تقدم الباحثة المصرية في هذه الدراسة الموسعة لكتاب «مفهوم الشعر عند الشعراء العباسيين» تحليلا دقيقا للقضايا التي تناولها، وتطرح مفهوم الوعي بوصفه الأساس الحقيقي الذي قامت عليه الدراسة، وأن الوعي بالوعي كان رائدها إلى فهم هذه القضية بصورة ردت الاعتبار إلى النقد الأدبي القديم، وربطت مباحثه بثقافة حداثية.

فلسفة النقد والوعي عند الشعراء العباسيين

رؤية نقدية في كتاب مفهوم الشعر للدكتور أحمد يوسف علي

ثناء أنس الوجود

هو جوهر ما كل غائصة له بالفكر تعلم ما مكان العلة

ويصح معناه ويسلم لفظه ونظامه وهناك باقي العلة

مهيار الدمشقي

 

(1)

تدور هذه الدراسة على النحو الذي يطالع القارئ المدقق منذ الصفحات الأولى لها، على مجموعة من الركائز أولها: أنها دراسة تدور حول فلسفة النقد الأدبي القديم، وليس مجرد طرح لأفكار النقاد. والركيزة الثانية: أن هذه الفلسفة مستقاة من أفواه الشعراء في العصر العباسي، صحيح أن الدراسة لا تنهض على كل الشعراء، وإنما على اختيار شعراء بأعينهم يمثلون تيارات واتجاهات مختلفة ذاع صيتها، وانتشر الجدل حولها منذ القديم، كما أنها دراسة تعتمد بحرفية عالية على استنطاق المعجم الشعري للشعراء ومحاولة رصد تطورات هذا المعجم التي تحتوي أحكاما ناقدة، ثم تأخذ في قراءتها قراءة تأويلية.

معنى هذا كله أننا بإزاء دراسة في نقد نقد الشعراء العباسيين المختارين، تنهض على التفلسف أكثر من الرصد والسرد المعتاد. وهي وجهة ربما لم يلتفت إليها النقاد المحدثون حين تناولوا في مباحث نقد النقد زاوية رؤية تتجه نحو نقد النقاد القدماء واتجاهاتهم، دون وضع الآراء النقدية التي جاءت في شعر زمرة مختارة من الشعراء العباسيين لا تخضع لنقد وتمحيص جاد..

وتأتي هذه الدراسة لكي تضع مفهوما أساسيا لها من آراء الشعراء العباسيين، وتأخذ في تصنيفها وفحصها بدقة وعمق. واللافت للنظر هنا عدة أشياء في زاوية الرؤية التي أطلت الدراسة منها، وأولها مثلا أن مفهوم الشعر وليس نظرية الشعر هو الذي سيكون مطروحا منذ مقدمة الدراسة وحتى آخر صفحاتها. وثانيها أنها دراسة تستند إلى وعي الشعراء النقاد استنادا رئيسيا بحيث راحت تتبع هذا الوعي عند الجميع، ولا توجد فكرة أخرى أكثر سيطرة من فكرة الوعي هنا، وهو أمر سوف نتتبعه بدورنا لنثبت مصداقية ما نقول.

والأمر الثالث أن الدراسة تتدرج في عرض قضاياها لكي نشعر في النهاية أننا إزاء لوحة تقام من الفسيفاء الدقيقة المدهشة، حتى تتسلم في آخر الكتاب اللوحة مكتملة جاذبة للنظر والتأمل، ولكي تقوم الدراسة بهذا فإنها كانت توظف أسلوب الاسترسال في رصف القضايا والمفاهيم الجزئية ومناقشتها، عبر نماذج غزيرة نادرة من الشعر لهؤلاء الشعراء المختارين، وهي نماذج لم يلتفت في الغالب إليها أحد على هذا النحو المتميز. دعونا الآن نتوقف أمام فصول الكتاب بالتأني المطلوب، نقارن بينها لكي نخرج بالمفهوم في أوضح صورة

(2)

أما الكتاب فعنوانه "مفهوم الشعر عند الشعراء العباسيين من بشار إلى أبي العلاء " ويقع في 520 صفحة، نشرته مكتبة الأنجلو عام 2004م ثم نشرته دار الوفاء بالإسكندرية عام 2011م وأما الشعراء العباسيون النقاد المختارون فهم يبدأون ببشار بن برد وينتهون بأبي العلاء المعري وبينهما أبو نواس وأبو العتاهية ومسلم وأبو تمام والبحتري وابن الرومي ومهيار الدمشقي والشريف الرضي وغيرهم من الشعراء، وتقصد الدراسة كما أسلفنا إلى تتبع الآراء ذات الطبيعة النقدية التي أثارها هؤلاء الشعراء عبر أشعارهم المطبوعة وغير المطبوعة والمجموعة في ديوان محدد، أو تلك المبعثرة في مظان الكتب والمؤلفات المختلفة، فضلا عما دار من مناقشات بينهم وبين نقاد عصرهم، وما روي عنهم من أخبار سجلتها الكتب المختلفة الاتجاهات كالكتب التاريخية والنقدية وكتب الأخبار، والمعاني، والشروح.

