يقدم الكاتب حواره مع المسرحي المغربي، بشهادات لمثقفين تتناول الشخص والفنان، ومن ثم ينتقل ليساجله حول المناخ الثقافي، وسيرورة انشقاقاته عن المسرح المكرس وتبنيه للأدائية الشعبية. كما يجادله في واقع الكتابة الأدبية والممارسات الفنية، كذلك وجهة نظره في "الربيع العربي".

الطيب الصديقي .. فقيه المسرح المغربي

تجاوز المسرح الإيطالي بالعودة إلى الحلقة والبساط وسلطان الطلبة

حاوره صدوق نورالدين

 

لم تعُد تسعفُنا العبارات، بتعبير الشاعر الراحل أحمد المجاطي، في الحديث عن بعض مُنْتِجِي الرموز والدلالات، أو منتجي، ومبدعي الفرجة والحياة في المشهد الثقافي والفني المغربي. فحالما نعلم بـ«كَبْوَة» أحد هؤلاء نزداد اقتناعاً بأنَّ الحياة هي ما يختلقه الفن، ويختلقه الإبداع والفُرْجَة، وما يتركُه العمل الفني الإبداعي في نفوس الناس من دهشة واستغراب. ولعلَّ بين ما قد يتبادر إلى أذهاننا من أسئلة، وما قد يطرأ على عقولنا من حيرة، هو ما يجعلنا نؤمن، أو نُسَلِّم، بأنَّ هذا الشخص كان خالِقَ قِيَم، وكان يُعيد ابتكار الجمال، واسْتِثارته، أو إثارة الانتباه إلى ما تحفل به العين من فرح، وهي تأخذ المألوف لِتُعيدَ صوْغَه في قالب الباهِر، المُدْهِش والاستثنائي، وما لا يبدو لنا أننا نستطيع القيام به، أو مُحاكاته، كونه إبداعاً وإضافة أو فَجْوَةً أخرى، يفتحُها هذا الفنان أو المبدع في وعينا، وفي رؤيتنا للعالم. الطيب الصديقي هو واحد من هؤلاء الذين يصنعون الحياة في الفُرْجَة، ويُضفون على الحياة معنًى، لا تكفي العبارة وحدها لقوله، بل إنَّ في الرموز والدلالات، وفي الضوء والظلمة، وفي معمار «النص»، وحتَّى ما يبدو لنا أكسسوارات صغيرة، ما يجعل من الحياة أكبر مما نتصوره، لأنها، ببساطة، حياة بالفن، وفي الفن، أي بالمسرح، وبالحوار، وباللقاء، الذي يكون في لحظة الفرجة ولحظة التمثيل أو التشخيص. والسي الطيب هو صانع فرجة، وهو، بهذا المعنى، صانع حياةٍ.

***

الصديقي قطعة من أحلامي الفنية الصغيرة والكبيرة (ثريا جبران)
حين شاركت في أول تدريب مسرحي لي بالمعمورة في صيف 1968، كان الصديقي يضيء الخشبات بمسرحية «ديوان عبد الرحمان المجذوب». وحين كنت أواصل دراستي بالمعهد الوطني للفن المسرحي، في الفترة ما بين 1968 و1973، كان قد صار متوجا كمبدع مسرحي كبير بأعماله الرائدة: مومو بوخرصة، سلطان الطلبة، الحراز، مولاي إسماعيل، النور والديجور .. ولذلك يعتبر، بالنسبة إلي، المدرسة الموازية التي رسخت لدي المعرفة الأولى التي اكتسبتها في ما قبل المعهد، وخلال مشاركاتي في فرقة المعمورة، والقناع الصغير. وكم كانت سعادتي بلا حدود، حين دعاني، سنة 1980، إلى الالتحاق بفرقته للمشاركة في النسخة الثانية لمسرحية «المجدوب»، وقد تضاعفت هذه السعادة بعد مشاركتي في أعماله اللاحقة: «إيقاظ السريرة في تاريخ الصويرة» سنة 1981، و«أبو نواس»، و«أبو حيان التوحيدي» سنة 1984، و«ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ» سنة 1985.

لذلك أشهد أنني مدينة للطيب الصديقي بأشياء كثيرة. أهمها أنه علمنا أن مغامرة المسرح ليست فقط أداء الأدوار على الخشبات، لكنها أيضا اكتشاف أسرار هذه الخشبات، والإحاطة بانشغالات إنتاج العروض والترويج لها، إضافة إلى الامتداد العربي الذي منحنا إياه من خلال مشاركاتنا معه في عدد من المهرجانات العربية والدولية. كما يعود إليه الفضل في اكتشاف أقصى المساحات الكامنة في.

إنه لا يلقن الممثلين المعرفة النظرية والتقنية فقط، بل يزرع فيهم الثقة بأن مغامرة المسرح هي مغامرة الحياة.

بموازاة مع علاقتي المسرحية به، توطدت علاقتنا الشخصية، حيث صرت فردا من أفراد أسرته الصغيرة التي يشملها بحنو كبير، وبرعاية عالية، وبروح من الدعابة والسخرية التي تطبع أحاديثه ومنتدياته واجتماعاته. وعلى هذا المستوى يتحول الصديقي الشرس على الخشبات إلى كائن طفل ينثر المحبة بين أفراد عائلته الفنية والأسرية.

الصديقي حالم كبير. إنه يستقي من الحلم مشاريعه وأفكاره وطرائفه وأسفاره في الأدب والمعرفة.
لأجل ذلك كله كان دائما قامة كبيرة في فضاء الإبداع المغربي والعربي. لا يهمه مراكمة المال والامتيازات، بقدر ما تهمه مراكمة الأفكار والتجارب. ولأجل ذلك كله سنظل محتفظين له بحق الريادة، وبأفضاله الكثيرة على المسرح والمسرحيين المغاربة والعرب.

إن التتلمذ على يد الصديقي وسام رفيع. وإني أفخر أنني كنت أحد تلامذته. مَنْ مِنَ المسرحيين المغاربة ليس فيه الكثير من الطيب الصديقي؟

***

المبدع المتعدد (شفيق الزكاري)
لم أتعرف على الفنان الطيب الصديقي إلا في سنة 1994، حيث كنت بصحبة التشكيلي بوشعيب هبولي، الذي كان له الفضل في ربط جسور التعارف مع الطيب الصديقي بأحد المقاهي بالدار البيضاء، فكان هذا اللقاء بداية مشروع فني متنوع، بعدما طلب مني إنجاز أعماله التشكيلية بتقنية السيريغرافيا، فكانت أول زيارتي له في الأسبوع الموالي، حيث استقبلني ببيته بحي العنق بالدار البيضاء، بعد تحديد موعد لذلك، وقد عملت على احترام الموعد، لما سمعت عنه من دقة وصرامة في احترام المواعيد، التي كان يقيس بها جدية العلاقات الإنسانية.

ما أثارني في اللقاء الأول هو الحس الفكاهي الذي يتميز به الفنان الطيب الصديقي، بعدما سألته عن جدوى وجود مكتبة وعدد من الصور التذكارية مع فنانين محليين وعالميين وشخصيات سياسية ودبلوماسية... بمرحاضه، فكان جوابه أن «المرحاض هو بيت الراحة، أي المكان الذي لا يدخل إليه اثنان، وفيه يمكن للإنسان أن يجد راحته في التأمل والقراءة والتفكير والتركيز، دون إزعاج».

كان جوابا طريفا، دفعني إلى حب اكتشاف المزيد من الطرائف الممتعة لهذا الفنان، والتعرف على قدراته الإبداعية خارج اهتماماته المسرحية، فوجدت نفسي أمام مبدع تشكيلي اتخذ من الخط أسلوبا موازيا للتعبير عن انشغالاته الإبداعية، فطلب مني استنساخ عدد من لوحاته التشكيلية بتقنية السيريغرافيا، مع التصرف في اختيار الألوان، فكانت بداية مشروع دام مدة شهرين تقريبا.

