يتناول الباحث العراقي هنا، فيما يبدو أنه المقدمة النظرية لمشروع تناول الرواية التي تعددت فيها الأصوات الراوية، وتنوعت رؤاها، الخلفية النقدية التي تناولت موضوع الرواية متعددة الأصوات، وما يعتري مصطلحها من لبس. ليفصل موضوعه المتعلق بتعدد الرواة عن تعدد الأصوات في بولوفونية باختين.

تعدد الرواة بديلا عن (تعدد الأصوات)

في الرواية العراقية الحديثة (1966- 2014)

محمد رشيد السعيدي

تمهيد: لماذا الرواية متعددة الأصوات؟
قبل أكثر من ثلاثين عاما،([1]) وعندما كنت طالبا في الصف الخامس الأدبي، في ثانوية بدرة، وحين كان الروائي هشام توفيق الركابي – أستاذ مادة اللغة العربية - يبذل جهدا لتغليب اهتمامي بالرواية على اهتمامي بالشعر، من خلال إعارتي مختلف أنواع الروايات التي تحتويها مكتبته الخاصة، والحديث عن المدارس الروائية المتنوعة، من عموميتها الجغرافية، الى خصوصياتها الإبداعية والفنية. في ذلك الوقت - وبعد صدور روايته الأولى (المبعدون)([2]) التي لاقت استحسانا كبيرا لدى المتلقين، فنفذت من الأسواق في أقل من عام - حدثني عن الرواية متعددة الأصوات([3])، ممثلاً لها بـ (ميرامار) نجيب محفوظ، و(خمسة أصوات) غائب طعمة فرمان، لتكون هي ثالثتهما في حوارنا. وصادف أن اطلعت حينها على الروايات الثلاث .. ثم قرأت روايات عدة، عراقية وعربية ومترجمة، مكتوبة بهذه الطريقة.

لم يزل عدد روايات الأصوات العراقية – على الرغم من صدور أولاها (خمسة أصوات) قبل حوالي نصف قرن – قليلا نسبيا، بالمقارنة مع عدد الروايات العراقية من مختلف المدارس والطرق الفنية. وبسبب ذلك، ولكونها ذات ميزة بنائية فريدة، وبسبب عدم الاهتمام النقدي بهذه الخصوصية، ولوجود مجموعة ملاحظات - اختلافا وتشابها - عليها تحتاج الى الرصد والتصنيف؛ تأتي هذه الدراسة. قد يكون لفت الانتباه المبكر – ذاك – الى هذا النوع من البناء الفني، والمعرفة – العامة - المبكرة والمتواترة، بضرورة الإبداع والاختلاف في طريقة الصياغة، لندرة وجود مواضيع مبتكرة، بسبب تكرار وتشابه أحداث وتجارب الانسان، فضلا عن الرغبة الشخصية في تتبع الظواهر الفنية، هو ما دفعني لبحث واستقصاء هذا النمط الفني السردي، في نماذجه الإبداعية، وفي البحوث والدراسات النقدية المكتوبة عنه.

المقدمة:
وقعت رواية الأصوات في دائرة الالتباس، لأسباب كثيرة، وفي المستويات المتتالية للمعالجة. وتتعلق تلك الأسباب بكل المتغيرات الداخلة في العملية النقدية، من الترجمة، الى رؤية الناقد، الى المنهج .. وغيرها. ولكنها تتجلى، وترتكز على سببين، يبدوان أهم من الأسباب الأخرى، وهما:

·                    التباس المصطلح في الاستخدام وتعددية دلالاته. إذ يقصد بمصطلح الصوت مرة الشخصية، وفي ثانية الكلام، وفي ثالثة الراوي.

·                    كون الرواية جنسا قابلا للتطور الى حد كبير، وهي "التجسيد الأعلى للعبة التداخل النصي"([4]).

