تصور القاصة المغربية في قصتها محنة المرأة في مجتمعاتنا الشرقية التي تقع في الحب وتغامر متجاوزةً الأعراف والتقاليد والمجتمع لتتسلل إلى حبيبها وتخطف معه سرا مباهج الجسد والروح في ظلام غرفة، وتفصل لنا مشاعر المرأة العاشقة المحبة التي يغدر بها الرجل الشرقي في الغالب الأعم.

الــــنـــافــــــذة

أمـينة شـرادي

خرجت من البيت مسرعة لا تلوي على شيء. كانت تحمل حقيبتها السوداء التي لا تفارقها كظلها. أخذت تمشي بسرعة فائقة في انتظار أن تجد سيارة أجرة. اضطرت في الأخير أن تكمل المشي على قدميها. لما اقتربت من المكان الموعود، كان هناك واقفا بقامته الرفيعة، يدفع رأسه بين الفينة و الأخرى من بين فتحة صغيرة للنافدة الرئيسية بالبيت. ولجت الشارع بخطى واثقة و مدللة كنجمة من نجوم السينما. رمقته بطرف عين و هي تعلم أنه موجود قرب النافذة ينتظرها. يبتسم وينتظر. ما إن هلت بقامتها الهيفاء، حتى رفعت عينيها نحو النافذة لتستقبل نظراته النافثة إلى روحها كسهم طائش. ويبتسمان معا في نفس الآن. اشتعلت فرحا و راح تعب رجليها و ضيق تنفسها. لم تشعر إلا وهي بين أحضانه من خلف الباب الذي يتركه مواربا حتى لا تنتظر مرة أخرى. عناق حار ممزوج بلذة اللقاء. هي هيفاء و اسمها هيفاء، تعيش حالة حب غير طبيعية منذ جلست إلى جانبه في إحدى الأمسيات الأدبية. حيث وصلت متأخرة، و كان هو هناك من المدعوين لإلقاء نص من نصوصه الشعرية. رمقها تلج القاعة خجولة من تأخرها و تبحث في صمت و اضطراب عن مكان. قام بسرعة خاطفة، و طلب منها أن تجلس مكانه لأنه بعد لحظات سيقوم إلى المنصة. كان بعينيه بريق ساحر ممزوج بابتسامة متطرفة و جذابة. لم تمانع، رحبت بالفكرة و جلست تلتقط أنفاسها الهاربة من صدرها محاولة التركيز. هيفاء من عشاق الأدب والفن. كلما سنحت لها الفرصة، تخرج من دوامة الوظيفة وتحيي روحها بسماع نصوص نثرية أو شعرية أو التجول بين لوحات فنية.

كان بعينيه لهفة و شوق، عاتبها على الـتأخير و هو يهمس لها:

-                     -منذ مدة و أنا لصيق بالنافذة، كأنني أنتظر عدوا غاشما.

ضحكت بصوت عال و قالت له بمرح:

-أحب أن أراك تنتظرني.

انتفض و قال بصوت قلق:

-معنى كلامك هذا، أنك تتعمدين ذلك.

حضنته بقوة ونامت على صدره ثم همست:

-أحبك يا أحمق .

عندما كان يلقي قصيدته، لم تفارق عينيه مكانها كأنه كتبها لها دون أن يدري و جاء القدر ليلعب لعبته.

صدح بصوته عاليا، يخرج الحروف و الكلمات متناغمة كأنها سيمفونية، تتطاير في فضاء القاعة وتحدث صدى يخرج المكان من وحشته و صمته. صفقت الأيادي دون توقف و هو لم ير سواها. صفقت له و هنأته على البراعة في الأداء و الإلقاء. قامت و همت بالانصراف، طلب منها موعدا للقاء. لم ترفض، كان بداخلها إحساس مبهم جعل روحها تهيم في أرض البراري وتقبل دعوته دون تردد.

انهزم أمام إحساسها الجارف و الصادق. اختفى برهة من الزمن و عاد يحمل بين يديه قهوة و بعض

الحلوى. حل الظلام و ظل للحديث بقية. هو يحب دائما أن يرافقها حتى يطمئن على وصولها إلى بيتها، لا تعانده و تستسلم له بهدوء و حب. تختفي بين أزقة صغيرة و ضيقة و يعود وحيدا على أمل لقاء آخر. توالت الأيام تتسابق مع مواعيدهما. ما إن تخطو أولى خطواتها داخل الشارع المؤدي إلى البيت، حتى تنفتح النافذة ببطء و انتظار، تشعر بوجوده و تغني للحظة الآتية التي ستجمعها به في خلوة بعيدة عن الأعين. يومها قبلت دعوته و فرحت باللقاء به. عاشت معه لحظات إبداعاته و كانت جد مسرورة بلحظة الحظ العابرة التي رمت بها إلى تلك القاعة "الأدبية". قال لها و هو يعيش حالة انتشاء خاصة:

-حضورك المفاجئ إلى القاعة، كان بالنسبة إلي كالشعلة التي أنارت قلبي وعقلي.

اكتسى الخجل وجنتيها و ابتسمت بثقة و قالت:

-غريب ذلك اليوم، لقد حصلت على الدعوة من أحد الأصدقاء و كنت جد مترددة في الحضور.

قال لها و هو ينظر إليها بكل حب:

-أحيانا، القدر يكون بجانبنا و نحن عنه غافلون. أحسنت لما قهرت ترددك، لأنني كنت في انتظارك.

نامت على صدره و ذابا في عناق حتى الحلول.توحدت اللحظة بالروح و ذاب الجسد في الجسد و اختبآ بين ثنايا الزمن هروبا من الإيقاع السريع الذي يجرف معه كل الأشياء الجميلة.

