يراكم الكاتب العراقي المرموق في هذا النص تعاقب الحضارات وتنوعها وتطورها كذلك في بلاد ما بين النهرين على لسان خمس شخصيات تروى لنا على لسانها، حالها في حقبتها، في لعبة سردية ممتعة تلخص بكثافة ودقة العمق الثقافي والحضاري لسكان الرافدين.

لغـز سـلالتي!

سليم مطر

بلاد النهرين ـ لوحة فخارية بكتابات مسمارية وآرامية وعربية

 

الفقرة الأولى: أنا (غودي) الملك المغدور

ها هي الأعوام تمر وأنا هنا وحيد في عزلتي. بحر المجاهيل يحيطني من كل ناحية، ولا أعرف أي شيء عن هذه الجزيرة النائية. لا إنسان ولا حيوان، سوى نباتات شوكية متناثرة في الانحاء كأنها مزروعة في روحي، تخدشني كلما نسيت. غرباء قساة رموني هنا، لكي أحفر بأظافري كهفي في باطن الارض أستجير به من لهيب الشمس. بين حين وآخر، يأتوني بقاربهم، مدججين بسلاح وصمت، يذلوني ويتشفون بتعذيبي ثم يرمون لي بضعة أرغفة يابسة متعفنة وكمية مياه في حفرة، لكي أبقى حياً وأنا أقضمها معفرة بطين ووجع.

ها أنا الملك المخلوع، بعد أن غدر بي الزمان، أعيش وحيداً منبوذاً وسط ريح هوجاء وصخور صماء وأرض جرداء وسماء كالحة رعداء. حتى السحالي تهابني والأسماك تنآني، والطيور ظلالها يخشاني..

لقد تخلى عني أقرب أتباعي، تحالفوا سراً مع أعداء الوطن، وفي ليلة ليلاء غاب عنها البدر والنجوم وعبقت في الفضاء رائحة الخيانة وأنفاس (أرشيكال) آلهة الموت، قاموا بانقلابهم الغادر وفتحوا أبواب (بابل) الحصينة لجيوش الغزاة، فتكوا بحاشيتي وأبنائي ونسائي وحرقوا قصري وأجبروني على التنازل عن عرش أسلافي، ووضعوني في قفص معتم، وجالوا بي الأراضي والبحار خلال أزمان وأزمان، حتى وجدت نفسي مرمياً هنا وحيداً مهجوراً.                               

 الفقرة الثانية: أنا (سرجون) ضابط الحرّاس

لقد قرأت ماكتبه أعلاه ذلك السجين الأحمق المرقم (953410)، كما يبدو واضحاً أن حالته العقلية قد بلغت ذروة انحطاطها، وصارت روحه مرتعاً للشياطين. يدَّعي أنه كان ملكاً وقد تآمر أتباعه ضده مع أعداء الوطن. إن هذا محظ خيال جامح ليس له أي أساس من الصحة، هاكم انظروا، فليس هو في جزيرة وليس هنالك أي بحر، إنه في سجن منيع حيث يعيش مثل المئات من السجناء، آمناً في زنزانته تحت الأرض. نرمي له الطعام والماء من فتحة في باب، لا أعرف ما هي جريمته، لكنه يقيناً لم يكن ملكاً مخلوعاً، بل آثماً لعيناً استحق غضب مَلِكَنا الجليل.

تراه يشكو العزلة والإذلال وهو محاط بكل أولئك السفلة من أمثاله، يمضون حياتهم في أمان وخدر في سراديب عتمة. آه لو يدرك حقيقة ما أعيشه أنا؛ كيف أمضي كل ساعة من يومي في عذاب ما بعده عذاب؟ من يراني من الخارج يقول عني: ما أسعدني، وأنا أمير من عشيرة الملك، مسؤول سجن يضم مئات الأشرار. لا أحد ينافسني في سلطتي المطلقة على حياة سجنائي، مثل إله جبار، بقرار سريع أميت جوعاً من أشاء، وأمنح الحرية لمن أشاء. لكني، يا للهول، أنا أعاني وأعاني وأعاني، بل إن شدة معاناتي متأتية من جهلي بما أعاني. لا أدري أي جني أحمق يقطن في روحي، ويجعلني ليل نهار قلقاً متهيجاً، أحوم مثل ذئب جريح في زنازين عزلتي. آه لكم، أود بصدق أن أتعرى عن كل ثيابي وسلطتي وألقابي وتاريخي ومحارمي، لأركض حراً آمناً بين سهول وبساتين وشطآن، مثل طفل من أبناء أولئك الهمج الذين يعيشون في البوادي والجبال.

ايه، يا عشتار، يا آلهتي الحنونة الجبارة.. أشفقي بي يا أمي وحاميتي، فأنا ما عدت سجّان سجن الأشرار، بل سجّان سجن روحي.

الفقرة الثالثة: أنا (يوحنا يشوع) راهب الدير

عجيب أمر هؤلاء عبدة الأوثان المجانين؟! أحدهم يدَّعي أنه ملك مخلوع، وثان يكذبه ويدَّعي أنه أمير سجن. صحيح ما يقال إن الجنون فنون. الحقيقة كما ترون إن هذا منزل للحمقى والمعتوهين ملحق بدير نتعبد به لربنا وسيدنا المسيح. لقد قرر أسقف بابل الأكبر عزلهم فيه؛ لكي ينأى عن الناس شرور العفاريت التي تملكَّتهم؛ لأن نفوسهم لم تتطهر من أدران عقيدة الأوثان السابقة.