ولا يبدو هذا الالتباس بعيداً حتى على باختين - مخترع مصطلح (تعدد الأصوات) - الذي وضع عددا من الميزات للرواية متعددة الأصوات، منها: "التعددية في أنماط الوعي، والتعددية في الطروحات الفكرية، والتعددية في المواقف الأيديولوجية"، وتلك كلها تعبير عن شيء واحد هو الفكر، "والتعددية في الشخصيات" المتعلق ببناء الرواية، و"تعدد اللغات والأساليب" من خلال: "الأسلبة والمحاكاة والحوار والتهجين والتناص والأجناس المتخللة"([5])، المتعلق بالأسلوب؛ إذ يمكن لكل تلك الصفات أن تتواجد في أية رواية في العالم؛ ويمكن قراءة أية رواية، قراءة نقدية، من خلال تلك المفاهيم. لكنه - وحسب ما وصل إلينا من دراساته النقدية التطبيقية - لم يقرأ رواية مبينة بطريقة تعدد الأصوات، بل ركّز على روايات دوستويفسكي - الجريمة والعقاب مثلا - وروايات أخرى تقليدية البناء، من خلال الأسلوبية السوسيولوجية، والتعبير اللغوي اللصيق بالشخصية، الى حدّ وجود اختلافات واضحة بين كلام أية شخصية وأخرى في الرواية، واختفاء الراوي وراء شخصياته.

وعلى الرغم من النقلة المتميزة في تنظيرات باختين، والمتعلقة بأسلوب الرواية، وهي ما يخرج بالرواية - العربية خاصة - من عباءة الشعر، المعبِّر عن الذات، ويجعلها منتَجا جمعيا، معبرا عن مجتمع إنساني تعددي مفتوح على كل الآراء والأفكار والعقائد، وعلى الرغم من اجتراحه([6]) لهذا المصطلح، فهو لم يقصد رواية مقدمة بنائيا بطريقة الأصوات، ولأن روايات دوستويفسكي - عينة بحوثه - لم تـُبنَ بطريقة الأصوات([7]). ولا يبدو سهلا تشخيص الاختلافات الأسلوبية بين الشخصيات، وذلك ما ركّز عليه باختين، وعلى العكس من ذلك الظهور الأكثر لتباينات وجهات النظر، وبأكثر من طريقة، أطرفها وأحدثها ما جاء في رواية (امرأة الغائب)([8]) لمهدي عيسى الصقر. وهذه الالتفاتة النقدية تشكل أيضا انتقالة مهمة بالرواية من دائرة الفرد الى محيط المجموع، والحد من السلطات المطلقة للكاتب وتحكّمه بالنص؛ مما يعزز تعدد وجهات النظر، المعبَّر عنها بواسطة الكلام.

وقد تكون تلك المقدمات الهامة - أسلوبية باختين، ووجهة نظر هنري جيمس، ومن تبعهما - هي المحفز الذي دفع ببعض الروائيين الى تقديم رواية الأصوات شكليا/ بنائيا، حيث جعل لكل صوت/ راو فصلا أو أكثر، معنونا باسم الراوي، أو بواسطة علامات أخرى تدل عليه. وعلى الرغم من كون الإضافتين السابقتين مهمتين جدا بالنسبة للرواية، إلا أنهما متعلقتان بقضيتي الأسلوب ووجهة النظر، اللتان تعبّران عن نوع من الدمج بين المناهج النقدية الشكلانية والموضوعاتية، وهما عامتان تشملان كل أنواع الرواية، على العكس من طريقة تقديم - التي تتعلق بصيغة بناء الرواية - الرواية متعددة الأصوات؛ والتي لا تقوم على وجود فروق لغوية أو اختلافات في وجهات النظر، بل تقوم على أساس تقديم فصول محكية ومعنونة بأسماء أو رموز دالة على الرواة المتعددين الذين يحكون وقائع الرواية.

1. إشكالية التجنيس:
ما هي الرواية متعددة الأصوات([9])؟ وما هي المواصفات التي تتميز بها؟ لماذا نطلق أو لا نطلق على رواية ما هذا المصطلح؟ وما هي الأسس التي نستند عليها لإطلاقه؟ هل تصنف الرواية متعددة الأصوات – نقديا - على الأسلوبية أم على وجهة النظر أم على البناء والتقنية؟ يبدو إن مشكلة هذا النوع من الرواية، واللبس الحاصل في قراءتها النقدية وتجنسيها، يكمن سببها الرئيسي في المصطلح ذاته، أو ترجمته الى اللغة العربية. كما ارتبطت تلك المشكلة بمصطلح البوليفونية([10]) الموسيقي، الذي استعمله باختين ونـُقل عنه، وعـُرِّب بتعدد الأصوات. ثم تستمر تلك المشكلة بالقراءات التراكمية، والتقليدية، والتركيبية. لذا فقد وجدت أن هذا المصطلح مازال غير دقيق المفهوم ولا محدده، إذ إنه يعني أكثر من معنى في أكثر من موقع، وقـُصد به أكثر من قصد، منذ باختين والى ما قبل هذا البحث.

