يتناول الباحث ظاهرة التسجيلات المسربة، كجزء من البروباغندا، حول شخصيات قيادية مصرية من بين شخصيات أخر. ويشير إلى فاعليتها الممنهجة والقصدية في التلاعب على العقول، وديماغوجبة إيصال المعلومة، وشعبوية التأثير في الرأي العام.

متعة التلصص السياسي

أحمد غـريب

استخدم السيسي أداة مبتكرة في بناء شهرته قبل أن يصبح رئيساً هي التسجيلات المسربة له، والتي كان يظهر فيها بالصوت والصورة يتحدث مع قيادات من الجيش، لعل أشهرها الذي يتكلم فيه عن أن دولة ما قبل 25 يناير تفككت تقريباً مع بقاء منظومتها القانونية كما هي، وأنه يسعى لبناء أذرع إعلامية لتلعب دوراً في النظام السياسي الجديد الذي يعمل على تشكيله. وكان يوازي هذا النوع من التسجيلات المصوّرة تسريبات أخرى عبارة عن تسجيلات صوتية فقط، لعل أشهرها حديثه عن حلم الساعة الأوميجا والتفسير الرمزي لذلك الحلم؛ حيث اعتقد السيسي حسب كلامه أن هذا الرمز إشارة إلى أنه سيصل إلى شهرة عالمية.

كان النوع الأول من التسجيلات يزيد قناعة المعجبين به، ويعطي صورة من الداخل غير معتادة عن مؤسسة الجيش، لقائد أكثر شباباً من سابقه (طنطاوي، 77 عاماً)، يتحدث بثقة ويشدد على أن الدولة تغيرت مهدئاً خواطر قطاع من المتعاطفين من 25 يناير، بل إنه في إحدى التسجيلات المصوّرة لاجتماع له مع عدد كبير من الضباط تكلم عن نوع من المساواة والتقدير لضباط الصف، وهم فئة مهمشة في المؤسسة العسكرية، وينظر لهم الضباط نظرة طبقية تقلل من شأنهم، على الرغم من أنهم يحملون الجيش على أكتافهم حرفياً.

وكان هناك نوع آخر من التسجيلات للسيسي يزيد شك المتوجسين من صعوده السياسي الشخصي الذي بدأ بتفويض 26 يوليو، وهي تسجيلات أصبحت تسمّى لاحقاً "تسريبات"، خاصة بعد أن استخدم أحد الأذرع الإعلامية للمؤسسة الرسمية (عبدالرحيم علي) صيغة المكالمات الهاتفية المسربة لتشويه صورة مجموعة من شباب الثورة، وبعض رموزها مثل البرادعي، مفتتحاً ملعب التسريبات بشكل رسمي لتصبح وجبة على مائدة التلفزيون وليس مواقع الإنترنت فقط.

كانت صيغة التسجيلات نفسها قد بدأت في المنطقة مع ظاهرة صعود الإسلام السياسي كمعارضة غير رسمية في المنطقة في سبعينات القرن العشرين. وكان أشهرها وأولها تسجيلات الخوميني التي كانت وقتها تسجيلات ممنوعة لشخص طرده نظام الشاه الحاكم، وكان يوازيها في مصر تسجيلات الشيخ كشك مثلاً، والتي كانت وأشباهها وسيلة إعلام الإسلام السياسي التي توثق تمدده الشعبي، وتمثل تحدياً كبيراً للسلطة المعلوماتية المحتكرة رسمياً، حيث كان امتلاك جهاز "ريكوردر" ونسخ الأشرطة في السبعينات نوعاً من الاستقلالية عن السيطرة الإعلامية المُحكَمة، لا يمكن فهمه واستيعابه جيداً من الأجيال الشابة التي نشأت على الإنترنت والإعلام التفاعلي، أو بمعنى أدق فيضان الوسائل الإعلامية في العقدين الأخيرين.

في الطريق، كان هناك تسجيلات أسامة بن لادن والظواهري المصوّرة التي كانت تذيعها بشكل حصري قناة الجزيرة، والتي كانت تتحدى القدرة الأميركية، وكان يحرص فيها بن لادن على الظهور بمظهر السكينة والاطمئنان، كأمارة على أن صانع الزلزال الذي هزّ أمريكا والذي تجنّدت قدرات هائلة للبحث عنه والفتك به يعيش مرتاحاً دون أذى. ومن ناحية أخرى كان بث هذه التسجيلات يبني صورة قناة الجزيرة كمنبر للمعارضة التي تتصادم مع النظام الإقليمي القائم، وحلفائه الدوليين.

تسجيلات السيسي وتسريبات مكتبه -الأخيرة- موجة مختلفة من التسجيلات المعارضة، ناهيك عن أنها تستهدف مؤسسة اعتادت احتكار السلطة والقوة بما في ذلك احتكار التلصص على الآخرين.

هذه التسجيلات المضادة لمصالح القوة التي يفترض أنها تحتكر أساليب التلصص تأتي من معارضة شاركت في السلطة مع الجيش لفترة من الوقت.