إن أعمال الطيب الصديقي التشكيلية اتخذت من الخط موضوعا لها، بطريقة وبأسلوب شخصي استمد كينونته من محيطه وفضائه الأصليين، معتمدا في ذلك على اهتمامه بالوثائق والمنمنمات القديمة، بما تحمله من أشكال وتكوينات نادرة، محاولا بذلك الخوض في غمار تجربة مغايرة لاكتشاف إمكانية جديدة على مستوى الشكل والمضمون في معالجة الموروث الثقافي المغربي في بعده الكوني، انطلاقا مما هو تقليدي ومحلي. فكانت جل أعماله انعكاسا لفلسفة دينية على مستوى اختيار الكلمات من جهة، وبروح متحررة أفرغ فيها الخط من دلالته اللغوية من جهة أخرى، ليجعل من عمله أيقونة معبرة في شموليتها الفكرية والدينية بحس جمالي متميز.

بعد هذه التجربة، توطدت علاقتي بالصديقي لحد الحديث عن مشاريعه المسرحية، التي سيترتب عنها اشتغالي معه في مسرحية «موليير»، حيث أسندت إلي مهمة إنجاز ديكور هذه المسرحية صحبة الفنانين الكواكبي والزهيدي، فأنجزت عددا من الأيقونات لهذه المسرحية، من بينها صورة صباغية لموليير على أحد الكراسي المؤثثة لهذه المسرحية، إلى جانب أعمال أخرى، بعد أن اقترح علي الاشتغال معه كسينوغراف في الأعمال القادمة، مع تزويدي بكل المعلومات التي قد تفيدني في تطوير معرفتي التقنية في هذا المجال، فرفضت ذلك نظرا لانشغالي بمشاريع فنية أخرى تبعد في تصوري عن مجال السينوغرافيا.

بعد مرور ست سنوات على إنجاز هذا العمل التشكيلي، التقيت بالفنان الطيب الصديقي مرة أخرى بنفس البيت، إذ زرته صحبة الصديق الفنان عبد الكبير الركاكنة، وما أن رآني بصحبة ابني منتصر، الذي لم يكن آنذاك قد تجاوز السنتين، حتى تفجر لديه حس الدعابة والنكتة، فألقى عليه التحية بسؤال جاء فيه: «ما هو الطائر الذي يتبول مرتين في اليوم؟» وبعد صمت قصير وعدم التوصل للإجابة، كان رد الطيب الصديقي هو: «بلبل»، فانفجر الطفل منتصر ضاحكا، فكانت بداية لحديث عن أمور أخرى، إلى أن غادرت المغرب في اتجاه إسبانيا قصد العمل، فانقطعت عني أخبار هذا الفنان الكبير، إلا ما كان يصلني من بعض الأصدقاء أو عبر فضائيات الإعلام

المغربي.