إن ما سبـَّبَ هذا التداخل وهذا اللبس، هو: مصطلح الصوت؛ وهو ما جعل الدراسات النقدية السابقة تقرأ النصوص السردية وفق أكثر من منهج نقدي، لكنَّ تلك القراءات لم تعطِ الأمر حقه كاملا، بسبب عدم تطابق المنهج مع النص، أو بسبب تداخل أكثر من منهج، أو بسبب ضبابية المصطلح وتعدد دلالاته. لذا فقد حاول هذا البحث التفريق بين رواية الأصوات والرواية الحوارية، من خلال فكَّ الاشتباك بين المناهج الثلاثة، ووضع ظاهرة تعدد الأصوات في التجنيس الأصوب: البنائية/ السردية أو الأسلوبية أو وجهة النظر!

2. المصطلح:
2. 1. الصوت في القواميس اللغوية هو النداء؛ صات يصوت ... تعنى نادى، والصائت الصائح([11]).

2. 2. الصوت في المعاجم المتخصصة، هو: "مجموعة العلامات التي تعين خصائص الراوي ... وعلى الرغم من الخلط الشائع بين هذا المفهوم ومفهوم وجهة النظر، فبالإمكان التمييز بينهما على الوجه التالي: إن مفهوم وجهة النظر يزودنا بالمعلومات حول من يرى ... بينما يعطينا الصوت معلومات عن من يتكلم، من هو الراوي"([12]). وهو أيضا: "مظهر العمل القولي مأخوذا في علاقته بالذات القائلة (نفسه). وليست هذه الذات هي التي تقوم بالفعل أو يقع عليها الفعل فقط، وإنما هي تلك التي تنقله أيضا"([13]). "والمعني بالصوت منتج الخطاب القصصي ... وهذا المنتج هو الراوي"([14]).

2. 3. أما مصطلح البوليفونية - المستعار من الموسيقى على اعتبار أنها "مجموعة أصوات موزونة"([15]) - فقد ورد لدى بعض النقاد بمعنى تعدد الأصوات، كبديل، أو تعزيز للدلالة، مع كونه أجنبيا؛ لكنه، يزيد الأمر التباسا، أو لا يفيد. فهو: "أساليب فنية في الموسيقى تعتمد المسار الأفقي والتتابع والتداخل وتعني تعدد الأصوات"([16]). ويعني تعدد الأسطر اللحنية أو الآلات الموسيقية المشتركة في تشييد القطعة الموسيقية، مما يربطه بالفوجة([17]) من جهة ومن جهة أخرى بالهارموني؛ والذي يقصد به: "تركيب الأصوات عمودياً وتعزف معاً، وهي تضفي Harmony جمالية على اللحن وتكثفه. ولهارموني معانيها الأدبية: توافق، انسجام، ملاءمة"([18]).

فنلاحظ التناقض والالتباس الذي سيعتري الرؤية النقدية لأية رواية بناء على المفاهيم السابقة؛ فاذا كان تعدد الأصوات أفقيا، والهارموني عموديا، فأية رواية تلك المبنية عموديا وأية رواية تلك المبنية أفقيا؟! لذا فإنني لا أرى أية فائدة في استخدام مصطلح البوليفونية.

