أمست "القصة القصيرة جدا" اليوم، تحتل مكانة أساسية في المشهد السردي العربي. هنا مقاربة للناقد السعودي، يناقش من خلالها مفهومي النوع والمصطلح، في اندغام نقدي بقصيدة النثر. محاولة في إيجاد مايستدعي أن نسم به تلك "القصيرة جدا": قصة.

«القصة القصيرة جدا» مقاربة في النوع والمصطلح

عبد الله بن أحمد الفَيفي

مناقشة مصطلح (القِصَّة القصيرة جدًّا) تلفتنا إلى ما هو أكثر أهميّة منه، وهو النظر في طبيعة النصوص نفسها المندرجة تحت هذا المصطلح، من حيث كونها تتّصف بالقصصيّة أصلاً أو لا تتّصف؟ ما قد يدعو إلى تصنيف بعضها تحت مصطلح آخر، هو: "قَصِيْصَة"، (بقاف مفتوحة وصاد مكسورة)، تركيبًا نحتيًّا من "قصيدة ـ قِصّة"، لأن ما يُسمّى القِصّة القصيرة جِدًّا هو أحيانًا قصيدة نثرٍ في قِصّة قصيرة جِدًّا، أو قِصّة قصيرة جِدًّا في قصيدة نثرٍ ـ لا فرق ـ في تزاوجٍ يجعل الفارق بين هذين النوعين شفّافًا جِدًّا، حتى لا يكاد يميّز القِصّة القصيرة جِدًّا سوى التزامها حكائيّةً ما، في حين لا يلزم ذلك قصيدة النثر. كما أن بعض الشِّعر لا يميّزه عن النثر سوى الإيقاع، والإيقاع وحده لا يكفي الشِّعر شِعريّته، كما أن ليس فقدانه هو ما يسلب الشِّعر شِعريّته بالكليّة ويهوي بالنص إلى النثريّة بالضرورة. وإنما الإيقاع عنصر فارق رئيس في الشِّعر، كما يجب أن تكون الحكائيّة عنصرًا مائزًا رئيسًا لكلّ ما يندرج تحت اسم "قِصّةٍ"، طالتْ أم قصرت. ولكي نختبر هذه الحقيقة، يمكن أن ننظر في نصٍّ لشاعر لا شكّ في شِعريّته ولا في تجربته الغنيّة، وهو محمود درويش. وليكن نصّه بعنوان "لا أعرف الشخص الغريب"(1). وحين نتسأل أمام نص كذاك: أ هو قصيدة أصلاً، أم قصّة (قصيرة جِدًّا) ذات إيقاع تفعيليّ؟

بل أ هو نصّ شِعريّ (لغويًّا)، أم نصّ نثريّ؟

أين الشِّعريّ فيه من النثريّ؟

ثم لو جرّبت إزالة الإيقاع التفعيليّ عنه، فماذا سيبقى من شِعريّته؟

نكتشف أنه سيصبح بتجريده من الإيقاع التفعيليّ في شكل قِصّة قصيرة جِدًّا.

فماذا يعني هذا؟

إنه يعني أن أرباب قصيدة النثر على حقّ حينما يحتجّون بأن الإيقاع الموسيقيّ ليس كلّ شيء في الشِّعر، وأن بعض النصوص لو أُذهبت عنها التفعيلة لصارت نثرًا صِرفًا، في خواء عن اشتغالها على اللغة والصورة. ونصّ درويش برهان على صحّة تلك الحُجّة، فما الذي يبقى فيه من شِعريّةٍ بعد إلغاء الإيقاع؟ هل تُغنيه عن نثريّته عبارة كـ "وجع الحياة"، أو "يطوي ظلّه"، أو "لا برق يلمع في اسمه"، أو "تُهْتُ في قلبي"؟ وهي صيغ تعبيريّة باتت اعتياديّة، لا ماء شِعريًّا يُذكر فيها، حتى إن عبارة "تُهْتُ في قلبي" إنما هي: "تُهْتُ في أسئلة قلبي"، اقتضت قسريّة التفعيلة فيها حذف كلمة "أسئلة". أم هل يُسمن النصّ شِعريًّا سطره الأخير:

... لكنَّ أَمرًا ما إلهيًّا يُؤَجِّلُها لأسبابٍ عديدةْ

من بينها: خطأ كبير في القصيدةْ!

