تقدم (الكلمة) هنا ديوانا شعريا عبر بين العراق والمنفى، وظل يعيش حالة "المابين"، لأن هذه القصائد تؤرخ لسيرة كتابة وحياة في منفى دام لأكثر من 37 عاماً في فرنسا. وتنقسم هذه المختارات إلى مرحلتين، مرحلة المنفى ومرحلة العودة، وما بينهما يطل صوت شاعر يتلمس شعرية التشظي وملامح "وطن" كاد أن ينمحي.

ديوان العدد

قصائد بكلِّ أتربتِها

صـلاح الحـمداني

عُزلَةُ قُبّرَةٍ في غابَةٍ تَحتَرِق

إلى" كاظم جهاد"

 

مَراتٍ أفتَحُ النّافِذَةَ شِراعاً

وسْطَ مُحيطاتٍ مِنَ الجُدرانِ

أنَفُضُ وجهي مِنْ أقصى شُرفَةِ العُمرِ

فَتَتَساقَطُ بِذراتُ الليالي،

مُبَعثَرَةً في بُستانِ وَهمي،

سَمِّهِ إنْ شِئتَ، القَدَرَ

وإنْ أحبَبتَ فَسَمِّهِ الشِّعرَ !

 

ماذا يَحصُدُ، هذا الذي زرعوا في روحِهِ المُصيبَةَ ؟

هذهِ هيَ الحياةُ، كانت

واليومَ هي كذلك

لَيسَ إلاّ العَجاجُ !

 

ماذا سنَفعَلُ بِقَتلانا ؟

وبهذا الماضي المُستَفحِلِ فينا ؟

والقصائِدِ المُرتَجِفَةِ تحتَ المَطرِ ؟

 

واحدٌ يَتلو الآخـرَ

واحِدٌ يَتلو الواحِدَ

هكذا يَستَأنِسُ الرّحيلُ بالأصحابِ،

في عُلَبٍ تُغَلِّفُها رائِحَةُ فُصولٍ

يَجهَلُ مَغزى عُزلَتِها شُعراءُ القواميسِ.

 

ليسَ هي نَزوةً،

أوْ فقرَ فكري،

في زراعَةِ الوَحشَةِ والغُربَةِ،

واللّحْظاتِ المُحَدّبَةِ،

الخوفَ والمجهولَ "والمُختلِفْ".

 

أعطِني بَعضَ حُرِّيَةٍ أو ما شابَهَ

وسترى أنّ الحياةَ ليسَ لها بديلٌ !

 

أحياناً، وكثيراً منَ المَرّاتِ

أُجَدِّفُ مُنفَرِدا بِكَلِمَتي،

وإذا لَمْ تُصِبِ الهَدَفَ

لَأَكُنْ إِذاً أنا مَرماها ومَقصَدَها

وأموتُ وحيداً

 

مذبوحاً بقصائدي

تتلاطَمُ في بَدَني الأمواجُ

مِثلَ سواحِلَ موحِشَةً !

لا يطأها قَراصَنَةُ اللّغَةِ !

 

من قصائد 1986 ـ 1996

 

 

قِنديلٌ للقَبرِ، أجنِحَةٌ لِلكَفَن

يَتَأَرجَحُ الدُّجى

شُرفَةً لهذا السّوقِ

أشرُدُ

أنْسُجُ سِرحَهُ خيْبَتي

يَنفُرُ خافِقُ السّاقِيَةِ

مَذبوحٌ

ظِلّي المُتَثَلِّمُ في السّقفِ.

 

الحيطانُ تعدو فوقَ جسدي

وأعاصيرُ الغَسَقِ تشهَقُ خامِدَةً

تَتَأَرجَحُ " بغدادُ "

مِزلاجاً لِلبحارِ

السّفرُ

القبورُ

مِزلاجٌ لِلكفَنِ.

 

كسيحاً يَندَسُّ في ضلوعي الحَنينُ

أَصُبُّ في المَمشى خيالي

ظُفرَ البابِ

 

أغزِلُ أجنِحَةً منَ الماءِ

أجنِحَةً منَ الأصابِعِ

أستفيقُ جنيناً منَ الرِّمالِ

أعيدوني صوبَ خُسوفِ الأمْسِ،

أُزاحِمُ خَيّالَةَ الإعرابِ،

وأعُرُجُ خليلاً باتّجاهِ البادِيَةِ،

فأنا سائسُ الغُربَةِ

نَبَتَتْ أوردَتي في رُطوبَةِ المنافي.

 

الفِئرانُ تَكتَظُّ

وقَنّاصُ المآتِمِ أضَلَّ خابورَ العَوّامَةِ،

وذاكَ الشّاعِرُ

الصّبرُ،

يَتَلَبّدُ

يوخِزُ العّتمَةَ سِراً في النّهارِ.

 

وتَتأرَجَحُ "بغدادُ"، لَبْوه هديله

وصراخُ الماضي المَشلولُ على الطريقِ / مُخاطٌ

يَسُبُّ، يَسحَلُ

مُنكَمِشاً، كنُهودِ عجائِزِ الموانئِ.

 

لنْ تروحي "كرملُ[i]"

ستأتي "بغدادُ" طافِيَةً

مثلَ ذكرياتِ قُرصانٍ غريقٍ

تَحمِلُها رَغوَةُ الأمواجِ منَ البعيدِ

ففي خُسوفِ الأمسِ

انطَفَأَتْ

نشيجاً أبَكَمَ

يُلاحِقُ سَنا الماءِ

القافِلَةُ...

 

عندَ احتضاري

اسحليني صوبَ إِقفارِهِمْ

لأرْفُسَ كالنّهرِ اليابِسِ

وأموتْ.

 

من قصائد 1974 ـ 1979

 

 

أنين بمحاذاة النافذة

من خلال دموع زجاج النوافذ

هناك، حيث يرتطم بصري بالبعيد

                وطني طفل

                لا يزال يضرب على قفاه

والمقابر هنا دثرها وشاح الثلج.

 

من قصائد 1974 ـ 1979

 

 

الحقيقة

إلى "حسن مسعودي"

 

اكشطوا الصيف من الحيطان

والنظرات العتيقة من الرفوف

فليس إلا العازف النحيل :

تنزف من بين أصابعه الأنغام

رجال بلا أجنحة

تائهون

في غابة من الكلاب.

 

اذبل، في حارة اللقطاء،

المرآة مسلوخة والذاكرة اغتصبها الخوف

ليس إلا سرطاني يحبو

جواداً معقوراً،

الجدار يشعرني بالبرد

عليّ أن أذهب تاركاً عيني تسيل بمعاناة على النافذة.

الحقيقة؛ مزق أوراقك بصمت.

 

من قصائد 1974 ـ 1979

 

 

حِزمَةُ أيامٍ مَفجوعَةٍ بالحرب

ـ 1 ـ

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومُ الرّابعُ والعُشرون:

الخَطوَةُ السّابِعَةَ عشره

 

فوقَ الطّاوِلةِ تَقَيَّأتُ الجِراحَ

مَزّقتُ الوَرَقَةَ

صَعَدتُ

وَضَعتُ المدينةَ في عُلْبَةٍ

والعُلبَةُ وراءَ صخرَةٍ

والصّخرَةُ في جَبلٍ

نَزَلتُ

كانَ اللّهُ طريدَ هُمومي

بعدَ انْتهاءِ النّهارِ يَقرأُ شِعْراً بَدَوِيّاً قاسِياً،

يُسامِرُ مِدفَأَةَ قاتِلٍ الجُثثُ تصحو على ذِراعِهِ

تَضحَكُ..

وأمّي، تَحفِرُ قَبراً لِحصانٍ

تَرفَعُ عباءَتَها شِراعاً للمَنفى

تُبعثِرُ الذّكرَياتِ وِسْطَ عاصِفَةٍ مُحَجّمَةٍ

حولَ السّديمِ تدورُ تبحثُ عنْ حُنْجُرَةٍ في كلمَةٍ

ضاعَتْ في لُغةِ الحَربْ !