وتختلف الآراء النقدية من شاعر لشاعر، ومن نظرة شعرية تولد اهتماما بزاوية ما إلى نظرة أخرى. فمن وظيفة الشعر عند بشار، إلى تلازم السحر مع الشعر عند أبي نواس، طبيعة ووظيفة، إلى تلازم الطبيعة والوظيفة والأداة عند أبي تمام، وقريب منه ابن الرومي. وقد وردت هذه الآراء والمفاهيم في دواوين الشعراء وفي كتبهم النثرية كذلك. فأبو العلاء كان شاعرا كبيرا، ولكنه كان ناثرا ومفكرا كبيرا كذلك، ويسري نفس الحكم على أبي العتاهية وقد لاحظت الدراسة تفوق هذه المادة النقدية في دواوين وكتب هؤلاء الشعراء، دون أن يجمعها إطار فكري عام، بل إن بعضها كان يناقض بعضه أحيانا كثيرة، بسبب تعدد قضايا الإبداع ومعاناته فضلا عن عدم قصدهم إلى تقديم نظرية تجريدية في الشعر، بقدر ما يرغبون في تصوير مفهومهم ودوره ووظيفته من خلال تجاربهم الفردية المتعددة التي تجلت في قصائدهم الشعرية بوصفها مادة تدخل في إطار الفكر الجمالي النقدي، وتوظف الدراسة اللغة بطريقة خاصة تسند أو تساند الفكر الجمالي في الشعر بشكل تركيبي خاص، أداته الواضحة المقارنة والتقويم في العرض والتحليل، بين وجهات نظر هؤلاء الشعراء

وتنهض الدراسة على ثلاثة أركان بحثية كبرى، أولها وظيفة الشعر الفردية والجماعية، ثم طبيعة الشعر بين الشعر والواقع والشعر والعلم، وأخيرا تأتي الأداة وتعني الدراسة بها أدوات الشاعر من اللغة عبر المعجم الشعري، والإيقاع، والصورة، والبنية، وقد ألحق بها ملحق لأبيات الشعر الموظفة في الدراسة، ومرويات الشعراء وأخبارهم.

(3)

ويرتبط الفن ارتباطا حميما بمفهومين، أولهما الواقع الاجتماعي والثاني الوعي، ونظرا لأن كلا المفهومين متغير ومتبدل بتغير الزمان والمكان، فإن أشكال الفن تتعدد وتتبدل بدورها عبر الأزمنة والبيئات التي يتخلق فيها هذا الفن، والشعر لدى العرب القدماء كان أحد أنواع الفن الأصيلة، بل إنه ديوان العرب وسجل حياتهم، فالشاعر كان يقيد على العرب مآثرهم ويفخم شأنهم ويهول على عدوهم كما يقول أبوعمرو بن العلاء ولكن عندما تطور المجتمع العربي في ظل الحضارة العربية، حيث تصارع الواقع مع التاريخ وترك هذا الصراع أثره على وعي الشعراء، فحدث أمران بالغا الأهمية للشعراء أولهما الإحساس بالاغتراب والانفصال عن هذا الزمن، والثاني تمزق بين رغبتهم في الثراء والثروة، ورفضهم الداخلي العميق لمحاولة شرائهم واحتوائهم بالمال.

وقد تجلى البعد الأول الذي انفصل فيه الشاعر عن المجتمع مع إحساس حاد بالغربة في إسقاط مشاعر سلبية على العصر والزمن الذي وصف بأنه زمن اللئام كما يراه بشار، وزمن القرود كما نعته أبو نواس، والدهر الحمار كما يراه أبو تمام، والزمن المغفل والوضيع والأعجم والجاهل والهرم وأخيرا الزمن السكران. هذا في الوقت الذي وقف فيه شاعر مثل البحتري، وكأنه لا يعي ما حدث ويكتفي بالسباب الذي وجهه نحو الشعر وصنعته، وليس وعيا بالتغير الذي لمسه الشعراء الآخرون.

