تكتب القاصة المغربية عن محنة الكاتب عقب رقوده في مسكنه الأبدي في رحم الأرض وتتخيل همه في تلك الديار الموحشة وهو مهموم في الكتابة والتعبير وعشق الكلمة وعالم رواياته التي لم يلحق بكتابتها بعد.

لعنة الكتابة

أمـينة الـزّاوي

فتحت عينيها و لم تر سوى الظلام الحالك، لم تكن ترغب في الاستيقاظ لكن الكوابيس أصبحت تقض مضجعها، تململت دون أن تتحرك، شعرت بالعجز فضحكت من أعماق قلبها المثقل بالهموم ثمّ بكت طويلا..

تلك الحشرة اللئيمة، ضخمة، سمينة تتحرك بتؤدة كأنها تحمل عبئا ثقيلا، تتكاثر بعشوائية مقيتة في لمح البصر والدّم يتنقل في انسجام تحت جلدها الشفاف .. حين فتحت فمها القذر تبيّن أنّ لها أنيابا حادة و أضراس عديدة تطحن ما تبقى عالقا بها من طعام كريه الرائحة و اللعاب الأصفر يسيل و يتساقط حولها فتتسبب لزوجته في انزلاق الديدان المحيطة بها فتنقلب على ظهرها ثم تناضل طويلا لتتمكن من العودة إلى وضعها الطبيعي فتواصل الزحف صوب هدفها بإصرار و ثبات ثمّ تشرع في التهام خلايا الجسد النحيل بشراهة الواحدة تلو الأخرى تماما كما التهمت حياتها و ذهبت بأجمل سنين العمر التي أمضتها في بكاء و نحيب، تتجاهل مضايقات الناس تارة  وتتلقاها برحابة صدر و مزح يحمل بركانا من الوجع تارة أخرى..

 أحيانا ترى جيشا مهولا من الديدان المقيتة يتحرك أمامها بحرية و وقاحة يعجز الطغيان البشري على السيطرة عليها تماما كما هو حالها منذ عرفت تلك الحقيقة المرّة التي تربطها به ... يباغتها في الحديقة ، في سلة الخضر و أحيانا في المختبر يجتاح مجال بصرها في كل مكان حتى أنّها كانت تتوهم أنّه قد يخرج يوما ما من عينيها بحثا عن شيء ما تجهله و لم يكن لها تجاهه حولا و لا قوة  فقد كانت تراقبه بنقمة، خوف شديد و مشاعر هجينة لم تكن تجد سبيلا لتفسير ماهيتها..

الدّم يتدفق بغزارة من معصمها الضئيل..

لو لم تكتب تلك الرواية المشؤومة لما حلّت بها لعنة حروفها العجاف.. تحسست الصقيع الذي يسري فوق جلدها ثمّ أصغت لصوت الذاكرة إعصارا مدويا يقترب منها و يجلد الصمت بسياط الشوق..

 قلبه غيمة بيضاء و عيناه عواصف شوق  ..

أحبّها حدّ الوجع لكنّه كائن وديع لا يجيد التمسك بأحلامه و لم تنبت له الأيام براثن يمزق بها شرنقة ضعفه التي سجنته فيها أمّه سنين طوال خوفا عليه من الحياد عن سبيل مستقبل رسمته له بدموع أرملة تجابه جبروت الحياة بصلابة..

لم يواجه يوما أعاصير غضبها لكنه الشخص الوحيد الذي ليس بوسعها سوى أن تحبّه أكثر فأكثر ..كان أول الرهانات خسارة في حياتها فالمستحيل هو أن تصارع النوائب و في داخلك قناعة بأنك تطارد الوهم..

الحبّ سطوة و عذاب مميز، عبثية القدر جعلت منه سببا في علو شأنها و بلوغ أسمى أحلامها لكنّ العشق المستحيل ضريبة ذلك النجاح اللامتناهي ..

الدمّ يتدفق أكثر فأكثر من العروق البنفسجية الدقيقة بحرارة..

لم تكن لتنساه بسهولة ذلك الذي أحبّته أكثر مما ينبغي لامرأة أن تحبّ رجلا لذلك كان النسيان سبيلا لهلاكها و قد لا يكون عشقا أسطوريا ذلك الذي يشدها إليه بدغمائية حمقاء بل مجرد تعود والتعود يا صديقي هو ذلك الإحساس المبهم الذي يصلبك على عمود الصبر و يقتات من سكينتك في صمت..

أفقدتها مطاردة السراب توهجها فأصبحت تاريخا لامرأة مهزومة تسري على أرض الذكرى، تنادم الوجع و تقتات من حروفها الهجينة التي أضحت تخافها أكثر من خوفها من الديدان البشعة ..              

لم تكن بحالة جيدة للكتابة لكنّها لا تقوى أو بالأحرى لا تجيد شيئا سوى الكتابة التي نحتت مصيرها كأنثى فاعلة لا ترضخ لذلّ القيود الشرقية وقد لا تكون بارعة في تطويع الكلمات لكنّها كانت تتنفس من رئة الحروف ..

عبثا حاولت التحرك مجددا في هذا المكان المظلم،

أين ستجد الورقة و القلم؟ ربما أنساهم حزنهم أن يضعوهما أو لأنّ لا أحد يضع قرب كفن الكاتب عدّة إبداعه..