رسالة الأردن

مهرجان جرش: يوبيل لا يحسد عليه

طارق حمدان

1981 2007
ارتبط اسم مهرجان جرش في أذهان كل الشعوب العربية، في وقت لم يكن في البلاد العربية أي مهرجان يجاريه من ناحية الزخم الجماهيري الكبير وحجم الفعاليات، انطلق المهرجان انطلاقة متواضعة في العام 1981 بفكرة جاءت من مجموعة طلاب وشباب من جامعة اليرموك، وخلال مدة قصيرة تبنته الدولة، وأخذت بتطويره ليصبح مهرجانا رسميا ترعاه عدة جهات رسمية أبرزها وزارة الثقافة. شكل المهرجان منذ تأسيسه حلقة وصل ربطت  المواطن الأردني بالفن والثقافة حول العالم، والعكس تماما حيث كان المهرجان يعكس  الصورة الحضارية للأردن عالميا, لما كان يحويه من فعاليات فنية وثقافية، عدا انه كان محط  اهتمام كل الفنانين والشعراء الذين علقوا عليه آمالا، وليس مبالغا فيه إن قلنا أن مهرجان جرش كان في وقت من الأوقات, رخصة عبور حقيقية لكل مبدع و فنان وشاعر  نحو الشهرة و النجومية.وانطلاقة قوية للعديد من الفنانين المعروفين في وقتنا مثل كاظم الساهر ونجوى كرم وأحلام، كما وشهدت مسارحه وقفات للعديد من عمالقة الفن العربي مثل فيروز، محمد عبده، نجاة الصغيرة، وردة، سعدون جابر، مارسيل خليفة، ماجدة الرومي، صباح فخري، ملحم بركات، وليس غريبا إن قلنا أن مدرجه الجنوبي كان في يوم من الأيام يمتلئ بكبار الشعراء كمحمود درويش والبردوني و ادونيس و سميح القاسم.
شهد المهرجان منذ انطلاقته أزمات عديدة وكان يتجاوزها برشاقة أهلته لأن يستمر بقوة، ولعل من ابرز الأزمات التي واجهها المهرجان تلك التي واجهته في العام 1991 إبان الحرب على العراق عندما واجه وقتها معارضة شديدة على إقامته  من قبل بعض الجهات والأحزاب المعارضة، مما دعا الحكومة وقتها إلى دعوة مغنين ملتزمين وأصحاب نزعة وطنية  مثل جوليا بطرس ومارسيل خليفة. في السنوات العشر الأخيرة بات مهرجان جرش يشكل عبئا كبيرا على الدولة, التي كانت ترصد له مبالغ ضخمة في وقت كانت فيه خسائره  تتراكم، والآن, وبعد هذا اليوبيل يجب الاعتراف بأن المهرجان اخذ يسجل تراجعا خطيرا  بلغ ذروته في هذه الدورة التي شكلت خيبة كبيرة لكل من عرف جرش ومهرجانها.

جرش في يوبيله الفضي
فضائح علنية، مدرجات فارغة، فرق وفنانون يلغون حفلاتهم ، أبواب تفتح مجاناً لاستقطاب الجماهير وحفظ ماء الوجه، اعتذارات بالجملة لنجوم لهم وزنهم ، تبريرات واهية امن مكثف، وجوه متجهمة، اتهامات متبادلة بين الفنانين وإدارة المهرجان، فزعة إعلامية رسمية غير مجدية، ودفاع مستميت عما تبقى من مهرجان. هذا ماكان عليه مهرجان جرش في عيده الخامس والعشرين.

كل الذين عاشوا مهرجان جرش وتابعوه يؤكدون بأنه لم يشهد هذه "الحالة المزرية" من قبل، فقد ظل المهرجان في هذه الدورة بلا جماهير تقريبا، حيث ظلت مسارحه شبه خاوية طيلة فترة انعقاده، المسرح الجنوبي الذي كان يغص بالجماهير سابقا، ظل في هذه الدورة خاويا إلا من بضع مئات تواجدوا أحيانا بدون تذاكر حتى، أما المسرح الشمالي فلم يكن بحال أفضل فقد ظلت  مقاعد مدارجه خاوية  في معظم الليالي،  ويعتبر المسرح الجنوبي قلب المهرجان الذي يضم ابرز وأضخم الفعاليات، ومع هذا ظل المسرح خاويا, بالرغم من مستوى الفنانين الذين تمت دعوتهم، فقد كانت أولى لياليه الغنائية مع الفنان المصري هاني شاكر الذي لم يبدأ غناءه قبل منتصف الليل بنصف ساعة بسبب عدم تواجد جمهور كاف لم يتجاوز ليلتها 500 شخص, دخل معظمهم دون تذاكر لحفظ ماء وجه الفنان.

