تقترح هذه الدراسة تصورا للتخيلية من علم الدلالة التداولي والإحالي مركزة استقصاءاتها على التخييل الأدبي وتعامله مع المكونات الإحالية والتداولية للغة.

مشكلة مقولة التخييلية

عثماني الميلود

نقترح  في هذه الدراسة تصورا  للتخييلية من داخل إطار  علم الدلالة التداولي والإحالي ، مركزه التخييل الأدبي. وسيكون هذا المقترح بمثابة محاولة لتجاوز النقص البين في  نظرية العوالم الممكنة  لتداولية  المعطيات التخييليَّةِ وشروط أخرى موازية مثل المكونات الإحالية.

يجدر بنا ، مبدئيا، أن نوضح المقصود  بالمفهومين البارزين   في مقدمة هذه الدراسة  ،نقصد: المكون الإحالي، والمكون التداولي،وسنختم  هذه الدراسة  بإبراز  الدور الموكول لهذين المكونين في تحديد طبيعة مقولة التخييلية.

يعتبر  كل من آن بانفيلد (1982) وماري غالبرايث(1995) أن السرد التخييلي هو سرد لا تواصلي(noncommunicative)، بل إنه لا يعبر  عن شيء(nonexpressive) كما يوضح ذلك بانفيلد (1982) الذي يميزه على أساس حضور أو غياب مختلف السمات التركيبية والمعجمية (أعني العناصر التعبيرية مثل التعجب، والتكرار، والاستفهام، والضمائر "الشخصية"، وأسماء الإشارة، الزمن، والتعابير المعجمية الخاصة بالخطاب (التواصلي والتعبيري). كما أنَّ السارد والشخوص ، في هذا السرد التخييلي، لا يستندان إلى أي فعل  قصدي ذهني في صياغة الأحكام. بإيجاز فإن السرد التخييلي  يكتفي ، فقط ،  بخلق معرفة بحدث ما، واقعي أو وهمي ، أو عالم متخيل(كورودا132:1976)(1). وكما تخلص إلى ذلك غالبرايث، فإن المقصود بالتواصل ، عند كورودا وبانفيلد ، شيء أشبه  بشبكة التواصل الجاكوبسونية أو هو صدى لنموذجه:
( مرسل ? رسالة< مرسل إليه)
وعليه فإن كورودا وبانفيلد يوضحان أن السرد التخييلي لا يتضمن مرسلا ، وأن اللغة  تنبني على أساس النموذج التالي:

موضوع الوعي    <  تمثيل الوعي (غالبرايث،30:1995)
أو
السرد الموضوعي  <  تمثيل قصة العالم/عالم القصة (ن.م.س )

ودون اعتبار لهذه السمات الخاصة، فإنه بإمكان الواحد منا القول أن هذه المفهمة تجعلنا  نقول أن كل اللغات وكل السرود تواصلية. ومع ذلك فإنَّ  هذين الباحثين ( بجانب باحثين آخرين تقدموا  برأي مشابه،  ككيتي هامبورغر (1957) وإميل بنفنست (1966) ) لا ينكران  "الخاصية التداولية" للكاتب والقارئ  ( غالبرايث،31:1995). وعليه ، فإن السرد  التخييلي  المتحقق من خلال فعل  القراءة هو ، وفق معنى آخر، فعل تواصلي. إنه فعل  يُعْلِي ، فقط ، من قيمة السمات الخاصة  بالسرد، وهو ما يجعله  مختلفا  عن الاستخدام  التواصلي العادي للغة.

هذا من جهة الذين لا يرون  في الفعل التخييلي أي فعل تواصلي. أما من جهة الذين يرون  في التخييلية  مقولة تداولية تواصلية معقدة فإن وصفهم يستدعي  فحصا للسياق  خارج لساني الذي يلعب  دورا طليعيا  في تحديد طبيعة وضعه الاعتباري.ومثل هذه الآراء  تم التعبير عنها  في مجلة "Poetics Today" ، أومن خلال  المساهمات  الكثيرة  لنظرية النص وتحليل الخطاب، مثل مساهمات  فان دايك(1972،1975)، وشميدت، س(1982،1976)، بالإضافة إلى   مساهمات نظرية أفعال الكلام (سورل 1979، وماري لويز برات(1977) وساندي بيتري (1990)). ورغم الاختلافات الحاصلة  بين هؤلاء  الباحثين فإنهم يجمعون  على أن طبيعة  التخييلية  لا تحددها  الخصائص.