3. الدراسات السابقة([19]):
3. 1. ظهر عدد - ليس كبيراً - من الدراسات التي اهتمت بهذا الموضوع، بالعربية أو مترجمة، هذه بعضها:

3. 1. 1. تطرق الدكتور نجم عبد الله كاظم، في كتابه (الرواية في العراق 1965 ـ 1980)([20])، الى بعض الروايات متعددة الأصوات، كـ (خمسة أصوات) لغائب طعمة فرمان، و (المبعدون) لهشام توفيق الركابي، و(السفينة) و(البحث عن وليد مسعود) لجبرا ابراهيم جبرا؛ ملتفتا الى خصوصية بناء الشخصيات فيها، وتقديم وجهات نظر مختلفة للأحداث نفسها. وعلى الرغم من عدم تركيز البحث والمنهج على هذه الخصوصية البنائية، إلا انه لم يترك ذلك النمط الروائي دون تجنيس أولي، إن جاز القول، فاعتبرها "طريقة وجهات النظر المختلفة"([21])، تلك المتعلقة بهنري جيمس، في زمن سابق لنموذج تعدد الأصوات البنائي.

3. 1. 2. انتبه الناقد سعيد الغانمي الى ما اسماها بـ (الصحوة الحوارية) في العراق، "إذ صدرت في بغداد ثلاثة كتب في غضون شهر واحد، تدور في فلك باختين، له وعنه ومعه. الأول هو ترجمة كتابه (قضية المضمون والمادة الأولية والشكل) وقد ظهر في العدد الرابع، 1992، من مجلة الثقافة الأجنبية، بترجمة د. جميل نصيف التكريتي، والثاني هو (المبدأ الحواري: دراسة في فكر ميخائيل باختين) تأليف الناقد الفرنسي تزفتان تودوروف وترجمة الناقد الأردني فخري صالح، والثالث كتاب الناقد فاضل ثامر (الصوت الآخر: الجوهر الحواري في الخطاب الأدبي)"([22]).

3. 1. 3. لكن دراسة الناقد فاضل ثامر - بأجزائها الثلاثة - الموسومة (من رواية الصوت الواحد الى الرواية متعددة الأصوات)، منشورة في سنة 1987، حسب إشارته الواردة في هوامش الدراسة، أي قبل نشر الكتاب بخمس سنوات. ويعتمد فيها على عدد من المراجع التي ظهرت في أوقات متقاربة، أولها كتاب الدكتورة سيزا قاسم (بناء الرواية) المنشور سنة 1984، وتميّز فيه بين رواية الصوت الواحد والرواية متعددة الأصوات، بناء على تحديد أوسبنسكي. وثانيها - تأريخيا - دراسة بعنوان (الخطاب داخل الحياة والخطاب داخل الشعر) كتبها فولوشينوف/ باختين([23]) وترجمها قمري البشير ونشرت في مجلة (آفاق) المغربية سنة 1984. أما المرجع الثالث فهو مقالة بعنوان (الخطاب الشعري والخطاب الروائي) لباختين، ترجمها محمد برادة ونشرت في مجلة الكرمل سنة 1985. والمرجع الرابع هو مقالة بعنوان (لوكاش وبختين: دراسة اجتماعية للرواية) مؤلفها برابها كراجها، منشورة في مجلة (ديوجين) سنة 1986. فضلا عن مرجع مهم غير مترجم الى العربية([24]).

 وعلى الرغم – أو حتى بسبب – ريادية هذه الدراسة عراقيا، فإنها قرأت بواكير الروايات العراقية، ذوات البناء التقليدي([25])، من خلال المرتكز المنهجي الأساسي للناقد([26])، ومن خلال تأثره الحديث بمنهج باختين([27])، مما جعل تلك القراء بعيدة عن تشخيص الشكل أو الطريقة البنائية للرواية متعددة الأصوات، خصوصا تلك التي وردت في نماذج عراقية لا يمكن القول بعدم اطلاع الأستاذ فاضل ثامر عليها، مثل (خمسة أصوات) و (المبعدون)، وأخريات.

3. 1. 4. كما أشارت دراسة الناقد فاضل ثامر الى كتاب (قضايا الفن الإبداعي عند دوستويفسكي) لباختين، وقد نـُشر بترجمة الدكتور جميل نصيف التكريتي عن وزارة الإعلام العراقية سنة 1986، وهو الكتاب عينه الذي نشر في السنة نفسها عن دار توبقال المغربية، ضمن مشروع النشر المشترك مع دار الشؤون الثقافية العراقية، ولكن بعنوان مختلف - أشار اليه الأستاذ فاضل ثامر في متن مقالته([28]) - هو (شعرية دوستويفسكي)([29]).