أما الليلة التالية فقد شهدت الفنانة لطيفة التونسية ليلة لا تحسد عليها، إذ لم يتواجد ليلتها في المسرح سوى 200 شخص. دخل معظمهم بلا تذاكر أيضا، بل انه تسرب ليلتها انه لم يتم بيع سوى 30 تذكرة لحضور الحفلة ( بعد عدة أيام احيت لطيفة حفلا في مهرجان قرطاج حضره (11 الف متفرج )، وجاء بعد لطيفة الفنان عاصي الحلاني ثم تلته نجوى كرم, ولم تكن احسن حالا, حيث لم يتجاوز جمهورها البضع المئات، و يبدو أن تواجد اللاجئين العراقيين في عمان قد حفظ ماء وجه الفنان ماجد المهندس، إذ امتلأ المدرج ب1500 شخص, علما بأنه يتسع ل 6 آلاف فقط، ولما جاء دور فضل شاكر هبط المؤشر إلى بضعة مئات، وتلاه  الفنان الخليجي حسين الجسمي والذي عول على السائح الخليجي وقدومه إلى الحفل, ولكن للأسف لم يتجاوز الجمهور المئات ( الجسمي أحيا بعدها حفلة في مهرجان قرطاج حضرها 8000 آلاف شخص), وكان بعدها عرض لفرقة الجيل الجديد للرقص الشركسي وحضره جمهور تجاوز 2000  متفرج لأن سعر التذاكر كان  مناسبا، وبعدها كان المسرح على موعد مع الفنان العراقي كاظم الساهر الذي أحيا حفلتين على مدار ليلتين، استقطب جمهورا أكثر من كل الحفلات السابقة, وقد ساعده في ذلك تواجد الجالية العراقية التي تقدر بمليون عراقي في عمان، ولم يكن هناك شيئا محرجا أكثر من حفلة الفنان اللبناني العملاق وديع الصافي برفقة فرناندو خوسيه والتي لم يتجاوز جمهورها ال 400 متفرج.

وتوالت خيبات المسرح على هذا المنوال مع رواد الأغنية الأردنية وعرض فرقة ويباخ الشيشانية، عدا حفلة الفنانة نانسي عجرم التي استطاعت ان تملأ الجزء الأكبر من المسرح الذي ظل حزينا طيلة أيامه السابقة، وجاء  فارس كرم في الليلة التي تلتها ليرفض الغناء دون جمهور، مما اجبر الإدارة على  إدخال معظم من تواجد على أطراف المسرح الخارجية  مجانا، الحفلة الأخيرة على المسرح الجنوبي كانت للفنان الأردني عمر العبداللات ، الذي استطاع أن يملأ المدرجات التي ظلت خاوية طيلة 15 يوم، ولكن السؤال كيف امتلأت تلك المدرجات، لا احد ينكر أن الفنان  عمر العبداللات هو الفنان الأردني الأكثر شعبية والذي يتمتع أيضا بجمهور واسع أردنيا، ولكن كان هناك تسريبات تحدثت بأن الفنان قام بحملة إعلانية على نفقته الخاصة، وكان هناك مقدار كبير من "العزايم" والدعوات للحفل،  ويكاد يكون الفنان الوحيد الذي بث له التلفزيون الأردني دعايات خاصة لليلة حفلته، بالإضافة إلى بث الحفل كاملا على الهواء مباشرة.