***

الرجل الذي جاب بالمسرح المغربي كل الآفاق الممكنة والمتوقعة (حسن بحراوي)
تشهد كل الأقلام، الوطنية والعربية، على علوّ كعب هذا الفنان المسرحي العريق وتشيد بالتجربة العريضة التي خاضها من أجل ترسيخ هوية مسرح عربي يبحث عن أصالته المفتقدة وربطه بتطورات المسرح العالمي. وكانت ظروف سعيدة هي التي قادت هذا الفنان الرائد إلى المشاركة في التدريب المسرحي الأول الذي أقامته مصالح الشبيبة والرياضة في غابة المعمورة خلال سنة 1954 تحت إدارة الفنيّ الفرنسي أندري فوازان. وقد تميزت مشاركة الطيب الشاب في هذا التدريب بالألمعية والنجابة التي أثارت انتباه القيّمين على التدريب ونالت إعجاب زملائه من أمثال عبد الصمد الكنفاوي والطاهر واعزيز وسعيد عفيفي..وقد بلغ الاهتمام بمواهبه أن عيّنه المخرج فوازان مساعدا له وأوكل إليه الإشراف على بعض الورشات التي كانت تقام على هامش هذا التدريب وما تلاه. وبإيعاز من والده الفقيه الصديقي، صاحب كتاب «إيقاظ السريرة في تاريخ الصويرة»، سوف يسافر الطيب الشاب أواسط الخمسينيات إلى فرنسا وفي نيّته أن يباشر دراسات في الهندسة المعمارية. كان ذكاؤه وثقافته يؤهلانه لخوضها بكل نجاح إسوة بالشبيبة المغربية المتفوقة، ولكن ميوله الفنية والمسرحية تحديدا كانت أقوى وأشد تأثيرا من نصيحة الوالد، حيث جنحت به بعيدا عن الدراسة العلمية وجعلته يتوغّل عميقا في المجال المسرحي، حيث اتجه إلى متابعة دروس في المسرح في مدينة رين تحت إشراف الأستاذ هوبير جنيو، الذي مكّنه بعد ذلك من الانتظام في أهم فرقة مسرحية في ذلك الوقت، هي فرقة المسرح الوطني الشعبي التي أسّسها وأدارها باقتداره المعروف المسرحي الفرنسي جان فيلار. وكان هذا الأخير قد اشتهر، إلى جانب إخراجاته اللامعة، بولعه الخاص باستمداد عناصر الإبداع الدرامي من أشكال الفرجات الشعبية ذات الملامح الدرامية بهذا القدر أو ذاك، وبميله الطليعي إلى استغلال النزوع الفطري للممارسة الاحتفالية لدى الإنسان في بناء عروض مسرحية لا تستلبها القيود الكلاسيكية أو تحدّ من انطلاقها التعليمات الأكاديمية. وهو الأمر الذي سيؤثر في هذا المتدرب الشاب ويحفزه على مزيد من التطلع إلى اقتراح فرجات أصيلة لا تعاني من الاغتراب الفني أو الترهل المدرسي. وقد زاد جان فيلار على ذلك بأن نصحه، وهو يغادر فرنسا إلى المغرب، تلك النصيحة التي جعلها الصديقي خريطة طريق على مدى حياته الفنية قاطبة، وهي دعوته إلى نسيان كل ما تعلّمه من نصوص وجماليات غربية والاحتفاظ منها فقط بالمعرفة التقنية. وقد كان بودّ الصديقي أن يعمل بهذه النصيحة الذهبية عن طيب خاطر لولا أنه وجد بلاده ولغته وثقافته خلوّا من كل تراث مسرحي أو تراكم درامي يستند إليه ويجعل منه نقطة انطلاقه. ولذلك سنجده بعد أن أسس فرقة المسرح العمالي سنة 1957، برعاية المركزية النقابية الاتحاد المغربي للشغل، وحتى قبل ذلك بقليل، يلجأ إلى الاقتباس من الريبرتوار العالمي، الذي جعل منه ما يشبه المادة الخام لتجريب طاقته في المعالجة الدرامية وتقريب الذخيرة المسرحية الإنسانية من المشاهد المغربي، وخاصة تلك الفئات العريضة من العمال الذين كانت الفرقة تتوجه إليهم. وفي هذا السياق قدم الصديقي أعمالا درامية لافتة مثل «برلمان النساء» لأريستوفان و«الوارث» لرينيار و«المفتش» لغوغول و«بين يوم وليلة» لتوفيق الحكيم وغيرها من الأعمال الرائدة في تاريخ المسرح الكوني. غير أن هذه التجربة الاستثنائية لم يقدّر لها أن تستمر أطول من سنتين بسبب الاحتقان السياسي والحراك الاجتماعي، الذي كان يعيشه مغرب ما بعد الاستقلال آنذاك، والذي انعكس بقوة على أداء هذه الفرقة، مما حمل الصديقي، الذي كان ما يزال شابا تجاوز بالكاد العشرين من عمره، على الانسحاب من هذا المعترك الشائك واختيار العودة إلى فرنسا لاستكمال تكوينه وصقل مواهبه والاحتكاك بالأوساط المسرحية. وبعد أن عاد إلى المغرب في موسم 1960-1961، وبعد تجربة قصيرة في المركز المغربي للأبحاث المسرحية، سيتفرغ الصديقي لتأسيس فرقة أخرى سيطلق عليها اسم «المسرح البلدي» لاتخاذها من هذه البناية مقرا لها، ويجترح مجموعة من التجارب الدرامية التي واصل فيها الاعتماد على الاقتباس، حيث سيقدم تباعا مسرحيات «قصة الحسناء» عن الكاتب جان كارول، و«مولاة الفندق» عن كارلو كولدوني، و»محجوبة» عن موليير. في سنة 1965 سيعيّن الصديقي مديرا على هذه المؤسسة المسرحية العتيدة المسماة المسرح البلدي وتصير فرقته اسما على مسمى. وسينخرط في تجربة تستمد من التراث المغربي موضوعها وأشكالها، في إشارة لامعة إلى ما سيؤول إليه مساره من انكباب على الموروث المحلي واستمداد ما فيه من جمالية خبيئة لا تنتظر سوى مَن يكشف عنها. وسوف يقدم خلال هذه المرحلة العمل الرائد «سلطان الطلبة»، الذي ألّفه رفيقه عبد الصمد الكنفاوي، اعتمادا على الفرجة الطلابية الشهيرة التي تعتبر من صميم التقاليد الكرنفالية المغربية، ومسرحية «سيدي ياسين في الطريق»، التي تشخص الصراع التقليدي بين نشدان الحداثة والانشداد إلى التقاليد البالية، ممثلة هنا في تقديس الأولياء، ومسرحية «مدينة النحاس» التي استلهمها السعيد الصديقي من إحدى الحكايات الفانطاستيكية لألف ليلة وليلة... وكان قبل ذلك بقليل قد أتيح له أن يسير بالمسرح المغربي نحو انعطافة انقلابية بكل المقاييس، تمثلت في خوض تجربة مسرح اللامعقول، الذي كان يشكل في تلك المرحلة قطبا جاذبا لكل المسرحيين الطليعيين في العالم. وستُثمر هذه الانعطافة مجموعة من العروض التي رسخت في ذاكرة المشاهدة المغربية مثل «مومو بوخرصة»، التي اقتبسها عن «أميديه أو كيف التخلص منه» لأوجين يونيسكو، و«في انتظار مبروك» عن «في انتظار غودو» لصومييل بيكيت. وقد نجح هذا الفنان في الارتحال بمسرح العبث إلى بيئتنا ومناخنا بكامل خوائه ومرارته، وقد تمّ له ذلك بالمحافظة له على فلسفته العامة التي تقوم على الضحك المأساوي والتجريد والتهويم الميتافيزيقي، وزاد على ذلك بأن شحنه بجو ساحر من السخرية والأداء اللّعبي، فبدا وكأن الصديقي يقدم قراءة جديدة تقوّي من طابع اللامنطق واللايقين وتشدّد على مبدأ التناقض الذي يسود هذا اللون الدرامي حريف النكهة. وكما لو أنه كان يرغب في الالتفاف على الدائرة من جديد، ستعقب هذه التجربة غير المسبوقة في التعاطي مع المسرح الأوروبي الطليعي التفاتة من الصديقي إلى الموضوعات التاريخية التي تعيد إلى الأذهان جذور المسرح الملحمي باتجاهها إلى تأصيل لحظات من التاريخ الوطني للمغرب والمغاربة. وسوف يدشن هذا المسار الاسترجاعي سنة 1963 بمسرحية «معركة الملوك الثلاثة»، التي تسجل لحظة انتصار دولة السعديين على جيوش الغزاة المسيحيين ومَن يؤازرهم. وتواصل هذا المنحى في مسرح الصديقي بنوع من الإلحاح والتصميم عبر مسرحيات «المغرب واحد» سنة 1965، و«المولى إسماعيل» سنة 1968، و«معركة الزلاقة» سنة 1970، و«المولى إدريس» سنة 1974. وعودة إلى استلهام نصيحة جان فيلار، التي تدعوه إلى التعلم من شعبه فنون الأداء والتوقف عن اقتفاء أثر المسارح الأكاديمية، سيسعى الصديقي إلى الجمع بين النزعة التسجيلية الوثائقية التي ميزت مسرحه التاريخي، وتوظيف الأشكال التعبيرية التراثية والتقليدية، خاصة منها فن الحلقة الذي ساعده على خلق مسرح شامل يقطع مع النمط الإيطالي الكلاسيكي للتشخيص ويعانق أسلوبا جديدا يغني تجربة التحاور مع التراث ويغتني بها. وستكون التجربة البكر في هذا الاتجاه هي مسرحية «سيدي عبد الرحمن المجذوب»، التي سيعدّها في الموسم المسرحي 1967-1968. وفي هذه التحفة المسرحية سيستعيد الصديقي بطريقة ملحمية حياة ذلك الشاعر الجوال من أهل القرن السادس عشر من خلال رواية حلايقي في ساحة جامع الفنا يحفظ ديوان المجذوب ويتتبع مراحل حياته ومغامراته، ومن حيث الشكل ستقترح المسرحية صيغة مغربية للعرض الدائري كما في الحلقة الشعبية. وقريبا من هذه الأجواء، التي تستحضر الموروث الثقافي وتعيد تشكيله، سيقع اختيار الصديقي سنة 1970 على نص للكاتب المسرحي عبد السلام الشرايبي اشتغل فيه دراميا على قصيدة الحراز من فن الملحون وحوّلها إلى فرجة مسرحية تزدهي بالحركة والإنشاد، وزادها الصديقي تألقا بأن صبّها في قالب إخراجي طليعي بمناظر مبتكرة وأزياء بهلوانية، واستعان في تقديمها للجمهور بنخبة من الشباب الموهوب والملسوع بالمسرح ممن سيصير لهم شأن في الميدان المسرحي والغنائي. وسيوسّع الصديقي من دائرة استلهام التراث لتتجاوز الموروث الثقافي الشعبي إلى الموروث الثقافي العربي من خلال إعداده سنة 1971 مسرحية «مقامات بديع الزمان الهمداني»، التي بهرت بجمالياتها وجرأتها مشاهدي المسرح في جميع بقاع العالم. وفي هذه التحفة الرائعة التي تصور مجتمع المُكدين والشحاذين في العصر العباسي وتستعمل الغناء الفردي والجماعي للَحم عناصر العرض، أعطى هذا الفنان الدليل من جهة على إمكانية توظيف التراث العربي الكلاسيكي والانتقال به بكامل السلاسة إلى خشبة المسرح، ومن جهة أخرى على مشروعية الاستخدام الفني للأشكال الفرجوية العتيقة مثل فنون الحلقة والبساط وسيد الكتفي.. وفي مسرحية «الإمتاع والمؤانسة» سنة 1984 سيلقي الصديقي الضوء الكاشف على صورة المثقف العربي، الذي عانى التهميش والغربة والاضطهاد، وفضح علاقاته المتوترة مع ماسكي السلطة في بلاده من خلال استعراض حياة الكاتب أبي حيان التوحيدي، الذي صوره بكامل هشاشته وتناقضاته وتقلبات مزاجه. ومثل ذلك سبق أن فعله مع مسرحية «الغفران» التي ألّفها التونسي عز الدين المدني وجعلها تتمحور حول حياة الشاعر العربي الكفيف أبي العلاء المعري وما جرى له مع أهل زمانه. وبهذه الطريقة الصميمية في محاورة التراث المغربي والعربي سيتمكن الصديقي من تجسير الهوة التي ظلت تفصل بين الثقافة العربية والفن المسرحي الحديث، وينجح في امتحان المرور فوق صراط التقليد والحداثة. كما سيتاح له في وقت لاحق مواصلة السياحة في المخيلة الشعبية العربية بعرض مسرحيات رائدة من قبيل مسرحية «ألف حكاية وحكاية من سوق عكاظ» سنة 1985، ومسرحية «الشامات السبع» سنة 1991.. ولعل هذا الإلحاح على توظيف التراث الفرجوي المغربي والبحث فيه عن أفق لدراما عربية هو الذي قاده إلى تطوير تجربة تستلهم شكل البْساط المغربي كان قد بدأها في وقت مبكر أواسط الستينيات، كما رأينا، وواصلها بقوة وتصميم من خلال مجموعة من المسرحيات التي أسماها «بساطات» ونالت ترحيبا من قبل الجمهور وعموم المهتمين بالبحث المسرحي، وتقدم مسرحيات «الفيل والسراويل» و«لو كانت فولة» و«جنان الشيبة» و«قفطان الحب» نماذج ناجحة لها.

