يتناول الباحث معيارية المركزية الغربية وانغلاقها الأحادي البعد، ويستبين أن الانزياح عن هذه الهيمنة الثقافية جاء من داخل "الغرب" بإعادة تفكيك الثنائيات الضدية للفلسفة ونظرية الأدب. وكان لسيروة هذه التحولات أثرها العميق على التصورات العربية تجاه الجنس المسرحي والممارسات الأدائيّة.

تـفـكـيـك الـمركـزيّة الغـربـيّة وقـراءة الـنص الـمسـرحي في عـدالة الاخـتلاف

بوشـعـيب ملـوك

تعامل الفكر الغربي مع الآخر بنوع من الهيمنة والمركزية والإقصاء والتهميش، وعَدّ نماذجه مُطلقة، وأن قراءة النصوص تتمركز في معنى واحد وثابث ومغلق. وقد أدت المركزية الغربية إلى انتفاضة من داخل الغرب نفسه، بإعادة تفكيك التصورات الفلسفية والنظرية والإبداعية التي تمركزت حول الثنائيات. وهذا شأن النص المسرحي الذي عده الغرب نموذجه المطلق، وأن العرب (كل ما هو خارج مركزية الغرب) لا يملكون مسرحا بالمعنى المعياري إلا في حدود تقليد نسخة الأصل.

ومن قلب المركزية الغربية برزت تصورات نظرية ونقدية تفكك المركزية، وتفتح النص على سيميوزيس دلالي وتداولي وثقافي. ومن هذه التصورات النظرية والمنهجية نجد: التناص، نظرية التلقي، النقد الثقافي، مشروع ما بعد الاستعمار، التفكيكية. ما دامت المركزية الغربية نبعت من عمق تقديس التنظير للغة والمناهج ذات الحمولة الإيديولوجية، إذ الغزو الثقافي والتنظيري والإبداعي سوى غزو لغوي في كل أبعاده.

هجنة التنظير النقدي في تجاوز النموذج المطلق
إن وجود نظرية تُعنى بدراسة اللغة والآليات الممكنة لتَشُكلاتها، نفسه نابع من تقديس اللغة وأنموذجيتها. والخطاب الفلسفي الغربي تأسس على ثنائية ضدية عدائية: العقل/ العاطفة، الذات/ الآخر، الدال/ المدلول، المشافهة/ الكتابة، الرجل/ المرأة . مما يعني أنه فلسفة ميتافيزيقية تُؤكد على المعنى الثابت والحقيقة القارة والذات المتوحدة . وقد مركز الغرب الأنواع (الأجناس) الأدبية للتأكيد على فكرة النقاء النوعي والثقافي في الحفاظ على الخصوصية والمركزية. وحتى النظريات والمناهج خدمت فكرة النقاء. إلا أن قضية تصنيف الأنواع في أنظمة واعية تبدو للبعض حسمت، فإن ترتيب النصوص في أنظمة أنواعية كبرى يبقى مطلبا قائما و ملحا، ما دامت الأجناس ذات مستويات متباينة من الكلية، فإن "النص العظيم (...) هو الذي ينجح في شق عصا الطاعة على متطلبات النوع و مقتضياته"(1). وشق عصا الطاعة تعبير عن تميز النصوص بالتعددية والزئبقية نحو تكسير للمركزية والقراءة الأحادية والمعنى الثابت.

إن وجود نموذج مسرحي مطلق سوى دعوة للمركزية، والوقوف في وجه تيار التفاعل والانفتاح والاختلاف، وتجاهل للثقافات الأخرى وخصوصيات أنساقها الثقافية. لذلك أكد خالد أمين أن تفكيك المركزية الغربية للمسرح الأوروبي سوى "عتبة أولى نحو نقد مضاد للأسطوغرافيا الأروبية المهيمنة"(2). فالقراءة التفكيكية (برزت مع جاك دريدا) قراءة مزدوجة تسعى إلى دراسة النص دراسة تقليدية في إثبات ما يصرح به النص، ودراسة تفكيكية تُفَكك ما يخفيه النص(3). لأن التفكيك يحررنا من المطابقة ويفتح المنظومة المغلقة نتيجة لعبة الاختلاف. إذ لا يعني أن قراءة النص المسرحي بالتصور التفكيكي سيكون من خارج النص، فلا شيء خارج النص كما يقول جاك دريدا، ما دام النص الحقيقي هو الذي يُخفي قواعد لَعبه.