كان المجلس العسكري بقيادة طنطاوي-عنان قد تلقى هزيمة سياسية أخلاقية نتيجة للطريقة التي تعامل بها مع ثوار الميدان، ومحاولاته الفاشلة في تصفية الحركة الاحتجاجية سواء من فض اعتصامات الميدان، أو مذبحة ماسبيرو، أو استاد بورسعيد، وغير ذلك من الصدامات مع شباب الثورة التي انتهت بهزيمة أخلاقية له مع انضمام أعداد كبيرة من غير المسيسيين لأحداث محمد محمود، وذيوع شعار "يسقط يسقط حكم العسكر" خارج الميدان، ليصبح هتافاً شعبياً في الشوارع ووسائل المواصلات، ما اضطر المجلس إلى تسليم السلطة جزئياً للإخوان المسلمين الذين كان قد اتفق معهم على لعب دور الوسيط السياسي بينه وبين الشعب، بعد انهيار الحزب الوطني وانهيار المنظومة الإعلامية الحاكمة أمام حركة 25 يناير.

كانت حركة 25 يناير نفسها قد استطاعت أن تكتسب صفتها الثورية الوحيدة من خلال تغيير واحد في علاقات الإنتاج، وللأسف كان تغييراً مؤقتاً: هو تغيير علاقات إنتاج المعلومات. حيث أدت الهزيمة الأخلاقية الكبرى التي تلقاها الإعلام الرسمي المصري خلال تغطيته لأحداث 25 يناير-11 فبراير إلى موجة الفضائيات الخاصة التي اضطُرَّت لمواكبة التيار المندفع لشبكات التواصل الاجتماعي في قيادة الرأي العام. وتبنت لبعض الوقت قضايا حقوقية طرحها شباب الثورة، معظمها يتعلق بحرية التعبير والتظاهر، وتعرضت لبعض المشاكل التي تعود لغياب الثقافة الحقوقية في الحياة المصرية مثل ظاهرة التحرش أو التعذيب وعنف الشرطة أو الطائفية ضد الأقباط، وناقشت بعض القضايا الشعبية مثل موضوع العدالة الاجتماعية، والعدالة الانتقالية بخصوص محاكمة رموز السلطة التي تصدت لحركة 25 يناير وحاولت تصفيتها.

انقلاب الفضائيات الخاصة وتحولها لأبواق للسلطة جاء بعد الإطاحة بمرسي، ودفْع القوى الأمنية الحاكمة بكل الوسائل لتجييش الرأي العام وراء مبدأ الوطنية، والذي كانت تعني ترجمته السياسية تفويضاً كاملاً غير قابل للمراجعة أو الترشيد لاستخدام أدوات السلطة كاملة من "شرطة" و"قضاء" و"تشريع" لفرض سيطرة أمنية توقف أي احتجاجات.

في المقابل اختار الإخوان المسلمين والفصائل الإسلامية معادلة صفرية لا تعترف بحركة جماهير شعبية كبيرة في 30 يونيو، ما وضعهم في مواجهات عنيفة مع الجيش والشرطة بررت للقوى الأمنية استخدام مؤسسات الدولة التشريعية والقضائية إلى جانب التنفيذية كالشرطة في حملتها التي تهدف لحماية مفهوم الدولة من رجعية الإسلام السياسي. فانغمست في هدم أهم عناصر الدولة وهو "استقلالية المؤسسات" بينما تدعي حماية هذا الكيان.

في رأيي، تسببت التسريبات الأخيرة لتسجيلات مساعدي السيسي في هزيمة أخلاقية للإدارة السياسية الحالية، التي أخذت على عاتقها حماية مفهوم الدولة، لا تقل عن الهزيمة الأخلاقية التي نالها المجلس العسكري بقيادة طنطاوي-عنان مع نهاية عام 2011. الفرق أن المناخ الثوري الذي كان موجوداً عام 2011-2012 تراجع من ناحية، ومن ناحية أخرى يوفر إصرار الكتلة الكبيرة من الإسلاميين على الصدام المباشر، والعنيف، مع ما أنتجته حركة 30 يونيو الشعبية شبكة أمان للقيادة الحالية تحميها من تلقي هزيمة كاملة بسبب هذه التسريبات تشبه ما كان حدث لقيادة المجلس العسكري في أحداث محمد محمود.

إلى جانب أن الحضور الإعلامي المتنوع الذي كان يوفره بعض الأصوات الإعلامية التي صعدت مع الثورة، أشهرها باسم يوسف، قد حجّم من حصول هذه التسريبات على ما تستحقه من أهمية، وما تستطيع تحقيقه من تأثير.

لكن ذلك لا يعني أن نجاح هذه التسريبات محدود؛ إنه يمثل نقلة نوعية في أداء المعارضة الإسلامية من العنف والاحتجاج الخالص إلى الإعلام. كما أنه يعتبر فضيحة "مهنية" للمؤسسة التي يفترض أنها تحتكر التلصص. البعض يشبّه هذا الفشل المهني بالمشهد الختامي لفيلم العار!

التلصص هنا في حد ذاته ليس فقط حالة نكوص نحو المراهقة يعاني منها مجتمع تم إجباره على الانسحاب من المشاركة السياسية، وإقناعه بتقبل الوصاية وتفويض وكيل حصري واحد يمثله في الشأن السياسي. التلصص هنا جزء طبيعي من حالة استخدام الإعلام بديلاً للأحزاب؛ والدليل أن المؤسسة الرسمية نفسها استخدمت التلصص، وقبلت ببث مكالمات مسجلة على شاشات التلفزيون مسجلة بهدف فضح خصومها، فكان طبيعياً أن تقلد المعارضة الأسلوب نفسه. الجديد أن التلصص وصل إلى هذا المستوى من الاختراق، وألحق بالخصم هذا الحجم الكبير من الهزيمة الأخلاقية.