يرى الروائي والناقد المصري الكبير أن هذه الرواية مشحونة بالأسئلة المعبرة عن الحيرة والذهول عام 1967. وسؤال الرواية الأساسي: هل هذه نتائج يوليو 52، هل هذه نهاية اشتراكية عبد الناصر وأحلام الوحدة والقومية. في عنوان الرواية وفى ثنايا الأحداث روح مسيحية غامرة تلقى نوراً خفيفاً وسط كل هذه العتمة واليأس.

النزول إلى البحر

عـلاء الديـب

تبقى رواية «النزول إلى البحر» للأديب جميل عطية إبراهيم علامة من علامات الحيرة والارتباك الذى أصاب مصر بعد محنة 1967.. أنها تعبير صارخ عن الفوضى الاجتماعية التى أعقبت غياب «ناصر»، والسياسة التى قادت البلد فجأة فى اتجاه معاكس فى الداخل والخارج، فبعد محاولات الاشتراكية جاء الانفتاح، وبعد المقاومة وتحرير الأرض من النهر إلى البحر، جاء الصلح والسلام الهش، والسفارة الصهيونية فى قلب القاهرة، وانتقلت 99٪ من أوراق اللعبة إلى يد أمريكا، وخطب رئيس مصرى سابق فى عيد النصر الوحيد الذى تحقق ليقول «نريد أن نمشى جنب الحيط» و«أن نأكل لقمة عيش»!

أصدر جميل عطية روايته المشحونة بالأسئلة المعبرة عن الحيرة والذهول عام 1967 وهو يراقب صفوف العمال المهاجرين فى قوارب الموت، أو إلى الخليج، وراقب طوابير المصريين الزاحفة من الأقاليم إلى القاهرة والمدن فى صفوف كالنمل لكى تسكن فى المدافن مع الموتى أو فى عشوائيات انتشرت كالوباء، زحفت الأمية حتى على المثقفين، وانهار التعليم مع الصحة، وسادت فوضى فى القيم الاجتماعية، وراء شاشات التليفزيون ومسارح الانحلال الفنى والأخلاقى، وغرقت الدلتا والصعيد فى بحار المياه الغازية وإعلانات المأكولات الجاهزة، وحاصرت كل هذا تجمعات جديدة من ثراء فاجر، وحلت تكنولوجيا العولمة على شعب جاهل مريض!! سؤال الرواية الذى يتردد فى كل سطر وبين السطور.. هو: هل هذه نتائج يوليو 52، هل هذه نهاية اشتراكية عبدالناصر والاتحاد الاشتراكى، وتحالف قوى الشعب، وأحلام الوحدة والقومية.

لماذا؟ ومن المسؤول؟.

تدور أحداث الرواية فى مدافن تحت جبل المقطم، وأبطال الرواية سكان المنطقة: ندابات، عاهرات، تجار مخدرات، وسارقو مدافن.. وهناك أيضاً الهاربون من صراعات المدينة، المهزومون من أصحاب الأحلام، والخارجون من السجون والمعتقلات.

تدور هذه الشخصيات وغيرها حول طبيب - الدكتور صابر - الذى فتح هناك عيادة لأول مرة ليعالج الشعب ويخدم الناس، فى حلم فلسفى اشتراكى مسيحيى مصرى طيب، هو نفسه قد أعيته الحياة وتجارب الحب والإفلاس السياسى، فقرر «النزول إلى البحر».

هنا الشتاء الحقيقى، هنا تحدى الفقر والمرض، وهنا المعنى الحقيقى لخدمة الناس بعيداً عن تزييف الحكومة وأجهزة الدعاية، واجتماعات الخطب والأغانى والشعارات.

يطل على المدافن مستشفى، نموذج لحال المستشفيات عندنا تجمعات للمرض والبؤس، وأحلام إنسانية محبطة، وممرضات جميلات طيبات، وآخريات داعرات فاجرات، وموظفين إداريين فى المكاتب خلف الزجاج، عم جرجس العجوز يبيع الشهادات ويعشق الشابة التى تعمل فى المعمل، اسمها زينب ويصلى من أجلها وكأنها العذراء مريم.

فى عنوان الرواية وفى ثنايا الأحداث روح مسيحية غامرة تلقى نوراً خفيفاً وسط كل هذه العتامة واليأس. وفى طرف المدافن قطار لا نأخذ منه سوى حادث وحيد يؤدى إلى قطع رجل «سيد» أحد أبطال الرواية وصديق الدكتور صابر وزينب، ونموذج لمن طحنته تغيرات المجتمع والسياسة.. يخاطب سيد نفسه ويشرح حاله فيقول:

«استقال سيد من كل التنظيمات والنقابات والاتحادات والاتحاد الاشتراكى وخرج إلى التقاعد، وقطع علاقته بالجميع فى محاولة للفهم لكنه لم يفهم، هل يفهم حالياً وقدمه مبتورة ويحس بها ويدفع بها الملاءة وتؤلمه، ويمد يده ليلمسها فلا يجدها.. لماذا تزوج والده وهو فى هذا العمر من الشابة سنية؟ لماذا يعمل الدكتور صادق فى طرق معاكسة لمبادئه؟ لماذا تسكن الناس فى المقابر بعد ثلاثين عاماً من الثورة؟ لماذا يتزوج الدكتور صابر من صفية صاحبة مشغل التطريز الذى حصلت عليه بطرق ملتوية من صاحبته الأجنبية عندما غادرت القاهرة سنة 1956؟ لماذا تجلس لواحظ إلى جواره طوال اليوم تاركة عملها؟ لماذا تقبل والدته العيش مع سنية تحت سقف واحد؟ لماذا ينجب والده مرة أخرى؟ هل يستغرقه الحاضر بملذاته إلى درجة الحيوانية مثله مثل الدكتور صادق الذى باع كل شىء فى سبيل اللحظة الآنية ومتعها؟: أم أن الأمر به لغز أبدى عصى على الفهم، وأن المصريين لا مستقبل لهم ويعيشون فى لحظة آنية مستمرة لا تفارقهم بأتراحها وأفراحها، لحظة لا نهاية لها، لحظة كالملاءة الواسعة بسعة الأفق تلفهم وهم تحتها يتحدثون عن الأجداد والتراث، ويتكاثرون ويموتون كديدان؟ حكمة غائبة لن يتوصل إليها مهما عاش أو عمل بالاتحاد الاشتراكى».

