفة وتوجهاتها. وهناك ايضا تأكيد داخل الجماعة على التقسيم الذي ينظر الى هناك نمطين من المعرفة والثقافة؛ هما اولا الموجه للعامة وهو محدد بمحدودية مدراكهم، حتى لا يسيئوا استخدام هذه المعارف، وثانيا الموجه الى الخاصة او النخبة، وهم اعضاء الطائفة الخواجية، الذين يتعاملون بالمواضيع الفلسفية والعلمية والفنية، التي لا يفهمها عامة الناس، «ان العديد من هذه المدارس السرانية، قد خلطت الخرافة والشعوذة بتعاليمها في احيان كثيرة، والسبب هو تعميم هذه المعارف واشاعتها على الناس، فالمعرفة يجب ان تكون مقصورة وسرانية، وتظل محفوظة وماثلة في مدارس رمزية تقدم تجربة لعدد محدودين من الناس، وتبقى المعرفة مقصورة عليهم.»38

وبطبيعة الحال تكون هذه الجماعة او الطائفة على الطرف المعارض للحكام الذين يحاولون ان يقفوا على سر وجودهم وهو هنا في الرواية قاموس بغداد «ان الفكرة الاساسية لجمع هذا القاموس هي حفظ بغداد من الزوال، وجعلها سلطانة العالم على الدوام، وقد اقر الخواجات ان هذه النصوص هي التي تبقيها المدينة الاولى أبد الدهر»39 لذلك فان عمل هذه الطائفة او النخبة المثقفة او الخواجات «يثبت ان المدينة الفاضلة هي مدينة ممكنة، وان البناء هو البديل عن عتمة هذا العالم، والامل في مواجهة اليأس، والنفي المطلق لتضخيم الكراهية، ونتائج الخراب، ونهاية للضغينة والتعصب»40 وهي المدينة الفاضلة التي سيرثها العباد الصالحون، تناصاً مع الاية القرآنية " وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ"41. وقاموس بغداد هذا قائم على مجموعة من المصادر الفلسفية ومنها المدينة الفاضلة للفيلسوف العربي الفارابي، ورسائل اخوان الصفا، ونظرية الفيض الالهي للافلاطونية الجديدة عند افلوطين، وهذا ربما اوقع الروائي من حيث لا يدري في هوة عدم الاتساق في البنية الاجتماعية وانماطها، للجماعات السرية والطوائف، لان هناك الكثير من التناقضات والتشظي في بناء العلاقات والمفاهيم، التي تبنيها، ومثال على ذلك التذبذب في القرب من الدين والابتعاد عنه، كما في ص164 اذ نرى الخواجة نصر الدين ومعلمه في مدرسة الحكمة في طبرستان الخواجة ابو يعقوب السمرقندي يحتسيان الخمر في (خمارة الفلاسفة والظرفاء) التي شيدها السمرقندي.

وهذا ما يشوش علينا قراءتنا لرؤية الروائي لهذه الطائفة، اذا اعتبرنا ان من مسلمات تكوين الطوائف والجماعات السرية في ذلك الوقت اي العصر العباسي قائمة بالأساس على افكار دينية42، حتى لو افترضنا بإن الروائي لا ينصاع الى هذه المسلمة التاريخية والتي قد اجزناها له سابقا عندما اعتبرنا ان الرواية لا تخضع الى السياقات الوضعية للتاريخ او غيرها، وما قام به من تلميح في ص178 الى ان تعاليم هذه الطائفة مفصولة عن الدين وسيطرة الجامع، عندما تكلم عن مدرسة الحكمة في طبرستان والتي تلقى فيها الخواجة نصر الدين تعاليم الطائفة واعد ليكون خواجة «ان المدرسة كانت مفصولة عن الجامع بمسافة شارع تقريبا، وهذه المرة الاولى التي اجد فيها مدرسة مفصولة عن المسجد، فسألت اسود عن ذلك، قال لي:- نعم، هو كذلك، والمدارس الكبيرة بشكل عام مثل نظامية نيسابور، او نظامية بغداد، او المدرسة المستنصرية مدارس علم مستقلة، اما الجامع فهو ملحق بها لعبادة الله، ولا يسيطر الجامع او شيوخه او فقهاؤه على المدرسة مطلقا.»43

لكنها مع ذلك ستقوض الكثير من المفاهيم التي استندت عليها هذه الطائفة، منها ما هو في السلوك ومنها ماهو في الاطر العامة لبناء المفاهيم، حيث يفقد القارئ الايقاع السوسيوثقافي و المفاهيم العامة التي تبني هذه الطائفة، اذ انها تبنى على رسائل اخوان الصفا؛ وهي كما معروف طائفة دينية حاولت التوفيق بين الفلسفة والعلوم والدين44، إذ «اتفق اخوان الصفا مع الفارابي والاسماعيليين في نقطة الأصل السماوي لانفس وعودتها الى الله وكانت فكرتهم عن منشأ الكون يبدأ من الله ثم الى العقل ثم الى النفس ثم الى المادة الاولى ثم الاجسام والافلاك والعناصر والمعادن والنبات والحيوان.»45 لن اخوض في مدى مطابقة الرواية لرسائل اخوان الصفا، والمرجعيات التي اشار اليها الروائي في بناء روايته وثيمتها، فليس الغرض من دراستي هو مدى تمثل الرواية لأطروحة اخوان الصفا، ورؤاهم الفلسفية، ولكن اهتمامي ينصب على محاولة الكشف عن البنية الاساسية السوسيوثقافية؛ التي بنيت عليها الرواية، بالمقابل مع الزمن المهيمن في النص والعلاقة بين التاريخ والحاضر.