هل ينقذ شِعريّة النصّ هذا السطر، وإنما ألهمتْ درويشًا به قافيةُ: "... لأسباب عديدة"، في السطر السابق؟

ولقد كان درويش استهلّ مجموعته "كزهر اللوز أو أبعد"، التي منها النصّ المذكور، بمقولة (أبي حيّان التوحيدي)، في "الإمتاع والمؤانسة"، (الليلة الخامسة والعشرين): "أحسن الكلام ما... قامت صورته بين نَظْمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم...". وكأن درويشًا أراد أن يستبق بذلك الاقتباس إحساس القارئ بنثريّة بعض نصوص مجموعته تلك. ولكن هل عنى أبو حيّان بـ "النظم كأنه النثر" هذا النمط السرديّ الذي تبدّى في نصّ درويش؟ الواقع أنْ ليس نصّ درويش "لا أعرف الشخص الغريب" من قبيل "النظم الذي كأنه نثر، ولا النثر الذي كأنه نظم"، بل هو: "نظمُ نثرٍ، أو نثرٌ منظومٌ إيقاعيًّا"، أو هو بالأحرى: "نثرٌ تفعيليّ"(2)! وهو يضعنا أمام جملة حقائق:

أوْلاها: وأُسّها: أن الخدعة بالشِّعريّة من خلال الموسيقى اللغويّة ليست بخدعة قديمة متّصلة بالبحور والقوافي، بل هي متّصلة بالإيقاع الموسيقيّ عمومًا.

وثانيتها: أن المنزلق الموسيقي الخادع عن عناصر الشِّعريّة الأخرى، لا ينفي أنّ الموسيقى جوهريّة التأثير في منح النصّ اللغويّ حسّه الشِّعريّ، وأنّ المستمسكين بها في البنية الشِّعريّة محقّون في استمساكهم، من حيث إنه قد ثبت إضفاؤها سحرها الشِّعريّ، وفعلها في توتير اللغة ـ البالغ أحيانًا حدّ التَّعْمِيَة على غياب مكوّنات شِعريّة أخرى ضروريّة ـ وأنّ لها كذلك تأثيرها النفسيّ، من حيث إن النفس مسكونة بالإيقاع، بدءًا من نبضات القلب، التي هي أوّل موسيقى تقرع سمع الجنين عن قلب أُمّه، ثم عن قلبه نفسه، وصولاً إلى معايشة نبض الإيقاع الكونيّ على اختلاف ضروبه وأشكاله. وكلّ ما خلق الله موسيقى.

وثالثتها: أن القِصّة القصيرة جِدًّا لا فرادة جنسيّة فيها، إلاّ في خصلتين: (القصصيّة) و(القِصَر). والأُولى هي الأهمّ في إكساب هذا الشكل الكتابيّ هويّته الأُمّ. وهاتان خصلتان لا تستقلّ بهما القِصّة القصيرة جِدًّا، بوصفها جنسًا أدبيًّا، بل هما شائعتان في الأدب عمومًا، يمكن أن تتجلّيا في نصوص أخرى منه، قديمة أو حديثة، نثريّة أو شِعريّة. لأجل ذلك فإن بعض النصوص الشِّعريّة الحديثة (من شِعر تفعيلة، فضلاً عن قصائد نثر)، لو جُرّدت من الإيقاع، لتحوّلت إلى قِصص قصيرة جِدًّا، كما أن بعض القِصص القصيرة جِدًّا لو زوّدت بلمسات إيقاعيّة، لجاء بعضها أَشْعَر من نصّ درويش المشار إليه!