أما من الناحية الأخرى فقد راح الشعراء الذين رأوا الخلاص من هذا الزمن الحمار، عن طريق الارتباط بالقوى الاجتماعية الجديدة المسيطرة على الثروة، مما أدى إلى تبلور فنين مهمين بصفة خاصة هما المدح للتقرب، والهجاء الساخر للمهاجمة وابتزاز هذه القوى. صحيح سوف يكون هناك شعراء آخرون آثروا الصمت والانسحاب غير أن الصوت الأعلى سيكون للفنين السابقين، ومع تطور الزمن يأخذ الشعر في سلوك أكثر من اتجاه بالإضافة إلى السابق، فيتلون باللون الإسلامي قرآنا وسنة، ثم باللون الأخلاقي ثم بها جميعا ويظل الشعر ووظيفته في حالة تطور وتلون بالسائد في المجتمعات حتى العصر الحديث دون أن يفقد صلاحياته ومصداقيته أبدا

وقد اختلفت صورة أهمية الشعر عند الشعراء فيما بينهم، فمنهم من يستعين به على إزاحة الكرى مثلا عن عين راحلته أو تخفيف الهم عن النفس والتسلية والعزاء، ومنهم من يتصور أن للشعر دور السحر في تغيير الطبائع واستجلاب المودة بعد الكراهية، أو العكس، ومن هنا كان ذكر إبليس في بعض أشعار أبي نواس، وتهديده إياه بالتوقف عن قول الشعر والسكر والغناء بينما راح بعض ثالث يقرن بين شدة التأثير الباتر للشعر في النفوس فتكون الكلمة السيف والموت الزؤام، والنار الضرام، والضرغامة، وهو تأثير سحري بالمثل انصب على الشاعر والجماعة القديمة معا، مثله مثل الرقى والتعاويذ، وكما كان للكلمة الشعرية دورها المؤثر سلبا، فإن دورها الإيجابي لايقل وضوحا فهو جلاء الهم والحزن كما أوضحنا وهو جلاء (عشا الجهل عن الأنظار )، والشعر بالإضافة إلى كل ما سبق له القدرة على التحويل والكشف والإمتاع النفسي من خلال الارتباط بالجمال الشكلي، وهي قدرات لها صلة وثيقة بالأثر السحري الذي يسببه الشعر ذلك أن كليهما له أثره على الإيهام بقلب حقيقة الأشياء فالحق قد يصبح باطلا أو العكس والجميل يصبح قبيحا أو العكس والمجهول كذلك قد ينقلب إلى معلوم إلخ، هذه الموضوعات لها بالإضافة إلى كل ما فات أثر معرفي، يضيف إلى وعي المتلقي وعيا جديدا يرى على ضوئه الواقع من جديد، ومن هنا تأتي فكرة الكشف أو أن الشعر كاشف للدفين على مستوى الفرد والواقع معا، مهما كانت طبيعة المعرفة التي يقدمها الشعر، مادامت تعمل عملها في التأثير النفسي عندما يكتمل جمال الشكل، فيكمل دور الشعر في التعبير، وقد تمثل جمال الشكل هذا في النظر إلى القصيدة بوصفها فتاة بكرا حسناء، يقدم لها صداقها من هو كفء لها، فإذا لم تجد الأكفاء عضلت عن النكاح وقد عكس المعجم الشعري للشعراء العباسيين محل الدراسة كثيرا من ألفاظ الزواج والنكاح والافتراع والعروس والزفاف والعذراء والثيب، وهو معجم يستمد أصوله من مصادر إسلامية وصوفية مهمة وكما التقى الشعر بالمرأة التقى بالخمر،من حيث اللغة الحسية التي يحدثها كل منهما على المتلقي للشعر وشارب الخمر.

وكما عكس المعجم الشعري الآثار والعلاقات السابقة، فقد عكس هذا المعجم آثار الخمر، فهو يتحدث عن السكر والكرم والعناقيد والدنان، والراح والتعلل، والماء القراح البارد الذي تخلط به الخمر، والسلافة المعتقة الشمول إلخ هذه المعاني وإذا كان للخمر/ الشعر أثر في النفوس كبير، فإنه يصبح أكثر عمقا إذا كان الشعر/الخمر يعاقر في مجلس الغناء، بوصفه فنا عربيا قديما، لم يهدد الإسلام وجوده، بل تحول في الدولة الأموية وما بعدها إلى فن له أصوله ومؤلفاته.

