يرى الروائي والناقد المصري الكبير أن هذه الرواية رصد فني شعري لمنولوج يدور داخل ذهن الزوجة، يخرج أحياناً في شتات وأحياناً يتحول تماماً إلى الداخل، في تذكر متصل لتفاصيل حياتها منذ الطفولة، ثم قصة الارتباط والزواج الذي استمر الآن ما يقارب عشر سنوات خالية تماماً من أي معرفة أو اقتراب حقيقي من الآخر.

حديث الحجر الأسود

عـلاء الديـب

«عتيق رحيمى» روائى ومخرج أفغانى الآن يحمل الجنسية الفرنسية، ويحمل معها الإصرار على التعبير عن واحدة من كبرى جرائم العصر وأشدها إيلاماً وبشاعة: جريمة تفجير وطن وتدميره: ثقافته وتراثه ذاكرته ومستقبله: من يعرف ما مصير أفغانستان الآن، طحنه الاحتلال البريطانى.. ثم الشيوعى، ثم الأمريكى، وأخيراً التهم ما بقى من الوطن فرق التطرف الدينى والملالى. وكتائب طالبان.. ومن يدرى ماذا سيأتى بعد.

ولد عتيق رحيمى في كابول 1962، مع أسرته غادر إلى باكستان عند الاجتياح السوفيتى 1984، ثم أكمل الدراسة وبدأ الكتابة في باريس، ظل يكتب بالفارسية «لغة البشتون» ثم انتقل إلى الإخراج السينمائى، والكتابة مباشرة بالفرنسية، بعد ثلاث روايات وعدد من الأفلام الدرامية والوثائقية «أرض ورماد- ملعون ديستويفسكى- ألف منزل للحلم والرعب» كتب روايته النادرة (حجر الصبر واحتفظ لها باسمها الفارسى سنك صبور) أخرج روايته فيلماً آية في القوة والجمال، وحصل على روايته هذه على أعلى جائزة أدبية فرنسية جائزة غونكور عام 2008، وقد حققت الرواية والفيلم نجاحاً غير عادى في أوساط النقاد والمهرجانات، وكذلك حققت نجاحاً شعبياً غير عادى لتضع قضية الوطن والتراث والثقافة المدمرة أمام كل من له عينان أو بقى في داخله أثر من ضمير.. لكن يبدو أن العالم قد أصيب «مع كل الأوبئة والأمراض الجديدة» بالعمى والصمم كبعض أبطال عتيق رحيمى «فى رواية: أرض ورماد» يكفى أن تعرف أن رواية حجر الصبر قد ترجمت إلى العربية أكثر من ثلاث مرات «دار الساقى- دار الجمل- دار الآداب- والترجمة الدمشقية التي بين أيدينا عن دار (دال) وقد قامت بها راغدة خورى».

ظل الكابوس الأفغانى يطارد الفنان القاطن في باريس، كما يطاردنا في كل أنحاء العالم صباح مساء، لما يأتيه من خارجه وما ينفجر في داخله من مآس وجرائم ترتكب باسم الدين وتفوقت طالبان منذ 1994 على نفسها في تدمير وطن قدم للإنسانية جلال الدين الرومى- والشهنامة، وملاحم وتراثاً وأغانى، تجاور تراث اليونان والفراعنة والفينيقيين، كما حاول أن يقدم في السنوات القريبة آخر محاولات جمال الدين الأفغانى، كانت أفغانستان وطناً تحول إلى كابوس.

القشة التي قصمت ظهر البعير كانت الحادثة التالية: لعتيق رحيمى صديق وصديقة أقاما في أفغانستان، الصديق أستاذ جامعة مثقف أما زوجته فهى شاعرة، تحمل في روحها صوفية الرومى ومعرفة بالتراث الشعبى الأفغانى، خاصة في شعر ومواويل الوحدة والحزن وحياة النساء، وقد حقق شعرها انتشاراً كبيراً في الداخل رغم الحصار والرقابة وترجم إلى لغات أجنبية عديدة، خاصة الفرنسية، بتحريض من عائلة الزوج التي تحاول حماية مصالحها الداخلية وسمعتها واسمها، حاول الأستاذ الجامعى منع زوجته الشاعرة «ناديا أنجومان» من كتابة الشعر وإلقائه في التجمعات، ورفضت الشاعرة الاستجابة، وكانت ناديا قد أنجبت طفلها الأول، اعتدى عليها زوجها الأستاذ الجامعى بالضرب، وحدث أن توفيت الشاعرة وحوكم الزوج، في السجن حقن الرجل نفسه بالبنزين وتوفى، سافر عتيق رحيمى 2005 إلى كابول وحاول تحقيق الجريمة وجمع تفاصيل ما حدث، أغلب الأطراف رفضت الحديث. العائلات أغلقت في وجهه أبوابها، وأراد الجميع إخفاء الجريمة والعار الذي يكشف حالة البؤس العقلى والفكرى الذي تعيش فيه البلاد، جمع رحيم عتيقى أوراقه وشتات نفسه وعاد إلى هناك لكى يكتب روايته القنبلة المحمومة التي حملت فيما يقرب من 150 صفحة عمق المأساة وبشاعة الواقع الذي تعيشه أمة بأكملها في القرن الحادى والعشرين.