3. 1. 5. وليس بعيدا عن المنهج - من وجهة نظر ما - كتاب الناقدة يمنى العيد (الراوي: الموقع والشكل)، الصادر سنة 1986 عن مؤسسة الأبحاث العربية في بيروت. والذي يبدو من عنوانه قريبا جدا من الموضوع، لولا ابتعاد الباحثة عنه بسبب اهتمامها الشديد بالايديولوجيا. حتى إنها تستخدم مصطلح (الموقع) بديلا عن مصطلح (زاوية رؤية)([30])؛ لأن الأول "أكثر إحالة على هذه الهوية الأيديولوجية"([31])؛ مما يبقي الناقدة في دائرة النقد الفكري. كما إنها ستتحدث عن الموقع باعتباره زاوية رؤية، وعن الوضعية الاجتماعية والزمن التاريخي، وصولا الى الكشف عن هوية الإيديولوجي المتحكم بالنص، حسب كلام الناقدة([32]).

3. 1. 6. وقد شكلت مقالة (الخطاب الشعري والخطاب الروائي) فصلا من كتاب (الخطاب الروائي) لميخائيل باختين، الذي ترجمه محمد برادة ونشر سنة 1987، في القاهرة. ثم ترجمه يوسف حلاق مرة أخرى، ونشر بعنوان مغاير هو (الكلمة في الرواية)، سنة 1988 في دمشق. وقد ظهر باختين في هذين الكتابين ناقدا أسلوبيا، لا ناقدا بنائيا.

3. 1. 7. حتى ظهر ـ متأخراً ـ الكتاب الأكثر تخصصا واهتماما بهذا الصنف من الرواية، وهو الجزء الثالث من كتاب (البناء الفني في الرواية العربية في العراق بناء المنظور) للدكتور شجاع مسلم العاني. وهو في الأصل جزء من أطروحة الدكتوراه للباحث قدمها الى جامعة بغداد سنة 1988؛ ولم يطبع إلا سنة 2012. ولكنه لم يخرج عن الإطار النقدي السائد، في قراءة روايات ذات تعدد بنائي صوتي، وأخرى تقليدية، وضمن رؤية واحدة، قريبة من المنهج السوسيولوجي([33]).

3. 2. يبدو - بناء على ما سبق وعلى ما سيأتي لاحقاً - أن باختين قد دخل الى النقد العراقي بطريقين، أحدهما مباشر عن اللغة الأم/ الروسية بترجمات الدكتور جميل نصيف التكريتي، والثاني غير مباشر، عبر تودوروف الذي ترجم أعمال باختين الى الفرنسية، ثم تُرجم جزء منها - متفرقا - الى العربية. كما نلاحظ أن "الصحوة الحوارية"، والانتباه الى باختين ظهر في الوطن العربي بعد التعريف به في فرنسا على يد جوليا كرستيفا وتودوروف([34])، والتصق مصطلح (الرواية متعددة الأصوات) بباختين في كل الدراسات اللاحقة.

3. 2. 1. وقد أشار الدكتور محمد نجيب التلاوي الى أن "باختين قد لعب دوراً ... عندما اكتشف الخصوصية النوعية للبناء الفني لروايات (ديستويفسكي)"([35])، متناولا رواية الأصوات بواسطة وجهة النظر، المنهج النقدي الذي ربطه - ابتداءاً - بهنري جيمس([36]). وهو هنا - إذ يجمع - يفرق بين رؤيتين نقديتين، هما وجهة النظر([37])، والأسلوبية ([38]). كما انه استهدف "التعريف بالخصوصية البنائية لرواية الأصوات"([39])، وهو ما لم يتحقق. لكنه - مع ذلك - ميّز بين وجهة النظر وتعدد الأصوات، على اعتبار الأخيرة بنائية.

3. 2. 2. وقد تكون دراسة الدكتور جميل حمداوي الموسومة (الرواية البوليفونية أو الرواية المتعددة الأصوات) هي آخر الدراسات المنشورة في هذا الخصوص([40]). والتي عرض فيها الموضوع حسب رؤية باختين، متطرقا لعدد من الدراسات حول الرواية البوليفونية، معظمها دراسات روسية/ سوفيتية قديمة، هي عينها التي أشار اليها باختين في دراسته الموسعة (شعرية دوستويفسكي)، وكما يؤكد ذلك الدكتور حمداوي. ثم يذكر دراسات أخرى لباختين واوسبنسكي وتودوروف وكرستيفا، ومن الدراسات العربية (أسلوبية الرواية: حميد لحمداني)، و (بناء الرواية: د. سيزا قاسم)، وأخريات معظمها مغربية. ويبقى ضمن المنطقة عينها، من إطلاق مصطلح "الرواية المتعددة الأصوات" على الشخصية والكلام والراوي([41]).