(4)

يمثل الشاعر منذ العصر الجاهلي في وعي القبيلة أهمية خاصة دعتهم إلى الاحتفال بنبوغ شاعر، مثلما يحتفلون بفرس تنتج أو غلام ذكر يولد ذلك أن الشاعر كان يلعب دورا اجتماعيا حين يدافع عن قبيلته، والفخر بأمجادها، والسخرية من أعدائها، وقد عكس المعجم الشعري للشعراء هذه المعاني وأولها الفخر بالذات، فهو الأمير والصنديد، صاحب القدرة على التأثير والتغيير، وهو الكاهن والراهب، وهو الإمام في قومه وفي تأثيره على الناس، وفي بقاء هذا الشعر على مر العصور وعدم فنائه، وعدم قدرة الزمان والمكان على منع ذيوعه وانتشاره، ومن هنا كان سلاح الجماعة في حفظ مآثرها والذود عن أغراضها هو الشعر، أكثر من أي فن آخر، وقد كان الشعراء على وعي بهذا، بل إنهم كانوا على وعي بأنه ليس كل متلق يفهم كل الشعر بالضرورة، وإنما هناك الخواص والعوام، ولكل منهما شعر، ولكل منهما درجة مختلفة عن الأخرى من الفهم، والشاعر حين يرتد إلى مجتمعه إنما كان يقول الشعر العام، الذي يدافع عن القبيلة وتفهمه الناس وتردده، وهو شعر بالضرورة قد ارتبط بالمديح والهجاء، وهما معا أساس المقولة الذائعة القديمة الشعر ديوان العرب ولقد أثرت هذه المقولة في الشعراء العباسيين من حيث وجوب التمسك بالتراث الشعري القديم وتقاليده الفنية الثابتة بوصفها نموذجا نجح نجاحا باهرا في التأثير في المتلقي في جميع الأحوال من الناحية الاجتماعية، وقد عكس المعجم الشعري للشعراء في العصر العباسي كل التصورات السابقة في حالي المديح والهجاء، وقام هذا المعجم على تصور العلاقة بين الشعر وأثره، فإذا كان الشعر في المديح يخلد الممدوح، ويستنزل عطاءه الذي يشبه المطر المحيي للأرض الجدباء، فإن الشعر في الهجاء يشبه أثره السيف القاتل والحسام الباتر، وتبعا لذلك فالقصائد تغزو، والشعر جيش والقصيدة تشن الغارة، بل إن أثر الشعر في أعداء الجماعة يشبه سم الأساود والعقارب، وحيات الرمال، والقوافي تقطر السموم، وأخيرا فالشعر في الهجاء أحلام رعب وخطوب تطرق وهنا يتحول القلم إلى سيف، بوصفه الأداة التي تخط هذه القوافي المسمومة ولكن كيف يحقق الشعر هذا التأثير سلبا وإيجابا؟ إن هذا التساؤل المشروع الذي تطرحه الدراسة يرى أن هذا التأثير يستند إلى الصورة بوصفها العصب الرئيسي في الشعر

(5)

يختلف الدور الذي يؤديه الشعر للجماعة باختلاف العصور والأزمنة نظرا لأنه يرتبط بالواقع الاجتماعي الذي هو متغير بطبعه، فيما بين القيم والاتجاهات والثقافات، التي تحتوي على المثل الجمالية السائدة

 وقد ساد اعتقاد بين الشعراء العرب أن الشعر ينبع مما وراء الواقع، من شياطين الشعراء بصفة خاصة، وليس من الواقع المادي المعيش، فالشاعر طبقا لهذا التصور هو وسيط بين الشياطين والشعر، ولم يتوقف هذا التصور الجاهلي عند العصر الإسلامي بل استمر حتى العصر العباسي لدى كثير من الشعراء فيه

 ويلعب الوعي – كما وضحت هذه الدراسة – دورا مهما فالشعراء يحولون العلاقة بشياطين الشعر إلى رموز ومجالات لإظهار التفوق، والاعتزاز بالذات، لذا فالشاعر أكبر من إبليس ومن الشيطان، بل إنه أكبر من الإنس والجن في قول الشعر ثم تبدأ كلمة الإلهام في الظهور في الدراسة

