تستشرف (الكلمة) بهذا العدد عاما جديدا، تجدد فيها عهدها مع القراء على الاستمرار والحفاظ على استقلالها الفكري ودورها النقدي في الواقع العربي، برغم الصعاب. وتعد بتطوير موقعها فيه كي يتجاوب مع التقنيات الجديدة ومتطلبات تنامي المادة الثقافية الضخمة المتاحة الآن في موقعها على مد أكثر من تسعين عددا.

عام جديد من عمر الكلمة

صبري حافظ

أكملت (الكلمة) مع العدد الماضي عامها الثامن، وتفتتح بهذا العدد عامها التاسع. وهي فرصة لالتقاط الأنفاس، وتأمل ما استطاعت (الكلمة) إرساءه في الواقع الثقافي من قيم وممارسات. فقد استهدفت (الكلمة) من البداية الخروج على النمط الذي ساد في الواقع الثقافي العربي في العقود القليلة السابقة على انطلاقها؛ وهو أن تكون المجلة الثقافية تابعة لنظام أو ممولة من مؤسسة، وبالتالي بوقا ثقافيا أو إعلاميا لهما. كما استهدفت تأسيس مبادرة حرة ومستقلة تستفيد مما أتاحته ثورة المعلومات من إمكانيات. لأنها أرادت أن تسترد للكلمة استقلالها، وللمنبر الفكري حريته في التعبير عن الضمير الثقافي الحر. وكانت تدرك أن تاريخ المجلة الثقافية العربية يربط بين استقلال المنبر وأهمية الدور الذي يلعبه في الواقع الثقافي. فقد سبقتها منابر كثيرة مستقلة، من (أبوللو) لأحمد زكي أبوشادي، و(الحديث) الحلبية لسامي الكيالي و(الكاتب المصري) لطه حسين و(الرسالة) لأحمد حسن الزيات و(الآداب) البيروتية لسهيل إدريس حرصت على استقلال المنبر، وجدية مشروعه، وحريته في التعبير عن قيم الضمير الثقافي الحر. وقد استطاعت هذه المجلات وأمثالها أن تترك بصمة على الحياة الثقافية وأن تساهم في تطويرها.

لكن هذه المجلات التي كانت، إلى حد كبير، بنت الحراك التحديثي الليبرالي في الثلث الثاني من القرن العشرين، سرعان ما غرقت أمام طوفان المجلات المدعومة من المؤسسات والنظم التي سعت منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن إلى تدجين الثقافة واحتواء المثقف. حتى وصلنا إلى ما دعته (الكلمة) في افتتاحيتها الأولى بالتحول المزري في دور المثقف أو بالأحرى مسخ هذا الدور الرسالي، إن لم نقل الرسولي، من حارس للكلمة وللضمير الإنساني والقيم النبيلة، إلى كلب لحراسة رؤى تلك الأنظمة وتشويه من يناوؤها أو يتحدى سياساتها. وهذا التحول في اتجاه ودور قطاع واسع ممن يدعون أنفسهم بالمثقفين، وهم كلاب حراسة للأنظمة، هو الذي أدى إلى تراجع كبير في دور المثقف ومكانته في مجتمعاتنا العربية. وقد سعت (الكلمة) في مشروعها الطموح لإعادة تأسيس استقلال المنبر الثقافي غير المدعوم من أي مؤسسات حكومية كانت أو غير حكومية. لأن استقلال المنبر سيحوله إلى ساحة للكلمة المستقلة، ويمكنه من استعادة دور المثقف المفقود في معمعة سعي المؤسسات إلى إدخال المثقفين إلى الحظيرة، حسب تعبير شهير لغير المأسوف عليه، وزير الثقافة المصري الأسبق.

وقد استطاعت (الكلمة) طوال ثماني سنوات أن تحافظ على هذا الاستقلال، برغم ما تعرضت له من مؤامرات على استقلالها. وسرقة أرشيفها الذي كان المأمول أن يوفر لها دخلا يمكنها من الاستمرار، وتقدير كتابها ومكافأة العاملين فيها. لكن استمرار (الكلمة) وتفاني أسرة تحريرها في مواصلة هذا الاستمرار، والحفاظ بجهودهم التطوعية على استقلالها، هو خير دليل على أهمية استقلال المنبر الثقافي، وعلى أن هذا الاستقلال قيمة تستحق في حد ذاتها العمل من أجلها. كما أن التفاف الكتاب والمبدعين من شتى أقطار الوطن العربي حولها، وسعيهم إلى النشر فيها دون مقابل، في الوقت الذي تواصل فيه المنابر المدعومة إغراءاتها لهم، لدليل آخر على أهمية هذا المشروع، وعلى حرص الكتاب والقراء عليه. والواقع أن التفاف القراء حول (الكلمة) هو الحافز الأكبر على استمرارها. حيث يتجاوز عدد المتصفحين لكل عدد منها نصف مليون متصفح كل شهر.

والواقع أن للاستقلال ثمنه ودوره الملوس معا. فقد مكن (الكلمة) من أن تكون أحد مصادر الوعي النقدي الحر الذي رفض الاستبداد، وفضح آليات الاحتواء واستراتيجيات كلاب حراسة المؤسسة الفاسدة والفاقدة للمصداقية والمشروعية معا؛ وساهم بالتالي في تفجير الربيع العربي، ورفد شعلته. كما مكنها على مد السنوات الأربع التي انصرمت منذ اندلاع شرارته من كشف كل المسارب التي تتسلل منها الثورة المضادة للإجهاز عليه. فقد حرصت (الكلمة) برغم أدبية مشروعها على نشر كل ما يرهف الوعي النقدي بما يحاك لثورات الربيع العربي من مؤامرات. وعلى أن تكون لاعبا أساسيا في الساحة السياسية والثقافية الواسعة، وأن تواصل لعب هذا الدور العقلي والنقدي فيهما معا، لأنها تؤمن بأن «الكلمة» موقف ودور.

لكن لهذا الاستمرار متطلباته التقنية والمادية على السواء. فقد تنامت الأعداد على الموقع بطريقة تحتاج كل عام إلى استئجار مساحة أكبر على «السيرفير» التجاري الذي نضعها عليه. كما أن تطور التقنيات الجديدة والأجهزة اللوحية المختلفة يتطلب هو الآخر تحديث موقعها حتى يستجيب وبسرعة معقولة لكل تلك المتغيرات من ناحية، ولتنامي حجم المادة المعروضة عليه من أعدادها التي تجاوزت التسعين عددا من ناحية أخرى. وهو الأمر الذي يحتاج إلى مصادر مادية لم تتوفر لها حتى الآن. فلاتزال المجلة، بكل أعدادها القديمة متاحة للقراء بالمجان، كما أننا لم نتمكن من الحصول على دخل من الإعلانات يوفر لها مثل تلك المصادر. لكن من الضروري علينا العمل على توفير هذا الأمر، لأن مصمم موقع (الكلمة) وآلة العمل فيها برمجة واستخداما، يلح في ضرورة توفير تلك الإمكانيات، ولديه أكثر من دليل على أن هذا الأمر سيرفع من عدد القراء ومستخدمي الموقع بشكل كبير وهو أمر نحرص عليه، ونرجو أن نتمكن من تحقيقه في هذا العام الجديد من عمر (الكلمة).