ليس ما يكتبه القاص المصري المرموق هنا مجرد مراجعة لكتاب شيّق، ولكنها أنشودة حوارية تدير جدلها الخصب مع بنيته التحتية المضمرة، وتكشف لنا عن امتزاج السيرة الذاتية فيه بسرد الرحلة التي ترفض التسليمَ بما اتفقت عليه وكالاتُ السفر والسياحةن ليقدم لنا سردا أدبيا راقيا، فيه مجاهدات معرفية ووجودية وروحية.

إنْ طَافَ، و إنْ قَارَبَ، و إنْ آبْ

عاطف سليمان

في كتابه «عين وجناح»، يقصُصُ الكاتبُ محمد الحارثي عن حياته ومشاهداته وحوادثه في البلاد الغريبة وغير الغريبة باستنارةٍ أشعرتني به وكأنه أثناء ترحالاته كان يسرحُ بخياله هنيهاتٍ فيختلسُ اختلاساتٍ يرقُب فيها بيتَه في وطنه الأصلي، عُمان، ويظن أن مكانَه – للعجب - قد خلا منه. وهو، في سريرته، يرجو ألَّا يخلو مكانُه منه حتى أثناء ترحالاته، فماذا عساه يفعل؟ كأني به وقد باتَ يراسل نفسَه البعيدة المقيمة ويراسل مكانَه الأصلي، ويوافيهما بقصص ترحالِه؛ قصصاً مرحة وحكيمة، رصينة، حافلة بالطرائف والحكايات والإحالات الممتعة والثمينة. بدا لي أنَّ الكاتبَ قد آمن بأن المدائن التي كتب عنها سوف تُطالِع ما سطره هو عن شؤونها في كتابه وتُحاجِجه فيها، وبأن الحوادث التي أرَّخها سوف تستشهد بنصوصه وتحفظها عنه، وبأنه، هو، لا يعبُرُ بالأماكن والبشر والأحداث، وإنما يقيمُ نهائياً في أماكنه قاطبةً، ويظل مع كل مَن التقى بهم من بَشرٍ فلا تمرقُ الأحداثُ إلى الذكريات إنما تُعاشُ قيْد الدوام. لعله قد تبدى، كما ساحرٍ، يخُطُّ على أرضِه خطاً بعصاه، ويعبر الخطَ فيسافر في لمح البصر، ولا يُبهِظه ذلك أنْ يظل أيضاً ماكثاً في أرضه، مقيماً، يُلقي التحيات.

يرتحل الإنسانُ ويحُطُّ في أراضٍ وبلادٍ غريبة عنه، وإذا ما كان ترحاله نافِذاً عميقاً مخلِصاً فإنَّ معنى الوطن يغدو مُسَاءَلاً ويغدو مُناوَشاً، وقد يباتُ الوطنُ هو اليقين مثلما قد يبات وهماً عزيزاً من الأوهام، ليس غير.

يقول الكاتبُ محمد الحارثي إن قبائل "الماساي"، في شرق إفريقيا، تعتبر الترحُّلَ هو الوطن المتحقِّق، وإنها ترتحلُ وترحلُ أبداً، وغايتها هي اللا وصول!

في الفصول الأولى من كتابه يسافر الكاتبُ إلى جزيرة "سانت توماس" وسط مياه البحر الكاريبي في "بورتوريكو"، التي اشترتها الولايات المتحدة قبل مئة سنة، مع جزيرتيْن أخريين، بالدولارات من الدنمارك، وقد وصل إليها بطائرة برمائية صغيرها، طارت بها حسناءُ ثم حطت في ميناء الجزيرة، حيث محاضرات بيولوجيا الأحياء المائية التي كان سيتلقاها الكاتبُ مع زميلات وزملاء، أحياناً على اليابسة، وأحياناً وسط الكائنات البحرية في مياه الكاريبي بمعدات الغوص أو في جوف غوَّاصة مُعدَّلة.