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومُ الخامِسُ والعُشرون:

الخَطوَةُ الثّامِنَةَ عَشره

مُعاناتي تُحَوِّمُ في دَوَّامَةِ الأيامِ المَشطوبَةِ

كسجينٍ يَسحَبُ قَمَراً

كامرأةٍ تدنو منَ الشّهوَةِ

كطفلٍ يُلاعِبُ وَجهَهُ المَعكوسَ فوقَ صَفحَةِ مِياهِ فَيضانٍ

كَسَمْكَةٍ تُصطادُ تَوّاً

تَعلَمُ أنّها فارَقَتِ الحَياةَ أبَداً

 

كَفَرسٍ مُصابَةٍ بالهَلَعِ

تعدو

تَضيعُ في رُكامِ الوَرَقْ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومُ السّابِعُ والعُشرونَ:

الخَطوَةُ العُشرونَ

مَعْ وَحشَةِ الدّارِ أبصِرُ خُواءَ شارِعِ "سان فرانسيسكو[ii]" 

أرسُمُ مواعيدَ جديدَةً لهِجرَةِ الفُصولِ

ومِساحاتٍ واسِعَةً كي تَحُطَّ والدِتي مِزقَةً منْ جناحٍ بابليٍّ

وخِلْسَةً تخرُجُ منْ فوطَتِها دجلةُ والفُراتُ

زقاقي السّكرانُ / فانوسُ الطّفولَةِ

وبعضُ حبّاتِ حالوبٍ

لِطريدٍ مثلي ينتظرُ الخلاصْ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومُ الثامِنُ والعُشرونَ:

حكاية:

في الشارع الذي أسكن

مرات،

يمر بغل يجر عربة

والعربة تسحب كلباً

والكلب يعو نافذتي

بغداد، تحوم في الغرفة.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليوم الثالث والعشرون:

الخطوة الحادية والعشرون

كان الصباح وديع،

مثل كلب يرقد بمحاذاة صياد،

حين جاءنا صبي يلهث، وطلب منا أن ننظر اتجاه الأفق..

الأول قال: إنها عاصفة محجومة منذ دهور، والآن أخذت تتنفس.

قال الثاني: كلاّ.. أعتقد أنه مطر مسجون في سحابة، سيصب في فم أرض تأكل التراب والحصى والرجال منذ سنين، وهي الآن تحتضر في أعماق مزارع يسكن وراء الجبال، غذائه الأفاعي.

 

أما أنا، فلم أعبأ بما قالوا، كنت أعرف، أن هذه الدوَّامة لم تكن إلا أصوات قتلى أبرياء،

صراخ نساء ويتامى

جاءوا لزيارتي كي أذبح البحر والمسافة

وأسقي من دم المنفى حنين الطفولة

وأن أسرج فؤادي

المعذب بصهيل الغروب

وأعدو حافياً خلفه صوب العراق.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليوم الخامس والثلاثون:

شرفية

كنت أتمنى أن أكون نصيراً

يعود من الحرب مبتور الساق،

تستقبلني نسوة المحلَّة بالزغاريد وحبات الرز

تقبلني والدتي

تمسح عرق جبيني

تطرد ذباباً يحوم حول مأكلي،

تنفخ حرارة الحساء

تحدثني عن الأعياد

وعن عودة الرجال

تضحك كثيراً لنكاتي

وفي عزلتها

تمطر بكاءً لساقي.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومُ الثّامِنُ والثّلاثونَ:

عينٌ

في بِدْءِ النّهارِ

يَختفي الليلُ في شُقوقِ الجُدرانِ

تأتي خِيامٌ خاطِفَةٌ

خيولٌ / مُعسكراتٌ

جنودٌ مُهَشّمونَ

سلالِمُ تعدو

جُثَثٌ

وصَبِيٌّ مُختارُ مَحلّتي يَتباهى بالحلوى

يَلعَقُ الثّراءَ ـ يَبصُقُ في الخُبزِ

 

وتأتيني مُدُنٍ لا أعرِفُ أسماءَها

وذكرياتٌ،

ترمي بكلِّ ثِقلِها فوقَ الطّاوِلَةِ

كي يَنبَحَها فمي.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

مـرايـا

المرآةُ الأولى:

هذا وجهي الكالِحُ

بومَةُ خريفٍ

تَنعَقُ في الفُصولِ

تَرتوي مِنْ تَقَيّحي / وَتُبصِرُ الشِّتاءَ

 

في الليالي البارِدَةِ

تَتجوّلُ فِيَّ الكِلابُ المَسعورَةُ

نُباحُها المَهجورُ،

جِراحٌ مُتَيَبِّسَةٌ في حَوْلِ النّهارِ،

وفجري،

قُرصانٌ يَسحَلُ الذِّكرياتِ القَتيلَةَ مِنْ تَفكيري

ويَرميها في قاعِ جراحِ بَدَنِكَ

المُتَّسِعِ كالبَحرِ...

 

هنا، يَغتصِبونَ ذاكرتي يوماً بَعدَهُ يَوْمٌ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

المرآةُ الثّانِيَةُ:

أعشقُ فيكِ اللّيلَ والمُدُنَ العَطشى لِلنّومِ

ومَلاّحي البِحارِ التّائهينَ في أقاصي جُزُرِ الرّأسِ

 

ذكرياتي مِثلَ المَطَرِ

لا تعرِفُ قيمَتَهُ سوى تلكَ الأرضِ والظّمَأ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

المِرآةُ الرّابِعَةُ:

أريدُ أخلعَ عَنّي جِلْدَ العُزلَةِ

أعودُ مُؤمِناً

أُكَفِّرُ عَن ذُنوبي

أضاجِعُ كاهِنَةً حسناءَ

صَدرُها مُتَوَرِّمٌ كأوجاعِ ذاكرتي

فعندي لها،

واحَةٌ تَسكُنُها الأرواحُ الخبيثَةُ

صَرْخاتٌ / وصريرُ أصواتٍ،

قَهْقَهاتٌ ونِداءاتٌ أمواتٌ تَشُدُّّ الجدرانَ.

 

وبينَ ساقَيَّ، عندي لها،

خَفّاشٌ

عُزلَتُهُ مِثلُ قَيْظِ الصّحراءِ

وسماؤُهُ ذابِلَةُ الأجَنحَةِ.

 

المَوتُ،

فِكرَةٌ عِلمِيّةٌ لِلتّخَلصِ نِهائياً مِنَ الجُبْنِ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

حِزمَةُ هُمومٍ

من قصائد 1980 ـ 1993 كتبت في أسبانيا

 

صُدفهْ:

تَفتَحُ نهاراً

فَتنهالُ عليكَ الحيطانُ

أزَمِنَةٌ جَدْباءُ

مَعصوبَةُ الرّؤوسِ.

*

مَرّاتٍ

تَضَعُ نَفْسَكَ في كِتابٍ

وتَنتَظِرُ

عندما تَهْبِطُ مَرّةً أخرى

تكونُ جميعُ الجُدرانِ قدْ رَحَلَتْ

والأفكارُ تعدو

مراياً تَتَعَثّرُ في الرّؤيَةِ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

*

ومَرّاتٍ

يَزورُكَ دَمُ القَتلى

عصافيرٌ نَحيلَةٌ

تَحُطُّ خِلْسةً فوقَ شُرْفاتِ الذّاكِرَةِ

تُفشي بَعضاً منْ أسرارِها لِجفافِ الماءِ

وللحقولِ المَجهولَةِ

المُبَعثَرَةِ في الوَرَقْ.

*

بعيداً عنِ القيْظِ

بعيداً عنِ الرّبيعِ

تأتي الفصولُ

والأعوامُ العِجافُ حَناجِرَ تطعَنُ السّحابَ،

لا مَطَرُ الصّيفِ

لا فِخاتُ الصِّبا تأتي،

أنا وعزلَتي

والحنينُ إلى "بغدادَ" يزدادُ حَجْماً،

دَوّامَةٌ تَكْنُسُ الأقمارَ.

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومَ،

هَشّمْتِ مِرآةَ الصّباحِ

وَضَعْتِ الخُروجَ في صُرّةٍ

وَرَمَيْتِ الصُّرّةَ في بِئرٍ

تجرَعُ مَرارَةَ الفُراقِ.

 

خَرَجْتِ مَعَ العُزلَةِ

كانت "بغدادُ" في جميعِ الجِهاتِ.

*

خَطْوَةٌ ـ خَطْواتٌ

المَطَرُ مُهترِىءٌ

وَسِكَكٌ تُزهِرُ في البَدَنِ

أرْكُلُها،

والفِكرَةُ ساخِرَةٌ

تعدو صوْبَ "العراقِ".

 

من قصائد 1980 ـ 1993

*

مثلَما كانوا يَحلمونَ

كنتُ أريدُ أنْ أَنْبُتَ نَخلةً

مِن الأرضِ المَحروقَةِ

ولكنْ،

ما لذي يستطيعُ الأعرجُ فِعلَهُ

في حَلْبَةِ الرّقصِ.

*

هذا كلُّ ما أردتُ أنْ أبوحَ به لِلمنجمِ

دموعاً وَبُعداً

وَشيباً أخلِطُهُ مع ذِكرياتِ الصّبا.