وأما بعد، فقد جاب الصديقي بالمسرح المغربي كل الآفاق الممكنة والمتوقعة من فنان عاش طوال حياته معتكفا في محراب المسرح، ساهرا تحت شجرة الإبداع بانتظار الإلهام، واستحق بذلك أن يوصف بأنه فقيه المسرح المغربي بكل امتياز.

***

الجليس الأعظم (عزيز الحاكم)
لا يستقيم الحديث عن الفنان الطيب الصديقي من دون الوقوف عند تلك اللحظة الحاسمة التي عاد فيها الرجل من فرنسا سنة 1957 محملا بمشاريع وأحلام شتى، بعد أن صقل موهبته ورتب نبوغه بتداريب متنوعة الاختصاصات في كل من باريس  (تحت إشراف جان فيلار) ورين (جيلبير غينيو) وستراسبورغ (المدرسة العليا) وبرلين (البرلينه أونسامبل)، ليستأنف مساره المسرحي المتفرد، الذي بدأه في العام 1953 ممثلا تحت إدارة أندريه فوازان وشارل نوغ، بتجوال خلاق في أعمال مقتبسة أو ممغربة عن كتاب مسرحيين عالميين: غوغول، أريستوفان، بن جونسن، موليير، بكيت، ماريفو، يونيسكو، أرابال، غولدوني، جون كارول، ساشا غيتري، رونيار... قبل أن ييمم اهتمامه سنة 1965 صوب نصوص مغربية من تأليف: عبد الصمد الكنفاوي، محمد سعيد الصديقي، عبد السلام الشرايبي، عبد الله شقرون، أحمد الطيب العلج، محمد قاوتي، عزالدين المدني، والعربي باطمة...

وانطلاقا من العام 1990 سيشرع الطيب الصديقي في الجمع بين التأليف والإخراج والسينوغرافيا في عروض محبوكة بجماليات جذابة تعكس اختمار التجربة وكونية الاستشراف: «الشامات السبع»، «خلقنا لنتفاهم»، «موليير أو حبا في الإنسانية» (بالفرنسية). وفي سنة 1995 سيعود الطيب الصديقي ليغترف من خابية التراث ولتحيين قالبه المسرحي، الذي سبق له أن اعتمده في مسرحياته الأصيلة: «ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب» (1967)، «الحراز» (1970)، «مقامات بديع الزمان الهمداني» (1971)، «النور والديجور» (1972)، «الغفران» (1975)، «كتاب الإمتاع والمؤانسة» (1983)، «ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ» (1984). غير أن هذه العودة ستتسم بهاجس البحث عن قالب يؤالف بين تراثية المحتوى وحداثة الأسلوب من خلال بساطات «جنان الشيبة» (1995)، «لو كانت فولة» (1996)، «قفطان الحب المرصع بالهوى» (1998)، «السحور عند المسلمين واليهود والنصارى» (1999)، وفيها يذهب بالسخرية العارمة والتفكه البليغ إلى أبعد مدى، حيث تنتفي الحدود بين الواقعي والمتخيل وتتعايش عناصر الفرجة من حكي وحوار وتشخيص وغناء ورقص ومستملحات صديقية، في فضاء بساطي مصمم وفق تصور سينوغرافي تتحول معه المشاهد المسرحية إلى لوحات تشكيلية زاخرة بالألوان (ألوان قطع الديكور والملابس والأكسسوارات) مؤطرة بتبقيعات ضوئية تحدد زمنية الحدث ومكانيته على نحو تركيبي مكثف (سينمائي) وتساعد على التماهي مع أجواء العرض التي يتجاور فيها الجد والهزل وتستأنس ببعض الأشكال التعبيرية العريقة (الكابوكي الياباني مثلا)، من أجل فرجة طقوسية خفيفة قوامها الحكمة ولباسها الأناقة الباذخة. هذه المحطات الإبداعية، التي عبرها الفنان الطيب الصديقي، بشموخ لا يضاهيه فيه أحد، تميزت بالمزج بين المسرح والحياة مزجا عضويا يلتبس على التمييز، وفي سياق هذا التداخل صارت الحياة لديه مشتلا غنيا بالعبر الإيكزوتيكية التي ينبغي قطفها في اللحظة المواتية و»تحويلها» بشكل خيميائي عجيب إلى فرجات صالحة للعرض في بستان الخشبة، أو في بعض الفضاءات المفتوحة، لإمتاع الناس ومؤانستهم وتعويدهم على ذكاء المشاهدة ونباهة الاستيعاب. ذلك أن البلادة هي عدوه اللدود، وهي ما يستفز رغبته في الهزء والتهكم، فهو لا يقبل بأقل من فكرة مستحيلة ولسان عابر للغات، وتعابيره صور بلاغية تلتف حول نفسها لاعتصار المعنى وتضليل البداهة، في مسرحياته (أكثر من سبعين عملا على امتداد ستين سنة) وفي كتاباته السردية (عن ظهر قلب = 2002، موغادور فابور= 2004) وفي مسامراته أيضا نستشف ذلك النزوع الخفي، الذي نلمسه لدى بعض المصابين بجنون العبقرية، إلى استباق الجميع إلى الحقيقة وإعادة النظر في الوجود وفي الموجود، وأخذ الحياة برمتها مأخذ التنكيت والتبكيت حتى تطاوع النفس على التمادي في العيش، كل شيء لديه قابل لأن يولد من جديد في هيئة لا علاقة لها بالأصل، بصيغة طريفة ودلالة لاتخطر على البال... لديه يغدو الضحك قضية مقدسة والصمت فضيحة، وفي نظراته نوع من الإشفاق على البشرية كلها في دبيبها الأعمى صوب أقرب فتات، لا يهمه في شيء أن تغرب الشمس في ميقاتها أو أن تشرق قبل الأوان، لأن له زمنا خاصا به، خارج الوقت المتداول، لكنه زمن مضبوط لا يرحم ولا يؤمن بالصدفة (من المعروف عن الصديقي أنه يسبق الجميع إلى مكان التداريب ومواعده لا تقبل التأجيل)، وبذلك استطاع أن يحول الهزل إلى جد خطير، وأن يتقي شر المدمنين على التعقل المغشوش، وأن يفاقم حيرة الباحثين له عن خانة محددة للتصنيف، هو فريد عصره وتوأم أبطال مسرحياته المسخرين لنشر رؤاه وتأملاته ومستشرفاته بين الناس، وبلبلة العقول الهشة، وترويض القردة على التمهل والتركيز، من فمه تنبعث الكلمات محمولة على بساط الحكمة كي تصيب المسامع وتوقظ البصائر وترسم للمعاني سبيل التجدد والامتداد في الزمان والمكان. في صيف 2005 دأبت على زيارته من حين لآخر (كنت بصدد تعريب كتابه الأتوبيوغرافي «عن ظهر قلب»)، وفي إحدى المسامرات كنت أخرج برفقة أحد الأصدقاء كي ندخن العشب الليلي في حديقة الفيلا، وبعد أن لاحظ الصديقي أننا نكثر من الخروج حدق في مليا ثم سألني: ما سبب خروجكما؟ قلت: كي نستنشق الهواء. فأمعن النظر إلينا باسما وقال: لم لا تدخلان ذلك الهواء لنستنشقه جميعا؟ هكذا هو الطيب الصديقي، مبدع إنساني فذ، كريم في أحاديثه وفي عطاءاته المسرحية التي تغدق المرح والمعرفة والعبرة على الحاضرين، ومضياف في كل حين (منزله مزار مفتوح للفنانين والأصدقاء من كل الأصقاع (يشمل بالحدب والرعاية كل من توسم فيه خيرا مسرحيا). ألم يجعل من «مسرح الناس» ملاذا لصفوة الموهوبين وأسرة واحدة متشابكة الصلات؟. وبذلك استطاع أن يعتلي عرش المسرح المغربي باقتدار متجدد، وأن يفتح لكل الأجيال آفاقا غير مطروقة، ماضيا بالفرجة إلى مراقي الاكتمال والاستئناس بكل ما يؤهلها لإمتاع النفوس و«إيقاظ البصائر». حياك الله أيها الصديق الطيب.