دارَ الزمنُ، وصارت الطائرات العُمانية بمثابة بشارة في سماء جزيرة "زنجبار"، الواقعة في شرق إفريقيا، والكاتبُ يتملَّى من نافذة طائرته معالم هذه الجزيرة التي كانت يوماً عاصمة الإمبراطورية البحرية العُمانية، ثم صارت بعد ثورة 1964 في اتحادٍ مع "تنجانيقا"، وغدا اسمهما معاً "تنزانيا". ولمدة شهريْن، أقام في غرفة بمنزل عربي قديم، مع الأسرة صاحبة المنزل، وقد حمل دائماً بين يديه، في غدوه وفي رواحه، حزمةَ مفاتيح وزنها نصف كيلو جرام، لزوم فتْح مغاليق الأبواب والطرقات والممرات الموصِّلة إلى غرفته ذات الشرفة المطلة على المحيط الهندي، إلى أنْ كان له أن يبحر بالسفينة إلى الجزيرة الثانية؛ "بيمبا"، ورآها لا تزال مسكونة بالهوى والملامح العُمانية وبالذكرياتٍ عن الأميرة "سالمة بنت سعيد".

وفي تايلاند، وصل إلى "كو - ساموي"، أي جزيرة "ساموي"، في بحر الصين الجنوبي، التي ظلت معزولة وغير معروفة للعالم الخارجي حتى سنة 1940 بسبب صعوبة الوصول إليها. ومن "كو - ساموي" انتقل بالزورق إلى الجزيرة الوسطى؛ "كو - بنغان"، والتقى فيها بالرسَّام "ماتـي - تونغ"، الذي يرسم الحياةَ في لوحات بسيطة، تتكرر ولا تتكرر، باثاً فيها من فلسفة مُعلِّمه. وفي رحلة أخرى وصل إلى الجزيرة الصغرى؛ "كو - تاو"، مأوى التنعم بالغطس والسَّكينة والكسل.

وفي ﭬـييتنام سيضبط نفسَه وهو يُضاهي مدينة "سايجون"  بمدينة "الرباط" إذْ تتناظر له في المدينتيْن شوارعٌ وتتماثل بناياتٌ، ولأيامٍ طويلة يتجول في أنحاء سايجون بـ"الركشة" الهندية التي يسوقها به فقيرٌ في مقابل دولار ونصف يومياً، ومع ذلك أصر سائق الركشة ذاك على دعوة مخدومه إلى وجبة الغداء في منزله وتقديمه إلى أفراد عائلته وإلى أهل الزقاق وأهل الحي الفقير، الذين قدموا للاحتفاء بالضيف، واحتساء البيرة الـﭭـييتنامية "بابابا" على شرفه. وفوق ربوةٍ بمدينة "نياترانج" سيتلقى المسافرُ الجمالَ الذي يشعُّه المعبدُ البوذي القديم "باجودا لونج سون"، قبل أن يصعد إلى مدينة "دالات" الكائنة فوق أعلى قمة جبلية في الهند الصينية، وترشده فتاةٌ هناك إلى حيث فندق وجاليري "بيت الشجرة"، الذي هو بناءٌ غريبٌ وفريد صممته الفنانة الآنسة "هانج نْجا" على هيأة شجرة.

أبحرَ الكاتبُ من المملكة المغربية إلى إسبانيا، وربما كان أعزُّ مقاصده فيها هو النفاذ إلى الأندلس. وَصَلَ من "مالقة" إلى "غرناطة"، بصحبة "أنطونيو جالا" وكتابه "المخطوط القرمزي، يوميات أبي عبد الله الصغير" و"واشنطن إيرﭬـينج" وكتابه "الحمراء" و"تزﭬـيتان تودوروف" وكتابه "فتْح أمريكا، مسألة الآخر" و"لوي آراجون" وكتابه "مجنون إلسا"، ودخل "قصر الحمراء" أو "الهمبرا" تحوطه (لا غالب إلا الله) حتى في المناديل الورقية وحتى باللغة العبرية، ثم كان وصوله إلى "قرطبة" وأطلالها القديمة التي يجلس فيها تمثال "ابن رشد" قبالة "حديقة النصر"، وغير بعيد عن "ابن رشد" تنتصب قاعدةٌ من الرخام يعلوها كفَّان متعانقان؛ أحدهما كف "ولَّادة بنت المستكفي" وثانيهما كف "ابن زيدون". أمَّا "إشبيلية" فيبدو أنها لم يعد فيها أماراتٌ من إيحاءات اسمها.