أنه يشعر بأنه كلب فى جنازة، هنا الموت فوق الموت، ويختلط ملمس الحلم بالواقع، «لا تعتقد يا أستاذ سيد أنك سياسى، أنت تعمل فى الركاب، مثل مديرى المكاتب، إذا صح أن يطلق عليهم طبقة، ربما أنت فى مركز يقل عن مدير المكتب ويزيد على مركز المخبر، ألم يصبح لهم سفارة فى القاهرة، بعد وقت قريب ستكون صديقاً للصهيانة، مخبر. أكرر الكلمة. ألم تكن تجمع تقارير الرأى العام والنكات السياسية؟ أنت لم تش بأحد ولكن عملك فى الاتحاد الاشتراكى كان أن تنقل مشاكل الشعب إلى القيادة السياسية، خدمة البلد واجب مقدس».

أحد «شطارة» تاجر المخدرات الجن، ندابات من المدافن لكى يظهرن فى التليفزيون مع الكومبارس، وعدداً من الدواجن ومعزة سوداء فى مسلسل تليفزيونى، أسمته إحدى الندابات ساخرة «المعزة وأم إسماعيل تأكلان البرسيم»، وتقول إن كشافا واحدا من العشرات المضاءة فى المسلسل يكفى لكى يضىء الترب كلها، ولكن.. هى على الأقل حصلت على قرشين وكذلك أقامت علاقة سريعة مع سائق التليفزيون الذى أقلهم فى الذهاب والإياب.

هناك شاعرية سردية تنبع من كل هذه القتامة، خرج الطبيب قرب الفجر مع طبيب زميله الدكتور عزمى لكى يراجعا حالة ولادة، وقال الكاتب: «كانت المنطقة هاجعة وأرقتها صحوة وقد اختفت منها سحابات الأتربة، هواؤها غير سقيم، ورائحة الجبل طاغية تذكره برائحة البحر المالح، والسماء الرمادية الصحو تغمر المنطقة، قال الدكتور صابر لزميلة هذا هو البحر الذى أقصده، البحر الممتد أمامنا، بحر القاهرة، بحر المقابر، هذا هو البحر الحقيقى، الجحيم، فقراء، جوعى، لصوص، أثرياء، تجار، عاهرات، شواذ، مخدرات، عالم غريب ومجنون وملىء بالناس الطيبين.

جلست الندابات حول مريضة بالسرطان تنتظر عملية فى وجهها، جلسن حولها فى محاولة لمواساتها والتخفيف عنها.

ويقول الراوى:

«الحزن مثل العتمة طبقات فوق طبقات، الوقت يمضى والعتمة تحط عليهم بثقلها وزخمها، الدندنة الحزفية فى أفواههن مواويل بطيئة اللحن كلمات ترثى اليابس والأخضر والشمس والقمر والأحبة، وزاد إيقاع اللحن كلماتها المطرزة بكل آلام البشر وإحباطاتهم وأحزانهم من الأفواه الجائعة الممرورة، فانطلقت الكلمات لترثى المرأة الجالسة وسطهم لتخفف عنها وحدتها وتخرج الأحزان من صدرها وتطربها، وكلما علا الصراخ أحست المرأة أنها ليست وحيدة فى محنتها.

«الخواجة جرجس العجوز الذى جن عشقاً بزينب، أميرة المعمل فى المستشفى ورأى فيها صورة للسيدة العذراء مريم، اختلف مع كاهن الكنيسة الذى قال له إن العذراء لا تتجسد فى المستشفيات، وحتى إذا حدث فلن يكون اسمها زينب.. قال الخواجة جرجس لنفسه إن رجال الكهنوت لا يعرفون نعمة الرب «مبارك أرض مصر الأنبياء والقديسون يعيشون بيننا ويتركون سماواتهم وينزلون بين الناس، ملح الأرض المقدس، وفى غيبتهم تصبح الحياة على الأرض جحيماً»، مكتوب أن ننزل جميعاً إلى البحر وكما قال الكتاب المقدس.

«أليس جهاداً للإنسان على الأرض، وكأيام الأجير أيامه».

بعد أن شحن جميل عطية روايته بكل ما يمكن من أسئلة ونقد للذات وللتجربة المصرية فى السياسة بعد يوليو 52، هاجر إلى سويسرا وهناك حاول أن يعمل ما عمله أستاذنا نجيب محفوظ، أن يسجل ثورة 19 فى ثلاثية روائية، كتب جميل عطية ثلاثية فى يوليو فى 52، 56، 81، أظنها قد حملت بعض الإجابات.

 

النزول إلى البحر، رواية جميل عطية إبراهيم، مختارات الكرمة 2014