رسالة الخليج

مهرجانان للسينما في بلد لا توجد فيها صناعة سينما

غيث سالم

إن المتتبع لراهن الثقافة في الإمارات (ونعني بالثقافة هنا تلك المظلة العريضة التي تغطي كافة جوانب الحياة الثقافية والفنية بما في ذلك الفنون الأدائية من مسرح وسينما وإنتاج تلفزيوني متنوع)، ليعجب مما يمكن وصفه بالحالة "الادعائية" أو الحالة "المظاهرية" التي تسم الثقافة عموماً، من حيث أن "أعراض" الثقافة لا تعكس الثقافة كحالة حقيقية وحراك متفاعل بالضرورة، بالمفهوم الأصيل والمتأصل للثقافة! هذه الأعراض، وإن أحدثت جلبة وضجة، إلا أنها لا تلبث أن تنكفئ على ذاتها، لتدخل في حالة من السبات المستديم، الأقرب إلى الموات، إلى حين تجدد الجلبة والضجة الادعائية أو المظاهرية ضمن موسم سنوي، يظل كل ما قبله وكل ما بعده لا قيمة له، بل غير موجود وغير متفاعل خارج الإطار الموسمي الاحتفائي، وهي ضجة "مظاهرية" تبتغي، كما يشير وصفها، لفت الأنظار أكثر منه خلق حالة ثقافية بحد ذاتها، حالة قابلة للنمو والتطور.
ضمن هذا التوصيف للحالة الادعائية أو المظاهرية المشار لها أعلاه، يقع "مهرجان دبي السينمائي الدولي" ومن بعده "مهرجان الشرق الأوسط الدولي للفيلم أبوظبي"، الذي لم يزل فكرة على الورق. ولعل أكبر دليل على الحالة الادعائية أو المظاهرية هنا هي أن كلا المهرجانين تنظمهما بلد لا توجد فيها صناعة سينما، حتى بالمعنى الهزيل والفقير للسينما، أو حتى بالمفهوم الفردي للإبداع السينمائي، أو حتى بمفهوم "الطفرة"، المفصولة عن أي تاريخ أو أي تواصل في التجربة.. (فبلد مثل الكويت مثلاً لا توجد فيها صناعة سينما، لكن هذا لم يمنع ولادة تحفة مثل "بس يا بحر" (1970)، الفيلم الطفرة، للمخرج خالد الصديق، وهو أول فيلم روائي طويل في الخليج، حيث نال العديد من الجوائز العربية والعالمية، وعدّ من كلاسيكيات السينما العربية، ووضع الكويت في حينه على خارطة الثقافة من نافذة أحد أرقى الفنون التعبيرية: أي السينما.)
نتوقف أولاً مع "مهرجان دبي السينمائي الدولي". انطلق المهرجان في دورته الأولى في ديسمبر من العام 2004. بعد ثلاث دورات متتابعة، نجح المهرجان في خلق حالة "ادعائية" كبرى عبر اعتماد سياسة البذخ، من حيث التنظيم واستقطاب ضيوف "مترفين" وتوفير ضيافة هارونية الطابع، وغمرهم بليال من ألف ليلة وليلة، لتكون التظاهرة السينمائية تظاهرة سياحية دعائية أكثر منها تظاهرة ثقافية فنية. وبالطبع لم يكن نجوم عالميون أمثال مورغان فريمان وأورلاندو بلوم وعمر الشريف (ويقال بأن شارون ستون ستدشن المهرجان المقبل) ليفوّتوا كرم الضيافة العربي. صحيح أن المهرجان سعى إلى استقطاب أحدث النتاجات السينمائية من شرقها وغربها، وصحيح أن القائمين عليه عمدوا في أدبيات المهرجان إلى استخدام عبارات تزرع الروع من نوع "استخدام السينما كوسيلة فعالة لخلق قاعدة قوية لحوار الثقافات والتفاهم الإيجابي على المستوى العالمي"، و"خلق مناخ ثقافي فريد يشجع على تبادل الأفكار بين نخبة من كبار مختصي السينما في العالم"، إلا أن اعتماد سياسة البهرجة والتكلف أحال التظاهرة على مدى ثلاث دورات من انعقادها، إلى نشاط سياحي تجاري بالدرجة الأولى، بحيث يصحّ إضافته على دليل الإمارة السياحي بهدف تصدير صورة للغرب أكثر منه اعتناق حالة ثقافية قابلة لأن تؤسس واقعاً سينمائياً يُدخل الإمارة عصر السينما من باب الإنتاج والتصدير والأخذ والتفاعل لا من باب الاستيراد فقط، وقطعاً ليس من باب توفير بعض أماكن صحراوية لتصوير أفلام هوليودية، يدخل فيها العرب من باب التعاطف مع الشخصية العربية على استحياء (من ذلك استخدام دبي لأول مرة كموقع تصوير سينمائي هوليودي من خلال بعض مشاهد فيلم "سيريانا"، بطولة جورج كلوني.)