في الفصل الأخير من كتابه لا يسافر الحارثي ولا يقعد، إنما يمضي في مغامرة يجتاز فيها الصحارى العُمانية برمالها التي لا تُسبَر؛ من "نزوى" ذات القلعة، في الشمال، إلى "صلالة" عاصمة "ظفار" في أقصى الجنوب. أُتيح له إذاً عبورُ "الرَّبع الخالي"، التيه الصعب الخطير، مع رفاق ورفيقات، في سنة 2002، في اقتداءٍ بالرحلة التي قام بها، من الشمال إلى الجنوب أيضاً، "جون فيلبي"، سنة 1932، بعد سنة واحدة من رحلة "برترام توماس" التي كانت من الجنوب إلى الشمال. هذه الرحلة وَصَفَها الرحَّالةُ "جيمس ويل ستيد" في سنة 1835: «سهولٌ شاسعة من الرمال المتحركة، بلا هضبة، بلا حتى تغيير للون هذه السهول التي لا يكاد البدوي الشديد يجرؤ على المجازفة باجتيازها»، وقد خاضَ الرحَّالة البريطاني "ويلفرد ثسيجر" هذه المجازفة مرتيْن، في 1946 و1948، والكاتبُ يختصُّ "ويلفرد ثسيجر" بالإعزاز والثناء: «هو الوحيد الذي استطاع اجتياز تلك البيداء بشاعريةٍ وحُبٍّ قَل نظيرهما». مضى الكاتبُ، مع رفاقه ورفيقاته، مستخدمين سيارتيْن لهما قدرات الدفع الرباعي، ومحروسين بأجهزة الـ "جي بي إس" "GPS"، من "مسقط" إلى "نزوى"، عاصمة عُمان إبان عهد الأئمة، مروراً بفلج "دارْس" إلى "بُهلا"، بشهرة سَحرتها المقتدرين، إلى "جبرين" وحِصنها، إلى "مَسْفاة العَبريين"، على الجبل الأخضر، إلى "تنوف"، ثم إلى "نزوى" مرة أخرى. بدأت المجازفة مع دخولهم إلى "رمال أم السميم"، التي تبتلع القوافلَ سواء برمالها المتحركة في فصول الجفاف أو بأرضها السبخة الملحية بعد فصول المطر إذْ يبدو سطحُها صلباً، لكنه ليس إلا قشرة بصلابةٍ مُخادِعة، وإذا ما انهارت القشرة فإن المارَّ فوقها يغوص ويختفي. بعد "رمال أم السميم" واجهتهم صحراءٌ "عروق الشيبة" العسيرة، ثم كان عليهم اجتياز مفازة "أبو الطبول" للوصول إلى وادي "قتْبيت"، فإلى "صلالة" المنشودة، حيث "قبر النبي أيوب" في منطقة "أتين"، و"قبر النبي عُمران" القابع تحت شذا المحيط الهندي، وقلعة "مرباط"، ومحمية "بن سُولَعْ"، و"سمهرهم"؛ الطلل الباقي فوق ربوة "خور رُوري" الذي يُحكى أنه كان القصر الصيفي للملكة "بلقيس" التي تنعَّمت في شرفاته ببرودة الطقس الاستوائي صيفا.

