خصنا الشاعر العراقي المرموق بهذا الديوان القصير، والذي يعيد من خلاله كتابة تشظي المنفى في فضاءات لا يتلمس الشاعر فيها.. إلا بعضا من حروف وكلمات ولغات وخواء لا يجد صوته فيها ولا حتى صدى لبعض الحضور.. ومن ديدن هذا الغياب الذي يتلمسه الشاعر، تنكتب فضاءات قصية من غربة القصيدة التي لا زالت تأتي ظلالا ومقاطع ورؤى.

ديوان قصير

فضاءاتٌ لستُ فيها

هاتف الجنابي

ركعة

في الفسحة ما بين الشوكة والوردة،

بين اللون النازف والسطح الأملسِ للغيب،

أكتبُ ذي الكلمات

        تتدحرج أحيانا،

        تركلها النظراتُ وتدميها العثرةْ

        أستجمعُ ريشا يَعْلقُ فوق عصا الآتي،

        جسدا يَدْمَى من وخز الورديّ

        زمنا يتطايرُ من أذنيهِ دخانُ الماضي

        للصدفةِ أقنعةٌ لا تُحصى

        عرّافون يهشّون على الأرواحِ بأفعى

        تبلعها آياتٌ دوّنها الغبشُ، 

        ورموزٌ لَوّنها أعمى في ذاكرة النسيانْ                    

       عدّاؤونَ قَضوا بحثا        

       عن وقتٍ  يُؤْسَرُ فيه المعنى،

لا يجمعُ هذي الأحرفَ بعدَ اليوم    سوى العثراتْ

أنْ تكتبَ أو لا تكتب قال العصفور،

هذي أحرفُ لا تركع إلا للرؤيا.

 

برمنغهام في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2014

 

مطار

      كنتُ في مطار،     

      في منتصف الطريق بين الشهيق والزفير

تثاءَبَ النهارُ، والمساءُ يكدّ مثل حمّالي الحقائب

بانتظار رحلة غائبة

ثمة منْ حاول إطفاء رحلة تحترقُ،

                    بين الليل والنهار

في دورة النسيان لا فرق     بين شعلةٍ أو جبلٍ من رماد

           تأخّرَتْ رِحْلةُ العمر ساعةً أو مدى الحياة

لا أدري لماذا يَرمقني المسرعون بنظرةٍ غامضة،

هل لأني تسمّرتُ في نفس المكان

أبحث عن صلةٍ بين الحضور والغياب

أم لأنّي أجمعُ الحيرةَ نفسها والأضدادَ كلّها

في بوصلةٍ ليستْ من هذا الزمان؟

ثمة الكثيرُ من الإشارات المتقاطعة،

            كلُّ صوتٍ له آلتهُ،

رغم أن الأوتار في مسيرةٍ واحدة

الضبابُ يَحجز البياضَ، والنقاطُ السود

تستبسل داخل إيقاعها،

الزوالُ يكتبُ نفسَه ثم يمحو

الحرفُ لا يُشبه الحرفَ،

حتى النقاطُ والخطوطُ والفواصلُ.

       دائما عند مفترق الطرقِ

      كلّ رحلة لا تُشبه الأخرى،   

كل مسافر باتجاهٍ واحد،

الرحلة لن تنتهي

لأنها لم تبتديءْ بعدُ

حتى أنا لا أُشْبهُ نفسي

في مطار اللغة.

 

برمنغهام في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2014

 

إكليل

       جلستُ في المتنزه البلدي

تركتُ قربي ما تبقى من الرغيف

ووردا للحلم الغائب

بعدها، وضعتُ

إكليلا على رأس طائر

       هزّ ذيله

ظننته مُرحّبا

في خضمّ تساقط الأوراق

وزحمة الفصول

لكنه كانَ يحدّقُ بالشجرة

بغيم يحمل بلدانا تتلاشى

بفضاءٍ يقطعهُ سربٌ مُجنح

أدارَ منقاره نحوي

 كأنه بعينيه الهائمتين

يُحدّثني بلغة الطائر:

يا ابنَ البشر العابثين،

أثقلتَ كاهلي

بافتتان الزوال

الريحُ تلهو والأعمارُ حائرةْ.

 

بيرمنغهام في الأول من اكتوبر 2014

 

لزوجةٌ

       كنتُ خارجا من محفل للضفادع

       لا أدري لم الماءُ صار شحيحا

     والسماءُ ساخنة

لا أدري لمَ الرياح استنفرتْ آلهةَ الزرع والحصد

لمَ النساءُ هكذا يتشابهن مثل عُمْلةٍ

لمَ الكلماتُ أُسْقِطَتْ عنها النقاط والفواصل

لمَ الحاضرون ببطونٍ مقلوبة يتحدثون

                 كانت الأوداجُ منتفخةً

                والعيونُ جاحظة

حتى الشعراءُ منهم لم يُفَرّقوا بين شاعر وناثرٍ

لأن الجميع يقولونَ الشعرَ دون ألسنة،

يكتبون على الطين، بالدخان، وفوق الماء

دون حروف بلا لون ولا رائحة

            لأن الكلّ يفعل الشيء ذاته

           النكتة نفسها والمرايا ذاتها

العيون ترى الأشياء مقعرةً أو دائرة

لا أدري هل الإله وأنبياؤه جاحظو العيون

هل الكونُ قِدْرٌ هائلٌ يتدحرج الكلُّ داخله

هل السماءُ مُحْدَوْدِبَة؟

       يجئ الصدى مثل طبلٍ فارغ

             كنتُ خارجا من محفل للضفادع

كان الوداعُ عائما مُجلجلا

لم يبق منه ذكرى،

حيث الطرشُ المطبقُ

لأنّ المعاني أضحتْ لزجةْ

لأن الرؤيةَ المُثلى

 عليها انزلقَ النقيقُ،

 

برمنغهام 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2014

 

لغاتٌ لستُ فيها

         كلماتٌ أعرفها

         أتنفس فيها

تضّايقُ منّي، تبصق في وجهي، أرفسها،

ترسمني تمثالا حجرا أو طيرا منتوفَ الريش،

زنديقا، قرصانا منفيا في جزر مهجورة،

أصواتٌ من كل الألوان وألسنةٌ

تتكلم عن ماضٍ أجهلهُ،

وأيادٍ تقطع خيطا

يُمسك بالطائرة الورقية

يبكيها هذا الطفل التائه

في لغةِ الأضداد، العالق بالغيم

المحمول على كفّ الغيب

أعمى يبحث عن فانوس

      كلماتٌ تقرأني

     وحروفٌ تسّاقط من جيبي

يتلقفها موتى من أفواه الموتى

لكنّ الحرفَ الأول والتالي اختلطا

بالآخر أو مُحِيَا،

في زحمة بحثٍ

عن معنى أنْ تكتب نفسك

خارجَ ما مكتوب

    كلماتٌ أتنفس فيها

        لكنّي لستُ الساكنَ فيها.

 

برمنغهام في 8 ك2 2015

 

شاعر عراقي مقيم في بولندا