يموضع الروائي العراقي مقال إدوار سعيد الشهير عن تحية كاريوكا في سياقات تأويلية متعددة ومتراكبة ومتفاعلة، تثري فهمنا للمقال وللدلالات الفكرية والمنهجية التي ينطوي عليها.

إدوار سعيد وتحية كاريوكا

البوب آرتس وبولطقيا الجسد في الدراسات ما بعد الكولنيالية

على بدر

كانت نبيهة لطفي مخرجة الأفلام التسجيلية المعروفة، هي التي جمعت إدوارد سعيد والراقصة المصرية نبوية محمد كريم المعروفة بتحية كاريوكا في شقتها بالدقي، وهي الشقة التي شهدت الفصل الأخير من حياة الراقصة المصرية ومن أحداثها الصاخبة المتقلبة، كان ذلك أواخر الثمانينات عندما زار إدوارد سعيد القاهرة بدعوة من الجامعة الأميركية لإلقاء محاضرة، فانطلق من أوتيل هيلتون الذي كان يقطن فيه مع نبيهة لطفي إلى مركز الثقافة السينمائية الكائن وسط البلد لجمع مواد توثيقية وإرشيفية عنها، ثم ذهب إلى مركز جمال الليثي لشراء أفلامها السينمائية وعروض رقصاتها، ليكون أكثر إلماما بحياتها ومشروعها، ولم يكن سبب هذا اللقاء في واقع الأمر هو استعادة شبابه المبكر أوتذكر أيام القاهرة الكولنيالية التي قطنها فيما مضى، إنما كان يبغي تصوير فيلم وثائقي عن حياته وتطورات مشروعه الثقافي والسياسي، وأراد أن يبتدئ به من مدينة القاهرة، ومن لحظة تعرفه أول مرة على تحية كاريوكا وهي ترقص في كازينوبديعة مصابني بوصفها واحدة من الشخصيات التي أثرت على مراهقته تأثيرا كاملا.

كان لقاؤهما الحاسم صاخبا إلى حد ما، المعجب القديم والمفكر الذي أصبحه فيما بعد، والراقصة المصرية التي كانت نموذجا إيروسيا مكرسا من الناحية الثقافية والسياسية والاجتماعية، وإن وجدها بعد أكثر من ثلاثين عاما امرأة مترهلة تضع إيشاربا على رأسها بعد حجها وتكريس حياتها للتقوى الدينية الورعة، إلا أنه كان مستمتعا جدا بلقائها ومشغوفا بأحداث حياتها، وزيجاتها، ومواقفها السياسية، وقد اعترف لها صراحة بأنه وجدها على الرغم من كبر سنها وبدانتها أجمل بكثير مما كان قد تصورها قبل أن يراها، غير أن التصوير لم يتم، ذلك لأن إدوارد سعيد بعد أن سافر إلى أميركا أصيبت تحية كاريوكا بنوبة قلبية، لم تمهلها طويلا فتوفيت دون أن يتم مراد إدوارد سعيد، وبدلا من هذا كتب نصه الرائع عنها، النص الذي مسح ببلاغته العذبة مرحلة كاملة من الثقافة الشعبية في مصر.

عوامل حاسمة في النظرية الثقافية
ثلاثة عوامل نظرية حاسمة من وجهة نظري أدت إلى كتابة إدوارد سعيد مقالته الرائعة عن الراقصة المصرية (نبوية محمد كريم) المعروفة بتحية كاريوكا، أولا: بروز دراسات البوب آرتس والثقافة الشعبية وأبحاث الفن الشعبي العفوي والمجاني كفرع من فروع تيار ما بعد الحداثة، والثاني بروز تيار ما بعد الكولنيالية في دراسة بولطقيا الجسد حيث يكون جسد تحية كاريوكا هو السطح الذي تنقش عليه الأحداث التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية نفسها، والثالث هو الاهتمام الذي أولته النظرية النقدية المعاصرة للكيانات المقموعة والمهمشة من الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، مثل النساء، الزنوج، الفقراء، الأقليات الدينية والعرقية والأثنية. وإن لم تكن هذه التيارات الثلاثة بعيدة نسبيا عن اهتمام سعيد في كتاباته المبكرة، إلا أن هذه المقالة جاءت صادمة وعلى نحوغير متوقع في مسار سعيد، لا لأنها تعكس اهتماما ميثدولوجيا مقتربيا جديدا لإدوارد سعيد في فترة حاسمة من تطوره الفكري والنقدي حسب، إنما لأنها تهدم وبشكل كامل الفوارق الهرمية في التراتب العنيف بين ثقافة مثقفة وثقافة مهمشة، بين ثقافة رسمية متعالية وثقافة ثانوية مهملة، بين ثقافة مكرسة من الناحية السياسية والاجتماعية والأخلاقية وثقافة منحطة، بين ثقافة مفكر بها وثقافة لا مفكر بها، بين ثقافة معلن عنها وثقافة مسكوت عنها، بين ثقافة أساسية وثقافة ثانوية وهامشية، بين ثقافة متعارف عليها وثقافة مخبئة وسرية ومتستر عليها، غير أن هذه الثقافة الخفية هي ثقافة موجودة وكائنة وفاعلة ومحرضة وباعثة ومتغلغلة ومتشربة، بل هي ثقافة كاسحة.