تسونامي الفضائح والإلغاء
لم يكن الإخفاق مقتصرا على المسرح الجنوبي فقط  بل شمل كل المهرجان، ولعل أبرزه ما حدث في المسرح الشمالي وفعاليات عمان، فحال المسرح الشمالي لم يختلف عن أبيه الجنوبي، بل كان أكثر إحراجا وتعقيدا، حيث قام العديد من الفنانين والفرق بإلغاء عروضهم التي كان من المفترض أن تقام على خشبة الشمالي، فاعتذرت فرقة جلنار السورية عن الحضور لتقديم عرضها عليه, واعتذرت أيضا عن الحضور إلى المركز الثقافي الملكي الذي كان من المقرر أن تقدم عرضها فيه بعد جرش، كما ألغى الفنان السوري بشار زرقان حفله الذي كان من المقرر أن يقام على نفس المدرج يوم 13 اب، وعلل ذلك بقلة الإقبال وانعدام  الجمهور، وقال في تعليقه على قرار الغاء حفلته "إن المهرجان في أزمة فظيعة لا يعرف أسبابها"،  وكان قرار زرقان (بالإلغاء) هو نفس القرار الذي اتخذته الفرقة الإفريقية النيجيرية  "اباما" أيضا، ففي الوقت الذي كان من المفترض أن يقدموا فيه عرضهم كان أعضاء الفرقة يوضبون حقائبهم استعدادا للرحيل.
فعاليات عمان لم تنج  أيضا من تسونامي الفضائح التي طالت مهرجان جرش هذا العام، فلم يختلف حال فعاليات عمان كثيرا، ولعل من ابرز الفعاليات التي أقيمت في عمان عرض مسرحية "البودي غارد" للفنان عادل إمام التي لم تحقق ما كان مأمولا, حيث عرضت على مدار ثلاثة أيام ولم تنجح في اجتذاب أكثر من5500 متفرج، في وقت كان من المتوقع فيه أن يبلغ عدد الجمهور 18 ألف متفرج، وامتد غياب الجمهور  ليشمل حفل الفنانين الأردنيين سعد أبو تايه ونانسي بيترو، حيث سجل الحضور 15 شخصا، كان نصفهم من الصحفيين!! موجة الإلغاءات طالت أيضا ما هو محلي, فقد تم إلغاء ندوة  "واقع الأغنية العربية المعاصرة" التي كان سيقدمها  د. أيمن تيسير مدير المنتدى الأردني للموسيقى، بمشاركة فنانين وموسيقيين لهم وزنهم، ولعل أكثر الأحداث المحزنة "جرشيا" هو إلغاء الحفل الموسيقي الذي كان من المقرر أن تحييه فرقة اوركسترا البحرين على مسرح المركز الثقافي الملكي، حيث الغي الحفل بسبب عدم تواجد الجمهور، فبعد انتظار دام أكثر من ساعة ونصف قرر الدكتور احمد الجميري إعادة الآلات الموسيقية إلى حقائبها  والعودة إلى الفندق، ويبدو أن (الجمهور) الذي لم يتجاوز ثلاثة أشخاص من بينهم صحفيان!، كان السبب الرئيسي في تثبيط عزيمة الفرقة البحرينية التي جاءت إلى المركز الثقافي الملكي محملة بالنشرات السياحية والمعلومات التي تتحدث عن فرقتهم, وعن بلدهم البحرين في لفتة لطيفة للتعريف ببلدهم، والتي وضعوها بكميات كبيرة على مدخل المسرح الذي ظل شاحبا طوال تلك الليلة، كما وطالت موجة الإلغاء عرض أوبرا جاسر الهولندية، التي كان من المقرر أن تقدم عرضها في مركز الحسين الثقافي.

مهرجان جرش الشعري.. "كوميديا سوداء"
في مهرجان الشعر كانت هناك أسئلة كثيرة يمكن لأي مهتم بالشعر أن يسألها, تتعلق  بتكرار الأسماء  ونوعية الشعراء الذين تتم دعوتهم  وانفضاض جمهور الشعر. حيث لمس الجميع  انعدام الجمهور  في أمسيات جرش الشعرية، إلى حد دفع البعض الشعراء المدعوين إلى الشكوى " لماذا على الأقل لا يحضر الشاعر الأردني؟"  الأمر الذي يستدعي تفكيراً جدياً في جدوى ظاهرة المهرجانات الشعرية, ولماذا لا تحقق النجاح المرجو لها. ظل  شعور عام  بهشاشة هذا الزخم (المهرجاني) يسيطر على الأجواء، وتحدث الجميع عن تكرار الأسماء التي تتم دعوتها في كل دورة، نفس الأسماء يتفاجأ بها الجميع كل سنة, وكأن هناك مقاعد حجزت خصيصا لشعراء اعتادوا المجيء إلى هذا المهرجان.