عدد رسائل اخوان الصفا (52) وسميت الرسالة الاخيرة بـ(الرسالة الجامعة)، الا ان الروائي في (الجريمة، الفن وقاموس بغداد) قد اضاف اليها رسالة جديدة هي الـ(53) التي وضع فيها فقرتين؛ الاولى تخص مدينة بغداد كمدينة فاضلة، اما الفقرة الاخرى فهي عن الانسان الكامل46، وهم الخواجات اصحاب العلم والمعرفة «أما مشروع الطائفة العملي، فهو تحويل بغداد الى مدينة فاضلة، وتحويل سكانها الى خواجات في العلم والعمل والفكر والاخلاق، وهذا لن يتم الا عبر تشريع الحرية وسبل نشرها.»47 وهذا يقودنا الى ان علي بدر قد اعاد تحبيك تاريخ تلك الرسائل بأن اضاف لها رسالة جديدة، هي الاطروحة التي تتبناها الرواية وهي كما يبدو اطروحة سياسية وايدلوجية، متناقضة مع الرسائل الـ(52) لإخوان الصفا، التي ركزت على الجوانب الفلسفية والعملية وعلاقتها بالدين، ربما بعكس الجماعات السرية الاخرى والتي تبنت المعارضة السياسية كالخوارج والقرامطة وغيرهم.

إن البناء الافتراضي للتاريخ في روايات مابعد الحداثة، وهذا ما استفاد منه علي بدر، هو ليس بناء تاريخ مرادف للتاريخ الاصلي، وانما التشكيك في حبكته من ناحية اجرائية، اي بمعنى افتراض حبكة، بالاستفادة من الكثير من المعطيات والتي ربما لا توفرها الواقعة التاريخية الحقيقية، او الاطار التاريخي الزمني لتلك الفترة، مثل استخدام الطائفة الخواجية في زمن الخلافة العباسية، والهدف باعتقادي هو اضافة بعد جديد لتحليل الابعاد الاخرى، وكشف مضمراتها، اذ ان اضافة تلك الطائفة في رواية (الجريمة، الفن وقاموس بغداد)، كشفت عن العلاقة بين النخبة الثقافية صناع الفن والمعرفة والسلطة التي تتحكم بها طبقة اخرى معادية لهذه النخبة وهي التي يطلق عليها (وعاض السلاطين)، حيث يبرز من خلال ذلك الصراع هيكيلية فعل التاريخ وتأثيره على البنية الاجتماعية لمدينة بغداد وتاريخها السياسي، لتصبح تلك المكتشفات هي مجسات لفحص البنية الاجتماعية والثقافية والتاريخية المضمرة في حركية الزمن الحاضر، وتداعياته الاجتماعية والثقافية والسياسية.

وربما هو افتراض لتلك المفاهيم المهيمنة، والصانعة لحركة التاريخ، اذ بينما كانت الدعوة في هذه الرواية الى النظر الى بغداد بأنها مدينة فاضلة، او يوتوبيا مدينة، كانت الدعوة في رواية (صخب ونساء وكاتب مغمور)48 -والتي قد سبقت بالصدور رواية (الجريمة، الفن، وقاموس بغداد)- الى الهروب من هذه المدينة الحديثة المسحوقة والمحاصرة، اذا كان قاموس بغداد في الرواية السابقة الكتاب المقدس للطائفة الخواجية هو الذي يحفظ بغداد من الزوال –كما اشرنا سابقا-، فلا وجود لهذا القاموس في مدينة (صخب ونساء وكاتب مغمور)، ولكن لو تساءلنا أي مدينة يحفظ هذا القاموس؟ هل هي المكان، العمارة، الوجود الفيزيائي، ام المثال الرمز، الانتماء للصورة المخيالية اليوتوبية، الذي يعزلها عن ان تلعب دورها الاجتماعي والثقافي، والاكتفاء بصورتها الزخرفية، بعودة نوستاليجية، حيث تُغيب ذاكرة الامكنة وتُعلي من الافكار، او هو المكان المنعكس من خلال موشور الصورة المخيالية المستعادة، نرى ان الاجابة ربما تكمن في تركيز الروائي على الوصف المبهر لمدينة بغداد، وهي محاولة لتقديم معادل رمزي لبغداد المتخيلة، مقارنة ببغداد الحاضر. حيث كانت مركز الحواضر العربية والاسلامية في العالم.

وبهذا ربما اخالف ما جاء به الناقد العراقي محمد قاسم الياسري في كتابه (تبيئة المفاهيم الاستشراقية)49، حين يرى ان علي بدر ينطلق برؤيته للمكان من منطلقات استشراقية، والتي اعتقد انها رد فعل تجاه حالة الاغتراب التي تعاني منها الشخصية تجاه المكان، اكثر من كونها رؤية استشراقية، اذ ان بغداد/ المكان في رواية (الجريمة ،الفن وقاموس بغداد) ليس له وجود فاعل، بل هو وجود زخرفي لا يبني له فعلا اجتماعيا مؤثرا، وانما هو دور وصفي، «إن ما يجعل الطراز المعماري لمدينة ما أدبياً، هو ان الادب يمنح الصمت صوتاً ويجعل المدينة تعْبرُ من عالم التخييل الى عالم المحسوس في الوقت الذي لا تتحدث فيه المدينة، ولا يكون لها الا وظيفة واحدة، وهي توفير السكن والسماح بحياة اجتماعية حول ميدان تدور فيه الحياة السياسية والاقتصادية والمالية، وتدور الحياة الدينية حول معابده وكنائسه.»50 فهو يعطي المكان مسحة شعرية، وكأنه يوهم نفسه بأنه يكتشف المكان لأول مرة، حيث ان بغداد هي مثال او صورة متخيلة، وهي –بتصوري- رد فعل تجاه الموقف الملتبس الذي يرى الراوي نفسه به، حيث بإمكان الرؤية الشعرية ان تردم الفراغات، التي انشأتها في اول الامر حالة الاغتراب عن المكان.