3. 2. 3. وعلى الرغم من عدم تطرق الدكتور سعيد يقطين، أو عدم تركيزه على مصطلح (رواية الأصوات)، في كتابه التنظيري التطبيقي (تحليل الخطاب الروائي الزمن ـ السرد ـ التبئير)، وعلى الرغم من اتخاذه المنهج السردي الذي "ننطلق فيه من السرديات البنيوية كما تتجسد من خلال الاتجاه البويطيقي"([42])، فإنه يقترب كثيرا من هذا النمط التعبيري من الرواية، لاسيما وهو يتبع - مستعينا بآراء أخرى في المنهج عينه - منهج الناقد الفرنسي جيرار جنيت، الذي يجعل من (الصوت) مقولة مستقلة مع مقولتين أخريين.

النتائج:
الصوت هو الراوي، وليس الشخصية ولا الكلام، وتعدد الرواة تقنية، تتعلق بصيغة بناء الرواية؛ وهي بهذا تختلف عن الأسلوبية وعن وجهة النظر، على الرغم من وجود مشتركات بين الرؤى الثلاث، في هذا النوع الروائي وفي أنواعه الأخرى.

1.                يمكن اقتراح المصطلحين البديلين:

الرواية الحوارية: للرواية التي قصدها باختين وفاضل ثامر وشجاع العاني. ويمكن أن تقدم بصوت واحد – كما في روايات دوستويفسكي - أو أكثر.

الرواية الأحادية: هي التي لا يظهر فيها إلا رؤية واحدة، تلغي أو تحجّم أو تخطّئ الرؤى الأخرى، ويمكن أن تقدّم بصوت واحد أو أكثر.

وتبقى متعددة الأصوات، أو رواية الأصوات، هي التي تقدّم بواسطة أكثر من راو.

2.                النزعة الحوارية: أسلوبية وتبئيرية، بينما تعدد الأصوات: بنائية.

3.                ظاهرة تعدد الأصوات لا تعني تحديد أو إلغاء دور الراوي العليم فحسب، بل وإلغاء وظيفة البطل المطلق واستبدالها بالبطولة الجماعية.

4.                ولكي تتميز رواية الأصوات، بنائيا، يفضل تقديم فصولها تزامنيا، لتأكيد الاختلاف عن الرواية التقليدية، المبنية تتابعيا.

5.                يمكن قراءة أية رواية، قراءة نقدية، من خلال المفاهيم التي طرحها باختين.

6.                يفضل استبدال مصطلح (تعدد الأصوات) الملتبس، بمصطلح (تعدد الرواة) الأدق دلالة، والأكثر تحديدا.

وبناء على ذلك يمكن القول بضرورة وجود الميزات التالية، لاعتبار الرواية متعددة الرواة:

1.                 رواة داخليين، شخصيات في النص، ولا يهم عددهم، ويمكن أن يوجد راو خارجي معهم، بشرط عدم سيطرته على أكثر الحكي.

2.                 تسمية الفصول بأسماء الرواة، أو بأية مصطلحات ذوات دلالة محددة بكل راو.

3.                 يفضل أن يكون الحكي بضمير المتكلم، وإن يجوز استخدام ضمير الغائب، مع الانتباه الشديد.

4.                 يراعى – في الحكي بضمير الغائب- أن يكون علم الراوي مساويا لعلم الشخصية؛ لحصر التبئير بشخصية الراوي.

5.                 دقة في التبئير، وخاصة على الرواة؛ لأن أحد أسباب تقسيم الروي بواسطة أكثر من راو هو التعبير عن وجهات نظر متعددة.

