نشرت (الكلمة) في عدد يوليو قصة (حان أوان الذهاب) لهذا الكاتب السوداني الذي ننشر له هنا قصة أخرى كي يلتفت الواقع الأدبي إلى عالمه القصصي المتميز، ومعالجاته السردية الشيقة.

المهقى الإيطالي

جمال محمد إبراهيم

(1)

جاءت إلى لندن، وقلبها ينزف نزفًاً متواترًا، وأنينه لا ينقطع.  بعد صفقة خاسرة مع رجل، لم تبعه شيئا ولم يشتر منها، لم يعرفها ولم تعرفه، كتبت في مفكرتها التي لا تفارقها، وبقلم باهت الخط:

 "لا أعرف كيف أغفر لأمي، وقد حطمتني تحطيمًا، بزيجة ٍ لم أكن مقتنعة بها.. ! "

 لم تعد علاقاتها مع صديقاتها كما كانت في السابق. مطلقة؟ َمنْ مِنْ صديقاتها تأمنها الآن، ومعظم أزواج صديقاتها، متأهبون للإنقضاض. لا تثبت لهم عين حين تأتي "سميرة" تتهادى، بجسم ممتليء في كل جوانبه ولكنه متناسق مغر ٍ. كل خطوة تخطوها موقعة مموسقة ٌ. كانت كل لفتة ٍ من لفتاتها، تأخذ معها العيون التي حولها في رحلة مفتوحة من القلق والإضطراب. مطلقة؟ نعم، مطلقة، بلا زوج ولا أولاد. تنعم في حرية عصفور طليق. كلا.. ! لن تكون "سميرة " المطلقة، هي "سميرة " التي عرفوها، زوجة رصينة. إنها فخ يسير على قدمين ممتلئتين جميلتين. تلك نظرة صديقاتها النافرات منها، المتوجسات بمبررات منطقية مقنعة. لم تقو ََ على حصار العيون، وهي ترى نفسها عصفورًا مكسور الجناح.

جاءت إلى لندن لتتعرف إلى "كمال"، وفي يدها قسيمة زواجها منه. مهندس مقيم في لندن منذ سنين. لم يفد إليها لاجئا، ولا مبتعثا جيبه خال ٍ، لكنه هنا في وظيفة مستقرة، وفي حوزته جواز بريطاني أحمر، وشقة في " أيرلز كورت" في وسط لندن. هو الآخر، هجر زوجته لسبب غير واضح. لا أعرف أنا، كراو ٍ محايد ومطلع، شيئا عن قصة زواجه الأول، والراجح أنها كانت تجربة تعسة لكليهما. ولم تكن "سميرة " تهتم كثيرا لأن تعرف التفاصيل. بالنسبة لها، الخروج من حصار الأعين المستريبة الغيورة، والأصابع الناهشة الجائعة، والألسن التي لا ترحم عزباء حسناء مخضرة العود، هو إنجاز يفوق كل إنجاز آخر.

 

(2)

 في المقهى الإيطالي، في طرف الجدول المائي الشاعري، " فينيسيا الصغيرة"، في قلب لندن، كانت جلستها الأولى مع "كمال"، وهي تبدأ شهر عسل ٍ، قرر "كمال" أن يلوّنه برومانسية ٍ، لم تكن تناسب قسماته الصارمة، ولا برنامج عمله المتخم بالمواعيد والجولات الميدانية، على صعيد عمله المرهق. لم يكونا قد التقيا من قبل. رشحتها له شقيقته المقيمة في السودان، ولم يتردد في قبول العرض. يثق في ذوق شقيقته "نور"، ثقة عمياء.

 قضيا في المقهى الإيطالي أمسية شاعرية، تخللتها موسيقى هادئة حالمة، وهمس ُ روّاد المقهى، لا يكاد ُُيسمع. حتى الهواتف الجوالة، رنينها خفيض. لا شيء يسمع بوضوح سوى أصوات الكؤوس وصحون الطعام، تنقل من موائد الطعام المبثوثة في الصالة الطويلة، إلى المطبخ الصغير، المأهول ببنات نشطات، متزيّات بفساتين ٍ خُضر ٍ مميزة، وقبعات من ذات اللون، معلقة على هاماتهن مثل التيجان. لم يتسلل الملل أبدًا إلى نفس "سميرة"، إذ شغلها "كمال" بجولات طويلة في لندن. أخذها إلى برج لندن، إلى ميدان "ترافلجار"، إلى "سوهو"، وحول أطراف ميدان سيرك بيكاديللي. تحلقا حول الزمّارين والطبّالين والعوّادين بقيثاراتهم، يعزفون في حذق ٍ وفي ازعاج ٍ شديدين. أنجز رسام سريع، في ركن قصي، "بورتريه" لـ "سميرة"، نظير جنيهات استرلينية عشرة. عرجا على شط التيمس، ذات يوم منعش برذاذ خفيف. جلسا تحت المسلة الفرعونية الطويلة، تكاد تناطح سحاب لندن الكثيف. البواخر الراسية، ملأى بأجناس شتى، من كل لون. من كل لسان. في آخر النهار، وبعد أن يأخذهما التعب، يدلفان إلى الحافلة الحمراء اللندنية الشهيرة رقم 98، تأخذهما إلى "المقهى الإيطالي"، ملاذهما حتى آخر الليل، يكملان نجواهما فيه إلى منتصف الليل، ثم يعرجان بعدها إلى "إيرلز كورت".. يغرقان في ليال من الشبق ِ المعهود في زوجين متحابين.