النصية أو المرجعية ، بل إن الذي  يحددها عوامل  تداولية  مثل  المرسل ، المتلقي أو نمط  الفعل  التواصلي. ويعتبر  شميدت(90:1982) أن الإلحاح على الخصائص  النصية  والعوامل الدلالية  في تقدير  التخييلية  يقود  إلى وهم أنطلوجي (Ontological Fallacy ) لأن للنص وضعا  تخييليا. وأوضح  أن الأمر يتعلق  باجراءات  موضوعها الإنسان تشتغل على سمات بنائية، وليس على هذه السمات البنائية وحدها.

ويقدم شميدت الحجج التالية  لكون السرود  التخييلية  لا تخلقها  سمات بنائية خاصة ، مما ينجم عن ذلك  أن التخييل هو عالم مستقل. ومن هذه الحجج:

- ثمة  نصوص تخييلية أدبية ليست ، في ألأصل، تخييلا، وعلى العكس من ذلك ، ثمة نصوص  لم يعد  ينظر  إليها على أنها نصوص تخييلية ، الشيء الذي  يعني أن التركيز على  السمات (النصية)  الخاصة ليست أولوية بالنسبة للمحلل.

-  كل نص  يخلق عالمه ،وعليه فإن الوظيفة التكوينية ( الوظيفة الشعرية) ليست كافية  لتفسير طبيعة التخييل( رايان 2:1991). والحاصل أن كل نص  يخلق عالمه ، وأن كل عالم  هو نص  مستقل (تخييل)(2). ولهذه التخييلية حسب كوري (20،19،20:1990) وجهان:

وجها التخييلية  

                 المقصدي                              الصوغ  التخييلي

ويتمثل في انتاج نمط خاص من الأفعال التواصلية حيث لا تكون العبارات صادقة أو كاذبة بمعيار العالم الحالي/الواقعي.                  ويتمثل في كون التخييل هو ثمرة لمقصدية المؤلف في اتخاذ موقف من القصة: يصفه كوري(ن.م.س) بـ :
Make-believe،أي الدفع إلى الاعتقاد بـ...،أي نية المؤلف في جعل القارئ يعتقد بكون القصة  صادقة ليس في العالم الحالي لكن في عالم تخييلي.



المقصدية التخييلية

 وبهذا يكون الفعل التخييلي فعلا تواصليا.    

وهكذا يبدو أن أول  شرط للتخييلية هو شرط تداولي: مقصديات المؤلف ، لكنَّ  هذا الشرط غير كافٍ مادام أنه  لا يكشف  إلاَّ عن تقدير سطحي  لـ"فعل الاعتقاد" الذي يدفع  المؤلفُ القارئَ إلى اتخاذه  تجاه القصَّة.

ومن ثمَّةَ لا بدَّ من شرط ثانِ للتخييلية:الشرط  الدلالي أو الإحالي. ويتموقع هذا الشرط  في إطار العلاقة الرابطة  بين ما يقال وما يوجد. وهو الشرط الذي يبين أن الأحداث  الموصوفة ليست صادقة  في العالم الحالي ، بل  صادقة في عوالم أخرى(تخييلية)( ريان1991)(3) . ففي العوالم  الأخرى ،  فإن الخطاب التخييلي هو خطاب مقصدي ، بالضرورة، وليس لعباراته قيمة حقيقية، في العالم الحالي ؛غير أنها ، في العالم التخييلي ، ذات قيمة حقيقية دون جدال.