وشكلت قضية الذات/ الآخر في النقد المعاصر نظرة تقويضية لمسألة التحيز. وعمل مشروع ما بعد الاستعمار إلى نقد الآخر باعتباره مجالا للأصالة والمعرفة الحقيقية. مما يعني أن الخطابات النصية للمسرح هوية متعددة الثقافات، والمسرح خطاب تمثيلي لنسق ثقافي وجد مع وجود الشعوب وإن بمستويات بسيطة مثل: المسرح الفرعوني ذو البعد القدسي، وطقس التعزية، ومسرح خيال الظل. وبذلك، فإن مشروع ما بعد الاستعمارية سوى نقد للمركزية الغربية والنموذج المطلق، وإعادة الاعتبار للنصية التي تحتفي بالجمالي والثقافي، ليتوسع مفهوم النص في خطابه السيميولوجي. إذ النصوص والأنساق تخضع لمعيار التطور: تولد وتترعرع وقد يضمن لها الاستمرارية أو الاضمحلال. وهل ما هو مكتوب هو النص؟ ألا يعد النص المكتوب سوى تثبيتا لما هو شفهي حفاظا عليه في الذاكرة المكتوبة ونسجه؟ وإذا كان الهامشي (الشفهي) مقصيا أليس هو السر الأساسي لما هو مكتوب؟

إن ما يميز نقد ما بعد الكوليانية (ومنها الاستشراق) هو مسألة الاختلاف. فالاختلاف يؤدي إلى حيوية إدراك التمايز وتفكيك المركزية. وعلى الرغم من أهمية كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" في بناء صورة الآخر (الشرق) لنقد المركزية من خلال النص، إلا أن دراسته تسقط المستعمرات الاستيطانية من بين مناطق أخرى(4).

وإذا كان الغرب قدم مبررات واهية تؤكد أن العرب لم يكن لهم مسرح بدعوى سيادة الغنائية، أو أن الدين وقف في وجه التشخيص، أو أن العرب تعرفوا على المسرح عن طريق الترجمة، فإن النظر إلى سيادة أشكال فرجوية وطقوس احتفالية تم اختزالها في الفضاءات الهامشية تكسر المركزية الغربية. ونحن نقول إن التمايز الثقافي لا ينفي التفاعل مع الثقافات الأخرى، فحتى الثقافة الأوروبية في عصر النهضة تفاعلت مع عناصر أخرى من ثقافات عربية ويونانية ورومانية. ولهذا، فالمركزية الغربية لا تريد أن تعترف أن "الموروث الثقافي" "إرث الخبرات التاريخية في مكوناتها الأساسية، فهو محصلة التفاعل بين ثلاث علاقات: الله، الآخر، الذات، وهذا ما يحدد التمايز بين ثقافة وأخرى"(5). ولا بد أن يعترف النموذج المطلق بنموذج الآخر ليس في خطابه الفكري فقط، ولكن في كيفية ابتكاره للصيغ والأشكال والبنيات. فتلك التقاليد والطقوس والأشكال والعروض الشبيهة بالمسرح هي كيفيات لها خصوصياتها الثقافية تتضمن سيرورة إنتاجها. وما دعته "سيلفيا ونتر" بـ"المقاومة الثقافية ضد اقتصاد السوق من خلال الفن الشعبي" سوى نقد للإمبريالية والمركزية، والكشف عن ممارسة مسرحية تبرز المجتمع المحلي والنظام الاجتماعي.

إن فتح النصوص على التلقي سوى فاعلية للتعددية، حيث أن "التلقي والتفكيك يلتقيان في أهم مبادئهما، وهو إلغاء النص وقصدية المؤلف"(6). إذ النصوص منسوجة من لغات ثقافية(7)، ما هي إلا تناصات لنصوص أخرى لا يمكن أن تطابق الأصل، إذ هي خطابات نقيضة. وهذا لا يعني أن التناص دائما خطاب نقيض، لأن الخطاب النقيض يزعزع بنية النص الأصلي، وتشييد تصور نظري هجين.

خطاب التقاليد الفرجوية المحلية العربية في نقد المركزية.

إن الخطاب الاستعماري الذي يدعو إلى المركزية والنموذج الأصل يرفض كل النشاطات المسرحية الخارجة عن المركزية. حيث رفض الخطاب المركزي الدراما ذات الخصوصية الثقافية لعدم معياريتها، كما تم تجاهل التقاليد المحلية الخارجة عن المركزية. إلا أن التجسيدات الثقافية الشعبية استراتيجيات فعالة لنقد المركزية، ما دامت الطقوس عَصَب كل نشاط مسرحي. لكن المركزية الغربية لم تكتف بإسقاط هيمنتها، بل جعلت نُخبة من العرب يحتذون بنموذجها عن طريق الاستنساخ والإخلاص بدون وعي داخلي وخارجي.

لقد سعى أدب ما بعد الكولونيالية (ومنه النقد الثقافي) إلى تفكيك شفرات الهيمنة والإقصاء والاستلاب. وقد كان التفاعل مع لحظة انبهارية طُمست فيه الأشكال الإبداعية العربية من خلال فرض الهيمنة الرمزية الغربية. فلماذا لا تريد أن تعترف المركزية الغربية بسقوطها في التناقض، وأن مسرحها عرف نزوعا تمركزيا، كتمركز الرجل على حساب المرأة؟؟ إن ما تسعى إليه الحداثة الغربية سوى احتواء الآخر الذي يبقى مُعَلقا كمن يبحث عن الظلال.

