رحيل عاشق من إفريقيا

بيت الشعر بالمغرب ينعي الفيتوري

هَا يَدُ المَنون تنتشل اسماً آخر كبيراً في خريطة الشعر العربي المعاصر، الشاعر محمد مفتاح الفيتوري (1936-2015) الذي قُيّض له أن يقيم في بلدنا، في الطّور الأخير من حياته، أزيد من ثلاثين إقامتَه الشعريةَ الصّميمةَ ويَنذر جثمانَه لثراها المضياف؛ وذلك بعد أوديسا الوجود التي عاشها بامتلاء كيانيّ وروحيّ، كما يليق بأيّما شاعر عالي الكعب من طرازه أن يعيشها، مقتلَعاً من سودانه المفقود.. مارّاً بمصره التي رعت قريحته الشعرية الباكرة، الفوّارة.. وما تلا ذلك من محطّاته اللّيبية واللّبنانية والإيطالية.. انتهاءً إلى المغرب، اكتشافِه المتأخّر، لكن المذهل، والذي تعلّق به تلقاءَ جوارحه العروبيّة الأصيلة، بزاخر هواه الإفريقي المكين، وأيضا كما صوفيّ أنيق من معدنه.

استراح المحارب الذي حمل عبءَ قارّة برمّتها ذائدًا عن ذاكرتها، تاريخها، و متغنّياً بأشجانها، أوجاعها.. مندّداً بمخازي العبودية الاستعمار و الأبّارتيد، و مفترعاً، بالكلمة والمجاز، سبل استرداد حريّتها، جدارتها، هويّتها المخصوصة لكن الموصولة بجدارة الإنسان و كرامته في مطلقيّتهما. حمل عبئها عبر أعمال شعرية جرّيئة وفارقة، لغة وتخييلا ورؤيا، تنصبّ كلّيةً في الهمّ الإفريقي ومنزاحةً، هكذا، عن المناخ التّعبيري السّائد، ساعتَها، في الشّعرية العربية المعاصرة الذي كانت تمسك بتلابيبه رؤيا تمّوزيةٌ مهمومة بمآسي العالم العربي و تطلّعاته ممّا تعكسه مُتونُ مجايليه و نصوصُهم كبدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياتي و شاذل طاقة وأدونيس و يوسف الخال وخليل حاوي و جبرا إبراهيم جبرا و صلاح عبد الصبور..؛ أعمال من قبيل "أغاني إفريقيا"، "عاشق من إفريقيا"، "اذكريني يا إفريقيا"، "أحزان إفريقيا أو سولارا" (مسرحية شعرية)، انتزعت للموضوع الإفريقي مكانه المغيّب في هذه الشّعرية وارتفعت بهواجس عنترة بن شدّاد، سلفه الرمزي ذاك، المبثوثة في قصائده إلى صعيد شاغل مركزي أو، بالحريّ، إلى بؤرة رؤياوية تستجلى فيها محنة شريحة إثنية عريضة وتقوم مقام سند إبداعي دالّ لها وهي تغالب مكبّلات قهر تاريخي وإيديولوجي وثقافي مرير ومركّب وذلك  بجريرة سواد البشرة والبدائية والدّونية.. تماما كما تستعيد ذكرى تلك الجدّة السوداء السّحيقة التي انسلّ الشاعر من رحِمها الإفريقية وقايض، بالتالي، حادثةَ استرقاقها، ذاتَ تاريخ عبودي غاشم، بولاء لامشروط لثورة ملايين من أحفادها ضدّ بياض استعماري، متعجرف، غائص في تمركزه الحضاري المدمّر.

  مات الشاعر الذي رفض،  بإصرار، أن تُدرج تجربتُه الشعرية الإفريقية ضمن الأفق الذي ضمّ شعراءَ الزنجية الكبار، كالسينغالي ليوبولد سيدار سنغور والمارتينيكي إيمي سيزير (مبتكر كلمة الزنجية) والغوياني ليون غونتراس داماس..؛ الذين كتبوا باللغة الفرنسية.. تواضعاً أو أنَفةً، لا فرق، لكن من غير أن يُفلح، و كيفَ له ذلك، في نفي دوره الرّائد والنّوعي في استزراع الشّاغل الإفريقي في مُنتسج الشّعرية العربية المعاصرة و جعله أحد مفاصلها التعبيرية اللاّفتة.

الرّحمة لمحمد مفتاح الفيتوري.. لسادن إفريقيا و ضميرها الشّعري الحيّ.