 

أحيكُ الدّموعَ والبُعدَ والشّيبَ

وفي منتصفِ اللّيلِ أرتدي كلَّ هذا

أنادي الطفولَةَ

المُمْتَدّةَ مِن نافذتي

حتى أضرحَةِ الوَطَنْ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

*

أأكونُ حمامَةً تنوحُ

وَهُمْ أرواحٌ جَبانَةٌ تحتمي بأسماءِ القتلى.

فبينَ قضبانِ "أوربا" وقضبانِ "بغدادَ"

عيوني خيولٌ هائِجَةٌ

تَتَرصّدُ الزّمَنَ،

والمُستقبَلَ هنا صَفيقٌ.

*

رَجُلٌ بلا ماضٍ يُشبِهُ أرضاً بلا ثمارَ

كلّما سَقَيتُها ازدادَتْ جفافاً

ثمَّ يورِقُ الخرابُ.

*

لمْ تكنْ يدي مُلَطّخَةً بالسُّمِّ

لمْ أكُنْ سَبَباً لعويلِ الأطفالِ

بلْ كانت أحزانُ الوجوهِ تُعتِمُ الدّارَ.

من قصائد 1980 ـ 1993

*

أحياناً

أنزَعُ عنّي الذّاكِرَةَ

أنشُرُها هكذا فوقَ الكُرسِيِّ

وأستَرِقُ السّمعَ.

 

وأحياناً يا "عراقُ" 

أسمحُ لنفسي بالبكاءِ

أصرخُ في وجهِ الرّيحِ

أنزَعُ عنّي الهُمومَ

أركُضُ صوْبَ الانتِماءِ

حتّى تلْهَثُ النّجومُ.

 

بَلَدي

لَمْ يَبْقَ عندي هذهِ اللّيلَةَ

غيرُ كَلِماتٍ بَسيطةٍ عنِ الحُرِّيَّةِ

أكسو بها عَورَتَكِ،

 

وَلَمْ يَبْقَ عندي في عِزِّ القَيْظِ

زادٌ لفصولِ البَردْ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

النهار المجهول

في نهارٍ ما

سأجيئُكمُ مِثلَ زَخةَ مَطرٍ

لا تَبخَلوا بِفتحِ النافذةِ

فأنا أسرابٌ مِنَ القُبراتِ

تَحطُ على سطحِ الدارِ

وفي عِزِ الضُحىَ

سأقصُ عَليكُمُ مَآسي المنفى

ومِن ثَمَ أكلُ أجنِحتي

لكي لا أطير.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

الرجل المجهول

ذاتَ يومٍ ستنتهي الحربْ

ويعودُ المنفيونْ

ستكثـُرُ الحكاياتْ وتقامُ الولائمْ

سيـَكذُبُ البعضُ

ويبالغُ البعضُ الآخرْ

أما أنتَ

ستعلقُ ذاكـِرَتَكَ فوقَ مشجَبِ الأيامْ

تسترقُ السمعَ

فيكَ العراقُ يَحيا

وفيكَ العراقُ يَموتْ

لا زائرٌ يعرِفـُكْ

لا مارٌ

لا فصولْ

وحيداً

تتطلعُ فيكَ الوجوهْ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

حِزمَةُ أيامٍ مَفجوعَةٍ بالحرب

ـ 2 ـ

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومُ الأوّلُ:

عنديَ رَغبَةٌ بِرؤيَةِ والدتي

وِسْطَ هذهِ الصّخورِ

تورِقُ منَ الرِّمالِ

ومنْ هذهِ الأمواجِ التي تُحَوِّمُ على الشّاطِئِ

منْ أجْلِ أنْ تَموتْ.

 

اليومُ الثّاني:

صبِيٌّ نحيلٌ

يَحمِلُ صَحناً

تفيضُ مِنهُ نجومٌ مُتكاسِلةٌ

يَمتطي درّاجَةً هَوائيّةً،

يَنظـُـرُ

ظِلُّ شَجرَةِ زيتونٍ يَطفَحُ

في عُيونِ امرَأةٍ عجوزٍ

تُطاردُها الذّكرياتُ

وِسْطَ خَرائِبِ الحَربِ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومُ الرّابعُ:

ألوانُ المنازِلِ لَمْ تَتَغيّرْ

ولَمْ ترحلِ السّطوحُ

إلاّ امرأةً بدينةً

تتعرى بِنَزَقٍ أمامَ فواختِ الصّبا

تَنزَعُ ذِكرياتِها

المُغرِقَةَ بالحربِ

تنشرُها على حبلِ العُزلَةِ

بمواجهَةِ نافذةٍ مُتهدّمَةٍ

فوقَ رصيفِ الانتظار...

ساعي البريدِ يَبتَسِمُ !

 

اليومُ الثّامنُ:

الخَطوَةُ الثّانِيةُ

 

أعدو.. يُطارِدُني النّخيلُ المُصابُ بنُدْباتِ الحَربِ

تطارِدُني "بغدادُ"

وأرقامُ قتلىً تُكَفكِفُ الدّموعَ

تَجهَلُ شروطَ التّسَلْسُلِ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومُ الخامِسَ عشر:

الخَطوَةُ السّابِعَةُ

في مُنتصَفِ الليلِ يَسْقطُ الكِتابُ

تَختلِطُ الأحاسيسُ

وتطفو الذاكرةُ معَ الأشياءِ

تَبْتَلُّ العيونُ،

ألاّ ابتسامَةُ المرأةِ البدينَةِ أمامَ نافذتي

تَقتَنِصُ الشرودَ

تومِئُ بِمِنْديلِ الحِدادِ

لِعوْدَةِ القُبّراتِ المَريضةِ بحكاياتِ الحربْ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومُ السّادِسَ عشر:

الخّطوَةُ الثّامِنةُ

عُزلَتي كهذهِ الحيواناتِ الغريبةِ

التي تتقافزُ في أمعاءِ البحرِ

في عيونِ صَبيٍّ يصحو في داخلي

دِشداشَتُهُ[iii] والمُخاطُ

يكتبُ فيَّ

يَنفضُ غبارَ المُدنِ

يَحتجُّ

يَصرخُ في صباحاتٍ مَسلولَةٍ

تَستفيقُ بينَ أركانِ مقابرِ قتلى الحربِ

المُكتَظّةِ في الرّأسِ

 

يا أمي، هذا الصّبِيُّ

ما عادَ يحتمِلُ غيابَ النّخيلْ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومُ السّابِعَ عشر:

الخَطوَةُ التّاسِعَةُ

الرِّحلَةُ ستكونُ طويلَةً

مثلَ أفكارِ شاعرٍ مَنفيٍّ تَتسابَقُ فوقَ الوَرَقِ

ذاكِرَتُهُ: أمواتٌ يَتساقطونَ في ثيابٍ سودٍ

تَنشَفُ على حَبلِ الحِدادِ

في رحابِ مَرفَإٍ مَسكونٍ.

 

المراكِبُ مُستَرخِيَةٌ هذا المساءَ

مثلَ بَدَوِيّاتٍ يَنتَظِرنَ عُرسانَ الفجرِ

بينما الحربُ العراقِيّةُ ـ الإيرانِيّةُ

دَخَلتْ عامَها الثّامِنْ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومُ الثّامِنَ عشر:

الخَطوَةُ العاشِرةُ

 

أَجْهِضْ..

تَقَيّأْ صَيْحاتِكَ

فَخلفَ البابِ، بواباتٌ

وبينَ الزُّقاقِ والرُّواقِ رائحَةُ نهاراتٍ مَنْسِيّةٍ..

شوارِعٌ،

وَرَبٌّ يَسْتَرِقُ السّمْعَ خِلْسَةً لانْدِلاعِ حَربٍ في رأسِ صَبِيّةٍ تَقضمُ فضْلَةَ خُبزةٍ مُغَمّسةٍ بِدَمِ والدِها

تَتَخبّطُ

تَتَهجّى،

تَقرَأُ دِماءَ قتلىً بلا أَسماءَ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومُ العُشرونَ:

الخَطوَةُ الثّانيَةُ عشر

مُبَكِّراً يزورُني عُصفورُ "الماغوط الأَحدَبُ

مَعصوبَ العينينِ

يَفتَرِشُ جناحَيْهِ أكُفّاً فوقَ عَتْبَةِ الدّارِ

يُنشِدُ الوَطنَ المَصلوبَ بين الصحراءِ والحربِ

يَنقُرُ كَلمَةً في قاموسٍ

يَنثُرُ ريشَهُ

أجنِحَةً لِفَمي

وَيموتْ.