لم تكن ظروف المهرجان الشعري ملائمة لا للشعر ولا للشعراء، حيث ساد معظم الأمسيات نوع من الفوضى، لمسها الجميع عندما تم تغيير مواعيد الأمسيات والبرامج لأكثر من مرة، وظهر سوء الإدارة والتخطيط منذ الأمسية الأولى، عندما توجه احد الشعراء للجمهور ليسألهم إن كان احدهم يجيد اللغة الاسبانية أو الفرنسية، وذلك للتفاهم مع احد الشعراء الأجانب المدعوين للمشاركة في الأمسية، وهو الشاعر التشيلي لويس أرياس مانثو الذي تأخرت أمسيته ساعة  كاملة!، ناهيك عن الاهانات التي وجهت للشعر والشعراء، بسبب (روائع) عبدالله باشرحبيل التي وجهها ضد الشعر، فكان السعودي عبدالله باشراحيل قد استغل وقوفه على المنصة، ليطلب يد الشاعرة السورية سهام شعشاعة  ويقدم لها الشمس والقمر مهراً!، وكانت "الكارثة" في الضحكة التي انفلتت عنوة من الشاعرة السورية رشا عمران، فما كان من عبدالله باشرحبيل  سوى أن يوجّه الشتائم والكلمات الجارحة إلى عمران، و فتحت تلك الحادثة  أسئلة كثيرة عن المعايير التي يتم فيها اختيار الشاعر ودعوته، وطرحت تلك الحادثة  أيضا الكثير من الإجابات حول لماذا تفشل مهرجاناتنا الشعرية؟.

تساؤلات وأسباب
فتح هذا "العيد المؤسف"  بوابة التساؤلات في وجه الجميع وتدفقت الاسئلة صارخة : هل شاخ المهرجان فعلا في يوبيله الفضي؟ هل كان ضحية سوء إدارة وتخطيط؟ هل بات الخبز الأولوية الوحيدة التي تجهد تفكير المواطن الأردني بحيث لم يعد يلتفت للمهرجانات وغيرها؟ هل طغت الفضائيات على تلك النوعية من الهرجانات؟ أين السائح؟ أين المهتم؟ أين ابن البلد؟ أين المهرجان؟ هل هي مشكلة تسويق؟ هل هي مشكلة إدارة؟  ومن المسؤول عن هذا الفشل والسقوط المدوي؟

رافقت الانطلاقة الخافتة  الكثير من التصريحات والتساؤلات, استمرت طوال فترة المهرجان، وبدأ الخلل بالظهور منذ أول ليالي المهرجان. وكان هذا الخلل واضحا في أول حفلة على المسرح الجنوبي التي كانت للفرقة الأمريكية ozomatli والتي لم يحضرها سوى 150 شخصا، علل الطاقم الإعلامي سبب هذا الضعف، بأن الفرقة أجنبية وهذا اللون من الغناء غريب عن ثقافة الجمهور الذي ينتظر الفنانين العرب، وجاءت حفلات الفنان هاني شاكر ولطيفة وعاصي الحلاني لتثبت بأن المهرجان فعلا يعاني من خلل ما، مما دفع إدارة المهرجان إلى الخروج للإعلام والتصريح بأن انهماك المواطن الأردني في عملية الانتخابات البلدية, وتزامن الانتخابات مع المهرجان, بالإضافة إلى  تزامنه مع نتائج الثانوية العامة  ابرز العوامل التي أدت إلى انحسار الجمهور في الأيام الأولى، ووجد الكثير أن تلك الأسباب التي صرحت بها مديرة المهرجان بالوكالة لبنى الفار هي أسباب واهية، وثبت ذلك عندما انتهت الانتخابات وانتهت نتائج الثانوية دون أن تنتهي أزمة المهرجان.
و لابد أن المهرجان قد عانى من مشاكل جمة في هذه الدورة ولعل من أبرزها:

1-  "التسويق".  تحدث الجميع عن ضعف كبير في عملية التسويق والترويج للمهرجان، فقد كانت إدارة المهرجان قد تعاقدت مع شركة خاصة هي شركة "الجسر الذهبي" التي أوكل لها القيام بعملية التسويق، تلك (العملية)  التي تحدث عنها الجميع. لم يشعر الداخل الأردني بالزخم التسويقي للمهرجان وبرزت في أذهان الجميع عبارة "مشكلة التسويق"، فليس من المعقول أن تبدأ الحملة الإعلانية قبل انطلاق المهرجان بيومين أو ثلاثة، حيث ابدى كثير من الفنانين المشاركين استغرابهم واستياءهم الذي انعكس على شكل تصريحات للإعلام أشاروا فيها  إلى ضعف وانعدام الجانب التسويقي الذي أدى إلى فشل المهرجان, ومنهم هاني شاكر وبشار زرقان واحمد الجميري وحسين الجسمي, ولعل أبرزهم  الفنانة لطيفة التونسية  التي شنت هجوما لاذعا على إدارة المهرجان وطاقم التسويق الذي "استخف بالمهرجان قبل ان يستخف بالفنان" حسب رأيها، وبرزت أصوات كثيرة من الفنانين الأردنيين الذي شاركوا في المهرجان، وحملوا جانب التسويق المسؤولية الكبرى في تدهور أوضاع المهرجان وكان منهم الفنان سعد أبو تايه و الفنانة نانسي بترو اللذان حملا مسؤولية فشل حفلتهم التي لم يحضرها سوى 15 شخصا  إلى "ضعف الإعلام والترويج".
لم يكن هناك يافطات تعلن عن مهرجان جرش بالشكل الكافي في عمان وغيرها من المدن الأردنية ، وظل الناس يتساءلون عن أماكن بيع التذاكر التي لم يعلم احد بمكان بيعها، حتى في المكتب الإعلامي التابع لمهرجان جرش كانت  (الوطن) قد اتصلت  للاستعلام عن حفلة ستقام ضمن فعاليات عمان ان كان هناك تذاكر ام لا. وكانت أخبار قد تسربت مفادها أن شركة الجسر الذهبي قد عقدت شراكة مع شركة تسويق إسرائيلية بهدف الترويج للمهرجان داخل أراضي الـ 48 وكان قد نشر إعلانات في الصحف الإسرائيلية، استعمل فيها شعار «جرش» مع شركة  بوبليسس سيكتورز" الإسرائيلية، ويبدو ان الحملة التسويقية "الضعيفة أصلا" كانت تتركز على السائح العربي في وقت اغفل فيه المواطن الأردني الذي لم يعره التسويق أي اهتمام، و بان هذا واضحا في أول أيام المهرجان، حيث تركزت الإعلانات عن المهرجان واليافطات على طول طريق المطار, وعند دخول المدينة كان يتفاجأ الجميع بشحها،  ففي الأيام الأولى تم دفع مبلغ 20 الف دينار فقط على إعلانات المطار، في وقت كانت تكاد شوارع عمان تكون خالية من أي يافطة تعلن عنه. الإعلانات التلفزيونية كانت معدومة في الفضائيات، وحتى التلفزيون الأردني الذي "فزع" للمهرجان في آخر أيامه كان يبث دعايات تعلن عن حفلات مضى وقتها وقدمت منذ بضعة أيام!، ولم يكن التلفزيون الأردني في بداية المهرجان يملك حق بث أو تصوير الحفلات.

2- حال المواطن الأردني الذي صار يجهد حاليا للحفاظ على متطلبات حياته الأساسية من خبز وماء وكهرباء وبنزين، ففي ظل الغلاء المعيشي والارتفاعات التي قصمت ظهور الكثير من الأردنيين يبدو أن المواطن الأردني لم يعد يلتفت إلى المهرجانات وغيرها، فالجميع لمس ارتفاع سعر التذاكر مقارنة بالوضع المعيشي المتدهور الذي يشهده المواطن, والذي لا يتناسب مع مقدرته الشرائية، فكانت تذكرة المسرح الجنوبي تباع ب 15 دينارا، ومجرد الدخول إلى منطقة المهرجان كان يكلف دينارا للشخص، وهذا سؤال يطرح برسم الإجابة: هل يستطيع رب العائلة الآن أن يصطحب عائلته المكونة من خمسة أفراد ليدفع 150 دينارا (راتبه الشهري) ثمن دخول فعالية؟ ناهيك عن الوضع الإقليمي والظروف السياسية المحيطة، التي أثرت أيضا على نفسية المواطن وجعلته ينظر إلى المهرجان كطير يغرد خارج السرب.

3- "أجواء المهرجان غير المشجعة" اذ لمس الكثيرون ممن  زاروا المهرجان غياب الاجواء المريحة، وكان الأمن المكثف وطريقة تعامله مع الجمهور من أكثر الأمور التي نفرت الكثير من الحضور، فالكثير ابدوا اعتراضهم على  آلية التفتيش  التي كان يفتش بها القادمون عند بوابة المهرجان، وعلى "التجهم في وجه الناس من قبل رجال الشرطة". وكان مظهر رجال الشرطة القابضين على عصيهم في هيئة استعداد يثير القلق  واقل ما يقال عن انه لا يلاءم الأجواء الاحتفالية! حتى بعض الفرق الفنية كانت قد اشتكت من عملية التفتيش، حيث قال المايسترو خليفة زيمان قائد فرقة اوركسترا البحرين " لقد فاجأت السلطات الأمنية الفرقة بإحضارهم احد الكلاب البوليسية وزجه بين أمتعة الفرقة والآلات الموسيقية" حيث وصف هذا التصرف "بالتصرف غير اللائق, والذي أثر على مزاج الفرقة ودفعهم للاستياء ". هل كان من الممكن للمواطن الأردني او السائح العربي  ان يقوم بنصيحة جاره او صديقه للذهاب إلى المهرجان في ظل هذه الاجواء؟