يؤرِّخ الكاتبُ انطلاقتَه إلى "رمال وهيبة"، التي تطل تخومُها على "المنطقة الشرقية" في عُمان، بأيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في سنة 2002، ضد الاحتلال الصهيوني وإرهابه ورمزه آنذاك "إرئيل شارون". ذهَبَ إلى "واحة نهار" طالباً الانعزال والاستشفاء مما يطاله شخصياً من شرور المذابح الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، فانضم أو أُخِذ، بالمصادفة، مع ثلاثة آخرين راغبين في الذهاب إلى "رمال وهيبة"، فمروا في طريقهم بمدينة "إبرا" المشتهرة بسوقٍ مخصصٍ للنساء وحدهن، ثم مروا ببلدة "حلة المنـزفة" بأطلال بيوتها العريقة التي شُيِّدت بالتواكب مع الازدهار الغابر لـ"زنجبار"، وبلدة "الحوية" التي هي هلالٌ أخضر تحوطه الرمال، وبلدة "المنترب" بحصنها ذي الأسقف المقببة، وقرية "شقة الراكة" التي تتناثر فيها سلالات نُوق السَّبق الثمينة، والتي تُستهل بعدها "رمال وهيبة". دخلوا الرمالَ بعد استراحة مع القهوة والتمر في "عزيب سلمى"، "سلمى" البدوية، التي تعرف الكاتب ويعرفها، ويكتب عنها مرويات تشفُّ عن الروح البدوية وميثاق الكرم الصارم اللذين تجسِّدهما سلمى، واللذين ستستكملهما "وريقةُ" البدوية، في الرحلة ذاتها، في "عزيب وريقة" القريب من شجرة "الغاف" الظليلة في وسط الصحراء. في الخفاء، ذبحت "وريقة"، الفقيرة، لهم ماعزاً وجهزت كل مستلزمات شوائه كي يأخذوه معهم، لأنها فهمت أنهم متعجلون ولن تلحقهم بالغداء. وصلوا إلى شواطئ "بحر العرب"، وأعدوا الخيام فوق ربوة في "خويمة"، وأقاموا الشواء، ثم ناموا في ليلةٍ مقمرة، وتهيأوا مع شروق الشمس للانطلاق شرقاً إلى "الأشخرة"، بلدة صيادي الأسماك، ثم إلى شاطئ "رأس الحد" الذي تحفر فيه السلاحفُ البحرية حُفراً تستودع فيها بيضَها، ودخلوا في النهاية مدينة "صُور" الساحلية، التاريخية، ذات المجد القديم.

هذا الكتاب، في اعتباري، هو كتاب سيرة ذاتية قد صُفَّ في غلافٍ لكتاب رحلات، وكاتبُه لم يرتضِ التسليمَ بما اتفقت عليه وكالاتُ السفر والسياحة وما أدرجته على قوائم المعالِم والمزارات، فأفلتَ، وراحَ - في البلدان والبقاع - يدبُّ في النواصي والأزقة التي لا يرتادها الأغرابُ وعمومُ السائحين، ويُلاقي ويُصادِق إخواناً له في الإنسانية غير منظورين وغير منظورات في دفاتر السياحة، ويُوسِّع وطنَه الخاص، ويُطلِق مُفضلاته من الأغنيات في أثيرٍ جديد.

في «عين و جناح» سردٌ أدبي فطِنٌ راق بلا حذلقات، فيه مجاهدات معرفية ووجودية وروحية، وفيه بلادٌ وأراضٍ وبشرٌ وحوادثٌ يرعاها الكاتبُ، في روايات صغيرة شائقة، بسلاسةٍ وطلاوة، ما عدا فقراتٍ قليلة متناثرة غلبته فيها فصاحةُ وبلاغةُ، سرعان ما كان يدركها ويشتتها بعيداً عن كتابه، ويستوي في نقائه وفي إمتاعه.

أو كما غنت السيدةُ فيروز: "واصل علينا السفر، صوت الرواحل شجاني، غِبيوا هَلي بالصحر، ما هي رُبوعن دواني، يا قلبهن يا حجر، بيني وبينك زماني،،،".

 

atif_sol@yahoo.com

 

---------

"عين و جناح" (رحلات في الـجُزر العذراء – زنجبار – تايلاند - ﭬـيتنام – الأندلس – الرَّبع الخالي)، تأليف: محمد الحارثي، إصدار: "منشورات الجمل"، طبعة ثانية، سنة 2008.