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

اليومُ الثاني والعُشرون:

الخَطوَةُ الخامِسَةُ عَشره

ابنَتي لمْ تَزَلْ راقِدَةً

لِحافٌ مُتَكَوِّمٌ،

مِثلَ مَيْتٍ مَتروكٍ في مَقبرَةٍ

 

سماءٌ غائِمَةٌ في الرّأسِ

وفي الجُيوبِ مواعيدُ أحزانٍ مَجهولَةٍ

وَرَجُلٌ نِصفُهُ عارٍ

إنّهُ مُرَبّعٌ

يَحمِلُ مِشعَلاً

وفأساً

ومنْ بَعيدٍ،

أنظُرُ وَطناً

يُجهَضُ بِصعوبَةٍ

يَضعُ بينَ فخذَيْهِ

مِرآةً

فيها الصّباحُ مقتولٌ !

 

من قصائد 1980 ـ 1993

 

بغداد ـ باريس

"Baghdad-Paris"

 

قصائد2004 ـ 2006

 

آخر الحديث

بعدَ العودةِ إلى بغداد

لكي أتمكنَ من الاقترابِ منكِ، كان لزاماً عليّ أن أهجرَ الحلمَ الذي اعتدتُ أن أحدِّثَ الغرباءَ عنهُ، وأتركُ نفسي فريسةَ نفسي حينما تسرفُ اللحظاتُ بذكرياتها. أرتبُ أحاسيسي كمن يعدلُ ترتيبَ مكانٍ مهجورٍ. وأصفي حساباتي مع مشاويِر الندمِ، أعاتبُ القدر. أفتحُ منافذَ النهر وأستمعُ لأحاديثهِ.. نعم، أردتُ العودةَُ إلى قربكِ بكلِ وجودي.. مثلَ متعبدٍ، لا تنفعهُ آياتُ التوسلِِ، يخطو وفوقَ لسانهِ أبجديةُ الأسفارِ، وزلاتُ بدنهِ تستفحلُ كلما يقتربُ من القبر.. كيف أذن، ما العملُ؟ وماذا أنا فاعلٌ بنفسي؟ وسطَُ الطريقِ، أنا وذاتي وضنى مشقةُ الأيام، لا شيءَ سوى حنانٍ أهربهُ مع أفكاري، على أملِِ أن أُصبحَ يوماً جزءٌ من المكان.. المكانُ المفتقدُ، المتخيلُ، الحقيقيُ، المكانُ الذي سأرقدُ في ظلالهِ كي أكتملَ من جديد.

أعودُ إليكِ، أسائلكِ عن ضياعِ الطفولةِ، عن مصير الرجولةِ، عن الصفحاتِ البيضاءِِ التي لا زالت في عمقِ الجرارةِ الخشبيةِ، عن وجهِ ذاك القمرِ المشتبهِ بتحديهِ للجلادينَِ الجددِ، والذي تركتكِ تخبئينهُ منذُ رحيليَ الثاني تحت الشراشفِ المطويةِ بعنايةٍ في الدولابِ.

لا أنوي بعودتيَ البحثَ عن الزمنِ الضائعِ، عمرُ الصبا، بل لشدّ الماضي بالحاضرِ، حتى أمتلئُ بمسيرتي خارجَ حدودِ المؤلفاتِ، الحدادُ المستفحلُ دوما، والمنجمينَ والقتلة.

مرة أخرى، نعم، جئتُ أبحثُ عن مصيريَ في أطيانكِ ونجومكِ الوسخة.

لم أقل وداعا لأحدٍ، فلم يبقَ من يبكي على فراقي.. ولم آتِ إلى هنا كي التقي بأحدٍ، جئتُ لأمكثَ تحت ظلكِ بعض الوقتِ، بعد أن جُهِدتُ ولم أجد مأوىً في غيابك.

أعودُ من جديدٍ لأسائلَ روحي، وأقودُها مثل ضريرٍ يعبرَ زحامَ القتلة، خطواتُهُ تتعثرُ بغثيانٍ عتمتِهُِ.

أعرفُ، حينما يتوارى وجهُ الموتِ ستأتين، ولحظتُها سأسحبُ النورَ من رقبتِهِ مثلَ الجاموسةِ المعتوهةِ لأوشيَ بكلِ نذالةٍ عن مخبأِ الفاشيين.

أخبريني، كيف تريدينَ أن نشيدَ معاً وطنُناً من الخرابِ؟

 

من قصائد 2004 ـ 2006

 

ذاتٌ في العراءِ

تلك هيَ فِسحةُ المطرِ

فيها تغرقُ الأكواخُ

ويطفو العدمُ

رغم ذلك الجسدُ يفتحُ خزائنَ أسرارهِ

على بعد خطواتٍ من طفولتي.

 

سأكملُ هذه السطور ثم سأعدو خلفَ شبابي

حيثُ سبلِ النخيلِ المقطعِ الرؤوس

هكذا يريدُ منا القتلةُ، أن نتمرغَ في الخوفِ

ونهجرَ إنسانيتِنا، نخرجَ من أبنيةِ أنفسِنا.. عراةً

نعدو خلف حياةٍ أدارت ظهرها للنعيمِ.

 

ثم ماذا سيبقى يا حبيبتي

حتى الليلُ ملَّ الانتظار

حتى شكوى الشعراء

حين يطفو ضناهم

مثل جنودٍ ينشفونَ جراحَهُم في العراءِ.

 

من قصائد 2004 ـ 2006

 

افتحي النافذة

صباحُ الخيرِ يا أمي

النهارُ يتدلى على النافذةِ

 

صباحُ الخير يا أمي

أراكِ تتأرجحينَ بصحوتكِ

وأملُكِ قد أوقفهُ الحراسُ الليليين

 

وحدها خرزُ سبحتكِ تطقطقُ في عتمةِ الرواقِ.

هل تفكرينَ بي؟

حينما تنهزمُ الناسُِ بلا أشيائها.

 

الليالي تتدافعُ مثلَ حباتِ سبحتكِ

أسيرةٌ مداراتُها

وأنا أسيرُ منفايَ

تبقينَ بثوبكِ المنقطِ بوردِ الحدادِ

ونوركِ الملوثِ بالترابِ

منشغلةٌ دوماً

بملءِ كيسِ الحياةِ ببطاقةِ التموين.

 

ما هو شكلُ صباحُكِ الآن؟

هل نمتِ بما فيه كفايةِ كبارِ العمرِ؟

هل حلمتِ؟

أي سورةٍ قبل النومِ قرأتِ؟

 

أنا أتذكرُ ابتسامتُكِ

مع هذهِ الغيومِ المشدودةِ بالحائطِ

وأتذكرُ ضياعي

وأهدابكِ المبللةِ بالغبارِ

في لحظةِ وداعنا الأخيرِ.

 

حُلميَ ثقيلٌ يا أمي.

 

من قصائد 2004 ـ 2006

 

وعيد

سأكونُ ضيفَ شرف ٍعلى قاموسِ لغةِ الضحايا

أبحثُ عن كلمةٍ ضاعت في ألسنةِ المفخَخينَ الإسلاميينَ

سأكونُ جسرا لتقاربَ استغاثاتِ المغيبينَ

سأؤشرُ على خطيئةِ القتلةِ

سأعبُرُ الريحَ والاستغاثاتُ في حافلةِ اللغةِ المهربةِ

لأكفئَ وجوديَ مثلَ حصانٍ يجثمُ أمامَ بابِ كتابكمِ المعتوه

مضرجاً بمخيلتِهِ.

 

من قصائد 2004 ـ 2006

 

وطنٌ أطرش

لم يرَ أحدٌ أن للنجومِ مفاصلَ ومشاويرَ

ومقاهٍ آسنةً وشعراءَ لا يكذبون

فكيف تريدني أن أشاركُكَ الحدادَ؟

 

بلا دليلٍ

كنتُ قد شمرتُ عن ذراعي

سحبتُ الرجالَ من هاويةِ الضياعِ

وأخفيتُ المدنَ فوق سطحِ الدارِ

وحذرتُكَ قبلَ الرحيلِ

ويحُكَ وشخيرُ القمرِ

ويحُكَ وغلقُ أبوابِ النهارِ

حين يتدثرُ الفراتُ بجراحِهِ

فلم يجدِ نفعاً نباحي.

واليومُ ها أنا أشمرُ عن فمي

أصرخُ راكضاً بالنهرينِ

أنّ القتلةَ عبروا الضفافَ

وهم يقتربونَ من أكواخِ الأحبةِ !

 

من قصائد 2004 ـ 2006

 

آخرُ الحديث

سأتركَ كلَ أمتعتي

حتى ظلي،   

هذا الرفيقُ الذي لم يوشِ بي

فالأجدرُ بي أن أكونَ خفيفاً لمواجهةِ القبرِ.