***

الطيب الكبير (حسن لمنيعي)
لا يمكن الحديث عن المسرح العربي الحديث، وعن إنجازاته وتراكماته الفنية، دون أن نذكر الطيب الصديقي، لأنه يعد علامة بارزة في ذاكرة هذا المسرح وتاريخه. لقد أمكن لهذا الفنان، مدفوعا بتلقائية الموهبة متعددة الحقول (شاعر/ رسام/ ممثل/ دراماتورج الخ..) وبسعة ثقافته، أن يحتل مكانة مرموقة في عالم المسرح، وأن يساهم في «تحديث» الفرجة العربية وتأصيلها، إضافة إلى بروزه مدرسة أنتجت العديد من الممثلين والمخرجين، والكتاب الدراميين الذين ارتبطت أعمالهم بمعادلة «الأصالة والمعاصرة»، التي أمست «تقليدا» سائدا في الممارسة المسرحية العربية منذ منتصف السبعينيات.

وعليه، إذا كان الصديقي قد انحاز في بداية مشواره الفني إلى مسرح متنوع الآفاق، يمتاح أسلوبه من المسرح الكلاسيكي والطلائعي، ويرتكز على تقنيات إخراجية تراعي مكونات المسرح على الطريقة الإيطالية، وتعمل على تجويد أبعادها، فإنه سيتخلى عن هذا الأسلوب لممارسة مسرح «خالص» يعتمد فضاء الفرجة الشعبية (أي الحلقة)، ويستمد مادته من التراث المغربي والعربي على السواء، وكذا من الأشكال الفرجوية الشعبية (لبساط/ سيدي الكتفي/ سلطان الطلبة الخ..).وقد أتاح له هذا المسرح - القائم على الحركة (اللعب) والكلمة، والتشكيل، والإيقاع الموسيقي، والأهازيج، والجد والهزل - تخصيب الموروث الأدبي بدماء جديدة، حيث أعاد الحياة إلى جنس «المقامة» من خلال تمسرح رؤيوي رائع شكل بداية «حداثة» المسرح العربي. كما أنه تعامل مع شخصيات تاريخية فذة (سيدي عبد الرحمن المجذوب/ أبو العلاء المعري/ أبوحيان التوحيدي)، عندما نقل هواجسها إلى الركح، الشيء الذي ساعده على خلق علاقة وطيدة بين المسرح والجمهور من خلال مشاركة هذا الأخير في العمل الدرامي، وتخليصه من كابوس «مسرح الإيهام»، ليكون حاضرا في العرض باعتباره جسدا فاعلا.

ومع أن الصديقي لم يكن منظّرا للمسرح، فقد انعكست في أدبيات التنظير الأوروبي الحديث بعض مواصفات مسرحه كاستثمار فضاء الخشبة، وتأثيثها بلغات حركية/ بصرية، واللجوء إلى «الحلقة» التي تعد، في نظر الألمانية إريكا فيشر، نموذجا مثاليا للتوليد الذاتي اللامتناهي، لأنها تستدعي مجموعة من الفاعلين (أي الممثلين) والمتفرجين. وهذا يعني أن الفرجة لا تتحقق إلا بمشاركة المتفرج . من هنا ندرك حرص الطيب الصديقي على أن يقدم لجمهوره مسرحا يقوم على «المتعة»، ويتكلم لغة الزمن الماضي والحاضر، عبر إنتاج درامي شيق تنبذ موضوعاته الخطاب السياسي الفج، لتحيلنا على مراحل من التاريخ العربي، تنعكس في سيرة عظماء كانوا في علاقة صدامية مع السلطة والدين.

أما عن شخوص «بساطاته» (حديدان/ البوهو/ لمسيح الخ..)، فإنها تتحرك مثل شخوص «كوميديا دي لارتي»، كما تدفع الجمهور إلى التشبع بجذور الثقافة الشعبية التي انحدروا منها، وبما تزخر به من أشكال وألعاب درامية تفيض بشتى أنواع الضحك، والفكاهة، والغروطيسك. ولكنها ترصد بذكاء جوهر الإنسان المغربي المعاصر. لهذا السبب، أطلق الطيب الصديقي رسميا تسمية «لبساط» على الشكل المسرحي الذي يمارسه، ليقف إلى جانب المسارح العالمية باعتباره صيغة درامية تنفتح على كل الفنون، وعلى كل القيم الكونية.

وله الحق في ذلك، لأنه فنان مسرحي بالمعنى الحقيقي للكلمة، لا يقلد أو ينسخ ما هو سائد في الغرب، وإنما يمارس المسرح، لأنه كما يقول «فن الإدهاش والإبهار، يعلمنا أن التسامح هو رفض الفظاظة واليقين». لهذا لعب دورا كبيرا في تاريخ المسرح العالمي ما دام حاضرا بقوة في الإنتاجية المسرحية العربية، وكذا في البحث الجامعي (في المغرب وخارجه)، وخصوصا في ذاكرة الجمهور، الذي طالما استمتع بتجربته الفنية. وهي تجربة حية تحمل في طياتها أسس ثقافة الأداء المسرحي (البرفورمانس). لذا يجب على المسرحيين الشباب أن يتعمقوا في تفاصيلها لصناعة فرجاتهم، كما يجب على المؤسسة الثقافية أن تعي أهمية صاحبها، والدور الذي لعبه في مجال تطوير المسرح العربي، والتعريف به خارج حدوده. وأملي أن يطيل الله عمره، لأنه فنان يستحق أن نفخر به، بقدر ما يستحق أسمى وجوه العناية والتقدير.

***

رسالة امتنان.. لمبدع قد لا يجود بمثله الزمان (عبد الحق الزروالي)
صحيح أنَّ هُناكَ مَنْ يشْتَغِل في المسرح.. وهُناك مَنْ يشتغل ب المسرح.. وهُناك مَنْ أنْجَبَتْه الطبيعة للمسرح، لا غير.

فمن يكون الطيب الصديقي، إذن، ضمن هذه التَّصْنِيفاتِ الثَّلاثة؟ إنَّه الكُلّ في الكُلّ .. ولَرُبَّما أكثر..

هذا ما قرَّرَتْهُ رياحُ المُوكَادُورْ، حين قَدَفَتْ به كشُعْلَة مُتوهِّجَة.. مُعَبَّأً بما تراكَمَ فيه من الصُّوَر.. من الأحْداث والحالاتِ... ذاكِرَة خِصْبَة.. مُخيِّلَة.. كم كنتُ آمُل لو اتَّسَعَ صَدْرُكَ لِتَقَبُّل سهام النَّقد والعِتابِ، بقدر شساعتِها.

أيُّها الشَّامِخُ فينا.. كَتَبْتَ فأبْدَعْتَ.. أخْرَجْتَ فأبْهَرْتَ.. مَثَّلْتَ فأذهَلت.. رَسَمْتَ فأمْتَعْتَ.. هيَّجْتَنا بتَرْنِيماتِكَ اللَّحْنِيَة إلى حدّ النشوة.