6.                 التزامنية، أو البناء العمودي للرواية: ليس شرطا أن تكون مثل ميرامار بالضبط، فيمكن أن يكون بناؤها أفقيا، ولكن الشرط أن توجد فيها مشاهد ومواقف وأحداث مروية بواسطة أكثر من راو.

الهوامش



([1]) هذه الدراسة هي المقدمة النظرية لكتاب أعمل على انجازه.

([2]) صدرت عام 1977. ينظر: المبعدون، هشام توفيق الركابي، وزارة الإعلام ـ بغداد، 1977.

([3]) (الرواية متعددة الأصوات) أو (رواية الأصوات)، هما المصطلحان الشائعان في الاستخدام النقدي؛ وسأستخدمهما بدلالة واحدة، حتى أصل الى المصطلح الذي أراه أكثر دلالة ومطابقة لهذا النوع من البناء الفني الروائي.

([4]) ميخائيل باختين المبدأ الحواري، تزفيتان تودوروف، ت: فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت، ط. 2، 1996، ص 162.

([5]) الرواية البوليفونية أو الرواية المتعددة الأصوات، د. جميل حمداوي،

www.alukah.net/publications_competitions/0/39038/

([6]) حسب ما جاء في الكتب المترجمة عنه.

([7]) كل تلك الآراء مبنية على أساس أن ما وصلنا من ترجمات لكتب باختين دقيقة في فهم ونقل المصطلح، والعكس بالعكس.

([8]) حين وضع ثلاث نهايات للرواية، على أساس تعدد وجهات النظر. ينظر: امرأة الغائب، مهدي عيسى الصقر، دار المدى للثقافة والنشر – بغداد، ط1، 2004، ص 239 - 245.

([9]) يستخدم الناقدان فاضل ثامر وشجاع العاني هذا المصطلح، بعد أن في ورد في بحوث وكتب باختين المترجمة الى العربية. بينما يستخدم الناقد محمد نجيب التلاوي مصطلح رواية الأصوات. ولا أرى فرقا كبيرا في الدلالة بينهما، باستثناء المنهج النقدي لدى الباحثين.

([10]) وهو مصطلح موسيقي، يحتاج نقله الى نقد الرواية الى تدقيق، وعدم استسهال التعميم.

([11]) لسان العرب، ابن منظور، ضبطه د. خالد رشيد القاضي، دار صبح& دار الأبحاث ـ الجزائر، ط1، 2008، ج7، ص401.

([12]) قاموس السرديات، جيرالد برنس، ت: السيد إمام، ميريت للنشر والمعلومات ـ القاهرة، 2003، ص 210.

([13]) معجم السرديات، إشراف: محمد القاضي، دار محمد علي للنشر ـ تونس، ط1، 2010، ص 276.

([14]) م. ن، ص276.

([15]) بين الأدب والموسيقى، اسعد محمد علي، دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد، 2005، ص 51.

([16]) م. ن، الهامش (3)، ص 61.

([17]) الموسيقى، مجموعة مؤلفين، دار المعارف بمصر، د. ت، ص 134 -135.

([18]) بين الأدب والموسيقى، م. م، الهامش (2)، ص61.

([19]) لم أعثر على ذكر أقدم لهذا المصطلح مما موجود في هذا البحث، إلا من الروائي العراقي هشام توفيق الركابي، الذي كتب أكثر من رواية بهذا الشكل؛ ومازلت أتساءل: من أول من جاء بهذا المصطلح الى الثقافة الروائية العراقية والعربية، ومتى؟ بوجود هذا النوع من الرواية في العراق منذ صدور (خمسة أصوات) سنة 1967.

([20]) الرواية في العراق 1965 ـ 1980 وتاثير الرواية الامريكية فيها، د. نجم عبد الله كاظم، دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد، 1987، ص142.

([21]) تجدر الإشارة الى ورود هذا المصطلح في دراسة الناقد فاضل ثامر ـ المذكورة في المتن في التسلسل (3. 1. 3) ـ بصيغة قريبة، هي: "وجهة النظر المتعددة"، وقد يتعلق هذا التشابه بواحدية المصدر الذي هو الدراسات الانكليزية والأمريكية. ينظر: الصوت الآخر الجوهر الحواري للخطاب الأدبي، فاضل ثامر، دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد، 1992، ص23.