 

من قصائد 2004 ـ 2006

 

أوهام الحضور

ـ وهمُ الكبرياء ـ

قادماً من جزرٍ بلا سماء

يُحيطُها الرمل

خطىً وآثارَ وقواربَ تغوص

جِئتُكُم من مُعتَقَلي بلا رايةٍ

لم أمدحْ أحداً ولن أطلبَ منكَم الضيافة

أطفأتُ نجومَ الصحراء

وضحكتُ لضياعِ قوافلكُم

رأيتُ منكمْ من يخلقَ الكلبَ لكي يُصبِحَ طريدَتَه

ومنكُمْ من خَرِسَ بحضرةِ الجلاد

واليومَ يكتبُ نثراً عن الفديةِ

وكأنَّ الناسَ كلُهُم دُفِنوا أحياءً

وأن ليسَ هناكَ ذاكرةً.

 

حتى لو جاءَكُم اليومَ نبيُ إسلامِكُمْ لكذبتُموهُ وقتلتُموه

ولنا في هذا الحديث بقية !

 

مررتُ بمدنٍ تاريخُها لا يزالُ يشتعلُ مثلَ دخانِ محارق اليهودِ الأبرياءِ، وقرىً يلتقطُها الأطفالُ مثلَ الأصدافِ

مروجٍ تعبثُ بها الأشباح وأخرى أقفلتُْ أبوابَها خلفي

وهجرتِ الأمكنةِ.

 

طريداً، عبرتُ غرفتي

أدورُ العالمَ على الخرائطِ

أرسمُ حدوداً ثم أمسحُها

وأرَقي طويلٌ مثلَ الكفنِ لا ينقطعُ نفسُه

 

يحتسي القتلةَ شايَ الفطورِ عندَ صحوتي

بينما حصةُ الضباعِ تلكَ الأبدانُ القتيلةُ المتروكةُ في العراءِ.

 

لم أكنْ يوماً طفلاً لكي أبتهجُ بالنجومِ

وقد غربلتُ أحلامي واليومَ أريدُ أن أعيش

 

لم أجئ إليكُم لكي أموت، وكلكامِشِكُم لا يختلفُ عن باقي الطغاة

وسأكتبُ تاريخي وحدي !

عزائي هذا الجرحْ

بغدادُ لوعتي !

 

من قصائد 2004 ـ 2006

 

ـ حضورٌ مزدوج ـ

نعودُ

لا ننتمي لطريقٍ ولا لوحشةِ المدنِ

نُدفنُ في ذلنا

نُمجدُ عزلَتَنا

نُوسِخُ الورقَ بمصائبنا

ننظُرُ كالبدويينَ إلى القوافلِ المهاجرةِ من دفاترِنا

تَرحلُ نحوَ مروجِ الخيالِ

متوهمينَ

نخطأُ بالفجرِ

وبوجهِ قاتلِنا الذي يتنكرُ بخصوبةِ استهلالِ ندى الصباح.

 

نجيءُ أذن

خانعينَ

مخدوعينَ

نضعُ ثقلَ أكفانِنا

غصةً في حنجرةِ التاريخ.

 

من قصائد 2004 ـ 2006

 

ـ حضورٌ مفاجئ ـ

الجوابُ نفسُهُ يهرُبُ مني كلما سقطتُ بكمائنِ أسئلةِ النهار

كلما داهمتني دهشتي

لكي أكونَ حاضراً،

دائماً على سفرٍ مثلَ قافلةٍ ترحلُ بكلِ أتربتِها

يصفرُ بآثارها السراب

بلا ذكريات بلا كتبٍ وبلا خرافاتْ

دائماً نفسُ ذاكَ الجوابِ

العامرِ في القلبِ..

والوطنِ الضيقِ كثقبِ الإبرةِ.

 

من قصائد 2004 ـ 2006

 

ـ حضورٌ مبهمْ ـ

ما سيفعلُهُ هذا الجسدْ ؟

ما سببُ حضورهِ والآخرينَ غيابْ ؟

كيف ستبدو الرجولةُ لو لم تتسخْ بعريِ طفولتِها

أبي وحدهُ يملكُ ربما جواباً على السؤالِ

ولكنه ماتَ ولم أرهْ

بقيَتْ أمي

تعودتْ على غيابي

تعرفُ الوقوفَ على ساقٍ واحدةٍ في السرابِ... مثلَ البجعْ.

 

من قصائد 2004 ـ 2006

 

ـ حضورٌ جديدْ ـ

للخرابِ ضفافٌ

ولحدودِهِ أسلاكٌ وأنبياءٌ وجلادون وعصاباتْ

أما كلماتي هذهِ

فتبدأُ من بغدادَ حيث طوابيرَ انتظارِ خبزِ أبو "العانة"

وتنتهي بحدادِ قصيدتي التي لم تُكتَبْ بعدْ

وحدَها الجدرانُ التي شهدتْ سقوطَ الرفاقِ تملكُ ذاكرة

وحدها مدنِ العالمُ التي آوتِ المنفيينَ تستحقُ التحية.

 

ـ حضورٌ أخرْ ـ

يا بغدادَ

إرسمي وجهي على صفحةِ صباحكِ الباكي

دعي نسَغَ تربتُكِ يزرعُ بساتينَ جديدة

لا تهمني آثارُ بابلَ بقدرِ ما تهمني آدميتُك.

 

من قصائد 2004 ـ 2006

 

بغدادُ حبيبتي [iv]

[قبلَ مجيءِ الأيامِ السعيدة]

لا تـَصلـُبي نـَفسـُكِ

في حافةِ ورقةِ تاريخ ٍ ليسَ من رحمكِ

ولا في إيقاع ِالأمواتِ الذينَ يُغطونَ مصائـِبكِ

فلا يوجدُ في هذا العصرِ صراخٌ يكفي لشفاءِ أوجاعكِ...

 

لا تـَصلـُبي نـَفسـُكِ

على ضفافِ سواقي نزيفَ جَسَدُكِ

حيثُ الفراتُ لا يزالُ يُنـَشفُ أسرارَ روحِهْ

من أجلِ ولادةِ هَزيمةٍ أخرى...

 

أعرفُ،

لا يوجـَدُ في هذا الكون ِجرحٌ يـَستـَحقُ الحربْ !

 

فلا تـَصلـُبي نـَفسـُكِ

مع موعدِ سقوطِ الليلْ

وأنتِ لم تـَكـَملي بعدُ دُعاءـُكِ

على أبدان ِنـَخيلكِ المقطع ِالرؤوس...

 

واعلمي،

لا يوجدُ في هذا الكون ِقاتلٌ نبيلْ !

 

لا تـَصلـُبي نـَفسـُكِ

من أجل ِرمادِ النكباتْ،

أو من أجل ِضَريح ِآلهتكِ

ولا تستنزفي في سبيل ِإيمان ِبشريةٍ مٌشرِفةٍ على الهلاكْ...

 

بَغدادُ حبيبتي،

لا أبنٌ، لا أبٌ، لا إلهْ،

لا يوجدَ نبيٌ سينقذُ رُوَحكِ

لا ذاك الذي توجتهُ الكنيسةْ

لا مَن هاجرَ إلى مكةْ

ولا نبيُ قوم ِالرافضينَ لمقاسمةِ الزيتون ِفي فلسطينْ...

 

بغدادُ حبيبتي،

ها هي مـُفـَكرتيَ الصغيرةِ عن الحربْ

عن أعوام ِالمنفى

مطوية ٌفي حقيبةْ

متروكة ٌمنذ زمن ٍبعيدْ

مع أحلام ِالمحكوم ِبالموتْ

 

ها هي حُصَتي كضحيةْ

حُصَتي من القمرْ

حصادي منَ العدمْ

حُصَتي من الغبار ِمن الهلاكِ والاحتجاجْ

 

ها هو منفاي

مثلُ فارزةٍ في جُملةٍ عن الحياةْ

يـُقفلُ عليها خطٌ من الحبر ِالقاني...

 

بَغدادُ حبيبتي،

كنتُ مُتربعاً في زاويةِ ورقةِ دفترْ

في منجىً من وحشةِ أيام ِالقيظْ

بعيداً عن سَيل ِتـَدفق ِالدماء

الذي يَجرفُ أسماءَ أبنائكِ المقتولينَ غدراً

والذين ماتوا بسببِ صمتِ الجبناء...