خُذ سيجارك الممتاز وتمخْتَرْ.. فأنتَ أهْلٌ لها، وهو بك أجْدَر.. خُذ حقيبة الكتف.. خُذ ما يروق لك من كُتُب التراث والصحف.. واحتس ما طابَ لك.. ولا تعتذر...

أيُّها الرَّائِد.. المُجَّدد.. العَنيد.. المُتفرِّد.. المُكابِد.. المارِدُ.. الماجِد.. الشَّارِدُ.. المُتَّقِد.. الصِّنديد.. الخالِد..

سلامٌ.. سلامٌ.. سلامٌ...

طِبْت مقاماً، أيُّها الطيب.. وطاب بك المقام...

أبا الزبير... تحضرني الآنَ حكمة نيرودا حين قال: أشهد أنني عشتُ... أمَّا أنتَ.. فيكفيك أنَّك قد بلَّغْتَ...

أحببنا المسرح من خلالك.. ارتوَيْنا من نبع إبداعك.. وكُلُّنا خرجْنا من معطفك.

عُذراً سيد العارفين.. ما كُل مبدع يرقى إلى مرتبة الأسطورة.. تخطيت اللمسة.. وضعتَ البصمة.. ونِلْتَ الحكمة...

عُذراً إن أنا خاطبْتُك.. والرعشة في دمي.. عُذراً إن أنا تطاوَلْتُ.. حتى في مدحك.. لأنَّك لم تعد ملك نفسك.. ولأنَّه من حَقِّي أن أعتبرك أخي الذي.. لم تلده لي أمي.

صحيح أنَّنا لم نلتقِ كثيراً.. ولم نتقاربْ.. وصحيح أننا مررنا بمواقف، ومراحل انْطَبَعَتْ بالمُشاكَسَة والغضب..لكن مكانتك ظلَّت دائماً في عُمْق القلب.

لك المجد.. فاصْمُد ولا تتبدَّد.. وتأكَّد أنَّ صدى إشراقاتِك الساخرة سيظل عبر المسافات يدوي ويتردَّد.

لك المجد.. أيها الطيب.. يا ابن المتنبي.. وأبا حيان التوحيدي.. والمعري.. وسيدي عبد الرحمان.. يا بديع الزمان.. يا ابن الموكادور.. ويا صاحب النور والديجور... أيها الصَّادق والصّدِّيق الصدوق.. ويا مخرج أو مُدْخِلَ القوق فالصندوق.. أيها المُولَع بالسَّلاهِم، والأقْنِعَة، العمائم.. يا مُشَيِّدَ الملاحِم.. أيها الجدير.. يا باعث الروح... في البنادير، والهجاهج، والمزامير... أيها العاقل إلى أقصى درجات الجنون.

كأنِّي أسْمَعُك تُردِّد في أعماقك ما قاله شكسبير: أكون.. أو لا أكون.

أيها الرَّابِضُ في العرين.. المسكون بالتجليات والخوارق، وصيحات الملحون.. أُنْعِمْتَ مساءً.. هي الدنيا كما ترى.. ولله في خلقه شؤون.

***

محمد صوف: الثقافة جزء من منظومة تتحكم فيها استراتيجية الدولة
قال إن الثقافة في حاجة إلى الديموقراطية وبما أننا لسنا مجتمعا ديموقراطيا فالأمر ميئوس منه
يمكن القول بأنه منذ مجموعته القصصية البكر "تمزقات"، وإلى آخر إصدار له متمثلا في روايته "أورام موروثة " (دال، سوريا، 2004)، يواصل الروائي والقاص والمترجم محمد صوف، في صمت، مساره الإبداعي الذي أسس له منذ السبعينيات، حيث يمكن اعتبار تجربته الإبداعية التأسيس الفعلي لجيل الامتداد الذي امتلك رؤيته الخاصة للواقع الاجتماعي والسياسي، ولئن كانت تجربته الدالة والعميقة لم تحظ وليست الوحيدة بالمتابعة النقدية الموضوعية. ويحق القول، على السواء، بأن صوف أسهم في تحريك واقع الثقافة المغربية، من خلال إصداره جريدة "أوراق" الثقافية الشهرية، التي تعد أول مطبوعة خاصة ومتخصصة في الشأن الثقافي وعنها بالذات أسس دارا للنشر كان من أهم إصداراتها حينها رواية الروائي والقاص الراحل محمد زفزاف "الثعلب الذي يظهر ويختفي" (1984). في هذا الحوار المطول، يكسر محمد صوف صمتا طال، مبديا رأيه في الواقع السياسي العربي، وفي الثقافة المغربية، إلى تجربته في الكتابة والإبداع.

***

- كيف ترى واقع الكتابة الأدبية اليوم؟
في السبعينيات والثمانينيات كان كل الأدباء يعرفون كل الأدباء وما يصدرون كان الإنتاج الأدبي عندما يخرج إلى السوق يلقى صدى تترجمه المبيعات التي كانت تتراوح بين 1000 و3000 نسخة، حسب أهمية العمل ومكانة صاحبه، مثلا أصدرت منشورات «أوراق» سنة 1984 رواية «الثعلب الذي يظهر ويختفي» للراحل محمد زفزاف، في 3000 نسخة، وفي ظرف 6 شهور بيعت النسخ بكاملها. في نفس السنة أصدرت نفس المنشورات عملا نقديا للناقد صدوق نور الدين «إشكاليات الخطاب الروائي العربي» بيع منه في ستة أشهر أكثر من ألفي نسخة
.

ومع ذلك كان ثمة تذمر وشكوى من عدم الإقبال على القراءة، يقر به الموزع قبل المؤلف. إذا اعتمدنا الإقبال على القراءة مرجعا، نجد أنه في الوقت الراهن لا يجرؤ الكاتب على طبع أكثر من ألف نسخة وبدأ عدد خمسمائة نسخة يحل محل الألف، وقد ذكرت قاصة مغربية في التسعينيات أنها لم تبع أكثر من 17 نسخة من مجموعة قصصية أصدرتها آنذاك، وأكثر الكتاب شهرة لا تدرك مبيعات ما ينتجون ال 500 نسخة.

الحديث هنا عن الكتب التي توزع بواسطة موزع محترف، على غرار كل المطبوعات التي تعرض على القراء في نقط البيع، دون الحديث عن حفلات التوقيع التي تنظمها الجمعيات لفائدة هذا الكاتب أو ذاك، وقد تطورت الأمور سلبا حتى أصبح الموزع يسيء عمدا التعامل مع الكاتب حتى يصرف النظر عن التوزيع بواسطته، ويقول الموزع إن الكتاب الأدبي لا يغطي تكلفة توزيعه، وقد لاحظت شخصيا أن الناشر الذي نشر روايتي الأخيرة «الرهائن» تعامل مع شركة توزيع ذائعة الصيت فلم تقم هذه الأخيرة بتوزيع العمل إلا في ثلاث مدن فقط لا غير تفاديا لمصاريف لا تستردها. ومع ذلك فعدد الكتاب يزداد بشكل ملحوظ والمؤلفات تظهر تباعا وأصبح يتعذر معرفة كل الكتاب كما كان الشأن من قبل، ناهيك عن إنتاجهم. كما ظهرت دور نشر تقوم فقط بالوساطة في الطبع والتوزيع ويؤدي المؤلف تكلفة الطبع وبداهة عمولة الناشر، وظهرت جمعيات في كل المناطق وكثرت الأنشطة الأدبية بشكل عصي على العد، لكن من يحضر هذه الأنشطة غير الكتاب أنفسهم؟؟