هناك نقطة  قد أشرنا إليها ، يمكن ،الآن، أن نطرحها  على شكل سؤال: ممَّ يستمد التخييل تخييليته ؟ هل هو موقف يعبر عنه القراء ويصوغونه أم أن التخييلية  هي صفة قائمة في التخييل ذاته ؟

من أجل الإجابة عن هذه التساؤلات/الاشكالات نستعين بالتمييز الذي  يجريه كورّي (39:1990) ورايان(77:1991) من خلال الأمثلة الآتية:

المثال الأول 

المثال الثاني 

 المثال  الثالث

عاش مؤلف ما حياة مفعمة بالمغامرات،مليئة بالأحداث المدهشة والمذهلة. قام بتحويلها ،وبشكل أمين،إلى عمل أدبي قاصدا ،من وراء ذلك،أن ينظر إليه القراء على أنه تخييل،قاصدا ،كذلك،أن يعترفوا له بهذه المقصدية. والحصيلة ،مع ذلك، لم تكن عملا تخييليا ما دام أن المؤلف يصف أحداثا  وقعت فعلا؛وعلاوة على ذلك،فإنه يعلم ذلك غير أنه يحاول  تضليل القراء بالغاء الطبيعة الواقعية غير التخيلية للأحداث المقدمة.  أما المثال  الثاني ، فهومثال مضلل،لكن بمعنى مختلف.اكتشف  مؤلف ما نصا ما اعتبره عملا تخييليا مجهولا.انتحل القصة وقدمها على أنها تخييل من عمله. فهولا يدري أن النص الذي عثر عليه ليس تخييلا ،بل  رواية متسلسلة لأمور لازالت تحدث لحد الساعة. والحصيلة، في مثل هذه الحال،أن لا تخييل ،على الرغم من أن الانتحال  تم بموجب نزعة إلى التخييل،وأنه لا يعلم أن ذلك النص قائم على وقائع  يعلمها المؤلف الأصلي.ومع ذلك،فلو كان النص تخييليا،فإنَّ  النتيجة  ستكون ،حتما،كما يقول كورّي، عملا تخييليا.  وهذا المثال الثالث هو مثال إشكاليٌّ جدا،لأنه لا يقوم على أساسٍ من التضليل والمخاتلة.هو مثال يقدمه عمل أدبي ذو أساسٌ نفسي- تحليليٍّ:عاش مؤلف معين تجارب مفجعة كبتها ،ثم ابتكر،كما يعتقد،قصة يصف فيها هذه التجارب بالضبط. في هذه الحالة،فإن اللاَّوعي هو الذي يمده بالأحداث وثمة نزوع تخييلي،لكن ،و استنادا إلى كورّي، فإن  التخييل غير حاصلٍ ولن يحصل في هذه الحالة. 

ومثل هذه الأمثلة ، وغيرها، ناقشها كورّي، ومنها يتضح انه ، في جميع الحالات، فإنَّ ما اعتبر تخييلاً هو  ما توفر فيه شرط القصد التخييلي بشكل جليٍّ. ورغم ذلك ، فإن الأمثلة التي تكون فيها القصة حقيقية/ صادقة ، هي أمثلة  وثيقة الصلة بالموضوع ، مادام أنها تؤشر على الشرط الإحالي  المطلوب. زد على ذلك ، أنه في حالة الانتاج الأدبي الناجم عن نزعة  تخييلية ، فإن النص التخييلي يجب أن يكون كثيفا وعميقا ، أوبتعبير آخر، فإنه لا يجب أن يكون حقيقيا  وفق مفاهيم العالم الحالي. لكن هل "التخييل الحقيقي" ممكن في جميع الحالات؟  يعطي كورّي  الجواب التالي: التخييل الحقيقي ممكن  غير أن العمل الأدبي ، في هذه الحالة، سيكون ، في الغالب الأعم، حقيقيا بشكل عرضيٍّ(4).

وينتج عما سبق أن أي اعتبار  للتخييلية ، بالإضافة إلى الشرط المقصدي،لا بدَّ أن يتطلب شرطا متعاليا(Extra condition) يتم تفعيله  في بعض الحالات. وعلى ضوء هذه الحالات خلص كورّي (46:1990)إلى أن العمل الأدبي يكون تخييليا إذا ما كان حصيلة نزعة تخييلية، وفقط. أما إذا كان حقيقيا فإنه  سيكون ، في هذه الحال، وفي الغالب الأعم، حقيقيا بشكل عرضي.