 

بغدادُ حبيبتي،

كنتُ مثلَ قرويٌ مُنزوٍٍ في السراب

متمدداً فوق ضِفافي،

أحتـَضَنُ كـَفني برأفةْ،

بعيداًَ عن صَليبِ المسيح،

عن كفِ فاطمةِ الزهراء

وبعيداً عن نجمةِ النبي ِداوود...

 

كنتُ بعيداً عن كـُتـُبـِهمِ المقدسةْ

وعن حرُوبـِهمْ

تائهاً في الكثيبْ

من الباديةِ إلى المدينةْ

أتنقلُ بجسدي من الفصولِ إلى الفصولْ

أجرجرُ بكِ من الديوان ِإلى المرآةْ

ومن غرفةِ النومِ إلى الشارعْ

موزعاَ بين مسوداتيَ وعـُزلتيْ

في منجىً من مقـَابـِرهِمْ

من شُهدائِهِمْ

من الصلاةِ على أمواتِهِمْ

وفي منجىً من براداتِ جثـَثِهِمْ...

 

بغدادُ حبيبتي،

لا ترتجفي على عتبةِ أنقاضِ الأيامْ

ثَمة َحضارةٌ رَوضَتها الجريمةْْ

تَغتصبُ اليومَ بكـَارتكِ من جديدْ...

بغدادُ،

يا مدينة ًلم تستـَسلم أبداً لجزارها صدامْ

لا تئني اليومَ

وتقيئي ملءَ فمكِ هذهِ الهيمنةِ الأجنبيةِ فهي لم تـَجئ لخلاصكِ

وأنَّ هؤلاءِ المحرضينَ الذينَ يدورونَ حولَ احتضارِ بدَنكِ

من لصوصٍ وأعرابٍ قتلةْ

ومن جاءوكِ "مُحررينَ" هم شركاءُ الطاغوتِ صدام باغتصابكْ...

 

ولا تنسي أبدا:

فليس كـُلَ من ارتدىَ العمامة َنزيهْ

وليس كـُلَ من رَفعَ السلاحَ بوجهِ المحتلِ وطني...

 

بَغدادُ يا جُرحي،

لقد دُفنَ أبيَ العاملِ بين خدودِ فصولكِ وهو لم يعرفُ الفرحْ

وأضاعتْ أمي شبابـِها في المرآةْ

وشاهديَ الوحيدُ على بداياتِ حُزنيْ

هي طفولتي التي لا زالتْ تعدو بين جدائلكِ

هبوبُ عواصفَ الرمالِ

والسماءِ المكتظةِ بالنجومْ

ونداءُ المؤذنِ للصلاةْ...

 

مدينة ُالسلامِ، يا خليلتي،

ويا روحَ الكتابةْ !

كم تمنيتُ في هذا اليومِ

لو أن الإنسانَ لم يكتشفُ النارْ

ولكنه كالأرعنِ، يخطو مثلَ الأطرش ِفي ضجيجهْ...

 

هذهِ الأرضُ التي شهدتْ على ولادتي

هي اليومُ مرهونة ٌللموتْ

 

آه يا أُميَ لو تعرفينْ

ليّ رغبة ٌبالعودةِ إلى بدنكِ

أستمعُ إلى دقاتِ روحكِ

وأرتوي من بداياتِ تـَمتـَمةِ أنفاسـُكِ الطاهرةْ !

 

من قصائد 2003 ـ 2004 مترجمة عن الفرنسية


 

قصائد بغداد

مقاطع من قصائد كتبت باللغة الفرنسية في بغداد عام 2004، ثم ترجمها الشاعر لتنشر في باريس باللغتين العربية والفرنسية ضمن كتاب فني حمل عنوان "قصائد بغداد" عام 2005. ثم نشرت كذلك في كندا ضمن مجموعة شعرية حملت عنوان "بغداد سماء مفتوحة وذلك عام 2006.

 

ثلاثونَ يوماً مقابلُ ثلاثينَ عاماً

 

ألمْ أطلِقْ على الأشياءِ أسماءَها

مثلَ تَكرارِ الفُصولِ

مثلَ يَدٍ تَمتَدُّ نحوَ الغرقى ؟

ألَمْ أقُلْ :

نهايةُ أيِّ شيءٍ يتوقَّفُ دوْماً على أنْ يأخُذَ مَحَلَّهُ شيءٌ آخرُ ؟

رائحةُ الطفولةِ تُبتَعَثُ من مَدِّ الأترِبَةِ

فيما مَوْكِبُها يُشيِعُ ريبَتي... بِبُطءٍ

يَتَزَحلَقُ نحوَ جذورِ النَّهارِ...

 

أريدُ أحبو بمُحاذاتِكِ

وفي أعْمَقِ الكَلماتِ ما لمْ يُكمِلْهُ المَنفِيُّ

 

الفجرُ يَتنفّسُ فوقَ "بغدادَِ"

وعضّاتُهِ تَنفَرِدُ بي

أمّي منْ نَسْلِ النّورِ

ليستْ تحتاجُ إلى مُحاكمةِ العَتمَةِ

فقطْ، قليل من السّكونِ

لَحظَتَما آبَ ولَدُها المَنفيُّ

لِيَحُطَّ على غصنِها

مصحوباً بِنَجمَةٍ مَوشومةٍ بالضّبابِ

 

لأنهُ يعودُ إلى دارهِ

مثلَ مُرورِ لاجيءٍ

لاجيءٍ يبحثُ عن اقْتِسامَةِ الابتِسامَةِِ

نِِتفَةِِ خُبزٍ

مكانٍٍ للنّومِ

والشهادةِ على غَرقِ الأُفْقِ.

 

من قصائد "بغداد" 2004 ـ 2006 المترجمة عن الفرنسية

 

في قلبِ "بغدادَ"

يَسيلُ القمرُ على يدي

وغداً سأشدُّ على الحبلِ الغليظِ للزمنِ

كي يَتَخَلّقَ الفجرُ على خُطى الذين أُعدِموا

هنا، لم نَعُد يداً بيدٍ

والندّى يُغطّي مرَجاً مِن الَقابرِ

الفارغةِ يا للعَجَبِ !

 

في قلبِ "بغدادَ"

أغرسُ لَحْظاتِ المَنفى المُهمَلَةِ

مثل كُثيِّبٍ من حَجَرٍ

حضورٌ يمضي طيلةَ جدرانِ الأزقةِ

حيثُ لطالما تَمَنَّينا الفَأسَ

 

أمامَ هذهِ المدينةِ المُدمَّرَةِ حتى الرُّكَبِ

ورجالٍ كُرَماءَ مُتزاحِمينَ في نعوشٍ

ما بَرَحَ مُجرِمو الدّاخلِ يُلوِّحونَ بِراياتِهِمُ المُخزِيَةَ.

 

في قلبِ "بغدادَ"، أنكَفِئُ مثلَ السّرابِ

بلا اندفاعٍ، ودونَ لياقةٍ

أتشبّثُ بِوَهمِ البَدَويِّ منْ جَديدٍ

وآمالي المُتخثِّرَةِ في الدفاترِ

 

دونَ أيِّ اندفاعٍ

في القَيظِ والعَواصفِ الرّملِيَةِ

ومَعْ أَنَّ رَجفَةَ حياةٍ بسيطةٍ هي تحدٍّ للموتِ

تبقى هذه الوَهلةُ بارِدَةً.

 

من قصائد "بغداد" 2004 ـ 2006 المترجمة عن الفرنسية

 

لا شيءَ فوقَ المَدينَةِ

حُدودٌ ثَمِلَةٌ مِنَ الضّبابِ ومِنْ رجالٍ رماديينَ

طريقٌ مُعربِدةٌ يَتَسَكّعُ فيها الأُفْقُ

لا قمرَ هذهِ الليلةَ

لإحياءِ وجوهِ أطفالي

لا رقصة في القلبِ

لا صُراخَ نورسٍ في الذّاكِرَةِ

لا حورية

لا نُباحَ في شِدَّتي

في هذهِ المدينةِ ذاتِ المِلْيونِ كَفَنٍ

لا سَرابَ في عَينَيكِ.

 

من قصائد "بغداد" 2004 ـ 2006 المترجمة عن الفرنسية

 

وَحْدَها السَّجّادَةُ القَديمَةُ كانت تُزَيِّنُ الأرضَ

تغيَّرَ عُنوانُ الدّارِ

انتَقَلتْ صورَتي مِن مَكانِها

الطاولةُ مَطويةٌ خلفَ البابِ / وكُرسِيُّ أبي أيضاً،

 

وحدَها السَّجّادَةُ القديمةُ كانت تُزَّينُ الأرضَ

أخيراً عَثرتُ عليكِ في حديقةٍ عارِيَةٍ

بِشالِكِ الأسوَدِ الكبيرِ

سارِحَةَ الذِّهْنِ مُنسجمةًً في صَلواتِكِ

العُمرُ مُحاكٌ على الوَجهِ

 

ظننتُ أني أضُمُّ إلى صَدري نخلةً تحتضِرُ

ولكنْ بين ذراعَيَّ

تعرّفتُ على أمّي.