إن مقالة سعيد تؤكد على الترابط بين النصوص وبين الوقائع الوجودية للحياة، تؤكد على العلاقة بين النصوص والكيانات البشرية والسياسة والمجتمعات والأحداث، إن الوقائع المتعلقة بالسلطة تتشكل في إطار وقائع ثقافية وفنية واجتماعية متنوعة، تبتدأ من الفرمان وتنتهي بالرقص، إنه خطاب يتعلق  بضروب المقاومة التي يبديها الرجال والنساء والحركات الاجتماعية والسلطات والمعتقدات التقليدية، وهذه هي التي تجعل من الراقصة نصا، وحضور الوقائع السياسية في الفن أمراً ممكناً.

كان إدوارد سعيد يدرك أن دور تحية كاريوكا هو نوع من النصية التي ما من سبيل قط إلى تجاوزها، هي نص ما من سبيل على الإطلاق لعبوره وإهماله وإخفائه، أوالتنكر له ومجافاته والتحايل عليه، إنها نص كامل ومنجز في الإطار النصي- الثقافي الذي يحرك ميدانا كاملا من الأفكار والعلاقات ويبرزها في إطار خطابي متجانس من التاريخ الثقافي العربي في الحقبة الأولى من تشكل المدينة العربية وتأسيسها على أساس كولنيالي، إنها منجز مكتمل تم تحققه من خلال بنية خطابية متكاملة من علاقات اجتماعية وثقافية وسياسية وتاريخية وأدبية وإثنية، إنها نص يمكن دراسته وتحليله ابتغاء الوصول إلى وعي التاريخ "الحقيقي" في تلك المرحلة المهمة من الحياة الاجتماعية والسوسيوثقافية المصرية، إنها نص يمكن ترحيله وتقديمه في إطار علائقي أي دراسة شبكة العلاقات الثقافية التي تتحكم بمرحلة معينة من مراحل التاريخ، وهكذا استطاع إدوارد سعيد لا أن يكتب مقالة ثرية وبليغة وصاخبة عن راقصة مصرية عاشت في منتصف القرن الماضي حسب، إنما استطاع أن يمسح ببراعته الفذة مرحلة تحية كاريوكا التي تتوجت في بروز الفن في الحياة الاجتماعية والسياسية قبل الثورة وبعدها، في قصر عابدين أيام الملك فؤاد أوفي مرحلة العسكر، أيام الثورة أوأيام الانفتاح، وقد دفع إدوارد سعيد مقالته بعيدا لتشكل نقطة الجذب الحقيقية في دراسة الثقافة الشعبية.

لقد طرح إدوارد سعيد في مقالته طقما متماسكا من الأفكار ومن الصياغات ومن الرؤى والأفكار التي ألفها من تاريخ تحية كاريوكا ومن حياتها ومن فنها ومن براعتها في أداءات متوازية، أداءات مترافقة ومتوافقة ومتطابقة مع بعضها البعض، أولا: الأداء الفني في الرقص الشرقي وقد برعت به تحية كاريوكا براعة تامة، برعت في إحداث الأثر الفني عبر تقشفها في الحركة، واحترافيتها في الجذب والإغواء عبر استخدام نظام استطيقي عفوي منفذ ببراعة في الانتقال من حركة إلى حركة أخرى، وبناء سلسلة مترابطة من الموتيفات المتكررة للإيحاء الفني بعيدا عن التصريح العلني، أوالإعلان الفضائحي للجسد على نحومتعمد، إنما بحركة مفترضة وإيحائية ثابتة، حيث تبقى تحية على نحومتواصل ذات طاقة كلاسيكية مهيبة، ملموسة وافتراضية، قريبة ونائية، ممنوحة لكنها لا تطال، ثانيا: الأداء الثقافي المتوافق مع الإبداع الفني، وهو الوعي الأنثوي القادم من لياقة اجتماعية محلية موروثة عن نظام خاص بالتاريخ الثقافي الشعبي العربي.