([22]) مئة عام من الفكر النقدي، سعيد الغانمي، دار المدى للثقافة والنشر، 2001، ص183.

([23])ينظر: ميخائيل باختين المبدأ الحواري، م. م، ص5.

([24]) الصوت الآخر، م. م، ص 21، ص 22، ص 26، ص29.

([25]) هي: 1) جلال خالد. 2) مجنونان. 3) الدكتور ابراهيم. 4) اليد والأرض والماء. ينظر: الصوت الآخر، م. م، ص39.

([26]) التي هي "رؤيا نقدية واقعية حداثية ترفض تغييب الايديولوجي والسوسيولوجي والتاريخي لحساب الجمالي والشكلاني والنهلستي (العدمي)"، وما بعده. م. ن، ص12، ومن خلالها قرأ الناقد تلك الروايات، مما يجعل الأستاذ فاضل ثامر ضمن دائرة النقد الواقعي والايديولوجي والسوسيولوجي، محاولا الإفادة من المناهج الحداثية النصية والجمالية، من خلال دمجها بمنهجه الأساسي، وهو ما يبدو صعبا أو شبه مستحيل. ينظر: بدلا عن المقدمة، م. ن. ص 7 – 17.

([27]) "ومن هنا نرى أن رواية.... تكشف عن الكثير من المظاهر المبكرة للرواية متعددة الأصوات، والتي تتمثل في تعددية أشكال الوعي المتعارضة وغير الخاضعة لمنظور ايديولوجي حاكم". ينظر: م. ن، ص44. الذي يشير الى انزياح نسبي في المنهج، يؤكد على وجهة النظر ابتداء، ثم يعود لتشخيص تمثيلها لـ "النماذج الإنسانية"، من خلال المنهج السوسيولوجي، وعدم الالتفات الى الخصوصيات البنائية.

([28]) م. ن، ص 23.

([29]) شعرية دوستويفسكي، ميخائيل باختين، ت: الدكتور جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر ـ الدار البيضاء & دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد، 1986.

([30]) الذي هو أحد مرادفات وجهة النظر.

([31]) الراوي: الموقع والشكل، يمنى العيد، مؤسسة الأبحاث العربية ـ بيروت، 1986، ص 33.

([32]) م. ن، الصفحات: 27، 30، 33.

([33]) ينظر: البناء الفني في الرواية العربية في العراق – 3 – بناء المنظور، الدكتور شجاع مسلم العاني، دار الفراهيدي للنشر والتوزيع - بغداد، 2012.

([34]) المبدأ الحواري دراسة في فكر ميخائيل باختين، م. م، ص5.

([35]) وجهة النظر في رواية الأصوات العربية، د. محمد نجيب التلاوي، منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق، 2000، ص 46.

([36]) م. ن، ص 12.

([37]) بالتعدد الشاسع للمصطلحات البديلة للمفهوم عينه.

([38]) لم ترد لدى كل الباحثين الذين تحدثوا عن باختين أية إشارة تعتبر باختين ناقدا أسلوبيا، على الرغم من اهتمامه الكبير بها، واشتغاله عليها، باستثناء كتاب (الكلمة في الرواية، ص5، ص7).

([39])م. ن، ص5.

([40]) عند قراءتي لمختصر هذا البحث – في الجلسة النقدية لمهرجان المتنبي الحادي عشر في جامعة واسط - اعترض الناقد فاضل ثامر على ورود مصطلح (الرواية متعددة الأصوات) في سياق كلامي؛ بقوله: اعتمدها الباحث. وحيث أنني رفضت هذا المصطلح، وكنت متأكدا من عدم استخدامي إياه ـ اعتمادا ـ فلم أتفق معه. لكنني أعدت قراءة هذا البحث حتى وجدت هذه الإشارة التي ربما هي ما فطن اليه الأستاذ فاضل ثامر. وإذ تؤكد التفاته هذه شدة انتباهه، فإنني أراها آتية من وجهة نظر الباحث الدكتور جميل حمداوي، والباحثين الآخرين؛ فشكرا له.

([41]) الرواية البوليفونية، م. م، تاريخ النشر: 8/ 3/ 2012.

([42]) تحليل الخطاب الروائي الزمن السرد التبئير، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي ـ المغرب، ط4، 2005، ص7.