 

من قصائد "بغداد" 2004 ـ 2006 المترجمة عن الفرنسية

 

تأمّل

في مَجرى دُموعي، يا أمي العزيزةُ،

أريحي مَخالِبَكِ

لحرارَتِكِ عُطوفةُ السّرابِ

تصبحُ عشيقةً لِبدوِيٍّ،

مُرضِعَةً لحبٍّ أخَرَقَ

مثلِ ريحٍ صَمّاءَ لأَحَدِ أبوابِ الصّحراءِ

أوْصَدَتْهُ آلافُ القَوافِلِ

 

لشمسِ "بغدادَ" فخرٌ قاسٍ

شبيه بذاكرتِها

يَتَصَدَّعُ الزّمَنُ

ثمَّ يَذوبُ كالثّلجِ في "باريسَ"...

المَنفِيُّ مُتوَحِّدٌ مع هذا الكونِ

مع نُحاسِ كَلِماتِ نَدَمِهِ،

وعِشقِهِ المَجروحِ

هو صرخةٌ في شتاءٍ،

جُنديٌ مجهولٌ يُنازِلُ السَّفَلَةَ الأوغادَ

فوقَ الكَلِماتِ

مُتَمَدِّدٌ مَعْ ذِكرياتي مَعَكِ

أترَقّبُ الغامِضَ على ضَوْءِ زَخَّةِ مطرٍ

أكتبُ لكِ من ضِفافِ غَثَياني

مثلَ أمٍّ في أقصى أَلَمِها

كلاّ لستُ الخائفَ

أكتبُ لكِ من حَقّي في حُبّكِ

حيثُ قولُ الحقيقةِ... فعلُ تمَرُّدٍ

أكرهُ راياتِ النّصرِ

والتوابيتَ الرَاقِدَةَ بسكونٍ

على مدِّ نَظَرِنا

أحلمُ بأطفالي مُنتصِباً على قدمٍ واحِدَةٍ

شبيهاً باللّقالِقِ

 

ثَمَّ... هُنالِكَ الحُلْمُ الآخَرُ

حُلْمُ الغريبِ

حُلْمُ مَنْ أُعدِمَ

حُلْمُ الجلاّدِ

حُلْمُ الجَسَدِ، حُلْمُ الكَلِمَةِ

الذي يَنشُرُ الضّوْءَ كَلَّ صباحٍ

مِثلَ شَرشَفِِ الضَّجرِ فيُغطّي ما تبقى مِنْ حياةْ !

 

من قصائد "بغداد" 2004 ـ 2006 المترجمة عن الفرنسية

 

مِنْ هنا، مِنْ "بغدادَ" نقولُ لكمْ :إنّنا أحياءُ

لَمْ أكُنْ أعلَمُ بأَنَّ أشجارَ النَّخيلِ المُغتالَةَ تَنبَعِثُ مِنْ جديدٍ،

تُواكِبُ أرواحَ السّجناءِ

ليسيروا معاً نحوَ النّهارِ

 

أقولُ : بِأنّهُ الفَزَعُ

حينَ يَجدلُ نَظري، بينَ مَوجةٍ وأخرى،

بينَ بُيوتٍ مِنْ قَشِّ

حيثُ "بغدادُ" في البعيدِ كَسَرابِ حريقٍ

 

أقولُ : بأنّهُ الخريفْ

حينَ ألوِّحُ بِقِشْرِ جِلدَتي

وأُغمِدُ كتاباتي في الرّمْلِ

بدونِ جاذبيةٍ وبلا ريحٍ

 

نعمْ

من دونِ "صَدّامٍ"

سماءُ "العراقِ"

زرقاءُ !

 

أقولُ : بأنّهُ الرّبيعُ

رغْمَ تناحُرِ القبائِلِ

حينَ أُسَمِّرُ الشَّمسَ

والبلاهةُ تُلْهِبُ السّعادَةَ

 

أتفكّرُ فيما ما نكونُ في أحايينَ كثيرةٍ

في قاعِ ما نحنُ فيهِ

والذي تَبَرَّجَ بهِ مَسْكَني

في هذه السّماءِ المُؤَثِّرَةِ،

في هذهِ الذّكرياتِ التي تَلتَهَبُ

حينَ أفتَحُ دفترَ الزّمَنِ

في هذا النّهرِ النّعسانِ في الطّينِ

 

بِمُحاذاةِ الفجرِ،

من حميمِيّةِ العاصِفَةِ

لتربَتِكِ التي وَجَبَ أنْ يَتَدَفَّقَ مِنها عطشُ الانتصارِ

عَبَرتُ جسدَكِ وحموضَةَ الرِّمالِ،

ثُمَّ بعنفٍ،

صَلّبَتْني الحِجارةُ

في نداءِ الصّحراءِ

دُختُ في ضِفافِكِ

عابراً ظُلْمَةَ جَسَدِكِ العظيمَةَ

وصمتَ الصلواتِ المُتَوَهِّجَ

 

ثم رَسَتِ الرّوحُ مثلَ لَقلَقٍ يَحُطُّ على ذراعِ النّهرِ

في نشوةِ الكُثيِّبِ...

 

شرِبتُ من سَمائِكِ حتى حدودِ صَرخَتي

وأغرَقْتُ جَرْحَكِ في مُسَوّداتي المَحكومَةِ بالشّدائِدِ

والليالي الهيّابَةِ مُنذُ القِدَمِ

 

أنْ أراكِ أو لا أراكِ؟

 

عَبَرتُ ماضيكِ المُتجَدِّدِ

مع قليلٍ مِن طراوةِ الخَيالِ...

 

على هذا الخَطِّ المُبتَكَرِ، هذا البلدُ مِنْ حَجَرٍ

هذهِ الحُدودُ المَزروعَةُ حَسْبَ تَراصِّ الأكواخِ

على أنفاسِ طريقٍ مهجورةٍ

حيثُ يتحفّزُّ قُطّاعُ الطُّرُقِ في عَتْمَتِها

 

عرفتُ جَزَعَ المحكومِ إعداماً

لكنْ لا وجودَ لبابٍ فيهِ يُرْدَمُ وَجهُ الرّيحِ

 

في تلكَ اللّيلَةِ

خَشيتُ فقطْ

أنْ أضيعَ بدربِ اللانهايةِ

وأنْ لا أتعثّرَ بِأمّي مِن جديدٍ...

 

تَعَقّبْتُ "الفراتَ" ومَصائِبَهُ المُتَفَحِّمَةَ بالموتِ

مُنذُ دُهورٍ وأنا أقدَحُ الرّمادَ كي يَنقادَ إلى الشّعلَةِ وَهَجي

بدونِ أن أنسى تجميلَ الجُثَثِ

                وأسماءِ المَعدومينَ

 

كانتْ سماؤُكِ صحراءَ

كانَ كَياني يَسوخُ بينَ النّاسِ

بينما كانتْ شمسُكِ تُصعِّدُ البيوتَ

والخرابَ الذي أنجَبَتْهُ الحربُ

زمنٌ كان الجنودُ يَروونَ عَطَشَهُمْ مِنْ دُموعِنا

ساعَدتُكِ على عُبورِ حُمَّى ليلتِكِ

هَرَعْتُ إليكِ رغْمَ دُخانِ المُحتَلِّ

رُغْمَ جُثومِ الطُغيانِ

لكي أُغطّي بذاكرتي عُريَكِ...

 

فجأةً يَضَعُ الليلُ جَسَدَهُ على جسدي

تحتَ بِساطٍ من النجومِ يَفيضُ به النّظرُ

كيفَ سأتمكّنُ يوماً من تدجينِ هذهِ القُشْعَريرَةَ ؟

هكذا إذاً، عَرَفتُ الاحتضارَ

غَرَقَ تاريخِكِ ونزيفَ أيامِكِ...

 

"من هنا، مِنْ َبغدادَ"

نقولُ لكمْ : إنّنا الأحياءُ..

 

فاتركوا لنا هلالَنا،

ضِحْكاتِ النّورِ

وشَعرَ نسائِنا النّائسِ

إذ يَنْحنينَ على وُجوهِنا..."

