تطرح مختارات هذا الشهر في (علامات) سؤالها المهم ذاك علينا من جديد! لذلك تدعو (الكلمة) قراءها من الكتاب في مختلف أرجاء الوطن العربي والمنافي إلى الجواب على هذا السؤال من جديد بعد أن تغير السياق وتبدل الواقع برمته، وأن يبعثوا لها بأجوبتهم على: لماذا ولمن نكتب، مع نبذة من سطور قليلة عنهم وعن انتاجهم، حيث تعتزم (الكلمة) تخصيص ملف كبير في عدد قادم لتلك الإجابات.

ستفتاءات أدبية: لماذا ولمن تكتب؟

أثير محمد على

تقديم

أجرت مجلة "الدهور" عام 1934 استفتاء دعت فيه المثقف العربي للإجابة على سؤال "لماذا ولمن تكتب (أو تنظم)؟ تبدو مجلة "الدهور" لمحررها ابراهيم حداد والصادرة في بيروت، بعد إغلاق مجلة "العصور" (1927 – 1931) لاسماعيل مظهر في القاهرة، من المجلات العربية التي تابعت نهج التنوير العقلاني الذي بدأته مجلة "المقتطف" لصاحبيها يعقوب صروف وفارس نمر في القرن التاسع عشر. وفي سنة 1954، أي بعد مضي عشرين عاماً على استفتاء الدهور"، وجهت مجلة "الآداب" نفس السؤال وإن كانت قد قدمت فيه أداة الاستفهام (لمن) على أداة (لماذا). بمعنى أنها حاولت أن تستعلم عن المتلقي قبل بحثها في فلسفة انتاج الفعل الثقافي نفسه..

شارك في استفتاء "الدهور" كل من اسماعيل مظهر، حبيب الزحلاوي، أحمد صافي النجفي، زكي مبارك، ابراهيم المصري، معروف الرصافي، ميشيل عفلق، سامي الكيالي، خليل مطران، ابراهيم ابراهيم يوسف، محمود عزت موسى، عمر أبو ريشة، كامل الكيالي، توفيق عواد، بشارة الخوري، محمود تيمور، الشاعر القروي (رشيد الخوري)، مصطفى السعيد، محمد الهمشري، ايليا أبو ماضي، عصام الدين حفني، مختار الوكيل، ومعاوية محمد نور.

أما أجوبة مجلة "الآداب" فقد سطرت بأقلام علي أدهم، محي الدين اسماعيل، سعيد تقي الدين، نهاد التكريتي، عبد الحميد جودة السحار، شاكر حسن سعيد، ابراهيم العرّيض، روز غريب، يوسف غصوب، وشاكر مصطفى.
الاستفتاء الذي تعيد نشره مجلة "الكلمة" في عددها لهذا الشهر لم يكن الأول من نوعه ولا الأخير بالنسبة لكل من مجلتي "الدهور" أو"الآداب"، فقد أُجريت عدة استقصاءات لرأي القراء والمثقفين في مسائل اللحظة الراهنة. كما أن المجلتان لم تكونا الوحيدتان في خوض هذه التجربة، وفي هذا السياق نذكر استفتاءات أجرتها "المجلة الجديدة" القاهرية و"الحديث" الحلبية و"الطليعة" البيروتية من بين مجلات أخر..

منذ فترة مبكرة في تاريخ الحداثة العربية بادرت دوريات كـ "الجنان" لبطرس وسليم البستاني و"الهلال" لجرجي زيدان و"الجامعة" لفرح أنطون و"الضياء" لابراهيم اليازجي في القرن التاسع عشر وأفردت أبواب وصفحات للخوض مع قرائها من "أبناء الوطن" في صياغة السؤال والإجابة عن مفاهيم الانتقاد" و"لغة الجرائد" والمصطلح اللغوي و"الفكاهات الجامعة القصصية" و"فوائد الروايات ومنافعها" و"عظة المراسح التعليمية"، إلخ.. جميع هذه النصوص التنويرية تقاسمت صراعها مع "التوعر" و"الخشونة" وأكدت على تواشج مسار "التحضر والعمران" و"تمدن هيئة الاجتماع" و"تطهير الأخلاق" و"إصلاح العادات المخلة" بـ "استنهاض الهمم" و"فضيلة حب الوطن" وطلب العلم وتفضيل "المصلحة العمومية" و"الأدب التهذيبي"، إلخ..

لم تقتصر الكتابات النهضوية المبكرة على البحث في الكيف والتأسيس لنظرية أدبية إنما طالت معنى الفعل الثقافي نفسه، ولماذا تدرج أجناس أدبية وفنية جديدة في شبكة الثقافة العربية، ولمن يتوجه المثقف في عملية إنتاج نصه وفنه.. لعل هاجس التساؤل والسجال مع السؤال والتنقيب التحليلي فيه يعكس ذهنية تنويرية تأسست على الشك في جبرية المتواضع الاجتماعي والأدبي والفني المكرس بلغة اليقين الدهرية..