ها أنا أمضي وقتي مسؤولاً عن سلامة هؤلاء المساكين الذين نبذتهم أرواحهم قبل أن ينبذهم أهلهم وأناسهم. بالصلوات والتراتيل والتعاويذ والقرابين، أحاول أن أخلصهم من شياطينهم.

لكن يا إلهي إني أتعذب بصمت، رغم كل صلواتي الصادقة واغتسالي اليومي بمياه الفرات، إلاّ أني أخشى أن شياطين الشر قد خدعت حراس ضميري، وتمكنت من اختراق جدار إيماني، وتسللت إلى أقبية روحي.

أحس يوماً بعد يوم أني أشارك أتباعي حمقهم. لكم أود أن أضحك ملء شدقي مثل مخبول، أن أرقص مثل عربيد سكّير، أجول في دروب وحارات، إنساناً بسيطاً أمارس نزواتي وأطلق عنان طيشي وأصرخ حتى يتناثر زبدي، بلا وقار رهبان واستعلاء عقلاء.

رحماك يا سيدتي مريم العذراء. ليشعل الله بساتين النهرين لك شموعاً، وينثر نجوم سمائها حولك درراً، ويجعل نطفات رجالنا في أرحام نسائنا نسلاً طاهراً مكرساً لمجدك. يا أم عيسى المنير، أدركي حالي واسمعي صلواتي وتقبَّلي دعائي وخلصيني من حيرتي وعذابي، فأنا ما عدت كاهن منزل المعتوهين، بل كاهن منزل شكي وضياعي.

الفقرة الرابعة: أنا (ابن الكوفي) رئيس الكتبة

سبحان الله، حقاً غريب أمر هؤلاء؛ كل منهم يكذب الآخر، بينما هم جميعاً يقولون الحقيقة: الملك كان حقاً ملكاً، وكان فعلاً سجيناً يعيش في جزيرة نائية حتى فقد عقله. وعطفاً عليه، أمر الملك الجديد أن تحَّول الجزيرة إلى سجن؛ ليخفف عنه المعتقلون وحدته.

مدير السجن كان فعلاً مديراً للسجن، لكنه لم يكن يعرف أن تلك الجزيرة كانت فيما مضى منفى، وأن المعتوه كان ملكاً سابقاً. ضجر السجّان قاده للتمرد على سيده الملك؛ فألقوه في ذات السجن.

أما الكاهن فكان حقاً كاهناً، لكنه لم يكن يعرف أن منزل المعتوهين ودير الرهبان كان في السابق سجناً، وأن أغلب نزلائه كانوا سجناء، ومن بينهم الملك المخلوع ومدير السجن السابق. وحينما قرأ الكاهن تلك الفقرات لم يكن يتصور أنهم كانوا صادقين.

أنا هنا رئيس كتبة مكتبة في هذا القصر الشامخ الذي كان ديراً، وصار مكاناً للدراسة والتأمل لخليفة بغداد العباسي.. منذ أعوام طفولتي وأنا أشرف على حفظ لوحات ورقع وكتب الأسلاف ورعايتها وترتيبها حسب مضامين نصوصها. لا يطلّع عليها إلاّ الخليفة وأبناؤه والمقربون من حاشيته. ورثت أبي لأعيش وسط هذه المكتبة العظيمة أتلذذ بمّس أطيانها ورقاعها مثل أم حنون أحافظ عليها وأقلق على سلامتها حتى إني أحس بنصوصها كائنات تعيش في دواخلي ورفوفها تتشكل منها أضلاعي وكل كلمة منها قطرة من دمي.

لكني لا أدري يا إلهي، منذ حقبة راح ينتابني إحساس مقلق غريب. لا أدري أهيَ الدنيا حقاً راحت تنمسخ من حولي أم أنا الذي انحدر نحو قعران كياني؟ كأن السماوات من حولي تستحيل حيطاناً وسقوفاً، وأنهار الأرض وسهولها وجبالها ممرات وزوايا. صارت الدنيا بيتي، شمالها باب ميلادي، وجنوبها شباك رحيلي.

هاهي دنياي تستحيل مكتبة وها أنا أقبع فيها كتاب على رف. أوراقها بدني وحروفها مشاعري ودارسيها أسيادي.

أدركني يا رب الكون، أنا تعب من تعبي، أنر قلبي وصومعة تعبدي، فأنا توّاق لأذوب كلمة بلورية ناصعة في أثير وجودك، حلم حكيم وطهارة ناسك وكلمة سلطان...

الفقرة الخامسة: أنا (نامق باشا) والي بغداد

لقد نجح (ابن الكوفي) ذلك الكاتب الحيّال أن يختلق تلك اللعبة الشيطانية. في الحقيقة إن كل الفقرات السابقة كانت من تأليفه هو، فلا هنالك ملك مغدور ولا سجّان ولا كاهن ولا مكتبي، بل هم محض خيال خرج من رأس ذلك الكاتب الكوفي العابث. لقد اختلق لي هذه اللوحة ليسليني بلعبة من الحكايا.

كلهم يكذبون، إلاّ أنا السلطان الأكبر على أنحاء بلاد العراق، فأنا الخالع والمخلوع، أنا السجّان والمسجون، أنا العابد والمعبود، أنا الكاتب والمكتوب...... أنا الدنيا والآخرة، أنا الراحل والآتي، وأنا الخالد والفاني، أنا الصادق والواهم، أنا ألباني والهادم، أنا الأزل والزائل....أنا كل شيء واللاّ شيء... أنا أنا!

*   *   *

كما ترون يا إخوتي، اللوح مكسور، والنص لم ينتهِ، والخاتمة أتركها لكم.

ـــــــــــ

هذه القصة جزءا من الرواية القصصية (تاريـــــخ روحـــــي) التي تصدر قريبا في بيروت