وعلى غرار تشبّث قصيدة النثر بالشِّعر، يبدو تشبّث بعض أنماط ما يُسمى "القِصّة القصيرة جِدًّا" بالقِصّة، فيما القِصّة في بعضها واهية، أو حتى مفقودة. فهذان الشكلان (القِصّة القصيرة جِدًّا) و(قصيدة النثر) شكلان خارجان على القانون في جنسي الشِّعر والقِصّة، وجمالهما يكمن في خروجهما. غير أن الإشكاليّة تظلّ في المصطلح إن لم يُطابق المصطلح عليه، إذ ما يُنسب إلى جنس الشِّعر يجب أن ينتمي إليه، وما يُنسب إلى جنس القَصّ يجب أن ينتمي إليه. فإنْ جاء جنسًا مدجّنًا، وجب أن يأخذ تعريفه المائز وتسميته المستقلّة. أمّا جِدّة النصّ نفسها، التي تشرئبّ إليها الأعناق العربيّة، فما قلناه عن قصيدة النثر من: أنْ ليس ثمة جديد في نصوصها على التراث العربي، لولا تعليق المصطلح(3)، يمكن قوله عن (القِصّة القصيرة جِدًّا).

ولعل إشكاليّة (القصّة القصيرة جدًّا) ـ وكذا (قصيدة النثر) ـ تتمثّل عمومًا، إنْ على صعيد النوع أو المصطلح، في غياب المرجعيّة التنظيريّة التراثيّة ـ على ما ضاع من التراث ـ فإذا بعض الأشكال التي تحاكي نماذج من آداب أخرى (غربيّة بصفة غالبة) تبدو جديدة على من لا يعرف قديمه. على الرغم من أن تلك الآداب الأخرى تُعدّ ناشئة نسبيًّا، الرواية نفسها فيها متأخّرة المولد، قياسًا إلى تراث "ألف ليلة وليلة"، و "حيّ بن يقظان"، و "التوابع والزوابع"، و "رسالة الغفران"، وغيرها من أنماط الكتابات والمخاطبات والرسائل السرديّة. كأنّ استيراد التقنية قد خلّق في الموازاة ثقافة استيراد للأفكار والأشكال الفنّيّة، لا تنفصل عن الحسّ الحضاريّ بأن الوافد مخترعٌ حديث بالضرورة، كسائر المخترعات التي تُستورد، فيُؤخذ ببنياته وتسمياته معًا، وإنْ لم يكن في معظمه إلاّ "بضاعتنا رُدّت إلينا"، بعد تغيير التسميات. هنالك يكمن لُبّ القضيّة في معظم الجدل الدائر بساحاتنا الثقافيّة والنقديّة حول بعض ما تُزعم جدّته من الأنواع الأدبيّة، وتُدّعى الريادات الحديثة فيه، ويطول الجدل. ومن ثمّ تُعرض بعض تلك الكتابات ـ التي منها الجميل ومنها دون ذلك ـ في غير قليل من تهويل المنجز، والتعصّب باسم جديد مقابل عتيق، علاوة على تسمية الأشياء بغير أسمائها(4).

وإنّ القِصّة القصيرة جِدًّا (تحديدًا) تَقِفُنا على جملةٍ من الإشكاليّات والتساؤلات، منها:

1 ـ ما الذي يتبقّى من القِصّة في القِصّة القصيرة جِدًّا؟ من حيث إن القِصّة ما سُمّيت بهذا الاسم أصلاً إلاّ لأنها طويلة نسبيًّا، مبنًى ومعنًى، لا لَقْطَة، أو مجرد فكرة، كما في القِصّة القصيرة جِدًّا. ومصطلح "قِصّة" ظلّ يحمل هذه الدلالة في مختلف اللغات.