وقد عده سعيد واحدا من مكملات الثقافة الشعبية في هذه المنطقة، ومن مكملات الهوية الوطنية، ومعبرا عن التواتر الاتساقي في الموروث الشعبي لشخصية العالمة القادمة من التاريخ العربي الإسلامي ولا سيما إبان العصر الذهبي للإمبراطورية العباسية وابتداء من شخصية الجارية تودد في ألف ليلة وليلة، وأخيرا: الأداء السياسي، حيث حولت تحية كاريوكا قدرتها على الجذب والإغواء إلى ناظم وضابط سياسي تتحكم به في دفع الروح الوطنية والقومية للجماهير، واستخدمت شخصيتها الفنية الاعتبارية في إبداء الرأي والتظاهر والاحتجاج والاعتصام والرد، والوقوف إلى جانب التيار السياسي اليساري في الخمسينات، ومع سياسة الانفتاح في السبعينيات عن طريق مسرحيتها الشهيرة يحيا الوفد وقد شاهدها إدوارد سعيد في العام 1975 في سينما ميامي في القاهرة، وعبر عن اشمئزازه منها لموالاتها إبان ذاك السياسة الساداتية المعادية للالتزامات العالمثالثية التي طبعت تاريخ مصر، لكن هذا لم يمح دورها الثقا - سياسي في مساندة اليسار المصري، وانتمائها إلى عصبة السلام، والدور المهم والأساس الذي لعبته مع فايز حلاوة في تأسيس الكابريه السياسي. كانت حياتها عاصفة بحق وحقيقة وقد أذهلته بالمعلومات التي قدمتها له عن نفسها:

لقد عرف إدوارد سعيد من ذلك اللقاء النادر أن اسمها بدوية محمد كريم، كانت آخر طفلة لمحمد النيداني وهو شخص سعودي تزوج سبع نساء آخرهن والدتها، أما تحية فهي الابنة الوحيدة لهذه المرأة التي لم تكن مصرية أيضا، وقد تركها والدها عند جدتها لتربيتها وتعليمها بيد أن أخاها أرادها أن تعمل في خدمة زوجته المالطية، فهربت من منزله، ركبت القطار قاصدة القاهرة وهي في الخامسة عشر من عمرها، بعد أن تطوع بعض الركاب بدفع ثمن تذكرتها، والتحقت بسعاد محسن التي كانت تزورهم في الإسماعيلية لإحياء الحفلات، وقد عملت عندها في صالة "بيجوبالاس" بمرتب شهري بلغ ثلاثة جنيهات في فرقة كومبارس، ثم ذهبت مباشرة إلى واكيم الذي قدمها إلى بديعة مصابني "ملكة الليل والمسارح آنذاك". وقد اختارت لها بديعة مصابني اسمها الفني تحية، أما لقب كاريوكا فجاء بعد سنتين من العمل، عندما شاهدت فيلماً قدمت خلاله رقصة جديدة مستوحاة من موسيقى برازيلية اسمها كاريوكا، أعجبها الاسم وقدمت الرقصة في إحدى وصلاتها، فأثارت إعجاب الرواد وأصبح اسمها تحية كاريوكا.