حيث ان كل حوار مع المكان/ بغداد في (صخب ونساء وكاتب مغمور) يرجع الى الصورة المثالية المتخيلة، للمكان /التاريخ/ الف ليلة وليلة، «وكما لو كان السارد البغدادي يمسح، بجملة واحدة فقر بغداد وتهدمها في الف ليلة وليلة، ويزيح عن عينيه رقابة هارون الرشيد، وجشع بندر التجار وقمع رئيس الشرطة، كنت احذف على نحو مستمر اهمية بوش ورعب صدام وتفاهة الامم المتحدة وقساوة الحصار.»51 حتى عندما يعقد مقارنة بين مكانه الاصلي بغداد، والمكان الاخر الخارج، فنراه وعندما فرغ من تلوين المكان بمسحة شعرية يقول «كما لو ان الجارية شموس وقفت في هذا المكان بالضبط، داعبت الهواء بيدها فأهتز شعرها القصير.»52 بينما عندما يخرج الخواجة نصر الدين في رواية (الجريمة، الفن، وقاموس بغداد)، من اسر هذا المكان الى الصحراء او الى طبرستان، نرى ذلك التفاعل المكاني والذي يؤدي فيه المكان فعلا اجتماعيا وثقافيا متساويا ومتكافئا، ربما مع قوة فعل الشخصية، عكس سلبيته ووصفيته في بغداد، حيث ان الافعال وردود الافعال للشخصيات داخل المكان تعطي انطباعا عن العلاقة الاجتماعية التي تنشأ بين هذه الشخصيات والمكان، لان التعامل معه هو سلوك يرجع الى بنية ثقافية واجتماعية متحكمة بالشخصية، رغم ان «المدينة الروائية سواء أكانت انعكاساً او انزياحا هي قبل كل شيء عالم من الكلام وهي في ذلك قريبة من شخصية الرواية، كما انه تنبغي معالجتها كفضاء ابدعته الكلمات»5.

المكان هو الحاضن للحدث، لذلك فتفاعل الشخصية مع المكان محكوم بنوعية الحدث، وهذا التفاعل يأخذ خطين متعاكسين اما أن يتواءم مع الحدث الذي جرى في ذلك المكان، وتكون ردود افعاله تجاهه محكومة بنوعية هذا الحدث، او ان يأخذ الجانب المغاير، ويكون رد فعله تجاه الحدث مبني على رد فعل عكسي تجاه المكان بصورة ايجابية او سلبية، «كانت تريد ان تعيش عصرها في الروحية والاسلوب، مما ادى بها الى رفض معذب لبيئتها الفقيرة وتعلقها بحياة توفرها مدينة ناشئة على الطريقة الاوربية»54 وهذا يبدو تغيرا في الايقاع المرتبط بالمكان/ بغداد، حيث كانت تسيطر عليه صورة واحدة متوزعة بين بغداد اليوم وبغداد الامس(المتخيلة)، ولكن هذا التغير يرتبط بالمرأة التي تكتشف المكان وتربطه بمسارات نمو وعي الراوي بالمكان، والذي سيغير نمط العلاقات الاجتماعية، اذ ان صورة المكان وتصوراتنا عنه، والمستمدة من تشكيل ثقافي وحضاري معين سيؤثر في نمط العلاقات الموجودة، فعندما ننظر الى المكان الى انه مكان شرقي، من حيث البناء والعمارة والريازة، وكل الامور الاخرى المتعلقة بصورة المكان، سيفرض علينا وبصورة ضمنية علاقات تختلف عن العلاقات التي يوحيها المكان المصمم على شاكلة الحضارة الغربية، كالبنايات الكبيرة والشوارع والمحلات «رفض معذب لبيئتها الفقيرة وتعلقها بحياة توفرها مدينة ناشئة على الطريقة الاوربية، تمنح المرأة التي تريد ان تعيش بعيداً عن اهلها استقلالاً من نوع ما.»55

المقصود بالشخصية المتفاعلة مع المكان، هي ليست تلك الشخصيات التي تعتبر جزءا من تأثيث المكان، كما هي شخصية الشحاذ الاعمى وبائع السكائر ص15 في رواية (صخب ونساء وكاتب مغمور)، إذ إن هذه الشخصيات (المكانية)؛ محكومة بسطوة المكان وعلاقاته، اي الحيز الثقافي والاجتماعي المميز له، لذلك فلا وجود لمبرر لردود افعال تلك الشخصيات، والتي هي جزء من رد فعل المكان على هذا الغريب (الراوي)، لذلك تبدو العلاقة هنا بالمكان غريبة وغير مبررة. وبما ان العلاقة بين المكان والثقافة نسبية -كما اسلفنا من قبل- لان الافكار تتغير وتتعاقب على المكان، اصبح قاموس بغداد هو الحافظ للمتغير(الافكار)، اي جعل بغداد وعاءا يحوي الافكار المثالية التي تبنتها الطائفة الخواجية، عكس ربما ما حفلت به رواية (صخب ونساء وكاتب مغمور) من اشارات متعددة الى بغداد المتغيرة «مركز شرطة انكليزي في ايام الاحتلال يتحول الى بيت دعارة، الخانات التي كان يؤمها القادمون من تل محمد وبغداد الجديدة وخلف السدة لزيارة سيد ادريس الامام الشيعي المدفون بالزوية، تتحول الى بوتيكات ملابس ومطاعم وكافتريات.»56 ونرى ايضا ان المكان يقع في الكثير من الاحيان في منافسة مع المكان الاخر الحلم «وأقول وانا أمر من عربات السمك التي تنبعث جيفتها: "الله.. هذا المكان كان فيما مضى، أيام الجارية تودد ملهى العوادين والشعراء والتجار.. وأصبح أيام الاحتلال الانكليزي ساحة للبائعين وأصحاب السيارات وبضائع العطارين والسلعيين»57.