2 ـ تفتقد نصوص القِصّة القصيرة جِدًّا عادة المبنى الجماليّ، بسبب الضمور الذي تأخذ نفسها به، والتقبّض الذي يعتور بناءها، مع خواء المعنى في بعض الحالات. ولذا، فإنّ مقولة النفّري المشهورة، والمجترّة كثيرًا في المقاربات الحديثة: "كلما اتسعتْ الرؤية ضاقت العبارة" قد لا تنطبق على بعض أنماط القِصّة القصيرة جِدًّا، حين يبدو المعنى ضيّقًا والعبارة ضيّقة كذلك. علمًا بأن مقولة النفّري إنّما تعني أنّ سعة الرؤية تجعل العبارة أضيق من اتساع تلك الرؤية، مهما بلغ اتساع العبارة. وليس معناها بالضرورة ضيق العبارة، كما يحلو لبعضٍ تأويلها حين يتّخذها شعارًا لهذا الضرب من الكتابة، ناهيك عن تكلّف تضييق العبارة بدعوى اتساع الرؤية.

3 ـ إذا كان المحدثون قد عابوا على الشعراء القدامى تقييد الشِّعر بضوابط من الأوزان والقوافي، فما بالهم قد يقيّدون النثر بأغلال أشدّ، ويسجنون التعبير في أقفاص حديديّة أضيق: قصيدة نثر، أو قصّة قصيرة جدًّا؟

4 ـ هل الإيجاز مطلب بلاغيّ لذاته؟ كلاّ، فالإيجاز ليس بغاية، بل هو وسيلة. وعليه، فإنّ للإيجاز مقامه وللإطناب مقامه. أمّا حين يُفرض الإيجاز على النصّ فرضًا، فثمّة يدخل العمل حيّز التكلّف والتصنّع. لذا يمكن القول: إنّ القِصّة القصيرة جِدًّا هي فنّ لزوم ما لا يلزم من القيود في النثر، بحيث توشك أحيانًا أن تخنق المعنى قسرًا، مع سبق الإصرار والترصّد! إنها كَفَنِّ التوقيعات قديمًا، على طرافة بعضها، تبقَى قيدًا على عفوية الإفضاء.

5 ـ إشكاليّة هذا الضرب من الكتابة في المحصّلة ـ وهو يمثّل التحدّي لكاتبيه أمام قارئيه ـ أنه قد لا يُمتع القارئ ولا يفيده، لأنه لا يؤلّف قِصّة، ولا يكتمل قصيدة، وقد لا يؤدّي بينهما إلى تخلّق جنسٍ ثالث، على غرار "القصيدة ـ الرواية"(5)، مثلاً، إلاّ إنْ هو جاء من قبيل ما أطلقنا عليه في مستهلّ هذه المعالجة "قَصِيْصَة/ قصيدة ـ قصّة"، حيث يبدو النصّ: قصيدةَ نثرٍ في قِصّة قصيرة جِدًّا، أو قِصّة قصيرة جِدًّا في قصيدة نثر.

وعودة إلى مجموعة سهام العبودي الأخيرة "ظِلّ الفراغ"، فقد جاءت في جملتها بديعة، ومعبّرة، وشاعريّة، وناجية من معظم تلك المزالق المشار إليها. واللافت أن الكاتبة كانت على حذرٍ في تسمية مجموعتها، فلم تجزم بأنها "قصص قصيرة جدًّا"، بل دعتها: "نصوصًا قصصيّة قصيرة جدًّا". ودلالة "نصّ قصصيّ" غير دلالة "قِصّة".

وقد حملت تلك المجموعة بعض ما لا يمكن أن يصنّف في (ق.ق.ج). وإن لم يَعدم جماليّته الخاصّة، وإيحاءه، ولكن في نطاق نوعٍ آخر، كالخاطرة.. أو الشذرة الشعوريّة، ونحوهما، كهذا المثال:

قذف كيدُهم الحالك ـ باسمه إلى القائمة السوداء.. فابيضَّت..!