ذلك أن ربط الشعر بمبدأ متعال، أو بما وراء الطبيعة يذكرنا عن طريق التداعي، بمقولة الإلهام ( حيث أفلاطون وربات الشعر في اليونان)، وهو أمر قد وجد – إلى حد ما – ما يشابهه في الثقافة العربية الإسلامية، في حديث القرآن عن الجن والشعراء الغاوين الذين يهيمون في كل الأودية. وقريب من الإبهام، بالمعنى السابق، هذا التهيؤ النفسي في لحظة من بين لحظات متعددة، مما أسمه ابن قتيبة الطبع بمعنى المزاج النفسي للشاعر والمتلقي وزمن القول ذاته، من حيث الشراب والسكينة واختيار وقت السحر نفسه من دون باقي الأوقات، وغير ذلك من عوامل مؤثرة في الإبداع، الذي رغم وعي صاحبه فإنه يجعله في حالة غامضة بين الوعي واللاوعي، تقطع – في الغالب – الصلة بين الشاعر والواقع الاجتماعي، غير أن التحرج الإسلامي من معالجة قضية الإلهام والخلق الشعري، جعل النقاد يركزون على قضية الصنعة والشكل الفني، دون التفرقة بين المطبوع والمصنوع. ومن العلاقة بين الشعر والواقع الاجتماعي تتطرق الدراسة نحو العلاقة بين علاقة الشاعر في العصر العباسي بالشعر القديم لسببين أولهما أن الشعر الجاهلي كان يمثل النموذج والمثل الأعلى غير أن تباعد الواقع الاجتماعي الجاهلي عن حاضرة الحياة في العصر العباسي أوقع الشعراء في اضطراب كبير ؛ مما أدى إلى تمرد بعض هؤلاء الشعراء أولا ثم تواتر التمرد ليشمل عددا كبيرا من الشعراء المختارين في الدراسة، وذلك على المستويين الفني والاجتماعي، ولعل أشهر هؤلاء الشعراء هو أبونواس الذي حاول تجاوز ما صاغه الآخرون، ولم يحاول التمرد عليه فقط

وإذا كان الشعر العباسي قد آثر التمرد على القوالب والموضوعات القديمة، فإنه جنح إلى تجاوزها عن طريق الخيال الذي هو قوة داخلية باطنية تتلقى المدركات الخارجية وتعيد تركيبها وتأليفها وتقديمها من خلال تصوير مبدع، واللافت في الأمر أن الشعراء كانوا على وعي كبير بحقيقة الشعر ودور الخيال فيه، وكيف أن هذا الخيال يختلف عن خيال الفلاسفة مثلا لأنه يلبس الأفكار لغة جذابة أخاذة. ومن هنا كان رأي الشعراء النقاد القدماء في العلاقة بين الاستعارة والتشبيه في الشعر القديم، حيث وضعوا لها شروطا لكي تكون سائغة مقبولة. فالحاتمي مثلا يرى أن الاستعارة مثل التشبيه ينبغي ألا تجاوز الحقيقة، إلا تجاوزا محدودا، تحكم فكرة إجازة استعارة ما يعقل لما لا يعقل، ومن هنا كان الإغراب في التصوير على النحو الذي ورد عند أبي تمام مثلا نوعا من الغلو في الخيال لا تقبله الذائقة العربية بسهولة. وفي هذا السياق تستعرض الدراسة مفهوم أو مصطلح المجاز بوصفه طرق القول ومسالكه، وبوصفه مقابلا للحقيقة كذلك، بما يعني أن المجاز يمكن أن يكون كاذبا بالمعنى الأخلاقي مادام المجاز مقابلا للحقيقة. وإذا كان الأمر كذلك فما هي المعرفة التي يقدمها الشعر، وما حظها من الحقيقة كذلك، وما علاقتها بالمعنى الأخلاقي، وأثر ذلك على جودة الشعر الذي وصفه الجاحظ بأن بابه نكد، ووصف الشعر بأن أعذبه أكذبه؟ كل هذه قضايا حاسمة تطرقت إليها الدراسة بدقة تحسب لها، وكلها قضايا على النحو الذي مر بنا تبحث في العلاقة بين الشعر والواقع الخارجي المعيش.

(6)