لقد كانت أبرع راقصات زمانها فقد تعلمت رقصة "الكلاكيت" عند الفنان روجيه، والرقص الشرقي من حورية محمد، والصاجات من نوسة والدة الراقصة نبوية مصطفى، وتزوجت أكثر من  12 مرة، الأول هو انطوان عيسى، ثم المليونير محمد سلطان، ثم ضابط أمريكي يدعى جلبرت ليفي الذي سافرت معه إلى الولايات المتحدة وهي تحلم بهوليوود، وفي الخمسينات اشتركت بفيلم أميركي غير أن منتجه تخوف من إشراك عربية فيه وإغضاب اليهود، عادت بعد ذلك إلى مصر لتتزوج بعد طلاقها من الأمريكي مصطفى حمزة صاحب إحدى دور العرض السينمائي، ثم تزوجت المخرج فطين عبد الوهاب، ثم الطبيب حسن حسني، وكان النجم رشدي أباظة أبرز الرجال الذين أحبتهم وعاشت ثلاث سنوات في عصمته، قبل أن تتزوج المطرب محرم فؤاد، فالموسيقار محمد سلطان، ثم الرياضي عبد الله الخادم، وأحمد ذوالفقار صبير، وطيار الملك فؤاد حسن عاكف، والصاغ مصطفي كمال صدقي، وأخيراً فايز حلاوة أطول زيجاتها حيث دام زواجها من حلاوة مدة 23 عاماً ثم طلقها بعد ذلك واستولى على ثروتها وطردها من الشقة الزوجية بعد سنوات من الشهرة والمجد والصعود، كما قالت ذلك لإدوارد سعيد.

الوعي السياسي والأنثوي
ما أثار إدوارد سعيد حقيقة في شخصية تحية كاريوكا هو وعيها السياسي والطبقي، فلم تكن بعيدة عن السياسة على الإطلاق، كانت منخرطة في صفوف اليسار المصري، وبالرغم من أنها رقصت أمام الملك فاروق في كازينو(الأبراج ) الشهير، ورقصت على أنغام أغنية "غنيلي شوي شوي" لأم كلثوم في قصر عابدين، إلا أنها كانت قريبة من المثقفين والسياسيين والكتاب اليساريين في ذلك الوقت، وقد صعدت من نبرة صوتها ضد العسكر بعد تصعيد موجة العنف ضد أحرار مصر في زمن عبد الناصر وقالت جملتها الشهيرة: "ذهب فاروق وجاءت فواريق" مشددة على استمرار الاستبداد السياسي والقمع فاعتقلها عبد الناصر إلى جانب المثقفين والفنانين اليساريين في الخمسينات، واتهمها إلى جانب مصطفى كمال صدقى بتهمة القيام بنشاط معاد للثورة، وهي التهمة التي ألصقها عبد الناصر بالمثقفين اليساريين والتنظيمات اليسارية المحظورة وكانت أكثر تهم معاداة النظام العسكري عقوبة آنذاك، وأودعت تحية كاريوكا سجن الاستئناف وعندما أخذ المخرج حلمي رفله التردد عليها في السجن  لفت نظر رجال المباحث فألقي عليه القبض ووجهت إليه تهمة مساعدة ومؤازرة المتهمين في القيام بنشاط هدام للمجتمع المصري. وفي تلك الفترة أيضا حمت تحية كاريوكا المثقف اليساري المصري صلاح حافظ في منزلها وكان طالباً وصحافياً وسياسياً شاباً آنذاك.

وقد مثلت في أفلام عديدة بلغ عددها 200 فيلم أبرزها: "شباب امرأة" الذي أخرجه صلاح أبوسيف وعرض في مهرجان "كان" حيث لفتت أنظار الصحافة العالمية عندما ظهرت باللباس البلدي للمرأة المصرية وخطفت الأضواء، وهناك وقعت تلك الحادثة المشهورة مع الممثلة ريتا هيورات التي أدلت بتصريحات تسيء إلى العرب فتصدت لها أمام جمهور واسع. كما عملت في المسرح مع إسماعيل ياسين وأبوالسعود الابياري، قبل أن تؤسس في الستينات بعد زواجها من فايز حلاوة فرقة مسرحية تحمل اسمها، ولمعت مع فايز حلاوة في تقديم العديد من المسرحيات السياسية مثل روبابيكيا ويحيا الوفد، لقد كانت منخرطة في العمل السياسي بشكل كامل، وتدربت على السلاح خلال عدوان 1956 على مصر، ثم خلال حرب حزيران 67، كما جمعت التبرعات لنصرة أطفال الحجارة، كانت مناضلة نقابية من الدرجة الأولى قادت إضراب نقابات المهن الفنية ضد قانون اعتبرته جائراً بحق الفنانين وأعلنت الاعتصام عن الطعام بالرغم من تدهور صحتها، وقد أسست مع فايز حلاوة الكاتب والممثل المسرحي (الكباريه السياسي)، وهو مسرح يعالج مظاهر العلاقة بين المواطن والسلطة في إطار نقدي ساخر موجه للسلطة، ومثلت معه مسرحية (روبابيكيا) و(الثعلب فات) و(حضرة صاحب العمارة) و(كدابين الزفة) و(البغل في الإبريق) و(شفيقة القبطية) و(يحيا الوفد) و(الباب العالي) و(حارة الشرفا) و(قهوة التوتة) و(بلاغ كاذب).