وايضا ما يتعلق بالوافد الريفي ونظرة الراوي له، حيث تغلب على رواياتنا العراقية رؤية نمطية للوافد الريفي لمدينة بغداد، حيث تُخلق دائما مقارنة ضمنية بين الحضري الذي هو ابن مدينة بغداد، والوافد من الريف ابن القرية، وهذه المقارنة ضمنية وليست مباشرة في بعض الاحيان، لان روائيينا لا يعقدون المقارنة بين حضري – قروي، وانما يحاولون ان يعطوا توصيفا لشخصية ابن القرية الوافد، وعلاقته بالمكان الجديد، مفترضين نمطا خلافيا بينه وبين المكان، من دون التركيز على نمط سلوكي اجتماعي يخرق النمط السلوكي العام، فقول علي بدر مثلا «خيال المرأة القروي، وهو خارق في كثافته الحية، لا يؤدي إلا الى مفهوم خاص من التحضر، وهو التعهر بطبيعة الامر، بل ان التعهر والتحضر يختلطان احدهما بالآخر عند القرويين القادمين الى المدن بصورة فاضحة.»58 اعتقد ان هذا وصف مجاني مبتذل59، اذ يبدو ان نظرة الروائي هنا، تنبني على ان وفود هؤلاء القرويين دائما يكون بصورة منحطة، لان هناك تغيرا في نمط الحياة الحضرية بين قراهم ومدينة بغداد «كان للوضع الاقتصادي المتدهور في الريف اكبر الاثر في اندفاع عدد كبير من الفلاحات الشروقيات.»60 وكذلك انفصال ابناء الريف الوافدين عن المكان والزمان البغدادي، بينما وليد اللبناني السنوبي61؛ الذي يندمج مع هذا المكان الغريب عليه، ويتفاعل معه، اذ يتعامل الروائي مع هذه الشخصية على انها وليدة بنية حضارية شبيهة بالبنية الحضارية لمدينة بغداد، وفق مفهومي الحضر والريف، حيث لا يكتفي بالتقارب الثقافي والاجتماعي والجذور المشتركة بين ابناء البلد الواحد «لقد كان يستمد حضوره الخاص من جاذبيته الواضحة لا من ثقافته الاستعلائية ذات البريق السطحي، ومن قدرته على التقليد، اي من سنوبيته اللبنانية التي تظهر مباشرة وبكل جلاء امام تجمع الادباء العراقيين، واكثرهم من النازحين من الارياف.»62

* * *

إن رؤية علي بدر لبغداد الامس التي صورتها رواية (الجريمة، الفن، وقاموس بغداد)63، وبغداد اليوم؛ بغداد رواية (صخب ونساء وكاتب مغمور) المنسية والمحاصرة، التي هي خارج التاريخ وحركته، تختلف اختلافاً كبيرا، والحقيقة ان تلك المدينة/ التاريخ هي التي صنعت مدينة اليوم، اي رؤية الراوي لها، ليس بمعنى انه جعل تدهور الثانية نتيجة لازدهار الاولى، وانما ان الصفات المستحدثة التي يضعها الراوي لمدينة اليوم، هي رد فعل تجاه تلك المدينة الام/ المثال، «حين نظرت من الشباك الى بغداد في تلك اللحظة، رأيتها كما لو كانت خرائب بابلية قديمة، وكل جزء فيها يجذبني نحو تأمل صامت ومسهب، وأدركت ان كل حجر من احجارها هنالك مملكة غامضة وصامته تجذبني نحوها بشكل مدهش»64.

يشترك عنواني الروايتين، بانهما يعتمدان على عنوان ثلاثي، او يستخدمان ثلاثة تعابير متقابلة ومتساوية من حيث العدد، فيمكن لنا ان نفترض ان الصخب يقابل الجريمة، وان النساء تقابل الفن، والكاتب المغمور يقابل قاموس بغداد المختفي والسري، ولكن بالتأكيد ان دلالاتها مختلفة، حيث ان العلاقة بين مفردات عنوان رواية (الجريمة، الفن، وقاموس بغداد) ذات تنافذ محدود داخل المكان، الذي افترضنا ان له حيزا للفعل السوسيوثقافي، عكس العنوان الاخر والذي سيتضح لاحقا مدى اشتباك دلالاته مع المكان داخل الرواية، حيث ان التغيرات التي تطرأ على المكان القديم لمدينة بغداد، تفقدها ملامحها التاريخية، وربما هذا ما يقوده صوب الحنين الى بغداد الف ليلة وليلة «كانت هنالك مجموعة من محلات الشاورما يقال بأنها كانت قديما ثكنة عسكرية دكتها الطائرات الانكليزية اثناء الحرب، وقد تحول معتقل الاسرى الاثري الصغير الى تواليت عمومي، وتحولت الثكنة القديمة الى منازل تنفتح على الجهة الاخرى من الشارع المحاذي للنهر.»65 الصخب لا يعادل فعل الجريمة من حيث الدلالة ولكنه يقاربها من حيث الفعل، فمثلما الجريمة هي فعل اجتماعي في المكان، فالصخب هو ايضا فعل اجتماعي للمكان، يولد بناه وينشأ الحساسية التي يتعامل بها الروائي مع الشخصيات والاحداث.

وهذه الجريمة التي تلحق بالمكان؛ تعادل الصخب الذي يجتاحه، ليس بالأصوات فقط وانما في الفوضى التي تقتل النسغ الثقافي الحضاري لمدينة بغداد، والخليط غير المتجانس من الافكار والنزعات التي تحكم تصورات الروائي عنها «هنالك عرب مسلمون، مسيحيون، أكراد، تركمان، شوام، مصريون، اجانب، هجنة حقيقية تتشكل من دماء وأعراق»66 عكس ربما ما تصورها الرواية الاخرى (الجريمة، الفن، وقاموس بغداد)؛ حيث بغداد التي تمور بالهويات المتعددة، باعتبارها مركز الاستقطاب السياسي والتجاري، اذ تعتبر من اهم الحواضر الاسلامية ومركز الخلافة العباسية وخاصة في ص76؛ عندما يتحدث الخواجة نصر الدين عن سوق بغداد وزيارته له مع أمه، وهذا التنوع يعكس تنوعا ثقافيا لمدينة بغداد، بوصفها حاضنة ثقافية كبيرة، تنصهر فيها كل الثقافات الوافدة، وايضا اعتبار تاريخ بغداد قائم على التنوع المتعايش، وهي تمثل دائما بغية كل طالب علم او تجارة من جميع دول العالم «لقد رأى الاسكندر ذو القرنين (...) اول منظر للمدينة قبل تشييدها، رآها في الضوء المتوهج مثل فضة ذائبة على لوح من المعدن، فيها من كل جنس وعرق بشر: فيها مجوس من الرها ويهود من الحيرة، فيها مناذرة عرب ونبط، روميون وفرس، إبل، شاة، قلانس وعمامات، سادة يمشون في الطرقات المعبدة، ونساء يتهادين بكسل يضعن في انوفهن زينة تتدلى وتتأرجح من الذهب»67.