تتوقف الدراسة طويلا أمام علاقة الشعر بالعلم، حيث تهدف من استيضاح هذه العلاقة إلى التعرف على الخصائص التي تميز الشعر والشاعر عن باقي الأنشطة الفكرية الأخرى، مادام الشعر يتميز بطبيعته التخيلية، حيث إنه درب من النشاط التصويري، والشاعر مصور أو مشبه. إن الواقع الاجتماعي والمادي هو مصدر الشعر ومصدر العلم وهما لا يتناقضان في الواقع على الأقل من وجهة نظر الفلسفة. ولقد أتى على الشعر حين من الدهر كان علم العرب وديوانهم المحفوظ ذلك أن الشعر يقدم صورة تخيلية عن الواقع عبر الوعي الفني بينما يقدم العلم نفس الصورة عن هذا الواقع عبر العقل أو الذهن وبذلك صار التمايز بين الشعر والعلم قائما على كيفية تقديم المعنى. ونظرا لتغير الواقع الاجتماعي والثقافي في العصر العباسي نتيجة لدخول منابع جديدة للثقافة ربما كانت الترجمة من أهمها، فإن الشعر هجر سبل القدماء، ولم يعد ينسج على منوال السابقين وأصبح نوعا من الفكر يؤدى وظيفة معرفية جمالية هي الكشف الدائم عن تناقضات الواقع وملاحقة التغير الدائم فيه كما ترى الدراسة. معنى هذا أن الشعر وثيق الصلة بالتيارات الفكرية الأخرى كالفلسفة وعلم الكلام والفكر الاعتزالي؛ مما جعل الشاعر مفكرا بدرجة كبيرة، مهما قيل عن خلافات بين الشاعر والفيلسوف. ذلك أن ثمة فرقا بينهما يتمثل في منهج النظر وطبيعة الإدراك لدى كل منهما، فالفيلسوف وسيلته العقل في تقديم تصوراته عما يعالج من قضايا، والشاعر وسيلته الخيال في تقديم تصور جمالي كلي لرؤيته الفكرية عن واقعه. صحيح إن هذا الفرق لا يرد صريحا ومباشرا في قصائد الشعراء، ولكن في تصريحهم بأن الخيال وسيلتهم، وأن الشاعر مصور، وأداته اللغة التي يستخدمها استخداما خاصا، ينهض بالدرجة الأولى على الانحراف أو العدول. هذا على الرغم من ذيوع مقولة عيون الشعر التي أجبرت الشعراء وقتا طويلا على الاحتذاء بخطى السابقين. ثم تنتقل الدراسة بعد ذلك لكي تناقش كيفية الإبداع أو كيفية صناعة المضمون الشعري ؟ ترى الدراسة أن عملية الإبداع الشعري عملية واعية تتم في إطار الفهم والغريزة القوية معا، وبعد معاناة ومكابدة.

وقد أثمر الالتفات إلى العقل والغريزة معا أن بعض الشعراء مثل أبي تمام قد تصور الكون كله في وحدة واحدة تتزاوج وتتلاقح، كما أثمر هذا الموقف الاهتمام بشكل القصيدة واعتباره قيمة جمالية مهمة في الشعر، تعكس وعي الشاعر بثقافات عصره وأهمها الفنون التشكيلية كالأرابيسك والزخارف الخطية والوحدات المعمارية التي تنهض على تجانس شكلي يستند إلى التجريد الخالص، وبعد ذلك نظر الشعراء والنقاد إلى الشعر بوصفه صناعة يلزم المعرفة بقواعدها، وأدواتها والدربة والمران والدرس والاهتمام بعناصرها الشكلية المختلفة، حيث الشاعر لدى بعض شعراء الدراسة إنسان مدرك متأمل، لا يكتب من فراغ ولا يعيش معزولا عن التاريخ، يقوم شعره على الصنعة والتشكيل كالصائغ والنقاش والنساج تماما، غير أن هذا لا ينفي ضرورة المعاناة والتجربة الذاتية، مهما كان دور الوعي في الإبداع الشعري. فالتجربة منها ما هو قبل الإبداع الشعري، ومنها ما هو أثناءه، وهي شكل من أشكال المعاناة وبصفة خاصة في مرحلة التعرف المفضية إلى الخلق كما تشير الدراسة. والشعر كذلك فيض ولون من ألوان الرياضة القلبية، وجيشان الصدر قبل عملية الإبداع، فيما يشبه ومضة هلال يبدو صغيرا في البداية حتى يصير بدر تمام في قصيدة. وتمضي الاتجاهات النقدية من شعراء المرحلة المختارين، وتتباين اتجاهاتهم كما تقول الدراسة في ختام هذا الفصل، إلا أنها تتفق جميعا على أن الشعر من حيث طبيعته عمل إبداعي يسيطر عليه العقل الواعي إلى جانب القوى الإبداعية التي هي الخيال.كما نجحت هذه الاتجاهات في التمييز بين الشعر وغيره من أشكال النشاط الفكري الأخرى كالعلم والفلسفة والتاريخ، حيث برزت خصوصية فن الشعر في صياغته، وعبر مادة هذه الصياغة وهي اللغة.