4- التركيز على السائح العربي والمغترب على حساب المواطن الأردني، فلم يعد المواطن الأردني يشعر بتلك الحميمية التي كان يشعر بها سابقا تجاه مهرجان جرش، ويتحدث الكثير عن توجه إدارة المهرجان لاستقطاب السائح العربي والخليجي خصوصا والمغتربين، دون الاهتمام بالشريحة الشعبية التي كانت تتفاعل مع المهرجان من خلال الفعاليات والعروض ونوعية الفنانين وسعر التذاكر. أي زائر لمهرجان جرش يستطيع ان يلمس ذلك جليا من خلال الفرق الشاسع والهائل ما بين المدينة الاثرية التي توجد فيها الفعاليات، ومدينة جرش نفسها التي تغيب عنها اقل الاجواء المهرجانية، فتكاد تكون  العلاقة شبه معدومة بين أهل المدينة وبين مهرجان مدينتهم! وأول مايلفت النظر عند زيارة المهرجان شباب المدينة المتجمهرين أمام مداخل البوابات والذين لا يستطيعون الدخول لأسباب مادية.

5- عمليات الحفر وتحسين الطريق التي تربط عمان بمدينة جرش، والتي تزامنت مع وقت المهرجان، حيث ظلت الطريق المؤدية إلى  مدينة جرش الأثرية من عمان مغلقة، وظلت  تشهد عمليات تحسين ابتداء من البقعة، ولم يتم الإعلان للجمهور عن التحويلات والطرق البديلة لتسهيل وصولهم ولإعلامهم عن الطريق قبل توجههم. وهنا سؤال سيظل  برسم الإجابة أيضا: الم تجد مديرية أشغال العاصمة ومديرية أشغال جرش توقيتا أفضل من هذا التوقيت للقيام بأعمالهم؟

6- التركيز على الجانب الربحي من المهرجان، وهذا أدى إلى تقليص الأنشطة والفعاليات الشعبية, والتركيز  على مجموعة فنانين المسرح الجنوبي الذين ربط  مصير المهرجان بهم، الأمر الذي أدى أيضا إلى غياب وتدني المستوى الثقافي والفني، بحيث لم يتم التعامل مع مهرجان بقدر ما تم التعامل مع مسرح جنوبي.

7- سوء الإدارة والتنظيم، فمن الواضح ان إدارة مهرجان جرش الجديدة  لم تتعامل مع المهرجان بالطريقة المناسبة, وكانت الارتجالية والإرباك والعشوائية سيدة الموقف. طوال فترة المهرجان لم يتم الاعتراف ابدآ بالأخطاء التي حصلت وظلت إدارة المهرجان تصر في كل مناسبة على أن الانتخابات ونتائج الثانوية هي الأسباب الرئيسية  التي أدت إلى عدم إقبال الجماهير، وكأن الانتخابات لدينا هي انتخابات تجري في فيينا أو في باريس حيث يهرع جميع الناس للانتخاب، أو كأن كل الشعب الأردني طلبة توجيهي ينتظرون نتائجهم التي لا تظهر أبدا! كان من الواضح والجلي أن إدارة المهرجان لم توفق  بإدارة مهرجانها في وقت كان فيه مهرجان قرطاج يزدحم بحشود من عشرات الألوف لمجرد فرقة صغيرة راقصة. وأن 800 ألف شخص احتشدوا لسماع الموسيقى في مهرجان يدعى مهرجان  زيورخ للموسيقى.
حادثة "اليوبيل الفضي"  فتحت الكثير من الأسئلة عن جدوى استمرار مهرجان جرش بهذا الحال  الذي احزن الكثير، وكيف  من الواجب على جميع الجهات المعنية  ان تطرح نقاشا جادا حول كيفية معالجة الخلل والمرض الذي أصاب المهرجان من عدة سنوات،  ليلقيه أرضا في يوبيله الخامس والعشرين. اليوبيل الذي لن ينساه الأردنيون أبدا. اليوبيل الذي لا يحسد عليه.