وهناك أيضا الازدواجية الثقافية في المجتمع البغدادي، كما اظهرها لنا من قبل في روايته (بابا سارتر)، او الازدواجية الاجتماعية من خلال العلاقات والعقائد المتغيرة والمتنافرة، حيث الازدواج بين التدين والشيوعية او التدين والسرقة في شخصية (عبود)، او العائلة الايرانية عائلة (علي غلام) بين شخصيتها زمن الشاه، والشخصية الاخرى في زمن الخميني، ويحاول الروائي ان يصور هذه الازدواجية بأنها عميقة في هذه الشخصيات وليست مصطنعة «ولكن بعد ان حدثت الثورة الايرانية تغير منزل هؤلاء الناس بشكل غريب، لقد علت وجوههم مسحة حزينة وتحجبت زينب وأمها، وأطلق علي لحيته، واختفت صورة الشاه وفرح بهلوي من الصالة وحلت محلها صورة خميني، وقد انفصل عن تمارى واخذ ينظر اليها باحتقار، ويقال بأنه تخاصم معها لانها رفضت ان تتحجب.»68 وإن كنت ارى ان هذا الوصف هو جزء من تذبذب رؤية علي بدر عن الاثنيات والمذاهب والاديان في بغداد، وإن كان يأخذ (الكرادة) نموذجاً مصغرا عنها، اذ يحاول ان يوصف العلاقات المتشابكة بين هذا الخليط غير المتجانس من الاديان والاثنيات والثقافات المختلفة، ويظهر تذبذب الروائي عندما يشير في بعض الاحيان الى اندماج هذه التشكيلة الثقافية المختلفة، وفي احيان اخرى الى انفصالها، ويظهر هذا الاندماج عندما يتم الحديث عن المكان والفعل الاجتماعي الذي يقترن به، ويتعزز الانفصال عندما يتحدث عن احد هذه الثقافات او الاديان او الاثنيات69.

يمكننا برؤية اخرى ان نرى ان الصخب هو فعل حركي يجعل المكان ينبض بالحياة «يالي من احمق مسكين انا الكاتب المغمور الذي حلمت بالصخب والنساء وبما لا ادري.»70 حيث المدن الضاجة هي المدن الحية التي تحفل بالكثير من الحكايات التي تعطي اي كاتب رصيدا كبيرا لكتابة روايته، ولكننا وبأجتراحنا لتلك المقاربة التي ربما لا تتوافق مع هذه الرؤية، لا نخضع للتصورات المباشرة للروائي؛ والتي يحاول بها ان يوجه قراءتنا، او يوقعنا في فخ القراءة الجاهزة، حيث ان استنباطنا هذا قائم على العلاقات المضمرة بين الدوال، بعيدا عن التصور الذي يطمئن للعلاقات الجاهزة والمباشرة. اما العلاقة الاخرى وهي بين النساء والفن، فنرى علي بدر يكتشف بغداد من خلال النساء، الدلالة الوسطى التي يتوازن عليها عنوان روايته (صخب ونساء وكاتب مغمور)، كما كان الفن هو الذي يكشف ويقدم لنا بغداد في رواية (الجريمة، الفن، وقاموس بغداد).

ولكن الاختلاف واضح بين الاثنين من حيث الاجراء، حيث كانت النساء اداة وصفية –اذا جاز لي التعبير- إذ ان بغداد والتغييرات الاجتماعية والمكانية التي تتعرض لها، كانت توصف من خلال الاحتكاك الغير مباشر لتلك النساء بمرتكزات تلك التغييرات، كما في علاقة (سعاد التركمانية) مع المكان «هل كانت سعاد تتعرف بحسها وغريزتها على هذه النظرة الجديدة التي اخذت تشطر المدينة الاسيوية الى شطرين متمايزين من الناحية الطبوغرافية.»71 ومع الشخصيات التي شكلت مركزا اجتماعيا او سياسيا، بينما الفن كان اداة عملية ربما انسياقا وراء دلالة الجريمة، في العنوان ومتن الرواية، مع قلة التنافذ بينهما، لان الجريمة لم تتم بحق الفن، وانما كان الفن اطارا للمكان، وايدلوجيا للطائفة، حيث كانت بغداد تتشكل من خلال الفعل الذي ينتج حيزه الوصفي، وتشكلاته المكانية، اذ ان الفعل المضمر في دلالة الفن، هو الذي يحرك مثلا الطائفة الخواجية، او الخواجة نصر الدين، ولكنها ايضا ليست علاقة فعلية تغير في المكان، وانما كان الفن هو فعل اجتماعي، يغلف انماط سلوك الشخصيات، ولم يكن فعلا انتاجيا زمكانيا، كما في رواية (اسمي احمر) لاورهان باموك، حيث كان الفن بالإضافة لكونه مولدا للحيز الاجتماعي والايدلوجي، كان له فعل تغيير في البنية الزمكانية.

ومع علاقة النساء بالمكان او احتكاكهن الغير مباشر به الا انهن غير مشاركات بالفعل داخل المكان، وما اقصده هنا بـ(الفعل)، هو الفعل التاريخي الذي يترك اثرا في البنية الاجتماعية والسياسية والتاريخية العامة، وليس الفعل البسيط، وهذا ربما يعطينا تصورا عن قصد علي بدر عندما جعل المرأة هي آداته لرسم المكان البغدادي اجتماعيا وسياسيا وتاريخيا، وهو ان المرأة ككائن ضعيف يستهلكه المجتمع ويعيد انتاجه، خارج عن الفعل التاريخي والاجتماعي، وان التغييرات الكبيرة في العراق كما تقدمها الرواية، يحدثها المركز بانقلابه على نفسه، ليس بمعنى ان ذلك المركز ثابت، وانما متغير، ولكنه محكوم بوصول الهامش الى هذا المركز، اي ان فعل التغيير لا يغذيه الهامش بقدر ما هو انقلاب المركز على نفسه، بينما كان الفن في الرواية الاخرى هو المحرض على فعل التغيير ولم يكن هامشا، وانما مصدرا لتغذية ذلك الهامش، ودفعه ليكون مركزا، وهو ما يسميه علي بدر بـ «نحس النساء وثورات الرجال»72، اي ان سعاد كانت تعيش فعلها الهامشي، الذي يبدو انه خارج الزمن، ولكن بنظرة اخرى نراها داخلة في هذا الفعل، اذ انه يعيد انتاجها، بعملية اعادة تدوير غير منتهية، حيث ان هذا الهامش الملتصق بالمكان والتاريخ ربما يكون بعيدا عن ان يكون صانعا له، «كانت سعاد منشغلة بالحصول على عشيق بينما كان العالم المحيط بها منشغلاً بأشياء اخرى، كان منشغلا بقصص الاختطاف والاختفاء، بقصص الذين يذهبون الى السجون بالمليشيات التي تملأ الشوارع»73.