(7)

يرصد الكاتب في آخر مباحثه وعنوانه أداة الشعر أربع أدوات أولها المعجم الشعري وثانيها الإيقاع وثالث فصول هذا المبحث هو الصورة وآخرها البنية. فأما المعجم الشعري فهو يتألف من جانبين أولهما التركيب ثم التصوير 0 ويشتمل التركيب على الأنظمة الصوتية والصيغ الصرفية وعلاقات النحو. بينما يتناول التصوير عناصر هذا التركيب التي تشكل في النهاية نشاطا تصويريا.

فأما بخصوص المعجم الشعري فقد توقف الشعراء النقاد وغيرهم عند ضرورة الوضوح والبعد عن الإغراب، وحصر مفردات اللغة الشعرية في إطار الدلالة اللغوية المألوفة، وبذلك يكونون قد ربطوا بين المعجم الشعري والمعجم اللغوي بحيث يأتي الأول أمينا وانعكاسا للثاني الذي قرره اللغويون العرب، كما تقول الدراسة، ويأتي ذلك في الأغلب الأعم من إعلاء شأن التراث والتعلق بنماذجه النقية القديمة، التي لا تخلو من الفصاحة البدوية في كل الأحوال، وبما تحويه من مبالغة شديدة في أحوال أخرى، ثم الجزالة والألفاظ الرشيقة والمعنى الضخم. وحين نغادر أقوال الشعراء الذين تمسكوا بالموروث حتى القرن الثالث الهجري، نجد أن الأمر يختلف بدء من القرن الرابع الهجري حيث التعلق بالأسلوب، بوصفه منهجا مطروقا في اللغة الشعرية يشترك فيه الشعراء جميعا. كما مثّل القرآن مصدرا ثريا وإغراء لدى الشعراء في هذا الوقت جنبا إلى جنب مع الموروث القديم، وتميز الأساليب (رغم فرديتها). أما موقف النقاد من شاعر كأبي تمام فقد اتضح في النظر إليه بوصفه الخارج على التقاليد، وممثلا للاتجاه المغاير لاتجاه الوضوح والإبانة، وتوافق المعجم الشعري مع المعجم اللغوي، والتمسك بالموروث الشعري ولغة القرآن. ذلك أن أباتمام اقترن اتجاهه بالاختيار والانحراف عن كل ما سبق، صحيح إن لغة الشعر لديه تنبع من نفس مصدر الكلام اليومي لكنها تمتاز عنه بالتصوير والتركيب الخاص، أو كما يقول النقد المعاصر إن الكلمة الشعرية تتضمن موت اللغة وبعثها في آن واحد.

ترتد دراسة الإيقاع في الشعر إلى خصائص اللغة، وإلى الظواهر الصوتية كالتصريع والتجانس والتماثل والتوازن، وهي الظواهر التي ردها ابن الرومي إلى مبدأين من مبادئ الإيقاع هما التماثل والثاني التوازن، وإن كان إيقاع الشعر لا يتوقف عند مجرد الظواهر الصوتية من عروض وقافية، وإنما النص الشعري يمثل عدة مستويات صوتية وصرفية ونحوية، تتضافر جميعا بكل أشكالها لكي تعطينا نصا شعريا باقيا. وكما ارتبط الإيقاع بالظواهر الصرفية والنحوية فقد ارتبط كذلك بالمعنى. وكما انقسم الشعراء والنقاد حول المعجم الشعري ما بين تراث قديم لاينبغي الخروج عليه، وآخرون يرون أن الشاعر هو خالق موسيقاه ومصدرها دون خضوع لقوالب خارجية لابد من التزامها، وأنصار هذا الرأي يجعلون من كل أجزاء القصيدة طرفا فاعلا نشيطا صوتا ودلالة.

ويتمثل النشاط التصويري في الشعر – على النحو الذي ارتأته الدراسة – في تعاون التركيب من أصوات وصيغ وعلاقات، متفاعلة تخلق النشاط التصويري والجانب الخيالي، ومعنى هذا أن التصوير تركيب وأن لهذا التركيب عناصره المحددة السابقة، وأن مادة هذا التصوير تقوم على اللغة المتميزة عن دورها في العلم والفلسفة وغيرها. فالصورة الأدبية على اختلاف أشكالها، أشبه بمركب كيميائي، يفقد فيه طرفا المركب صفاتهما الأصلية، ويستحيلان معا إلى شيء جديد.