ومؤخراً، تناقلت وسائل الإعلام المحلية في  الإمارات بفرح مبالغ به نبأ اختيار صحيفة "يو إس توداي" الأميركية مهرجان دبي السينمائي الدولي ضمن قائمة أفضل المهرجانات في العالم كمهرجان "صن دانس" المستقل في الولايات المتحدة، ومهرجان "كان" السينمائي الدولي (وهو تصنيف مجحف بالنظر إلى أن مهرجان كان يعد من أعرق المهرجانات وأكثرها موضوعية، حيث احتفل في دورته الأخيرة في شهر مايو الماضي بالذكرى الستين لقيامه)، بالإضافة إلى مهرجان لندن، الذي تأسس ليكون منبراً لاكتشاف صناع الأفلام الجدد، ومهرجان فينيسيا في إيطاليا، ومهرجان تورنتو في كندا.
وأشارت مقالة "يو إس توداي" إلى ما وصفته بـ"أجواء الضيافة الساحرة"، التي تميز مهرجان دبي السينمائي. لكن المضحك والمبكي، في الوقت نفسه، هو أن المقالة وكل المقالات التي أشادت بمهرجان دبي السينمائي  الدولي عجزت، حتى الآن، عن تمييز فرق جلي بين المهرجان حديث الولادة والمهرجانات الأخرى التي بات نداً لها، وهي أنها جميعها بلا استثناء تحتضنها دول وأمم تتقن أول أبجدية من أبجديات السينما ألا وهي صناعة الفيلم وإنتاجه! فباستثناء بعض مشاركات محلية خجول لأفلام "طلابية"، قصيرة، يعوزها النضج والاكتمال، وفيلم روائي يتيم عرض سينمائيا دونما اهتمام نقدي وجماهيري يذكر، للآن لم يطلق مهرجان دبي السينمائي فيلماً روائياً طويلاً، قابلاً لأن ينافس أو على الأقل يؤسس لحالة سينمائية قادمة.
وبما أن التنافس بين أبوظبي ودبي لاقتسام كعكة العاصمة الاقتصادية من جهة وكعكة العاصمة الثقافية من جهة أخرى على أشده، لم تتلكأ أبوظبي كثيراً في  اللحاق بركب دبي؛ هذه الإمارة، التي وضعت دولة الإمارات من خلال مشاريعها العملاقة على الخارطة الاقتصادية العالمية. فعلى هامش فعاليات الدورة الأخيرة من مهرجان "كان السينمائي" الذي استضافته مدينة كان الفرنسية، عقدت هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، الجهة القيمة على الثقافة في إمارة أبوظبي، مؤتمراً صحافياً أعلنت فيه عن إطلاق "مهرجان الشرق الأوسط الدولي للفيلم"، الذي سيقام في أبوظبي خلال الفترة من 12 ولغاية 17 أكتوبر القادم، "ليتبوأ المهرجان"، كما جاء في الإعلان، "موقعه على الخارطة السينمائية العالمية"، ولينفرد عن غيره من المهرجانات "بكونه يجمع في حدث واحد كل العناصر  الأساسية لسينما ناجحة من النواحي الفنية والتمويلية والتسويقية، ويجسد الطموح الدولي لمستقبل صناعة الفيلم في المنطقة والعالم." والحق إن المرء لا يستطيع إلا أن يقف أمام هذه العبارة متسائلاً عن طبيعة هذا المهرجان ومقومات الفرادة فيه وجدواها، والإضافة المبتغاة منه في إمارة حجم النتاج  السينمائي فيها صفر. ولا تزال السينما، حتى كحلم، لا تعدو أن تكون أمنية صعبة المنال، وسط غياب مؤسسات سينمائية تعليمية أو حتى ورش سينمائية دورية.
وكشفت هيئة أبوظبي للثقافة والتراث كذلك عن مشروع آخر يتمثل في تأسيس "هيئة أبوظبي لصناعة الأفلام"، التي "ستجسد من خلالها العاصمة الإماراتية"، كما جاء في الإعلان، "محطة هامة وملتقى واحداً يجمع جميع العناصر الأساسية لإنتاج الأفلام، وتوفر الهيئة لصناع الأفلام في المنطقة والعالم أماكن تصوير متنوعة وملائمة، وعناصر جذب مادي وغير مادي واسعة وغير مسبوقة في منطقة الشرق الأوسط، تتمثل في تسهيلات وخدمات غير محدودة تمنحها الهيئة لدعم صناعة الفيلم في المنطقة." ومضى الإعلان الصحافي بالقول: "كما ستعمل الهيئة على تقديم التمويل المالي اللازم لصانعي الأفلام، وستساعد صناع الأفلام المحليين على عرض وتسويق أفلامهم على المستوى العالمي من خلال تنظيم ورش العمل المختصة وتزويدهم بالخبرة اللازمة."