ومن خلال شخصية (سعاد التركمانية) في رواية (صخب ونساء وكاتب مغمور)، تتولد مساحة كبيرة للتعالق مابين بغداد اليوم، وبغداد الستينات، وحركة المجتمع العراقي وتغيراته، والتصور للمكان الذي يخفي فعلا اجتماعيا يتعالق مع فعل الزمن بين الحاضر والماضي «كل الذين عرفوها في ذلك الوقت اكدوا بأنها كانت ملكة اغراء بحق وحقيقة، وكان يمكنها ان تكون احسن بكثير من هند رستم لو كانت في مصر مثلا، ولكنها في تلفزيون مثل تلفزيون بغداد .. اصبح الامر مختلفا بطبيعة الامر، حتى وان كان طموحها كبيرا ولا يقف عند حد، ومع ذلك ما كان بإمكانها ان تتجاوز هذه المحدودية المقيته في الامكانيات، لا إمكانيات التلفزيون حسب –إن شئنا الدقة- انما امكانيات المجتمع ايضا.»74

وايضا تظهر علاقتها بالمكان وتفاعلها معه، الانماط الاجتماعية المتحكمة من خلال رؤيتها للمكان، اذ تصبح المرأة هي المنتجة له، ليس المكان الصوري الثابت وانما الانماط الاجتماعية التي ينتجها والتي تكون هويته، «ليس بالضرورة ان تكون لها نظرة طبوغرافية وسوسيولوجية عالية للمكان، ولكن هذا الحس الغريزي والطبيعي وهو يرى شيئا جديدا تماما اصبح يشطر المكان.»75 وايضا يمكننا ان نرى المرأة كمحرك دلالي، فهي نافذة للخروج والدخول معا، حلم الخروج من المكان، بكل تصورات الراوي لهذا الخروج وهي تصورات متناقضة ربما، اذ يظهر علي بدر الشغف الذي كان يسيطر على الكثير من العراقيين بالسفر والهجرة من العراق هرباً من الحصار والسياسة، الهروب من مدينة «اعيتها السياسة ودمرها الحصار»76، لذلك دائما ما تقارن بغداد بمدن اخرى، ولكنها مقارنة متذبذبة بين السخط عليها والحنين الى صورتها القديمة، وايضا الارتباط بالمكان وتشكلاته المنصهرة بوعي ولاوعي الشخصيات «شعرت بالدم الاحمر وقد صعد الى وجهي من الاسى، لان هذا الكديش سيذهب الى الدنيا، الى فاس ومراكش وطنجة، أما ما انا فسأتعفن هنا، هنا في بغداد.»77 وللدخول في حركة المكان الذي يمور، بالتغيرات والتناقضات «صرخت لماذا اسافر الى طنجة وأمامي كل هذه المشاهد التي ستجعل مني الكاتب العظيم..!!!»78

يكتب علي بدر عن بغداد المتناقضة، وان كان يأخذ الكرادة انموذجا مصغرا، ولكن المكان في العمل الفني، ربما يخرج من شرنقته او اصوله المرجعية الى مكان مفتوح يفتح مديات الدلالة، ليصبح علامة عن مفهوم اخر اكثر عمومية79، والتفاعل المحتدم الذي ينعكس من خلال المرأة بوجودها المكاني وتفاعلها مع تفاصيله «خرجت من الشقة الدافئة الى الشارع، نشرت مظلتي على رأسي واتجهت صوب مكتبة الارمنية في الكرادة لشراء بعض الكتب، كان المساء المضاء بالمصابيح مبهجا وقد مسحته غلالة المطر المتناثر بمسحة ضبابية شفيفة، والنساء اللواتي يسرن في الطريق يحتمين بالأفاريز ومظلات المحلات وآرماتها، وبعضهن كن يحملن في ايديهن مظلات منشورة»80.

يشير الروائي في ص22 وص23 وما بعدها الى حياة الكاتب والتي يصفها بإرتباطها بالمكان، اي ان هناك مكان الكاتب بالإضافة الى حياته، وربما هنا يوحي ان الكاتب ليس له حضور الا بشرط المكان، وايضا المرأة، اي ان المكان والمرأة شرطين لازمين للكاتب «وهناك ما هو أهم، حياة الكاتب التي احلم بها، لا عبقرية الكتابة فقط، بالرغم من ان حياة الكاتب ذاتها تشتمل على مافي الحياة من جانب انثوي»81، وايضا يحيلنا بصورة غير مباشرة لرؤيته عن المكان، عندما يشير الى نجيب محفوظ، المعروف بانه يحتفي بالمكان في اغلب رواياته وخاصة الحارة المصرية، «كنت انظر الى نموذج قريب وبحسد ظاهر؛ نجيب محفوظ!!» 82