ويحسن التوقّف هنا لدى الفرق بين ثلاثة ضروب من النصوص، يقع بينها الخلط لدى كثير من كتّابنا وكاتباتنا، هي:

الخاطرة.

القصة القصيرة جدًّا.

قصيدة النثر.

فالقصّة القصيرة جدًّا يجب أن تحمل بذار القِصّة، وإنْ جاءت لقطةً، أو مشهدًا مكثّفًا في فقرة. فإنْ فقدتْ ذلك أصبحت إمّا: خاطرة نثريّة، أو شبيهة بقصيدة نثر، إنْ حملتْ شِعريّة وطارت بجناحٍ من خيال. بل هناك نوع ثالث يُلحظ خلطه بهذه الأنواع لدى بعض الكتّاب، وهو ما يشبه عنوان الخبر الصحفيّ المثير. وأعتقد أن هذا المستوى لا يحتمل أن يخاطب القارئ بدلالةٍ تسمو على مستواه المحدود إلى مستوى أدبيّ، ولا يمكن بحالٍ الزعم أنها تمكن تسميته: (قِصّة)، من أي نوعٍ أو حجم.

وبالجملة فإن أغلب النصوص التي لا تتجاوز سطرًا واحدًا تظلّ فقيرة، إلاّ نادرًا، في بضاعتها القصصيّة، هذا إن وُجدتْ ملامح من القصصيّة فيها، ومن التكلّف حشرها تحت تسمية (القِصّة القصيرة جدًّا).

ومن أجواء مجموعة العبودي ـ التي استدعت هذه المناقشة حول القِصّة القصيرة جدًّا ـ هذه النصوص الموحية:

1 ـ أنشوطة
حين التحمت حلقة الطريق الدائري السريع، اختنقت المدينة..!

2 ـ رؤية
كان الطفل منهمكًا في الرسم حين تنبَّه إلى نفاد اللون الأحمر منه، لم يتمكّن من رسم بقع الدم على ثياب آخر شهيدَين من مجموعة الشهداء الذين كانوا موضوع لوحته.

كان الطفل الذي يزور معرض (تكريم الشهداء) ينظر إلى اللوحة ويسأل أُمَّه: لماذا ينام هذان الرجلان إلى جوار كلِّ هؤلاء الشهداء؟!

3 ـ ضاع في الترجمة..!
في ملتقى النضال السنوي، صفَّق الحاضرون كثيرًا للسيِّدة التي ارتدت قميصًا بصورة "جيفارا".

كانت المرأة مأخوذة، ارتفعت بها سحابة الزهو، وصدَّقت الأشياء الكثيرة التي قيلت فيها، وتصوَّرت: كيف أنَّها كانت ستُحرم من هذا كلِّه، لو أنَّ البائع المتحمِّس في محلِّ الخردوات استوعب أنَّ: "تشي.. تشي" لم تكن شيئًا سوى عطستها الغريبة..!
...............
تهنئة للكاتبة سهام العبودي على: (ضوئها الذي لا يَستدقّ)، و(ظِلّها الفارع)!  

