يكتب الروائي والناقد الأردني أن هذه الرواية تتناول مسألة الجنوب المتمثلة بمدينة عدن، وتكوّنها المتدرج في سياق الحضور الاستعماري البريطاني بوصفها الميناء الأهمّ. و استطاعت، عبر هذا التدرج، الوقوف على "امتيازاتها" عن بقية مناطق اليمن، شماله ووسطه؛ إذ باتت ثالث أهمّ موانئ العالم وقتذاك.

«ستيمر بوينت» .. الصورة في الألبوم

إلياس فركوح

بعد ثلاث روايات: "تصحيح وضع" 2004، و"قهوة أميركية" 2007، و"حرب تحت الجلد" 2010، يواصل الروائي أحمد زين حفره في الشأن اليمني، الشاغل الرئيس في جُل كتاباته، بصدقٍ وجرأة تعتمد المكاشفة القارئة لتعقيدات بلده. أو: القراءة المتحررة من اختلاق توازنات تفرضها مثاليات وطنية عصفت بها رياح الوطن، وعَرّتها اشتراطات بلد يتأرجح بين قَبَلية راسخة تفرض قوانينها، وطموح مدينيّ ما إن يشرع بالنهوض حتى تكسره شبكة الفساد والإفساد، ليعود كل شيء إلى نقطة ما قبل الدولة والمجتمع الواحد.

في روايته الجديدة "ستيمر بوينت"، يتعرّض أحمد زين لمسألة الجنوب المتمثلة بمدينة عدن، وتكوّنها المتدرج في سياق الحضور الاستعماري البريطاني بوصفها الميناء الأهمّ. تكوّن متدرّج بإشراف وإدارة "الآخر"/ العدو، واكبته تحولات اقتصادية متسارعة جعلت من هذا الميناء المعزول بؤرة تفاعل مديني شمل اجتماع إثنيات شتّى (دينية وعِرقية) استطاعت، عبر هذا التدرج، الوقوف على "امتيازاتها" المتحصلة. امتيازات اختلافاتها الكبيرة عن بقية مناطق اليمن، شماله ووسطه؛ إذ باتت ثالث أهمّ موانئ العالم وقتذاك، ما يعني اختلافات حتمية في كيفية النظر إلى العالم، والأهمّ: كيفية معاينة الذات وسط هذا الاختلاف.

ربما يعبّر نمو عدن عن إحدى المفارقات الخارقة لـ"القانون" القائل بأنّ الشمال (كل شمال العالم) هو الأكثر تطوراً، وأنّ جنوبه الأقلّ تطوراً! تماماً مثل نهر العاصي الذي يجري من الجنوب نحو الشمال، بعكس الأنهار الأخرى، ولذلك كان "عاصياً". وللسبب نفسه بدت عدن، في الرواية، عاصيةً على مواضعات التخلّف السائد، عصية على الفهم ومن ثَم القبول، فافترسها نقيضها. وكان أحمد زين نفسه كاتباً نزيهاً وجريئاً حين طرح مسألة عدن في خضم السؤال المعلّق فوق اليمن بأكمله المتعلق بمآلاته. طرح الروائي مسألة كيف نقرأ فعل الاستعمار في تمدين المستعمَر (بفتح الميم)، ليس بعيداً عن فهمنا للآليات التي أوجبت عليه ذلك، وإنما لنمعن النظر في التراجعات والانتكاسات التي أصابت هذا التمدين، بدعوى محاربة الاستعمار، وجلائه، ونيل الاستقلال!

لم يتردد أحمد زين في إجراء قراءته الحرة لأحداث تلك الفترة من تاريخ المدينة، ومعاينة فئة المثقفين فيها عبر نقاشاتهم وانشغالاتهم، والبسطاء من يمنيين آخرين وافدين، وهنود، ويهود، وأفارقة دون أن يغفل أهمية حضور الشخصية الأوروبية القاطنة من ضباط بريطانيين، وتاجر فرنسي صاحب سطوة، وباحثة انكليزية ناقدة لسياسة بلدها الاستعمارية. ولقد كانت قراءة أحمد زين، كما تبدت لي، أكثر ميلاً لمنح الوجود البريطاني نصيبه في بناء عدن منارةَ تحضُّر، كونه تحرر من لزومات وطنية كأنها كليشيهات، وملتقطاً المطمور من صور التاريخ ليحيلها إلى صفحاتها الفارغة من الألبوم.

ثمة فقرة أكثر من دالّة يمكن اعتبارها إحدى التلخيصات لهذا المعنى:

"لا يعجبني كلامك أبداً"، قالت سعاد: "أنت تتلمّس طريقة مختلفة لرؤية الإنجليز، كأنما عيناك غير عيوننا. من أنت؟ بَطِّلْ ترديد معجزات البريطانيين. في اللحظة المناسبة سنصنع نحن معجزاتنا". وأنصتَ لصوته يردد كأنما لنفسه: "لن نقدِّر ما لدينا حتى نفقده للأبد".

الجملة التقريرية الأخيرة لا فكاك من جاذبيتها، وخاصةً أنّ الرواية صدرت منذ فترة بسيطة، وقراءتها جرت وتجري خلال هذه الأيام حيث ما زال الجنوب/ عدن هو الجنوب، رغم انتكاساته عبر العقود الثلاثة الأخيرة.

راكم أحمد زين خبرة كتابة وطاقة إبداع عرف كيف يقوم بتوظيفهما في عمل روائي متعدد الشخصيات والطبقات، طافح بتفاصيل الأمكنة ومدلولاتها، ثري بالتناقضات والتنوع على مستوى المشاريع الصغرى لكل شخصية على حِدة. المشاريع الصغرى التي تنقلب على وجهها الآخر لتصبح تقابلات ثقافية تستدعي منّا التأمل المتأني، لروايةٍ ذات فَرادة بأكثر من معنى.