* * *

إن الرواية العراقية والعربية اليوم تختلف اختلافا كبيرا عن رواية الامس، وذلك ربما تأثرا بالموجات الثقافية والمعرفية التي تجتاح العالم، ومنها ثورة الاتصالات والانترنيت، والاحداث المفصلية في تاريخنا المعاصر، فخرجت من شرنقة الانساق المكبلة، والتي كانت تفرض على الروائي مرجعيات معينة، وتخضعه لمحددات وتابوهات، تحد من انطلاقه، لذلك كانت الكثير من الروايات مكبلة برؤية نمطية، وخاضعة للخطابات الرسمية العامة، والتي لايمكن ان تعكس البنى السوسيوثقافية التي تمور تحت سطح الخطاب الرسمي لمؤسسة الادب الروائي العربي، لذا ظهرت لدينا اليوم تجارب مميزة فرضت نفسها بقوة، لما تحمله من ارادة حقيقية للتجريب والتماهي مع العصر المابعد حداثي، الذي يهيمن علينا بكل جبروته، ويستمد قوته من خطاب الميديا ومواقع الانترنيت والفيس بوك، فقراءة الرواية العراقية سوسيوثقافيا تجعلنا نكتشف البئر التي تغذي ثقافتنا المعاصرة، وصور تشكلها على مرأة الادب والتاريخ والواقع.

 

الهوامش والاحالات
1- الرواية مدخل الى المناهج والتقنيات المعاصرة للتحليل الأدبي - برنار فاليت- ت:عبد الحميد بواريو- دار الحكمة الجزائر 2002 ص50

2- سوسيولوجيا الثقافة ص32

3- مقدمات في سوسيولوجيا الرواية- لوسيان غولدمان- ترجمة بدر الدين عرودكي- دار الحوار ط1 سوريا 1993 ص11

4- سوسيولوجيا الثقافة- المفاهيم والاشكاليات ، من الحداثة الى العولمة- د.عبد الغني عماد- مركز دراسات الوحدة العربية- ط1 بيروت شباط 2006 ص28

5- سوشيولوجيا الثقافة والهوية- هارلمبس وهولبورن- ترجمة حاتم حميد محسن- دار كيوان ط1 دمشق 2010 ص8

6- سوسيولوجيا الثقافة: ص12

7- سوسيولوجيا الثقافة: ص15

8- اللغة الصامتة:ص39

9- اللغة الصامتة: ص76

10- سوسيولوجيا الثقافة: ص14

11- ينظر: الركض وراء الذئاب (رواية)- علي بدر- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- ط1 بيروت 2007 ص18 وما يليها

12- الركض وراء الذئاب ص22

13- فرانكشتاين في بغداد (رواية)- أحمد سعداوي- منشورات الجمل- ط1 بيروت 2013

14- هناك اختلاف كبير او هو ربما سوء فهم غير مقصود بين عنوان رواية احمد سعداوي (فرانكشتاين في بغداد) والرواية التي تناص معها وهي رواية (فرانكشتاين) للكاتبة البريطانية ماري شيلي، حيث ان فرانكشتاين هو العالم الذي صنع المسخ وليس المسخ نفسه او (الشسمة) في رواية سعداوي، حيث ان افتراضنا ان هناك موائمة بين العنوان والرواية المتناص معها، ربما يصتدم بطبيعة شخصية (هادي العتاك) والتي تجعل المخيلة الخصبة له بالمقابل مع العقلية المبتكرة لشخصية ماري شيلي، اي ان فعل (الشسمة) والذي بنى عليه سعداوي سدى دلالات النص غير حقيقي ومختلق مما يعزز ما طرحناه من سيطرة نمطية الخطابات الرسمية الخادعة.

15- فرانكشتاين في بغداد: ص11-12

16- سوسيولوجيا الثقافة:ص95

17- سوسيولوجيا الثقافة:ص117

18- ينظر: سوسيولوجيا الثقافة ص118

19- سوسيولوجيا الثقافة:ص118

20- سوسيولوجيا الثقافة: ص116

21- الجريمة، الفن، وقاموس بغدا (رواية)- علي بدر- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- ط1 بيروت 2010

22- ليس لهذه الطائفة من وجود في حيز التاريخ المفترض الذي رسمه لها علي بدر وهو زمن الخلافة العباسية، وهي مختلقة من قبله، لذلك فربما تبدو ان كل الحوادث التاريخية المرتبطة بها هي حوادث غير حقيقية، لذلك فنحن نفترض منذ البدء ان اختلاق هذه الطائفة هي لاغراض فنية، ولا اتصور انها ستؤثر على النتائج التي سنصل اليها لان منهجنا الذي اعتمدناه منذ البدء؛ يرى ان الرواية هي عمل فني محض غير خاضع الى اي من السياقات التي تفرضها العلوم الوضعية كالتاريخ وعلم الاجتماع وغيرها.

23- السيد اصغر اكبر (رواية)- مرتضى كزار- التنوير - بيروت 2012

24- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص257

25- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص25

26- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص114- 115

27- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص25

28- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص132

29- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص21

30- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص44

31- الجريمة،الفن، وقاموس بغداد: ص149

32- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص29

33- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد ص 207

لا اتفق مع التشبيه الذي استخدمه الروائي، اذ ان اكتساب حياة الخواجة نصر الدين للمعنى مع الطائفة؛ لايمكن بأي حال من الاحوال ان تقارب اكتساب الحديد للصدأ، والاختلاف واضخ حيث ان المعنى والحياة لهما ارتباطات سياقية تبني الماهية، بينما الحديد والصدأ يرتبطان بعلاقة تأثيرية تسعى للتأثير على الماهية وهي علاقة سلبية عكس العلاقة الاولى.

34- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص113

35- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص40

36- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص286-287

37- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص287

38- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص133

39- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص34

40- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص99

41- سورة النساء الاية: 105

42- حيث يصفهم ابو حيان التوحيدي في كتابه الامتاع والمؤانسة بأنهم (وضعوا بينهم مذهبا زعموا انهم قربوا به الطريق الى الفوز برضوان الله والمصير الى جنته، وذلك انهم قالوا: الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات؛ ولا سبيل الى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، وذلك لانها حاوية للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية.)