ومع ذلك فهي تدور، فقد أصبح الكاتب المغربي يفوز بجوائز في المحافل العربية وحتى الدولية، وأصبحت الفنون الأدبية في المغرب تنافس مثيلتها في المشرق، وهو ما لم يكن واردا من قبل، ولعل الانفتاح الحاصل على المستوى السياسي على الثقافة يساعد على تبلورها أنشطة ونشرا، فالجمعيات الثقافية أصبحت تحظى بالدعم، في حين كانت من قبل تجد كبير عناء في الحصول على وصل التصريح بوجودها، وهو الاعتراف الرسمي بالجمعية، أما المنح فكانت كسيدنا قدر لا يحظى بها إلا المحظوظون لماما وبعد أخذ ورد وتدخلات من محافل سياسية تسخر الثقافة لخدمتها أساسا. ثم إن القراءة ترف متجاوز الآن والقراءة مشكلة بنيوية ولم لا إرادة سياسية إذا زرت مكتبات المدارس الثانوية والمركبات الثقافية تجدها تعاني من الهجر، وسأورد هنا حكايتين عشتهما: شجعت ابنتي على زيارة مكتبة الإعدادية التي كانت تدرس فيها وعلى اقتناء قصص وروايات نقرأها معا ونناقشها، وفي اليوم الموالي عادت إلى البيت باكية ماذا حدث؟؟ سحبت المسؤولة عن المكتبة من التلاميذ الذين ذهبوا إلى المكتبة محفظاتهم وأعطتهم مكنسات وسطول ماء وأمرتهم بتنظيف المكتبة وإلا لن تعيد إليهم محفظاتهم، فكيف سيعود التلميذ إلى المكتبة مرة أخرى؟؟

الحكاية الثانية أني في حديث مع مسؤول عن الكتب في إحدى مندوبيات الشبيبة والرياضة قال لي إن المسؤولين عن اقتناء الكتب لا يحبذون شراء الكتاب المغربي لسبب بسيط هو أن جميع الإصدارات تحمل سعر البيع على ظهر الغلاف، وبالتالي ثمة اضطرار بالتصريح بالسعر الحقيقي لاقتناء الكتاب. توضيح الواضحات من المفضحات، وقس على ذلك. ألا يؤثر كل هذا على الكتابة الأدبية؟؟ خلاصة القول أن الكاتب يكتب لأن حرفة الأدب أصابته.

***

- ألا ترى بأن الثقافة العربية أخفقت في إنجاز وظيفتها التنويرية؟

الوظيفة التربوية أساسا إرادة سياسية. والثقافة جزء من منظومة تتحكم فيها استراتيجية الدولة. وبالتالي يصعب على الثقافة أن تقوم بدور تنويري حقا في مجتمع نصفه أمي ونصفه نصف أمي. ماذا تفعل الثقافة العربية إذن؟ إنها تنور المتنورين. من يستطيعون أن يقرؤوا ما يكتبه المثقف. لنأخذ مثلا عبد الله العروي. من يستطيع قراءة متونه من غير المتنورين أصلا؟

أصل الداء يكمن في التعليم. في عالمنا العربي تشتغل المدارس على التلقين والحفظ تماما كما تفعل الكتاتيب القرآنية. تعلم التلميذ الحفظ فقط لا غير. احفظ عن ظهر قلب ما لقنوك إياه وها أنت فقيه. لا يحق لك أن تفكر أو تشرح أو تسعى إلى الفهم.

نرى في الجامعات أساتذة يطلبون من الطالب أن يعيد إليهم ما لقنوه إياه بالحرف، وإذا فعل غير ذلك، وإن كانت أجوبته صحيحة، رسبوه. أما إذا اجتهد فتلك بدعة، والبدعة عندنا ضلالة وكل ضلالة في النار. أليس هذا ما يردده الفقهاء كل جمعة في المساجد؟

والمثقفون العرب لا يشذون عن القاعدة إلا من رحم ربك، وهم بعدد رؤوس الأصابع. كم من مثقف عندنا يحمل عن حق هذه التسمية؟ أي أنه لا يكتفي بالمعرفة لذاته، بل ينقلها نقلا تنويريا للآخر؟ من في هذه المنظومة يغرد خارج السرب إلا المناضلون.. وحتى هؤلاء، خطابهم رموز يستعصي فهمها على المتعلم العادي. وهم بالتالي يخدمون الإرادة السياسية، التي ترى مصلحتها في التجهيل وزرع الخرافة والغيبيات والإغداق على الأضرحة. لذلك فالثقافة العربية في حاجة إلى الديموقراطية لتلعب دورا فاعلا حقا. وبما أننا أصلا لسنا مجتمعا ديموقراطيا، فالأمر حالة ميئوس منها. إذ بداخل كل منا خيمة وشيخ قبيلة.

***

- وسنظل كذلك إلى متى؟؟

لا أحد يستطيع الإجابة عن هذا السؤال، لا سيما أن الوضعية العربية الراهنة التي صنعتها سياسة الهيمنة لا تبشر بغير المزيد من التفاقم الثقافي، وما الجوائز التي توزع هنا وهناك على المثقفين سوى ذر للرماد في العيون. لنأخذ مثلا من جائزة المغرب. يتم الإعلان عن الجوائز، توزع الجوائز، وينتهي كل شيء. لا متابعة إعلامية، ولا برامج دعائية للكتب الفائزة، ولا أحد يذكرها بعد الخبر الباهت الذي ينسى بمجرد المرور إلى الخبر الموالي في نشرة الأخبار.

***

- لكن التفاؤل طبع حراك «الربيع العربي».. أليس كذلك؟

التفاؤل نعم. لكنه كان تفاؤلا ساذجا. التغيير المنتظر كالمهدي كان حلم الجميع. وعندما انهارت أنظمة من جراء غصب شعبي عارم استبشرنا خيرا، غير أن ما تلا الربيع العربي لم يكن متوقعا. ظهرت صراعات جديدة، مثلا بين السنة والشيعة، وأصبح العربي المسلم يقتل العربي المسلم. واستطاعت إمارات ومملكات أن تفلت من غضب الجماهير التي تطالب بالديموقراطية. وأصبح لإيران شأن لم يكن لها من قبل، إذ لا يمكن الآن تصور حل أزمة سوريا بدونها. أصاب الامتعاض السياسي المملكة العربية السعودية وإسرائيل عندما فتحت أمريكا باب الحوار مع إيران، ثم أصيبت الجماهير التي خرجت إلى الشارع تطالب بنظام جديد بخيبة أمل، فقد أسفر الاقتراع الديموقراطي عن فوز المد الإسلامي، وكانت المرأة الخاسر الأكبر. إضافة إلى كون التيارات التي انتعشت في المواقع الإلكترونية أخذت درسا في معرفة حقيقة المجتمعات العربية، وبدأت تعي بأن المجتمع الأمي لا يدخل المواقع، وأن أنصارها ومؤيديها قلة.. ولعل نتيجة الربيع العربي الأهم تكمن في إعداد خريطة جيوسياسية جديدة لمنطقة الشرق العربي.

***

- سؤال: أين هو دور المثقف في هذا السديم؟؟

- في ضوء هذا، هل مصير المواطن العربي الإخفاق الدائم؟

المواطن العربي والإخفاق متلازمان، والأفق مسدود. الحلم بالديموقراطية أطول من الليل العربي. لا يمكن لمواطن تعلم في المدارس أن يحفظ ويستظهر، وتعلم ألا يفكر ليدع الآخرين يفكرون له. يرعبه اتخاذ المبادرة. ويؤمن بطاعة أولياء الأمر لا محاسبتهم. هو مواطن محكوم عليه بالقصور الأبدي انطلاقا من الفصل التحضيري بالمدرسة الابتدائية. هذا إن درس وتابع دراسته. والأقلية التي تتخرج يكفي أن تحصل على أجر وسيارة وسكن وظيفي لتعتبر نفسها فوق الغوغاء، وتنظر إلى المواطن العادي من أعلى. وقد تدفع بها طيبوبتها إلى الرأفة والإحسان إلى هؤلاء المساكين. كم عدد العاطلين في الوطن العربي؟ أليس الناس في بعض البلاد يتدافعون ويتصارعون من أجل الحصول على رغيف. هذا الذي يشغله الرغيف، هل يستطيع الخروج من الإخفاق؟

إنه داخل نفق مظلم ويحمد الله إذا هو أطعم من جوع. والإخفاق ينطلق من السياسة التعليمية. قديما كان طالب الباكلوريا يخيف بتدخلاته ونقاشاته عندما كانت الفلسفة تدرس في الثانويات، وعندما كانت البرامج التعليمية تنتج عقولا. جاءت الإرادة السياسية وقصت أجنحة الفلسفة وأجهزت على المنظومة التعليمية فأصبحت الآن تجد مجازا في الأدب العربي لا يكتب جملة عربية فصيحة دون أخطاء. الإخفاق يبدأ أيضا من اللغة التي هي وسيلة التواصل بامتياز.