 

"بغدادُ"، ها أنا

أعبُرُكِ مَسكوناً بِلَدْغاتِ المَنفى

بصوتٍ غَيرِ مَسموعٍ،

أمامَ غرائزِ طفولتي المُمَزّقَةِ

مهووساً رُبّما،

مُنتصباً رعداً في قلبِ سَرابِكِ

سرابٌ، يا حبي،

الموجودُ منذُ الإلهِ "شَمْشَ"

النّورُ في كِليَتيكِ المتجسِّدِ بالدّفءِ

الذي يَستهوي وشوَشةَ نخيلِكِ المَقطوعةِ الرّؤوسِ

في سوقِكِ المُبعثَرَةِ

ضيعةٌ في قلبِ المدينةِ

تُوحي بيَقينِ عُمقِ الأشياءِ

دُوارٌ يُخَصِّبُ عِشقَ نَظراتي الطريدَةِ

 

كُلُّ شيءٍ وُجدَ للإنسانِ

ولأجلِ بَداهةِ الضَّوْءِ

رغْمَ آثارِ الأيامِ الباكِيَةِ وبَصْمَةِ الطُّغيانِ.

 

لَوْ كُنتِ امرأةً يا "بغدادُ" لصِرتِ نَهريَ المُؤلِمَ

ولعَرفتُ احتضارَ الحُبِّ

ورأيتُ أخيراً جَفنَيكِ الواسِعَيْنِ

في قلبِ رُكامِ الوحدَةِ

حيثُ نكونُ من المَجهولينَ

لكنّ الحبَّ نرتَكِبُهُ بِقَدْرِ ما نعيشُ

ونكرهُ

ونموتُ أيضاً.

 

من قصائد "بغداد" 2004 ـ 2006 المترجمة عن الفرنسية

 

لِمَنْ هذا اليَقين ؟

قصائد 2009 باريس

 

[1]

لِمَ أقُولُ شِعراً مِثلَهُمْ، ولِمَ الغثاءُ؟ رَسَمَتُ ضَفائِرَ نُجومٍ كُنتُ أحمِلُها معي إلى النّوْمِ، ساذَجاً أرَدِّدُ بَعَتْمَتي أنَّ الأيمانَ بالقضيةِ وحْدَهُ يكفي لإدراكِ الحقيقةِ، ناسِياً أنّي ظاهرةٌ صوتية، وُلِدَتْ مِنْ مِلّةٍ تَتهْرَأُ، ومِنْ إِبِلٍ يلْفحُها القيْظُ فوق التّلالِ، ومُحارِبينَ يَمْسحونَ مَخارِجَهُم بالحِجارَةِ.. وُلِدتُ مِنْ نُطَفِ شعوبٍ لا تَعرِفُ العيشَ مِنْ دونِ هَزائِمَ.. شَمّرتُ عَن ذراعي وأكَلْتُ الحَنظَلَ والتُّرابَ، لَمْ أحْنِ قامتي لِلطّغاةِ، سَمّرتُ النجومَ في القفارِ، ونادَيْتُ مع صيادي الأساطيرِ: إنَّ لِلثّورِ أجنِحَة ً، والحُلْمُ مُلكا للآلِهَهْ.

 

[2]

وَقفتُ حِداداً على أمواتٍ لا أعرِفُهُمْ،

وسَمّيْتُ القَبرَ وَطناً

والقتلةَ فاتحينَ

فَلَمْ يأتي من يُعينُني ؟

 

من قصائد 2009 باريس

 

[3]

ألا تريدُ قليلاً مِن حُزني

تقاسمني رؤيةَ القمَرِ البعيدِ

وحدَهُ سارِحاً معَ الأغنامِ في أقصى الغروبِ ؟

 

ألا تريدُ أنْ تُريحَ نفسَكَ

وتترُكِ الآلِهَةَ لإشِغالاتِها وتُهمِلُ القُطبيْنْ ؟

 

تشطبُ حَربَكَ الوَشيكَةَ مع نفسِكَ

وترتبُ مَرقَدَكَ في جَيْبِ مِعطَفِكَ القديمِ ؟

قليلةٌ هذه الحياةُ بِحقِّكَ

والجَنّةُ تُبنى على عَجَلٍ للشّعراءِ المُنافقينَ،

بلا جدرانَ تحمي جلودَهُمْ مِنْ لَسْعةِ البَردِ

فلماذا ترمي أوْهامَكَ بوجهي ؟

أنا المَحرومُ من الطمْأنينَةِ

أنا المُتأخِّرُ معْ هذه المَطَرَةِ التي رَحَلتْ عنها سَماؤها.

أنا المَرحومُ !

 

من قصائد 2009 باريس

 

[4]

ماذا ستفعلُ بي النّجمَةُ لوْ نظرتُ إليها باسْتخفافٍ ؟

فالعراقُ لهُ هيئَةُ الكَفَنِ

وأنا مِنْ سُلالة "أنكيدو"

وُلِدتُ منَ الطّينِ، ولكِنني أعرِفُ مَنْ هيَ أمّي.

وحينَ أبْكَيتُ الطّغاةَ هاجمَتني الدّوابُ العَرَبيّهْ !

 

[5]

كلّما تَطَلّعتُ إلى مَلامِحِ أخوتي العرب القَتَلةِ

وتذكّرتُ عقائِدَهُمْ

شعرتُ باطْمئنانٍ لِسلامةِ ذاتي

وانطلقتُ أداعِبُ طِفلة حبيبتي

وهي تَستقبِلُ النّهارَ في عالَمِ اللّهوْ.

 

من قصائد 2009 باريس

 

[6]

أنا العاشقُ الذي أضاعَهُ الطّريقُ

أبْحِرُ على سريري

أساِفرُ بينَ الجُدرانِ، والمُدُنِ والمِرآةِ

بينَ المَنفى والظلِّ

تُصاحِبُني أحزانُ الوجوهِ

والقبورُ،

والقاتِلُ والمَقتولُ

كي أكتُبَ على حافِلَةِ الحَياةِ مَراثيهِمْ

وأبحَثُ عن قَدَري في عُيونِ القَتَلةِ

والحُفَرِ الجَماعِيّةِ القادِمَهْ.

 

من قصائد 2009 باريس

 

شاعر من العراق

 

نُشرت هذه القصائد بالإضافة إلى قصيدة طويلة بعنوان (رأيت) ضمن كتاب مطبوع حمل عنوان (قصائد بكل أتربتها) الذي صدر عن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013، وهنا يُعاد نشرها إلكترونياً في مجلة (الكلمة). هذه القصائد كتبها الشاعر والفنان المسرحي العراقي صلاح الحمداني من دواوينه شعرية كتبها في منفاه الذي دام لأكثر من 37 عاماً في فرنسا. تنقسم هذه المختارات إلى مرحلتين: مرحلة المنفى التي ابتدأت عام 1974 لتنتهي عام 2003 يوم سقوط الدكتاتورية. ومن ثم عودة الحمداني للقاء بغداد من جديد، وهي مرحلة بدأت منذ عام 2004 إلى يوم نشر هذه المجموعة. قسم من هذه المختارات نشر عربياً، لكنه بقي مجهولاً، أما القسم الثاني فيشكل نماذج كتابية لمرحلة ما بعد الدكتاتورية. لصلاح الحمداني نتاج شعري وقصصي عربي وفرنسي وفير لكنه لم يصل إلى القراء العرب والعراقيين، لأسباب تتعلق مباشرة بالحصار الثقافي العربي وسياسة البعث المهيمنة والمعادية لكل مبدع رفع صوته مناهضا للحرب وللدكتاتورية ومؤسساتها القمعية. غالبية هذه الأشعار ترجمها الحمداني إلى اللغة الفرنسية ونشرت ضمن دواوين صدرت في باريس وبأزمان مختلفة، باستثناء بعض القصائد التي ترجمها من كتاباته الفرنسية إلى العربية خصيصا لهذه المختارات.



[i] ابنةُ الشّاعِرِ

[ii]  شارعٌ قديمُ يؤدّي إلى البَحرِ في مِنطَقةِ "سان كارلوسَ دو لاربيتا" في اسبانيا.

[iii]  جلاّبِيّةٌ.

[iv]  بغداد حبيبتي، قصيدة كتبها الشاعر باللغة الفرنسية ونقلها بتصرف إلى العربية. نشرت لأول مرة في يوم 25 مارس 2003، بصحيفة "لومانيته دو ديمونش الأسبوعية الباريسية، إبان الحرب على العراق، ومن ثمة تناقلتها الصحف والمجلات المقروءة والإلكترونية الفرنسية والأجنبية. وذلك بين عام 2003 ـ 2004. ثم نشرت ضمن كتاب "مقبرة العصافير، بغداد حبيبتي" والذي صدر باللغة الفرنسية نهاية عام 2003، عن دار نشر "أوب ـ Aube"، في فرنسا.