وعلى غرار ما سبق من انقسام الشعراء النقاد بين متمسك بتقاليد عمود الشعر ودعاة الخروج عليه، فإن نفس الانقسام يواجهنا في مبحث الصورة بين دعاة الشكل، وهو التقاليد وانفصال المعنى عن شكله ودعاة التركيب ونشاط عناصره وتفاعلها الخلاق. وترى الدراسة أن الشعر كلما ارتبط بوظيفة ارتبط بالصورة في التعبير عن هذه الوظيفة، ولذلك فقد تحددت معايير هذه الصورة في الارتباط بوظيفة القصيدة ودورها فرديا وجماعيا، فكان معيار الشعر الجماعي الذي تمثل في المديح والهجاء يؤثر الوضوح والبلاغة والصدق والتحسين والتقبيح والمبالغة، ويستنكر ويذم عكس ذلك.

أما على المستوى الفردي فإن الشعر بخاصة شعر الوصف قد قدم نوعا من المتعة الحسية والعقلية للمتلقي، وقد لعبت الصورة الدور الأكبر في تحقيق هذه اللذة. غير أن النقاد القدماء لم يربطوا بين الصورة والدلالة معتقدين أن الصورة مجرد شكل للمعنى ؛ مما أدى إلى سيادة نمط واحد من الفكر في ظل ثبات المعنى، وسيادة رؤية واحدة للكون وللعالم، وهو ما جعل اللغة تنفصل عن الفكر، وتبدي هذا في العجز عن التفرقة بين شكل المعنى ومادة المعنى. إضافة إلى ذلك فإن قياسهم الاستعارة على التشبيه الذي ينهض على فكرة المقارنة والمطابقة، جعلهم لايلتفتون إلى السياق العام للنص الذي هو التركيب الأوسع له، مثلما أهمل هذا الفهم أن للصورة مستويين نفسي ودلالي وأن حيوية الصورة تتحقق نتيجة الانسجام بين هذين المستويين.

وأخيرا يأتي فصل البنية في هذه الدراسة، والبنية مصطلح قديم ورد بلفظه في العصر العباسي، ولكن الطريقة التي فهم بها هذا المصطلح تقترب كثيرا مما نفهمه الآن من نفس المصطلح، فالبنية هي تكوين الشيء أو الكيفية التي شيد على نحوها شيء ما، سواء أكان هذا التكوين قائما على مجرد علاقات تجاور، أم تفاعل. فإن كان التفاعل فنحن بإزاء تركيب وتصوير يفضيان إلى بنية شعرية خلاقة، وإن كان الثاني فلا بنية ولا تفاعل وإنما تركيب منفصل. فإذا قدم الشاعر تركيبا متفاعلا كنا بإزاء بنية تنطبق عليها كل مواصفات البنية في النقد الأدبي الحديث من كلية وتحولات مستمرة، خاضعة لقوانين بعينها في كل تحولاتها، متفاعلة أبدا، وعلى الرغم من أن هذا الفهم ساد بين نقاد الشعراء في القرن الثالث فإن ما قدم نقاد القرنين الرابع والخامس، يختلفان بشدة عن هذا الفهم البنيوي الحقيقي للنص الشعري، ذلك أن النقاد المتأخرين نظروا إلى المعنى أولا ثم نظروا لا إلى بنية متفاعلة وإنما إلى تراكمات من المعاني والألفاظ ينظمها ناظم مثل العقد والجسد الإنساني أو المنطق الحاكم للخطابة، والأمر جد مختلف كثيرا عن كل هذا.

وهكذا راح المؤلف يرصد دقائق تفكير الشعراء النقاد، والنقاد، في كل ما يمثل مفهوم الشعر بقضاياه المتعددة العميقة، التي لم يتح لها كثير من ذوي الصبر والجلد والأناة على تتبع مساربها الكثيرة المتشعبة، على النحو الذي مر بنا في عرض الكتاب، الذي كشف صاحبه هذه القضايا عبر مفهوم الوعي بوصفه الأساس الحقيقي الذي قامت عليه دراسته، دون أن يلتفت هو إلى أن الوعي بالوعي كان رائده إلى الفهم العميق الأصيل الذي قاده إلى هذه الدراسة المعجبة، تحية إلى أحمد يوسف علي، الذي رد الاعتبار، مع قليل من النقاد النابهين إلى النقد الأدبي القديم، في ربط مباحثه بثقافة حداثية نسج خيوطها مع الفهم الموروث لقضايا النقد الأدبي، وتهنئة تأخرت سنوات بهذا العمل المشرف، وتهنئة خالصة بالكتاب الذي أعده حواريوه وأصدقاؤه إعزازا له.

 

جامعة عين شمس