كتاب الامتاع والمؤانسة_ ابي حيان التوحيدي_ صححه أحمد امين واحمد الزيات، دار ومكتبة الحياة، القاهرة ج2 (بدون تاريخ) ص5

43- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص178

44- يستخلص الدكتور محمود اسماعيل من نص ابو حيان التوحيدي في الامتاع والمؤانسة، الذي تحدث فيه عن اصول هذه الجماعة والذي كان فيه متحاملا كما يصفه (حقيقة هامة؛ هي سوسيو-تاريخية فكر الاخوان؛فكان معبرا عن التطور السوسيو-ثقافي في عصر الاقطاعية المرتجعة- الذي شهد تأسيس الجماعة- (...) وعصر الصحوة البورجوازية الثانية الذي شهد ازدهار فكر الجماعة- تماشيا مع ازدهار الفكر عموما- من ناحية، وانتشاره مع المد الليبرالي في معظم ارجاء العالم الاسلامي من ناحية اخرى.)، ولا اتفق تماما مع الدكتور محمود اسماعيل عندما يرى بان كون ظهور هذه الجماعة في البصرة فذلك مدعاة لنا لاعتبارها جماعة ثورية معارضة للحكم العباسي لان كل الحركات المعارضة لهذا الحكم كان مصدرها البصرة وعموم جنوب العراق، وذلك لان الرسائل لاتشي بتلك الثورية الا على صعيد الفكر الديني والفلسفي والفنون اي انها حركة معرفية ثقافية وليست حركة سياسية، كما هم الخوارج او القرامطة وغيرهم.

إخوان الصفا- رواد التنوير في الفكر العربي- د. محمود اسماعيل- عامر للطباعة والنشر ط1 المنصورة 1996 ص44 وينظر ص45

45- ويكبيديا الموسوعة الحرة : http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%81%D8%A7

46- اول مرتبة للعضوية في جماعة اخوان الصفا المتكونة من اربع مراتب هي: من يملكون صفاء جوهر نفوسهم والتي تقارب لقب اعضاء الطائفة الخواجية وهو الصفائيين (ينظر الويكبيديا)

47- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص239

48- صخب ونساء وكاتب مغمور (رواية)- علي بدر- المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2 بيروت 2008

49- تبيئة المفاهيم الاستشراقية، جرد واستنطاق وتأويل لنصيات "علي بدر"- محمد قاسم الياسري- الموسوعة الثقافية- دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد 2009

50- الرواية في القرن العشرين- جان. إيف تادييه- ترجمة: د. محمد خير البقاعي- الهيئة المصرية العامة للكتاب-ط1 القاهرة 1998 ص102

51- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص171

52- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص32

53- الرواية في القرن العشرين ص101

54- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص45

55- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص45-46

56- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص26

57- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص17

58- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص45- 46

59- ينظر: تبيئة المفاهيم الاستشراقية ص104-105

60- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص47

61- هذا التوصيف هنا لشخصية وليد يغض النظر قليلا عن ما سيتكشف من شخصيته الحقيقية وذلك لان توصيف الراوي لهذه الشخصية بقي في مستوى مغاير عن شخصيات الاخرين وخاصة الريفيين منهم، وهو ما يهمنا توضيحه.

السنوبية: هي الشخصية المتعالية المزيفة

62- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص90

63- في مناقشتي للروايتين ربما لا اخضع الى التسلسل الزمني لصدورهما رغم اني قد اشرت الى ذلك ولكن ما يهمني هو تسلسل الافكار والمواضيع السوسيوثقافية التي عالجتها كلتا الروايتين.

64- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص 169

65- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص119

66- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص26

67- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد: ص100

68- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص85

69- ينظر: رواية صخب ونساء وكاتب مغمور ص114-115

70- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص199

71- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص54

72- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص57

73- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص59

74- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص39

75- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص54

76- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص107

77- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص108

78- طنجة هنا ترتبط بعيشة المغربية التي ارتبطت بحلم الراوي وعباس ابن سعاد التركمانية بالسفر الى الخارج والتي تحولت الى حلم يوتيبي يطوف بهم خارج اطار المكان / بغداد المحاصرة. صخب ونساء وكاتب مغمور: ص118

79- ينظر صخب ونساء وكاتب مغمور ص116- 117

80- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص119

81- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص23

82- صخب ونساء وكاتب مغمور: ص24

 

المصادر والمراجع

1- الرواية في القرن العشرين- جان. إيف تادييه- ترجمة: د. محمد خير البقاعي- الهيئة المصرية العامة للكتاب-ط1 القاهرة 1998

2- الرواية مدخل الى المناهج والتقنيات المعاصرة للتحليل الأدبي - برنار فاليت- ت:عبد الحميد بواريو- دار الحكمة الجزائر 2002

3- اللغة الصامته- إدوارد تي. هول- ترجمة لميس فؤاد اليحيى- الاهلية ط1 الاردن 2007

4- تبيئة المفاهيم الاستشراقية، جرد واستنطاق وتأويل لنصيات "علي بدر"- محمد قاسم الياسري- الموسوعة الثقافية- دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد 2009

5- سوسيولوجيا الثقافة- المفاهيم والاشكاليات ، من الحداثة الى العولمة- د.عبد الغني عماد- مركز دراسات الوحدة العربية- ط1 بيروت شباط 2006

6- سوشيولوجيا الثقافة والهوية- هارلمبس وهولبورن- ترجمة حاتم حميد محسن- دار كيوان ط1 دمشق 2010

7- مقدمات في سوسيولوجيا الرواية- لوسيان غولدمان- ترجمة بدر الدين عرودكي- دار الحوار ط1 سوريا 1993

8- ويكبيديا الموسوعة الحرة : http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%81%D8%A7

 

الروايات

1- الجريمة، الفن، وقاموس بغداد (رواية)- علي بدر- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- ط1 بيروت 2010

2- الركض وراء الذئاب (رواية)- علي بدر- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- ط1 بيروت 2007

3- السيد اصغر اكبر (رواية)- مرتضى كزار- التنوير - بيروت 2012

4- صخب ونساء وكاتب مغمور (رواية)- علي بدر- المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2 بيروت 2008

5- فرانكشتاين في بغداد (رواية)- أحمد سعداوي- منشورات الجمل- ط1 بيروت 2013