اختفى الزمن من أجندتهما، تجمدت خطوات الأجسام المرتمية على الأرصفة، لم يعد يوجد سواهما. توالت اللقاءات تلو اللقاءات. و في يوم من الأيام العادية، هاتفها و طلب منها أن يلتقيا في المقهى القريب من القاعة التي كانت شاهدة على ولادة علاقتهما التي لعبت الصدفة الجميلة دورا كبيرا فيها.. أعادت الهاتف إلى مكانه و كلها شرود. "ماذا حصل؟" همست إلى روحها المضطربة. كيف يلغي لقاء الروح والجسد الذي تواعدا عليه منذ مدة؟ أخذت أذرع الغرفة ذهابا و إيابا. تائهة و حائرة و غير مطمئنة. تمنت لو طارت إليه و مسحت بيديها على رأسه ونامت على صدره واختفت بين ضلوعه. هي هكذا، شديدة الإحساس و الاضطراب. هربت من أسئلتها المجنونة والقاتلة و راحت تتفحص كتابا دون تركيز على أمل أن يرحمها الزمن وتتحرك عقارب الساعة بسرعة. جلست تراقبه محاولة إدراك حديث عينيه المختبئتين تحت النظارة. قالت  له بصمت بأنها أحبته دون مقدمات. طلبا قهوة. أخذ يرتشف قهوته وينظر إليها بتردد ويعود و يحمل فنجانه بين يديه و يحتسيه بدون رغبة قوية كأنه يطلب منه أن يسعفه في الكلام.  تردد كثيرا قبل أن يخبرها بسفره المفاجئ إلى الخارج. ظلت سابحة بعينين كئيبتين وغامضتين تحاولان الفهم. كرر كلامه و أضاف بأنه توصل بدعوة من نادي يحتفي بالأدباء و هي فرصة له للتواصل و الشهرة. ابتسمت بشكل غير إرادي. هنأته رغم الحزن الذي يعصر أوصالها. مرت الأيام متشابهة و ثقيلة، سكن الحزن حياتها. لم تعد ترغب في عمل أي شيء. شلت حركتها. لم تدر بأنها تحبه كل هذا الحب. لم يعد لها ليل أو نهار. تمضي وقتها بين جدران غرفتها باحثة عن الزمن الذي كان هو جزءا منه. وأحيانا، تهرب من وحدتها القاتلة عند إحدى صديقاتها من أجل النسيان و مهادنة الوقت. ما إن تختلي بنفسها حتى تستوطنها كآبة كل المهمشين على الأرض وتتوسد وسادتها الخالية. لم يتصل بها بعد. أعذرته لكثرة مشاغله. حاولت التمرد على نفسها الحزينة واللعب معها حتى تخرج من حالة الانهيار الذي تعيشه. فكرت أن تمرق من جانب النافذة حتى تستنشق ذكريات عزيزة عليها تحيي روحها الجريحة. وصلت إلى الشارع الذي تحبه لأنه كان دائما هناك خلف النافذة ينتظرها. وعبر هذا الشارع، كانت روحها ترقص فرحا بقرب موعد اللقاء مع الحبيب. أطلت بقامتها الهيفاء و بدا قلبها بالخفقان كأنه موجود. فجأة، جحظت عيناها و ظلت نظراتها الغامضة والخائفة متجهة صوب النافذة التي تنطق بالحياة وبداخل الغرفة حركة. هاجمتها الأسئلة من كل جانب. غير معقول أن يكون هو؟ انه مسافر؟ أيكون شخص آخر؟ ارتاحت إلى هذا الخاطر الجميل وصدقته."ممكن" همست إلى روحها المضطربة.

عادت أدراجها و القلق يسكنها.."انه مثقف..و المثقف ليس ككل الرجال" أفكار تروح وأخرى تجيء طيلة الليل. ما إن هل الصباح ورمت الشمس خيوطها اللامعة على المدينة النائمة كما يرمي الصياد شبكته في البحر، حتى غادرت البيت و كلها أمل أن يكون ما رأته بالأمس مجرد كابوس هاجمها ليلا. مشت كثيرا و هامت مع روحها كثيرا. كانت تشغل نفسها المتمردة بذكريات الأمس القريب الحبلى بالهمسات و اللحظات الجميلة. لما اقتربت من النافذة، لم تنتظر. إنها تكره الانتظار و تخافه .. أحيانا قد يطول ...انقضت بنظراته الحادة و المضطربة على النافذة في الاتجاه الآخر من الشارع، كما ينقض الحيوان المفترس على فريسته. كان بعينيها عنف و خوف وقوة. لم تتمالك أعصابها حتى  صرخت. وكان للصرخة دوي قاتل بحيث ابتلعت كل الضجيج الذي يسكن الشارع. عادت وتمهلت ربما يكون شخص آخر. انتظرت كمن حكم عليه بالإعدام وينتظر يوم التنفيذ. فكان هناك، اشرأب برأسه إلى الخارج كأنه ينتظر أحدا ثم توارى إلى الخلف حتى توحد مع ظلام الغرفة. لم تدرك و لم تستوعب. في لحظة عابرة مثل الزمن، قررت أن تفهم أكثر. دقات متتالية على الباب الذي كان مواربا كأنه ينتظرها، التقت نظراتهما...صمت رهيب اخرس اللحظة و تاه منه الكلام بعدما سألته: لماذا؟ نظرات حزينة وقاسية و متسائلة..تسللت إليه عبر خيوط وهمية و ألقت بظلالها على جسده الواهن رغم صلابته.