وتقوم هذه الخلاصة  على سمة  مشتركة بين الأمثلة الثلاث السابقة ؛ ذلك أن القصص  الحاصلة تحت الظروف  هي قصص لا تخييلية  لأنها تتعلق  بالعالم الحالي. وهي  ليست عرضية لأنه لو كانت  الوقائع مختلفة فإن القصص  ينبغي أن تكون ،أيضا، مختلفة. زد على ذلك، فإن هذه المحكيات تكشف عن"تبعية لا وقائعية في الأفعال": (Counterfactual  dépendance on facts ) (ن.م.س:47). 

وعليه ، فإن التخييلية تنبثق  من طبيعة الفعل التواصلي ومن نمط  العلاقة الموجودة بين القصة والعالم الحالي. وإذا كانت  الخاصية التواصلية  تشمل  تلك  المظاهر التي  بواسطتها  يتم انتاج  النص التخييلي  وفق مقصديات خاصة،أسميناها بـ "المقصديات التخييلية " ، فإن الخاصية الإحالية تتعلق بالوضع المرجعي  للوضعيات  الموصوفة التي لا تكون حقيقية في العالم الحالي،أو لن تكون ، في الغالب الأعم، أكثر من وضعيات حقيقية بشكل عرضي. إن المقصدية  التخييلية ضرورية  غير أنها ليست كافية لتقدير التخييلية التي  تتطلب ،زيادة على ذلك، اكتمال الشرط ألإحالي.  

أستاذ باحث - المغرب 


1 - We might(...)say that the objecti5e i.e,poetic) function of the sentence  of the story,with the help of the faculty  of imagination ,which puts  them in an imginary communicati5e setting,creates The fictitious reality of the story . 
2
 - The fictionality of literary works depends on the fictionality of the statements they contain
3
- « Fictionality is a « historically 5ariable property » as   holds,in5oking as e5idence  the fictionalization of myths in Ancient Greece thought the gradual extinction of the belief in mythology  ,in gods » Thomas Pavel(1986 :80).
4
- وقد بلور كورّي  مفهوم "الحقيقة العرضية" انطلاقا  من مثال لمؤلف  كتب قصة تاريخية ،أجزاء منها  تستند إلى وقائع حقيقية: تصف القصة أحداثا تاريخية معروفة؛لكن  ثمة أجزاءا  ملئت بها الفجوات والثغرات هي حصيلة أحداث مبتكرة أو يعتقد أنها مبتكرة .في الحالات العادية، فإن هذه الأحداث  ستعتبر غير حقيقية.والآن ، قد يحصل أن أحداثا موصوفة تطابق ،فعلا، وقائع حقيقية،لكن  هذه الحصيلة هي نتيجة عرضية.وعليه فإن القصة هي قصة حقيقية بشكل عرضيٍّ.
-Banfield,Ann (1982) :Unspeakable Sentences.Routledge & Kegan Paul.London.
-Currie,Gregory (1990) :The nature of fiction.Cambridge:Cambridge Uni5.Press.
-Dijk,T.A.5an (1972) :Some aspects of text grammars The Hague,Paris :Mouton.
-Eaton,Tre5or (1996) : « Literary Semantics as a Science   » in Journal of Literary  Semantics,xx5/1,pp7-65.   
-Kuroda,S.-Y (1976) : « reflections on the foundation of  Narrati5e Theory inPragmatics of language & literature,eds byDijk,T.A,5an.N.H,pp 107-140.
-Petry,Sandy(1990): Speech Acts & Literary Theory,N-Y and London,Routeledge .
-Pratt ,Mary Louise (1977) :Towards a speech Act Theory of literature discourse            Bloomington Indiana Uni5.Press. 
 --Schmidt,S (1976): Towards  a Pragmatics  Interpreta- tion of fictionality »in Dijk,T.A (1976) pp.161-177.
-Searle,J.R (1979) :Expression &Meaning.CambriUni5.Press(pp.58-75).