كان سعيد يقترب شيئا فشيئا من الثقافة الشعبية ومن الميدان الميثادولوجي الذي يؤسسها، لقد هزه الحماس الفائض للثقافة الشعبية التي كان كل من ليوتار وبورديار يشجعانها، كان ينظر إليها من وجهة نظر سياسية ومن وجهة نظر ثقافية أيضا، وكان يبغي من وراء طرحه لنموذج تحية كاريوكا هو تقديم معنى جديد يمتزج مع شبكة من المعاني المعقدة لمظاهر اجتماعية مختلفة يبرز من بينها أحد أبرز مظاهر الثقافة الشعبية هو الرقص الشعبي، هذه المقالة هي انتصار لأخلاق السعادة، للاحترافية الفنية في الفن الشعبي، وليس مصادفة أن يقترن اهتمام إدوارد سعيد هنا بمظاهر العالم، وبالفن الشعبي، وبالنصية الدنيوية، والنقد الدنيوي، وأن يطرح مفهوم العالم جنبا إلى جنب النص والنقد، بعد بروز فلسفة ضيقة بكل المقاييس، فلسفة نصية تصر على عدم التدخل النقدي، وعلى الخلفية السياسية والاجتماعية لسطوع الريغانية المخيفة لأكثر المثقفين، وبروز حرب باردة مهددة جديدة، وتفاقم مظاهر العسكرة وظهور شبح الحرب، والانجراف الهائل باتجاه اليمين، ففي الوقت الذي كتب إدوارد سعيد مقالته عن تحية كاريوكا كان هنالك نقد يميني الجانب يعزف عزوفا كليا عن العالم والحياة والمجتمع ويقدم نصا ميثادولوجيا تكتنفه إلى حد بعيد الشكوك والمغالطات.

كان سعيد يدرك إدراكا تاما أن تحية كاريوكا هي نقطة البدء في تحديد الأفكار والصياغات في مفهوم الثقافة الشعبية، فهي الخط العريض لثقافة بأكملها هي ثقافة الرقص الشعبي، ثقافة كائنة من هذا المكان، ثقافة مؤثرة غير مجلوبة أومستوردة، أوقادمة عن طريق تثاقف ـ أواستجلاب ثقافي مثل الفيلم السينمائي أوالغنائي أوالموسيقي المعاصر، هذه الأفكار والصياغات هي التي حملت الرقص الشعبي بعدا سياسيا وثقافيا واجتماعيا مغايرا تقريبا، ولا تتجاوز هذه الأفكار والصياغات الأحداث التاريخية العالمية أوالقومية التي تقدمها هذه الراقصة بوصفها هي الأخرى حدثا، إنما تنشبك هي الأخرى في التاريخ الخارجي، وفي النصوص التي تشكل المرحلة التاريخية التي تؤسسها، والأحداث التي نجمت عن هذه النصوص ذاتها، إن أحداث وظروف تحية ما هي إلا نصية أيضاً، إنها نص وهي أحداث إلى حد ما، وهي فوق كل هذا وذاك قسط من العالم الاجتماعي والحياة البشرية الذي يتحول إلى نص يمكن تحليله والإطلالة عليه، إنها قدر بالتأكيد من اللحظات التاريخية التي احتلت مكانها من خلال الدور الذي لعبته في المسار التاريخي حتى يبدوالتنكر له أومجافاته متعذرا هنا.

ولكن ما هو الحادث التذكاري الذي حفز سعيد لا لأن تكون تحية كاريوكا رمزا وطنيا فقط إنما لتصبح واحدة من الرموز الإيروسية العظيمة التي شكلت جيلا بأكمله من المثقفين والمنتجين المدنيين والثقافيين، رمزا إيروسيا معدلا عن طاقة رومانتيكية مبهجة، طاقة سعيدة تتحول إلى جاذبية هائلة ومطلقة شبيهة بقدرة سيريس الساحرة التي تغوي البحارة الذين تلتقيهم في عرض البحار، ما هو الحادث التذكاري الذي جعلها النموذج التصريحي للمرأة القاتلة، نموذج الأنوثة الخالدة، أوباترون المرأة المستحيلة التي لا تطال، هذا الحادث التذكاري الأول الذي سرده إدوارد سعيد في مقالته:

كان الأمر لا يعدوأن يكون حادثة بسيطة وعابرة بطبيعة الأمر، حادثة بسيطة وتقليدية ومتكررة غير أنها طبعت في ذهن إدوارد سعيد تخريجا ثابتا ومتواصلا لشهواته المكبوتة طوال السنوات التي غادر بها القاهرة إلى أميركا، ففي العام 1950 تدبر سمير يوسف صديق سعيد في المدرسة أمر طاولة في مسرح بديعة المكشوف في الجيزة على النيل، وقد اهتز إدوارد سعيد وللمرة الأولى أمام إثارة كاملة لمشهد إيروسي عظيم نفذته واحدة من أكبر الراقصات في تاريخ هذا الفن، بمرافقة مطرب بليد الملامح، وتقليدي إلى حد بعيد، وقد جلس سعيد ومفاصله متراخية وأيديه متشبثة بالكرسي يشلها التوتر، كانت تحية تؤدي تأليفا طويلا ومتواصلا من الإيماءات مع الموسيقى التي تعلووتهبط بنغماتها المتجانسة، كانت تؤدي تأليفا متجانسا لمسرحية إيروسية هائلة الإثارة نظرا لإرجائها الذي لا ينتهي، وكانت تقدم وصلة من الجنس الغامض والمؤدى والمنظم ببراعة هائلة ولكنه جنس عصي على التحقق والاكتمال، جنس مرجأ على الدوام ومستبعد بصورة نهائية.

يشير سعيد وهو يصف ببراعة كاملة هذه الحركة التي تقوم بها تحية على المسرح إلى شبكة متصالبة متآلفة ومتأنقة من تقنيات الرقص، يشير إلى العلاقة بين الرقص وأخلاق السعادة، يشير إلى شبكة من القوانين التقنية والاجتماعية والأخلاقية التي تحكم مسارا صارما وكليا من الأداءات الثقافية، بل تفرض من خلال الثقافة السائدة ذاتها القوانين  المتعلقة بكيفية بحث هذه الإجراءات والمتواليات التي تطرحها الثقافة الشعبية ومنهجياتها لقد بين سعيد في هذه المقالة مظهراً ثانوياً من مظاهر قدرة الثقافة على السيطرة على العمل وعلى تجويزه. وأما الشيء الأهم في الثقافة فهو أنها منظومة من القيم التي ترشح إلى تحت كي تغمر بقطراتها كل شيء تقريباً ضمن نطاقها هي، وإلى حد البلل.

لقد حملت مقالة إدوارد سعيد مشاعر متحمسة، مشاعر طاغية، مشاعر مفعمة بالإعجاب والتقدير لتحية كاريوكا، وقد وضعها جنبا إلى جنب صناع الثقافة والحياة والفن في العالم مثل ريمون شواب وثيبودية وستارابونسكي وأدورنو، لقد ألهمته هذا النص الاستثنائي الذي جاء في زحمة مواقف متتابعة، وأحداث متوالية، وتطورات صاخبة في الثقافة والنقد، ومن بين هذه الفوضى الخلاقة التي خلفها سعيد والركام الذي قفز فوقه يبرز نصه عن تحية كاريوكا متواصلا مع رقصها الأرابسكي المديد، يبرز منسجما مع البسمة المضيئة التي تفتر عن شفتيها والتي تضيء الخلفية عادة، هذه البسمة التي وصفها سعيد بأنها نقطة ثابتة في عالم متقلب، لقد كان انخراطه في دفاعه اللافت عنها قادما من عمق تحديده الفني الدقيق إلى التحولات التقنية في أدائها، تحولات الأستطيقيا وتحولات الفن والمعبر عنه بهذا التثني الآسر في الحركة والذي يؤدي إلى الإيحاء الإيروسي أكثر مما يؤدي إلى الحركات الجسدية الشهوية المبتذلة، وبهذه القصدية المهيبة التي تبقى محافظة على طابعها المعدل حتى أثناء المقاطع الأكثر خفة وسرعة، إن إعجاب سعيد بتحية كاريوكا يكمن في ابتعادها عن النموذج الشعبي المخدر بشهواته المكشوفة والمفضوحة، أوالنموذج الغارق في الألعاب البهلوانية الرخيصة، والنطنطة الحريمية المتخلعة، وبدلا من هذا كان أداؤها يخلص إلى الرقص الحقيقي كفن وكأداء فني بعيدا عن الانخراط الحريمي في ستربتيز معدل، وتقديم بدلا عنه السحر القديم الذي يوحي على الدوام بكل ما هو كلاسيكي وتذكاري واحتفالي في الآن ذاته.

