تركز الكاتبة على أسلوبية برادة في سرد الأحداث بواسطة تقنية سينمائية تتكئ على الحكاية، وتعتمد على الوثائق التاريخية، بأسلوب خال من التغريب والتجريب، لذلك اختار ثلاثة شخصيات تعبر عن مراحل من تاريخ المغرب بكل تحولاته السياسية والاجتماعية والثقافية، وتأثير كل ذلك على المواطن المغربي.

رواية التأمل والتفكير

رواية محمد برادة «بعيداً من الضوضاء، قريبا من السكات»

أمـينة شـرادي

استهوتني رواية محمد برادة، وطريقة أسلوبه وسرده للأحداث بواسطة تقنية سينمائية تعتمد على النواة كأصل الحكاية. هو الباحث أو المؤرخ الذي جعل من الرواية الأولى البداية لما سيأتي من أحداث. كل مرتبط بالآخر و كل له بداية عند الآخر الذي سبقه في الزمان أو في الأحداث. اعتماده على التاريخ كوسيلة أو كوثيقة لسرد أحداث روائية بأسلوب خال من التغريب والتجريب. اختار ثلاثة شخصيات لتعبر عن ثلاث مراحل عمرية من تاريخ المغرب بكل تحولاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. وتأثير كل ذلك على سلوكيات الإنسان المغربي.

في الرواية، هناك راوي وهو المؤرخ الشاب، أو "مساعد المؤرخ" الذي كلف من طرف أحد المؤرخين لتدوين آراء الناس حول راهن المغرب ومستقبله. هذا الراوي يجعلك تعيش معه أسئلته النفسية وحيرته الفكرية حول الموضوع المكلف به وكيف سيتعامل معه. المؤرخ في حد ذاته يحمل هما ثقافيا يبرز لنا من خلال أسئلته وملاحظاته. لا يتركك كقارئ سلبي. اختار هذا المؤرخ ثلاث شخصيات متباينة الأعمار والاهتمامات والتكوين لتعطي لنا صورة عن ملامح مجتمعنا المغربي طيلة خمسين سنة حيث عصفت بالمغرب أحداث سياسية واجتماعية وثقافية.. الشخصيات الثلاث شاهد اثباث على تلك الحقبة وكل شخصية تكمل الحكاية من زاويتها أو تحكيها من خلال منظورها للأشياء بعيدة عن التجرد والتعقيد.

الرواية كتبت بأسلوب سلس يعتمد على التاريخ لسرد تلك الأحداث التي عاشها المغرب لكن بأسلوب روائي يتداخل فيه الذات بالآخر. أسلوب سينمائي يرتكز على البوح تارة وعلى الهمس تارة أخرى مع محاولة ربط كل ما يقع للشخصية التي هي جزء من المجتمع، مع كل التغيرات التي غيرت ملامح المغرب من فترة إلى أخرى.

توفيق الصادقي: المزداد سنة 1931، شخصية واكبت الاستعمار الفرنسي للمغرب و عاشت كل التناقضات التي يمكن أن يعيشها شباب تلك الفترة، بين التقاليد الموروثة والأعراف المتفق عليها، وبين الحضارة الأوروبية التي يجسدها المستعمر من أفكار متحررة وانجازات علمية. هذه الحضارة التي جعلته يطمح للوصول إليها للحصول على شهادات عالية ويصبح من "النخبة التي ستدير شؤون البلاد" من خلاله، اطلعنا على مرحلة الحركة الوطنية التي عرفها المغرب خلال فترة الأربعينات واستمرت حتى حصل المغرب على استقلاله. يوم الإعلان عن الاستقلال، فتح ورش كبير من أجل النهوض بالمغرب من "محاربة الأمية، إعطاء الأسبقية للسياحة الداخلية.."، أوراش ظلت مفتوحة إلى الآن والمغرب مازال يجني ثمرات ضياعها وتعثرها. يعود بنا "توفيق الصادقي" إلى حميميته وليلة زفافه بكل تفاصيلها.هل له علاقة بنفسيته التائهة بين ما كان يحلم به وبين الواقع الذي لم يختره؟ ما قبل الاستقلال وبعده؟ "فقدان الحماس وخيبة الأمل" تبخرت الوعود.