ناقد ومبدع من السعودية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ درويش، محمود، (2005)، كزهر اللوز أو أبعد، (بيروت: رياض الريّس)، 67 ـ 69.
(2) ـ الحقّ أنْ ليس كبير فرقٍ بين كثيرٍ من شِعر درويش في سنّيّه الأخيرة ونثره، خلا حضور التفعيلة في الشِّعر. ومن يقرأ كتابه "ذاكرة للنسيان"، مثلاً، يُدرك ذلك. فالمعادلات اللفظيّة ذاتها، هناك وهنا، واللَّعب البديعيّ، فقصيدته تشتغل على اللغة، من حيث هي، لتجعل اللغة تحرّك المعنى، لا المعنى هو الذي يحرّك اللغة، كما هو الأصل ومنبثق الشِّعر. وهو ما يُفضي إلى شِعريّة الفِكْرة، لا شِعريّة الصورة والخيال، في نمطٌ درويشيّ لا تجديد مهمًّا فيه ـ يذكّرنا بتجربة أبي العلاء المعرّي في "اللزوميات" ـ بات يستعيد قاموسًا محدودًا واحدًا، ونواميس أسلوبيّة لا تخلو من التصنّع أحيانًا، ومضامين فِكريّة وفلسفيّة، ورؤى تعبيريّة تتردّد، إلى درجة أن القارئ يجد كأنْ قد قرأ آخر نصٍّ لدرويش من قبل! لذا قد يمكن القول: إن النموّ التجديديّ الحقيقي في لغة درويش الشعريّة قد توقّف في الثمانينيّات من القرن العشرين، ثم ظلّ ـ على الرغم من إنتاجه الغزير اللاحق، وسعيه لافتراع بناءات فنّيّة مختلفة ـ ينسج على منوال ماضيه، ويحفر فيه، دون أن يخرج عن دائرته ليقتحم فضاءات مختلفة. كما أنه حَصَر تجربته ـ إيقاعيًّا ـ في التفعيلة، محرّمًا على نفسه العودة إلى بناء القصيدة العربيّة، إلاّ نادرًا. في كتاب يوميّاته ـ الشعريّة النثريّة ـ بعنوان "أثر الفراشة"، (بيروت: رياض الريس، 2008)، عاد درويش إلى الشِّعر البيتيّ في عدد من النصوص القصيرة جدًّا، كنصّه بعنوان "على قلبي مشيت"، ص87 ـ 88، على (البحر الوافر)، "في صحبة الأشياء"، ص115، "ربيع سريع"، ص127، "مناصفة"، ص231، وكلّها على (البحر البسيط). ومن جهةٍ مقابلة لم يجرؤ على تجاوز التفعيلة إلى سواها. بل إنه، حتى في ميدان التفعيلة، قد حَبَس قصيدته في (دائرة المؤتلف أو المتقارب)، من خلال وحدتَي النَّغَم (فاعلن) و(فعولن)، اللتين ذهبتا بمعظم شِعره.
(3) ـ انظر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (2005)، حداثة النص الشِعري في المملكة العربيّة السعوديّة: (قراءة نقديّة في تحوّلات المشهد الإبداعيّ)، (الرياض: النادي الأدبي)، 125 ـ ...
(4) ـ ويزداد دَهَش الجيل الناشئ لما يعوزه من تأسيس مكين في العربيّة وآدابها، إنْ لم يكن مُعْرِضًا عن التراث العربيّ إعراضًا أو مصروفًا عنه. ولقد يُسنده من النقّاد أمثاله، أو مَن لهم مواقف خاصّة مِن عِلم من علوم العربيّة، أو فنٍّ من فنونها، فيظهر خطاب نقديّ يُلبس طلاء النقد العلميّ ما ليس بنقدٍ ولا بعلم.
(5) ـ للباحث دراسة حول "القصيدة ـ الرواية"، نشر فصولاً منها في سلسلة مقالات بصحيفة "الجزيرة"، بدءًا من (العدد 10969، الخميس 4 شعبان 1423هـ = 10 أكتوبر 2002م)، رابط الإنترنت: http://www.suhuf.net.sa/2002jaz/oct/10/cu10.htm. كما شارك ببحث بعنوان "القصيدة ـ الرواية: تداخل الأجناس في بلاغيات النصّ المعاصر ("الحزام" لأبي دهمان: نموذجًا)"، في المؤتمر الدولي الرابع للنقد الأدبي ـ البلاغة والدراسات البلاغية، القاهرة 1 ـ 5 نوفمبر 2006. وآخَر بعنوان "الغيمة الكتابية: (قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ)"، قُدّم في مؤتمر النقد الأدبيّ الثاني عشر، حول "تداخل الأنواع الأدبيّة"، جامعة اليرموك، كلية الآداب، قسم اللغة العربية، الأردن، 22 ـ 24 / 7 / 2008.