***

- والغرب، كيف تقيم «حربائيته»؟

الغرب ليس حربائيا. في الحربائية نفاق والغرب ليس في حاجة إلى منافقة العرب. الغرب يعرف من أين تؤكل الكتف ويمارس السياسة حقا. والسياسة أولا مصالح. وهو معك ما دامت مصلحته معك، ويكفي أن تمس مصلحته ليبرز أنيابه. هذه حقيقة لا مراء فيها. ثم إننا نحن من نحتاج. هل تستطيع أن تتصور الحياة في عالمنا العربي بدون الغرب؟ نحن نستورد كل شيء. نزحف نحو قرن من الاستقلال وكلما ابتعدنا عن بداية الاستقلال ازددنا تبعية له. نلوم الغرب والعيب فينا أولا. هل تستطيع أن تتصور أن من يضع اللجام في فمك يتخلى عن اللجام ويفتح فمه لالتقاطه؟ القوي ليس حربائيا. وليس في حاجة إلى الحربائية لسبب بسيط هو أنه يأخذ منك ما يريد بالطريقة التي يريدها ولا تملك أن تمانع لأنك في حاجة إليه. والحاجة إليه تكمن في أننا لم نزرع الإنسان. والزرع يبدأ من المدرسة ويستمر عبر مسار الدراسة حتى نهايتها.

***

- منذ مدة لم يصدر لك منجز سردي. هل ثمة من مبرر لهذا «الغياب» الأدبي؟

ثمة ظروف خاصة لا داعي لذكرها. إضافة إلى أن عملية النشر راهنا لم تعد كما كانت في السابق. القراءة تفقد هواتها تباعا. وهذا الأمر يجعل الموزع لا يوزع الكتاب الأدبي. تصور أن هناك موزعين يفرضون على الكاتب شيكا يضمن مداخيلهم أولا. إذا كانت المبيعات أقل من مبلغ الشيك كان الله للكاتب، وإذا كانت أكثر ساعتها يمنحونه ما يستحق. فطن الموزع لهذه الفكرة لأنه أكثر من متأكد بأن الكاتب لن يسترد قيمة الشيك المطالب به. حتى أصحاب المكتبات، بل الأكشاك، يرفضون عرض الإبداع من قصة ورواية وشعر... ثمة مجال آخر أكثر تفاؤلا هو المعارض. وهو ما جعل عددا من كتابنا يتوجهون نحو دور النشر العربية ولا يبتغون من ورائها شيئا غير نشر ما يبدعون. وحتى هذه الدور العربية بدأت تطالب الكتاب بالمساهمة في تكاليف النشر وتمنحهم في المقابل عددا من النسخ يوزعونها على أصدقائهم أو يروجونها بمعرفتهم.

المركبات الثقافية والمكتبات الوسائطية لا تقتني كل المؤلفات .. وعلى الأديب أن يطرق الأبواب ويعيد ليجد لإبداعه مكانا في رفوف مكتبات المراكز الثقافية ومكتبات الكليات والثانويات. ومع ذلك فهذه المؤلفات لن تغادر الرفوف أبدا لأن المستهلك أو المتلقي غير موجود ويزداد غيابا يوما عن يوم بفضل عدم التربية على القراءة أولا، وغزو الصورة ثانيا.

وأغلى ما يطلبه الكاتب هو أن يقرأ كتابه. فقط لا غير. وهو لا يسعى بذلك إلى أي غنيمة .. هذه القاعدة، طبعا ثمة استثناءات، وأنا من القاعدة.

ومع ذلك فهي تدور. فقد كتبت نصوصا متفرقة خلال سنة 2012، وهي الآن قيد الطبع بطنجة وعنوانها «زمن عبد الرؤوف». آمل أن ترى النور قريبا.

***

- أنت توازي بين كتابتين سرديتين: القصة منذ «تمزقات»، والرواية منذ «رحال ولد المكي». لكن متى يختفي القاص ليبرز الروائي؟

صحيح. غير أن القاص لا يختفي عند بروز الروائي. لعل القاص يساعد الروائي على إنجاز عمل ما. الرواية بمثابة مجموعة قصصية تكمل الواحدة الأخرى. لذا فظهور القصة القصيرة مستمر ولا ينقطع في عز كتابة الرواية. كل فصل في الرواية هو قصة قصيرة بشكل من الأشكال.

قد أقول إن الروائي يختفي عند بروز القاص. لا وجود للروائي عندما يكون الهدف قصة قصيرة فقط لا غير. الرواية تستنجد بالقصة القصيرة، في حين أن القصة القصيرة خالية من القصور وليست في حاجة إلى الاستنجاد بالرواية.

لست أدري ما إذا كان باقي الكتب يعيشون نفس الحالة. لكني أدركتها في بعض حوارات المقاهي، وسمعت أن القصة تغيث الرواية. لعل من يقتصر على كتابة القصة القصيرة أكثر وعيا بجدواها ممن يكتب الرواية.

والموازاة بين كتابتين سرديتين تسجل احترام إحداهما للأخرى.. لا تريد الواحدة أن تتقدم على الأخرى، وبذلك إذا استطعت سأسعى إلى أن يكون عدد المجموعات القصصية يوازي عدد الروايات.

ولا أخفي إحساسي بالتعب لدرجة تراودني معها الرغبة في أن تكون مجموعة «زمن عبد الرؤوف» آخر مجموعة أصدرها، وهي تتضمن 14 نصا قصصيا قصيرا. هل سيحصل ذلك؟ لست أدري.

***

- انشغلت كثيرا بقضايا الفئات الاجتماعية التي لم تظفر بالحظوة، إذا ما ألمحنا للدور التاريخي الذي لعبته، هل هي إعادة اعتبار ولو أدبيا؟ هنا أستحضر بالضبط «رحال ولد المكي» و«السنوات العجاف».

إعادة الاعتبار عملية واعية. وانشغالي بقضايا الفئات الاجتماعية لا واع. ربما لأني بكل بساطة من هذه الفئات. هل هي إعادة اعتبار قلت؟ الحقيقة لست أدري، إذ لم أفكر في ذلك مطلقا. وحتى إذا افترضنا أنها كذلك، فهل ستعيد كتاباتي أو كتابات غيري الاعتبار لهذه الفئات؟ لا أعتقد أن الأدب يدعي هذا الشرف لسبب بسيط هو أن الأدب مجرد صيحة في واد، ولا يتعدى أثره أصحابه. كم عدد الفئات المسحوقة في مجتمعنا؟ وكم عدد القراء منها ومن الفئات الأخرى؟ بل كم عدد قرائي من الأدباء أنفسهم؟ خلاصة القول أنها هواية نؤدي ثمنها كمن يهوى أي شيء ويصرف عليه من أجرته. المسألة أساسا ذاتية ولا هدف لها سواها.

إعادة الاعتبار تكون بالفعل. من يبغي ذلك عليه الانخراط في منظمة نقابية أو سياسية أو أي تنظيم من تنظيمات المجتمع المدني. فالأدب لا يرد اعتبارا لأحد. قد يمنح المتعة لهواته، وأحيانا الفائدة المعرفية حتى. وكفى.

 

(عن المساء)