فالح الحمزاوي:

مرحلة ما بعد الاستقلال وما تلاها من اضطرابات واعتقالات وانقلابات. وأول ضربة سيتلقاها الطفل آنذاك "فالح الحمزاوي"، والذي سيدرك بحسه الثوري النائم مع أقرانه بأنه قرار"يمس مستقبلهم" وهو "قرار حكومي بحذف مادة الفلسفة من برنامج قسم الباكالوريا" هذا الحذف الذي فتح على المغرب باب التطرف فيما بعد. نقطة مهمة ساهمت في التحول النفسي والدرامي لشخصية "فالح". فأتت الثورات الطلابية الطالبة بالتغيير وتحسين الوضع الاجتماعي. أي كل الوعود التي سبق وعشناها مع "توفيق الصادقي". مرحلة حرجة وجريئة التي عاشها "فالح الحمزاوي" مرحلة الانخراط في العمل السياسي من أجل التغيير. عناق الديمقراطية مهما كلفه ذلك من ثمن. والجميل في هذا السرد، هو استمراريته من خلال تواجد شخصية "فالح الحمزاوي" كمحام والعمل عند "توفيق الصادقي" في مكتبه. ليست هناك قطيعة. وهنا أيضا علاقة "الحمزاوي" بالمرأة،"لبنى" التي تختلف عن المرأة في عهد الحماية، زميلة الدراسة وعلاقته المتحررة معها. لبنى ترمز إلى مرحلة أخرى تخطت فيها الفتاة الأعراف والتقاليد والزواج بشكل تقليدي. تباين تام بين علاقة "الصادقي" الحميمية. وعلاقته أيضا بصوفيا رغم زواجه. شخصية متزنة وتبحث عن شيئ مفقود. عمله كمحامي كشاهد على عصره. انفجر المد الأصولي وتفاقمت الأزمات. فكانت حكومة التناوب من أجل انقاد البلاد من "سكتة قلبية". هل فعلا أنقذ المغرب من السكتة القلبية؟ وجاءت مرحلة جديدة، ولم يتغير شيء في نظر "الحمزاوي" بل أحس"بالخديعة". من من؟ شعور بالتيه جعله يقبل دعوة د.نبيهة سمعان، زميلة قديمة، بالحضور إلى صالونها الذي "سيكتشف بنفسه هويته".

د.نبيهة سمعان: طبيبة نفسانية، نموذج للمرأة المثقفة المتحررة التي تجاوزت كل الأعراف التي تحكم تقدم المرأة أسست لنفسها عالمها الخاص وفتحت بذلك صالونا فكريا يلتقي فيه نخبة المثقفين والمفكرين من أجل تداول القضايا الساخنة والبحث عن الهوية المفقودة. حاولت بصالونها هذا كسر الهيمنة الذكورية وتحقيق ذاتها كانسان يبحث عن نفسه وهويته. تخصصها ساعدها على ملاحظة المشاركين في صالونها وسلوكياتهم تجاه مجتمع مليء بالتناقضات. مرحلة د.نبيهة، مرحلة التسعينات من القرن الماضي، مرحلة البحث الدائم عن الديمقراطية التي صارع من أجلها"توفيق الصادقي" و"فالح الحمزاوي" ومازال الصراع مستمرا. تخصص د. نبيهة سمعان، ليس اعتباطيا بل مقصود من طرف الكاتب. لأن ذلك الصراع الطويل من عهد الحماية إلى الآن، هو صراع أفكار وصراع طبقات وأجيال. والملاحظ أن الشخصيات الثلاث تشعر بالغربة وفقدان شيء ما رغم الدراسة الجامعية والانخراط في الحياة السياسية والدراسة بالخارج كل هذا والروح تشعر بالغربة والوحدة. لكن ما يثير أيضا في رواة الدكتورة نبيهة، هو طغيان الجانب العاطفي عليها . هل لأنها امرأة؟

ثلاث شخصيات حكت ما عاشته وأحسته من انكسارات وصراع من أجل الاستقلال ومن أحلام جديدة في الأفق ومن وعود تاهت عبر الطريق المؤدي إلى العدم. ثلاث شخصيات من تكون؟ عاشت بين الضوضاء والسكوت. ثلاث شخصيات عرت على واقع مغربي منذ عهد الحماية إلى الآن كأننا أمام شريط سينمائي يخلد أهم مراحل المغرب المؤثرة في مساره. ويبقى مساعد المؤرخ "الراجي" الذي يعتبر شخصية رابعة تستمع وتحكي. وهو يعبر عن مرحلة الثورات العربية الباحثة عن الحرية والديمقراطية. هل سيتحقق التغيير المنشود؟ وهنا يلح علي سؤال: هل يمكن للإنسان المثقف أن يؤثر في المجتمع ويساهم في التغيير أم سيظل قلمه ثائرا وتائها بين الضوضاء غير المجدية والسكات الشبيه بالموت.