في هذا البئر تدفن المبدعة والكاتبة العراقية ما تبقى من "استبداد" قد لا يصلح أن يعود مجددا الى الواقع، ولا الى الوطن، ومن خلال نص أقرب الى لوحة "مسرحية" حاضرة بحسها الدرامي أكثر من النفس الشعري، تستعير المبدعة وضعية اللاعودة كي تغلفها من خلال هذا اللوحة الدرامية الشعرية ليصبح البئر استعارة كبرى لمآل الطغاة.

بئر أبي ذر الغفاري

ماجـدة غضـبان

البئر أظلم عميق..

سمعت صراخهم..

-       أتسمعون يا رفاق؟، هنالك من يصرخ..

-       عاد لما كان عليه..

-       أنت تسمع ما لا نسمع، و ترى ما لا نرى..

-       عدت الى جنونك من جديد..

-       الدليل أننا خمسة افراد، و لم نسمع شيئا..

-       طمث دائرة الأذرع المغلقة، المبطنة بضحكات السخرية و الاستهجان..

-       الى أين ذاهب؟

-       تدلت أصواتهم في الهواء كثمار مجوفة..

-       الى البئر حيث يصرخون..

-       دعه إنه مجنون..

-       لن يجد البئر، وسنكون في استقباله بنكات لاذعة..

-       سيكون تسليتنا الوحيدة هذا المساء..

غادرتهم مسرعا، وانتهى لغطهم عند الخط الفاصل بين الشمس وحمرة البحر الهادئ حتى ذاب كعدم لم يكن.. الى الأمام، وعلى بعد بضعة خطوات انفجر بركان الصرخات.. تناثر الزعيق وكلمات الغوث كالحمم من فوهة بئر يقذف ما فيه نحوي بغضب و قوة..بخار و دخان وعواء بشري مرعب لامس جلدي دون أن أشعر بحرقة أو ألم..

-       من هناك؟..

-       نحن هنا في الأسفل..

بدا التشابه بين الأصوات التي ودعتني بسخريتها قبل قليل و بين بوق الاستغاثة الجماعي واضحا..

-       من أنتم؟

-       من سخر قبل لحظات منك..

-       كيف سقطتم في البئر، وقد تركتكم خلفي؟..

-       لا ندري.. هات لنا بحبل، واربطه بصخرة لعل أحدنا يخرج و يعين من بقي على الخروج أيضا..

-       لا أملك حبلا..

-       مد لنا يدك..

-       البئر ليس عميقا..

-       لكنه شديد اللزوجة..

-       لا نستطيع التسلق نحو الأعلى..

-       تدلت ذراعي صوب عتمة شديدة..

-       هل ترون يدي؟

-       إني أرى سبابتك

-       أنا لا أرى سوى إبهام..

-       لا ليس هناك سوى الخنصر..

-       كلا إنه بنصر فحسب

-       أيها الحمقى هذا أصبع الوسطى و لكنه شديد الضخامة..

شعرت بابهامي يكاد أن يتحطم تحت ضغط يد هائلة الحجم..

-       اترك ابهامي وامسك بيدي كلها..

-       الظلام شديد لا أرى سوى الابهام..

-       أنا سأتعلق بالخنصر فهو واضح أمامي جدا..

-       أنا سأمسك الوسطى الضخمة..

-       و أنا لدي السبابة..

-       و هذا البنصر يبدو لي كعمود كبير..

-       أيها الأغبياء اتركوا أصابعي.. إنكم تسحبونني نحو الظلام، اتركوا أصابعي، ليمسك أحدكم بيدي كلها، لا يمكن ان أخرجكم جميعا..كادت أصابعي أن تغادر أماكنها، والايادي تطبق عليها و بإصرار شديد..

أصبح نصف جسدي في عتمة الهوة..

رفست الارض بساقي

وانا أقاوم السقوط..

اتركوا يدي..

تمادت صرختي بزفرة نحيلة مغتالة سكون خمد بين أرض وسماء..

إلا أنها كانت متأنية بموازاة سرعة التهام الهوة لي..

أحاط بي الظلام واللزوجة معا..

سمعت قهقهة أحدهم في الأعلى حيث لم يعد بإمكاني أن أرى أي شيء..

-       انظر الى هذا الغبي، قد رمى نفسه في بئر عميق لا قرار له..

-       قد صدق حقا إن هنالك أناسا في البئر..

-       صدق الأصوات التي ضجت في رأسه..

-       هذا الجنون بعينه..

-       اتركوه في البئر، إنه يستحق البقاء هناك..

ابتعد ضجيجهم..

ساد الصمت بعد رحيل آخر خطوة..

أحاط بي طوق هائل من أشواك الوحدة و اليأس وبدا كأنشوطة مشنقة معدة لقتلي..

لا أظنهم سيسمعون صراخي.. ،

فهم لا يسمعون ما أسمع..

و إن سمعوا..

فلا أظن أن لديهم رغبة برؤيتي على وجه الأرض مرة أخرى..