 

(3)

ولكن هل تسير الأمور كما يشتهى دائما؟ كلا.. أنا أحكي لكم الوقائع بصورة موضوعية كما ترون.. وتقرأون ما أكتبه لكم هنا.!  سقطت "سميرة" في بؤرة الملل القاتل فجأة. لندن التي كانت حلمها ذات يوم، صارت مدينة ميتة، في نظرها. قديمة، أكل الدهر منها وشرب. دخلت إلى حياة زوجية جديدة عبر بوابة المقهى الإيطالي، لكنها الآن لم تعد تطيق المقهى الإيطالي. لم تعد تستسيغ الأسباجيتي. كرهت البيتزا الإيطالية، المحشوة باللحم والخضروات والمعكرونة. تسلل الملل طويلا إلى نفسها. كرهت رؤية الجدول، الممتد من المقهى إلى الجسر البعيد. كرهت منظر العوامات الصغيرة، والقوارب المنتشرة على جانبيه، في دعة وعشوائية. ثم في آخر المطاف، وقع ما لا يمكن تجنب وقوعه. لكأنها كانت تعرف، أن مآلات السأم وانسرابات الملل داخل نفسها، ستودي بها إلى تأزم لا مهرب منه، في علاقتها مع "كمال".

بدأت، رويدًا رويدًا، تخرج في جولات ٍ طويلة، معظم ساعات النهار، تهرب من إيقاع حياتها الرتيب. ولم يكن "كمال" يعير الأمر كبير اهتمام، أول الأمر. هذه لندن، وينبغي أ ن تحيا "سميرة" فيها، كما يحيا اللندنيون عادة. يخرجون للتنزه وقتل الوقت، أو للتسكع في الحدائق والمتاحف ودور العرض. ثم لاحظ "كمال" أن ساعات غيابها تمتد حتى المساء. أهملت حرصها المعتاد على انجاز واجباتها المنزلية في شقة "ايرلز كورت".

 

(4)

لم يفُت على "كمال" إذن، رصد ما اعترى سميرة من تغيّر وتحوّل. بدأ يعنّفها بلسانه الحاد، وينتقد سلوكها كل ساعة. يتخاصمان إلى أبعد حدود الخصومة، ثم سرعان ما يفطن "كمال" إلى كونه يحتاج "سميرة" بشكل ما. قال لها، لما أحسّ أن الملل قد استبد بها طويلا:

ـ ما رأيك لو نجدد زياراتنا إلى المقهى الإيطالي؟

 ذهبا إلى وسط لندن. طافا هنا وهناك، ثم مضيا إلى المقهى الإيطالي. تعجب "سميرة"، كيف أن الملل يغادرها على الدوام، ساعة يجلسان للتسامر في المقهى الإيطالي. تنسى الخلاف والخصام، هكذا دفعة واحدة. تنفرج الأسارير ويعود الضحك، ويعود للإسباجيتي مذاقه من جديد، وتعود للبيتزا الإيطالية نكهتها. في شقة "ايرلز كورت"، يكمل الزوجان جولات النهار، بجولات ليلية من الشبق المحموم، يصطادان ساعات اللذة اصطيادا دؤوبا. وبدأت سميرة تستمريء جلسات المقهى الإيطالي، كلما تسلل الملل إلى دواخلها. وفهم "كمال" اللعبة، واستمرأها هو الآخر. ثمة مرة، افتعل معركة معها، ولَسَعَها بلسانه الحاد، وكادت أن تبكي. بعدها، أخذها إلى المقهى الإيطالي. يموت الخصام وتحيا المصالحة. ثم يؤوبا إلى "ايرلز كورت"، ليستأنفا سهرات الشبق المحموم.