وهكذا، وسط جمل مفخخة بالوعود والأمنيات السينمائية لا نستطيع إلا أن نستبشر بالفتح السينمائي القادم على يد "هيئة أبوظبي لصناعة الأفلام"، وهو وعد وفتح موجه للخارج أكثر منه للداخل، إذ ليس سراً أن أبوظبي تتطلع إلى اجتذاب السينمائيين الغربيين، من مخرجين ومنتجين، إليها عبر توفير بيئة مضياف، مريحة ورخيصة نسبياً قياساً بالكلفة العالية لتشغيل استوديوهات التصوير في أوروبا والولايات المتحدة، كل ذلك في سبيل عولمة الإمارة وإبراز اسمها عالمياً من خلال وسيط ثقافي يكاد يكون الأكثر عالمية هو السينما. وهكذا، نتوقع أن يكون "مهرجان الشرق الأوسط الدولي للفيلم" ومشروع "هيئة أبوظبي لصناعة الأفلام"، الذي لا يزال قيد التنفيذ، فرصة للترفيه عن الآخر والترويج له، عبر استيراد ثقافته وتصوراته، وتدليله وتوفير بيئة تستوعب طروحاته وأدواته وقيمه بدل التوجه نحو الداخل، بحثاً عن طاقات محلية كامنة يمكن الاتكال عليها في وضع نواة لسينما ظبيانية إماراتية تكتب الفصل الأول في تاريخ السينما المحلية.
اللافت في هذا السياق أنه في ظل غياب صناعة سينما في الإمارات، في مفارقة صارخة مع احتضان مهرجانين دوليي الطابع، فإن أبوظبي يُحسب لها تدشين تظاهرة سينمائية محلية مهمة هي "مسابقة أفلام من الإمارات". وكانت هذه المسابقة، الموجهة للنتاجات السينمائية المحلية الطلابية بالدرجة الأولى، قد انطلقت أول مرة في مارس من العام 2002. وبين الدورة الأولى والدورة السادسة، التي عقدت في مارس من العام الجاري، رسخت المسابقة نفسها بوصفها حضناً للتجارب السينمائية الوليدة، عبر فتح الباب لكل التجارب أو "المحاولات" السينمائية، إن جازت تسميتها بذلك، بعضها على درجة عالية من الوعي تعكس استيعاباً جلياً للسينما كمفهوم وتصور، في حين لا تعدو أخرى، وما أكثرها، أن تكون أشبه بالحبو البطئ في هذه الميدان.
وإذا كانت "مسابقة أفلام من الإمارات"، التي رعاها المجمع الثقافي قبل أن تنتقل هذه الرعاية إلى هيئة أبوظبي للثقافة والتراث قد نجحت في استيعاب كافة المواهب الشبابية المحلية لجهة النتاج السينمائي، (علماً بأن معظم هؤلاء السينمائيين من طلبة كليات التقنية العليا والجامعات الإماراتية ضمن أقسام وكليات الإعلام والاتصال)، فإنها لا تزال قاصرة وعاجزة عن تصدير سينمائيين مكتملي التجربة لأسباب عدة منها: أن هذه المسابقة اكتفت بأن تتطور أفقياً دون أن تتطور رأسياً، بمعنى أن الأفلام المشاركة في كل عام تزيد لجهة الكم، في حين أن النوعية تكاد تكون هي ذاتها لجهة المستوى المتذبذب والمتواضع، إن لم تكن أسوأ. كذلك، يُفترض أن تواكب المسابقة حركة نقدية سينمائية نشطة، تروم اكتشاف المواهب وتقديمها، لكن النقد لم يتخط هنا إطار المجاملات وكيل المديح من قبل حفنة من الصحافيين، الذين لا علاقة بينهم وبين النقد السينمائي. أضف إلى ذلك أن معظم التجارب السينمائية، حتى تلك التي كشفت عن موهبة أصيلة، حظيت باحتفاء آنٍ ومؤقت، ولم يتبع هذا الاحتفاء متابعة واحتضان حقيقي بحيث يتم تشجيع هذه المواهب وتبنيها من قبل المؤسسات المعنية والمضي أبعد من مجرد تقديم فيلم في مسابقة. وبالتالي، في كل دورة، نشهد مئات الأفلام التي تظهر وتغيب كأن شيئاً لم يكن. وبالطبع، هناك الحقيقة بأن كافة الأفلام المشاركة في هذه المسابقة، على مدى الدورات الست، كانت من نوع الأفلام الروائية القصيرة، بعضها لا يتخطى الدقيقة، وبالتالي فإنه حتى تلك الأفلام الأكثر إدهاشا من غيرها لا يمكن أن تكون مؤشراً على إمكانية تحقيق فيلم روائي طويل.
عودة إلى "مهرجان دبي السينمائي الدولي" و"مهرجان الشرق الأوسط الدولي للفيلم في  أبوظبي"، فإذا كنا نتطلع إلى صناعة سينمائية من خلال الاحتفاء بالآخر والترويج له، تحت شعارات من قبيل "ملتقى الحضارات" و"مد جسر بين الثقافات"، فإن ذلك أشبه بوضع العربة أمام الحصان، ثم ننتظر من العربة أن تتحرك!