إن التقاليد الفرجوية التي تضم أدواراً ومواقف نمطية تُعد مصدرا خصبا للدراما الخاصة بالمجتمع العربي. فإن ادعاء غياب نص درامي سوى" خدعة كبيرة وتمثيلا لتأثير الرؤية الغربية المُحدقة و المُراقبة"(8). فالتقاليد الفرجوية والطقوس والاحتمالات الشعبية تطرح أسلوب عرض يفكك المركزية الغربية. وقد مارس العرب المسرح دون أن يعرفوه، إلا أن المسرح الحق "في الشارع وليس في الكتب ودُور العرض الغالية. فحين يلتقي الناس بالناس ينشأ المسرح"(9). ففي المغرب -مثلا– نجد أشكالا مسرحية مثل: "مسرح الحلقة" و"مسرح البساط" وكرنفال "سلطان الطلبة". فمسرح الحلقة "مسرح شعبي يحوي فنون الحكاية والإيماءة والألعاب البهلوانية والتهريجية. وفيه يتم التمثيل في الأسواق وساحات المدن"(10). أَوَ لم يكن المسرح الغربي مارس نفس الخدعة المركزية على حساب التقاليد الفرجوية الغربية، مما أدى إلى نقد مركزية التيلوس الدرامي، حيث ". تم تمثيل العرض المسرحي باعتباره نصا فرجويا في حد ذاته أكثر منه ظلا سلبيا للكتابة الدرامية بما هي مركز"(11).

إن التقاليد الفرجوية المتسمة بالطابع المسرحي ذات وعي بالذات، وفضاء جماهيري، وهجنة لغوية محلية، ودينامية مجتمعية. حيث التقاليد الفرجوية المحلية فكرة شمولية لفضاء واسع للمسرح الشعبي، وأينما وجد الناس يتخلق المسرح، لأن الهُوة الشاسعة بين الممثل والجمهور تذوب. إلا أن الطقوس تحدد فضاءها، فهي شديدة الارتباط بزمكانها (مثل طقس التعزية)، اللهم إذا تولدت في أشكال حورت معتقدها الصارم.

وانفتاح العرب على المركزية الغربية أبرز نخبة تستنسخ النص الغربي، على الرغم من أن البعض حاول التأريخ لأول نص مسرحي عربي معياري سنة 1847 مع مارون النقاش. لكن، لابد من التساؤل عن حكم هذا النموذج العربي خصوصا أنه ظل مرتبطا بالمركزية (مسرحية "البخيل" لموليير)؟ وهل هذه البداية دالة على القطيعة أم نقد تفكيكي؟ بما أن مسرحية "البخيل" ليست تناصا كخطاب نقيض يزعزع المركزية. كما أن عدم وجود قراءة داخلية للتقاليد الفرجوية المحلية يدل على تيهان الذات والهوية العربية. ألا يعني أن غُلو دعاة نقد المركزية الغربية سيسقطون بدورهم في المركزية؟؟

(باحث من المغرب.القنيطرة)

* * * *

الهوامش

1- مصطفى الغرافي، في مسألة النوع الأدبي دراسة في إجراءات المفهوم وتطبيقاته في الغرب وعند العرب، مقال ضمن: عالم الفكر، العدد 1، المجلد 42، الكويت، يوليو/ سبتمبر 2013، ص125.

2- خالد أمين، الفن المسرحي وأسطورة الأصل، ألطوبريس، ط(1)، 2002، ص61.

3- ميجان الرويلي-سعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، إضاءة لأكثر من خمسين تيارا ومصطلحا نقديا معاصرا، المركز الثقافي العربي، ط(2)، 2000، ص56.

4- هيلين جيلبرت-جوان تومكينز، الدراما ما بعد الكوليانية، النظرية والممارسة، ترجمة سامح فكري، مراجعة سامي خشبة، أكاديمية الفنون المصرية، القاهرة، 2000، ص.21-22.

5- هيلين جيلبرت-جوان تومكينز، نفس المرجع، ص11.

6- عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، عالم المعرفة، العدد 232، المجلس الوطني للثقافة و الفنون والآداب، الكويت، 1998، ص164.

7- محمد خير البقاعي، دراسات في النص والتناصية، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط1، 1998، ص16.

8- خالد أمين، مرجع سابق، ص75.

9- علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، عالم المعرفة، العدد 248، ط2، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1999، ص63.

10- علي الراعي، نفس المرجع، ص58.

11- خالد أمين، مرجع سابق، ص75.