 

(5)

في يوم لندني غائم، بارد، دخل كمال إلى شقة "ايرلز كورت ". كان على وشك أن يعلق بالطو المطر، بعد أن أغلق باب الشقة. فاجأته سميرة، واقفة في كامل لباسها وأناقتها، متأهبة للخروج. نظر إليها في دهشة: بالطو المطر وحذاء البرد الجلدي الطويل، والقبعة تغطى شعرها المقصوص، والإيشارب الصوفي ملفوف حول عنقها.

ـ لا أريد أن أبقى معك... !

فغرَ كمال فاه ُ مستغربًا، غير مصدق.

لم يكن ما دار بين الزوجين بعد ذلك، مما يصلح أن نورده في هذه القصة الرصينة. ليس من اللائق، أن نقحم أنفسنا في تفاصيل ما يدور بين امرأة ورجلها، على نحو قد يكون مدعاة للهزء منهما، أو يسبب إحراجًا لكليهما، أو واحد منهما، على أقل تقديرٍ ٍ بالطبع. لحسن الحظ أن "سميرة"، لا تنسى أن تسجل في مفكرتها، كل كبيرة وصغيرة تمرّ بها، في كل يوم تمضيه في لندن، وبالتحديد في شقة "ايرلز كورت" مع "كمال". نعم، أعترف أنني، كراو ٍ محايد، قد اطلعت على بعض ما كتبتْ، وأستطيع أن أميز، أنها إمرأة تكتب بصورة جيدة وصريحة.

قال لها كمال في نهاية الأمر، أنه لا يوافق على الطلاق.

 

(6)

في هذه المدينة الباردة الملامح، لحسن حظها، قد التقت بسوسن، سودانية من طالبي اللجؤ، تعمل مشرفة في مطعم "مروش" الكبير في "إدجور روو "، شارع العرب الشهير في لندن. لم تكن قد تعرفت في مدة إقامتها القصيرة في لندن، إلا على سوسن. إتخذتها "سميرة" المستودع الوحيد لأسرارها. في لحظة الضيق، تذكرت أن تتصل بها. كانت في حيرة من أمرها، ولا تعرف كيف تخرج من سجن الملل الذي بناه حولها "كمال". دلتها الصديقة على مكتب يساعد السودانيين طالبي اللجؤ، في ترتيب ملفاتهم، قبل التقدم بها إلى إدارة الهجرة البريطانية، توطئة للحصول على وضعية "لاجيء"، وهي تعني ضمنيا الموافقة على الإقامة، ومن ثم الشروع في إجراءات الحصول على الجواز البريطاني، بعد استيفاء عدد من الأشراط والمتطلبات، من طرف الإدارة البريطانية.

ـ هو "عرضحلجي"، إذن مثل الذين عندنا في البلد؟

ضحكت " سوسن " وأردفت بنصيحة قاطعة:

ـ سّمِه ِ ما شئت، لكنهُ هو الأقدر على إخراجك من فخ "كمال".. !

 

(7)

 قال لها المحامي الهمام "حسن"، أنه يحتاج لأن يلتقيها في مكان ما، خارج المكتب. يحتاج لساعات من الهدوء والحميمية، حتى يتعرف على كافة التفاصيل المتعلقة بقضية خلاص "سميرة " من ورطتها. كانت معه في المكتب الواقع في أطراف "شارع العرب"، تفوح منها روائح الخمرة والدخان. لما لاحظ المحامي أنها قد فرغت من إحتساء قهوتها، شرع يجمع حاجياته وأوراقه، ويحشرها في حقيبته الضخمة. أحكم إغلاقها ثم نظر إلى ساعته المذهبة. قبل أن يمسك بالحقيبة، رفع يديه ِ يرتب ربطة العنق، ويتأكد أن أناقته في المستوى الذي تعود الناس أن يروه عليها. استنشق عطر "سميرة"، الفوّاح بإيحاءات لا تخطئها أنف رجل متربّص بالرغبة، ثم لبس قناعا من الودّ، وكشّر عن بسمة عريضة. قال لها في همس مسموع:

- ما رأيك في المقهى الإيطالي، المطل ّ على جدول "فينيسيا الصغيرة".. نكمل وجبة الغداء هناك، ثم نتسامر بقصتك باقي الأمسية؟

 

(8)

 قال الراوي:

هكذا، ومثلما يخرج من النهار إظلام الليل، فقد ولجت "حواء" إلى المقهى الإيطالي زوجة، ثم خرجت منه، بيدها تفاحة توشك أن تقضمها.. و"آدم" ليس هناك.. !

 

الخرطوم – يونيو2005