البوب آرتس وبوليطقيا الجسد
مثلما كان عرض تحية كاريوكا المكمل بابتسامة تفتر عن ثغرها وبتأمل ذاتي لجسدها واستمتاع بحركاته، كان نص سعيد هو الآخر يقدم تأملا ذاتيا لحياته الشخصية وتذكاراته في القاهرة الكولنيالية في العام 1950، وكان إدوارد يومها ما زال شاباً يافعاً في سنوات دراسته، ويعيش مع أسرته بالقاهرة، قبل أن تطولها قرارات التأميم الناصرية وتهاجر إلى أمريكا، كان نصه يعبر عن تيار جديد في النقد الثقافي، تيار يحلل الثقافة الشعبية والبوب آرتس ويجعل من الجسد الحي بوليطيقيا حقيقية لتفسير المدينة ونشأتها، ولتحليل الحياة الكرنفالية في القاهرة التي شهدها، وعاشها عبر تلك السلسلة الإيروسية التي لا نهاية لها، سلسلة الجنس الإسلامي المتوسطي اللاتيني العربي الكامن في القاهرة السرية، والذي افتقده سعيد فيما بعد. كان الرقص هو الأكثر بروزا في الحياة المدنية الحضرية في القاهرة الكولنيالية كما عاشها سعيد، المركز الحضري ذي الأنماط الاجتماعية المتفاوتة، كان إدوارد سعيد يعين عبر مشهد وصورة تحية كاريوكا التوافق الإدراكي للحياة السياسية عبر التلقي الإيروسي للجسد والذي حفزته طاقة ليبرالية شكلت مشهدا كاملا في الحياة السياسية المصرية أوانذاك، حيث يتركز حضور الجسد على المسرح ك(فرجة) أو(معجبة) أو(سباكتاكل) وهو حضور متميز تدفعه هذه الكتلة الحية وهي تتناغم عبر موجهاتها الثقافية الحقيقية، إنه تعبير سياسي واجتماعي وثقافي عبر دنيوية هذا الجسد ومشهديته، فقد كان زوار مصر السياسيين يطلبون في المقام الأول حضور عرض راقص لتحية كاريوكا، كما فعل الزعيم التركي كمال أتاتورك.

من جهة أخرى قلص سعيد المنطقة المفتوحة بين الرومانسية والإيروسية، وجعل النطاق المميز في مملكة الرقص هو الجسد، أما التعبير الأكثر تأثيرا وإيحاء فهو الرومانسية الطاغية أكثر مما هي الإيروسية القريبة والمقدمة والمعلنة، فالجسد هنا هو المحور الرئيس الذي تتجمع حوله الأبصار وتختفي عمليا الموسيقى الرتيبة والمتململة، حيث يتحرك الجسد من خلال نسيج شعوري بسيط منفذ ببراعة، نسيج شعوري يتشكل عبر حركات الرقص وتلقائية الأداء ومن هذه الحركة والأداء يحدث الأثر الإيروسي المحوري نظريا، والمبتعد عمليا، أوالمؤجل على نحوخاص، وهذا التأجيل هو الذي يترك للرومانسية الطاغية هذا المذاق الذي يدوم طويلا، وربما أكثر حتى من المذاق الإيروسي.

يكشف سعيد علانية سر تلك المفارقة التي مفادها أنه يستعيد ذكريات حياته، يعيد صورة موطنه الثاني، القاهرة التي أتاحت له فرصة ذلك الإنجاز الرائع، وقد انقلبت تلك اللحظة التي جاء بها لزيارة القاهرة إلى تحد جديد، ومخاطرة جديدة، وقد صنع من هذه الزيارة عملا ثقافياً ذا أهمية فائقة، لقد كتب هذه المقالة في خريف عمره عبر حبك فكرة الرقص الشعبي كتعبير أدنى للثقافة الدنيوية التي نادى بها فيما مضى، إنه يتذكر على نحوبارع تاريخ اقتلاعه من جذوره، يتذكر بها هذا التشرد المتعمد، إنه يتذكر بها وجوده كمنفي ومتغرب، ويصبح الرقص هنا توكيدا على التلاؤم والانتماء والتوحد والتجمع.