لا يفوت هنا التذكير بأن امتداد الغرب الاستعماري نحو الشرق وانفتاح الشرق على الغرب في القرن التاسع عشر تمخض عن سؤالٍ ومحاولةٍ للتنقيب عن جواب، وهنا يحضر للذهن سؤال النهضة الأول بامتياز ألا وهو "لماذا تقدموا وتأخرنا نحن؟" في فعل التساؤل وتكراره أس حراك الثقافة العربية الحديثة، ومنشأ صراعات وتناقضات هذا الحراك. وقد تنوعت الإجابات وردود الأفعال والحلول من الاتجاهات الغيبية مروراً بالتلفيقية والتوفيقية ووصولاً إلى العقلانية..

بالانتقال إلى الثلاثينات من القرن العشرين مع استفتاء "الدهور" نجد أن السؤال والبحث عن جواب لازال في خضم خصوبته. وصلت ردود المثقفين إلى مجلة "الدهور" من مختلف البلاد العربية في أوج مرحلة الكفاح التحرري ضد الاستعمار بأشكاله المتعددة من انتدابٍ وحماية ووصاية. وكتبت الأجوبة في مرحلة تقسيم الجغرافيا والتاريخ العربي ورسم خريطة جيوسياسية عربية مفارقة. لعل شخصية المثقف ومتلقي الثقافة تأكدت حينها في مجابهة الاستعمار وفي التشديد على الخصوصية الثقافية العروبية. بشكل من الأشكال يبدو استقصاء "الدهور" كمحاولة لإعادة فهم الواقع الثقافي بمتغيراته الجديدة، كما هو وكما يجب أن يكون. إجابات المثقفين العرب امتدت من ترجيح متافيزيقيا الإبداع والغائية الذاتية لعملية الخلق الأدبي والفني إلى الالتزام وتبني قضايا الوطن والإيمان بإمكانية إحداث تغير اجتماعي فيه.

و يمكن القول أن هذه الردود تقدم المرآة الحقيقية لأخلاق وقوة تأثير المثقف العربي في المتلقي الذي كان يبثه رسائله وقوله الفكري والأدبي والفني في تلك الفترة. من جهة أخرى توحي مبادرة المثقفين والمفكرين بإرسال قناعاتهم وتعاملهم مع أداتي الاستفهام (لمن) و(لماذا) بجدوى السؤال والجواب على حد سواء، وإلا ما كانت قد أُرسلت للنشر لتستقبل من قبل قراء المجلة، رغم التعالي على التاريخ ومفهوم "الفن للفن" والفيض الصوفي المنسحب من العالم المادي لدى البعض منهم.

بعد نكبة العرب وإعلان "دولة اسرائيل" التوسعية وحتى منتصف الخمسينات تبدو القدرة على التساؤل ممكنة بل وتتخذ طابعاً ملحاً مع مجلة "الآداب". في تلك المرحلة كانت الحكومات الوطنية قد بدأت ببناء الدولة ومؤسساتها الرسمية الثقافية والتعليمية والإعلاء من شعاراتها الحزبية ورموزها السامية.  كأن الجدل الذي يستبطنه سؤال "الآداب" وأجوبة المثقفين يوحي بمثقف عربي حر مستقل بفعله وممارساته عن السلطة واحتكار مؤسساتها المهيمنة وذائقة مصالحها النفعية..

حين إجراء الاستفتاء في "الدهور" و"الآداب" تظهر الفئة المثقفة العربية ـ وهي تمتلك بعداً ومشروعاً منسجماً مع تطلعاتها الأدبية والفنية والايديولوجية ـ فئة واضحة المعالم تمارس حقها في الفعل والتعبير وتكافح في سبيل هذا الحق. وما هو ملفت للانتباه في تلك السنوات بداية انقلاب الحكومات الوطنية على بعضها البعض وجميعها على المثقف العربي الحر. ميعت السلطة السياسية وممثليها في حقول الثقافة معنى الجدل الثقافي بممارساتها القمعية، وصادرت حرية التعبير. ودفعت فئة المثقفين العرب إلى الانهيار القسري بما مورس عليها من شراسة التهميش والنفي ومصادرة الحقوق والحريات. وكأن ما لم يقدر عليه الاستعمار قدرت عليه أحزاب الوطنيات العسكرية. فتشظى المثقف المفكر والمبدع كما تشظى المواطن في مجتمع الاستبداد العربي. لعل محاولة إحياء الاستقصاء الذي أجرته كل من مجلتي الدهور" و"الآداب" من جديد تبدو وكأنها تجاوزت زمنها لدى البعض رغم امكانية تجدد السؤال مع تجدد السياق التاريخي.في كل الأحوال لا بد من الأخذ بعين الاعتبار ضرورة تحديد الاستفهام التالي: (لمن سيوجه السؤال "لماذا تكتب ولمن تكتب؟"..؟) كي ينزاح الاستقصاء عن مثقف السلطة المعترف به رسمياً، فهو المستخدم الأول في عملية الغثيان والاغتراب والاعتقال العرفي والاغتيال الذي تعرضت له فئة المثقفين العرب والثقافة العربية في عهدها الوطني.