في التراث الشعبى الأفغانى أسطورة تقول إن لكل إنسان حجراً أسود ثميناً إذا عثر عليه ووضعه أمامه وجلس إليه يحكى همومه وأحزانه وشكاواه، فإن الحجر يسمع ويسمع ليحمل عن الإنسان كل همومه، وفى النهاية ينفجر الحجر ويتبعثر إلى شظايا، حول هذه الأسطورة التي يرددها الناس وفيها إشارة خفية إلى الحجر الأسود التاريخى الشهير الذي يحمل عبر ملايين السنين شكاوى وأحزان ودعوات ملايين الحجاج، سيأتى عليه يوم ويفيض به الكيل لكى ينفجر، ويكون هذا اليوم هو نهاية العالم، حول هذه الأسطورة نسج الفنان واحدة من أكثر الروايات التي أعرفها تشويقاً وحداثه، رواية مشحونة بالشعر والإنسانية والدلالة المؤلمة على واقع الحال.

منولوج واحد متصل لزوجة يمرض زوجها المجاهد السابق الذي أصيب برصاصة في رقبته ويرقد في غرفة عارية فقيرة هي كل بيته مع زوجته التي تمرضه وتشرف على سريان المحلول المعلق في ذراعه وابنتاه الصغيرتان تقبعان تحت نافذة صغيرة عليها ستارة زرقاء مرسوم عليها طيور صفراء ومحبوسة، والغرفة بعد ذلك عارية.. عارية في الصمت الواقع بين طلقات الرصاص المتبادل في الخارج وتكبيرات الصلاة وصياح الله أكبر وسعال الجيران المجاهدين في بيوتهم بالسن والفقر والخوف، لا يتحرك في الغرفة إلا فقط المحلول الذي يبقى الرجل الجريح حياً، وذبابة بليدة لا تجد ما تأكله، وعنكبوت ضل طريقه إلى بيته المنسوج على القوائم الخشبية الفاسدة التي تقيم السقف.

كان الملا «شيخ الجامع المجاور» قد وصف للزوجة طريق الشفاء: أن تجلس عند رأس زوجها، وأن تقرأ قرب رأسه صفحات من القرآن، وأن تستمر طوال ثلاثة أسابيع تردد على مسبحة سوداء أسماء الله الحسنى وأن تراعى المحلول «والقطرة» في عينيه وتحاول أن تبقيهما مفتوحتين.

الرواية هي رصد فنى شعرى لمنولوج يدور داخل ذهن الزوجة، يخرج أحياناً في شتات وأحياناً يتحول تماماً إلى الداخل، في تذكر متصل لتفاصيل حياتها منذ الطفولة، ثم قصة الارتباط والزواج الذي استمر الآن ما يقارب عشر سنوات خالية تماماً من أي معرفة أو اقتراب حقيقى من الآخر، الأسرة الكبيرة رتبت الزواج والمجاهد البطل في ساحة الجهاد.

وعقد القران في غيابه، في حضور الأهل، وصورة للبطل على الحائط وإلى جواره خنجر، وبقيت العروس تنام إلى جوار أم البطل في سريرها لكى تحرس عفتها وعذريتها للمغوار الذي يعود فيختلط عليه الدم الشهرى بدم العذرية، لا فرق المهم الدم، في العنق أو على اليد، البطل عاطل مجرم عاشق خائب ومدمن أفيون، والحياة تحولت إلى ذهول، وفقد المجتمع ذاكرته ومستقبله ومصيره، خوف متوارث من عقيم النساء أو إنجاب البنات حوّل الزواج إلى كذبة ومحاولة خداع، عاشت المرأة سنواتها العشر منتهكة، مستباحة، يستعملها الزوج متى شاء، وهى تخدعه عند الحكيم المشعوذ لكى تهرب من تهمة العقم ولكنها تسقط في فخ إنجاب البنات، والمجاهد تحول إلى فرد في عصابة تتصارع على السلطة والرصاصة التي في عنقه أصيب بها في شجار في سبيل سب أمه وليس في جهاد وفى سبيل الله.

وجدت المرأة التي لا اسم لها «لا أحد في الرواية كلها له اسم كلهم أشباح» وجدت المرأة أخيراً في الزوج الراقد الذي لا ينطق حجرها الأسود وهى تحكى له بشكل متواصل كل ما كان في حياتهما معاً من ظلم وقهر ولا إنسانية، وتدخل الغرفة أشباح بلا اسم لمجاهدين بلا أسماء يحملون السلاح ويبحثون عن صيد: طعام أو نساء، أو ساعة في يد المريض أو دبلة زواج ذهبية، والمرأة بلا إرادة وبلا اعتراض تسلم نفسها لشبح من الأشباح بعد أن كانت قد صرفت ابنتيها إلى دار عمة تعيش مستترة من غبار المعارك والغباء.

الشيخ يتهمها بأنها لا تتقن القراءة ولا التسبيح، تبدأ بالاسم السادس عشر «القهار» وتنتهى بالاسم الأخير الصبور عيونه مفتوحة ولا أحد يدرى إن كان يسمع الاعتراف المتواصل المذهل الذي تصبه على رأسه تحت الصورة التي شهدت عقد القران، وإلى جوارها الخنجر.

وفى نهاية عبثية كنهاية العالم، يتبادل الزوجان في حركة أخيرة الانفجار، هو يخبط رأسها في الجدار لتغرق في دم قرمزى، وهى تغرز الخنجر في الصدر الذي يصدر آخر الأنفاس.

رواية فريدة، تحدث في غرفة واحدة عارية، كأنها أفغانستان أو كل العالم الذي فقد السمع والبصر والضمير.

 

حجر الصبر، رواية عتيق رحيمى ت: راغدة خورى، دار دال للنشر، دمشق 2014.