يرى الناقد المغربي أن الروائي عندما اختار أن يبنيَ حبكة روايته بالشكل الأفقي المتنامي، إنما يصبو إلى تقديم صورة عامة لـ"روح العصر" في المجتمع المغربي في فترة محدَّدة هي الفترة التي هبّت فيها أولى رياح الربيع العربي. فتعدُّدُ الشخصيات وتباينُها يُفترضُ فيه أن يَكشِفَ تعدُّدَ العوالم والرؤى والأصواتِ، التي صنع تفاعلُها ذلك الربيعَ وقاد إليه، ففترات التحوّلات الكبرى هي الأنسب لرصد روح العصر.

غربة الروح في «أجراس الخوف»

رواية الصراع الأزلي بين الواقع والمثال

مصطفى الورياغلي العبدلاوي

إن أهم ما يستثير الانتباه في رواية "أجراس الخوف" للكاتب الروائي المغربي هشام مشبال[i] طموحُها الفنيُّ وطموحها الجمالي. يظهر طموحها الفنيُّ في توزّع بنائها أفقيّاً، استناداً إلى حيوات شخصيات ذاتِ عوالمَ متجاورةٍ ومتداخلة، متنافرةٍ ومتفاعلة، غير أنّها، فنِّياً متضامنةٌ من أجل تشكيل صورة روائية متكاملة. وفي أبعاد تلك الصورة، الفكرية والإنسانية، يتجلّى طموحها الجماليُّ الصّعب؛ خلقُ صورة فنية تعيد تشكيل ما يسميه الروائي والناقد النمساوي "هيرمان بروخ Hermann Broch" بـ"روح العصر Esprit de l'époque"[ii]. وواضح أن الطموحين، الفنيَّ والجماليَّ، متلازمان ومتضافران في هذه الرواية.

فأما حديثنا عن طموح الرواية الفني فذلك أن الكاتب قد اختار أن يسلك السبيل الأصعب في بناء عوالم روايته وتشكيلها. لم يعمد إلى استيحاء جزء من سيرته الذاتية، والغوصِ نبشاً في تفاصيلها الحميمة، واستنطاق المكنون في الوعي واللاوعي، وعرض المألوفِ والمسكوت عنه، وذاك نهجُ الكتابة الروائية التي تُدعى اليوم بالتخييل الذاتي، وتلقى رواجاً لدى كتّاب الرواية ومستسهلي الكتابة الروائية، بل إنّه اختار أن يُشكِّل بناء روايته من عوالمِ شخصيات متعددة، تؤلِّف بينها خيوطٌ روائية محبوكة التشكيل، غير أنها عوالمُ متباينة الانتماء الاجتماعيِّ، والصوتِ الإيديولوجي. الأستاذ الجامعي، والأستاذة الجامعية، والمحامي الكبير، وضابط المخابرات، والطالب الجامعيُّ الغنيُّ، والطالبة الجامعيّةُ الفقيرة، والعاطلة الفقيرة، والزوجة ربّة البيت. هذا إذا اقتصرنا على ذكر الشخصيات الرئيسة في الرواية.

وكل شخصية من تلك الشخصيات تحضر في الرواية في سياق عالمٍ روائيٍّ مخصوص، يتقاطع مع عوالم الشخصيات الأخرى في جانب أو جوانبَ محدَّدةٍ، ويستفرد بجوانبَ أخرى لا يصل إليها غيرُهُ من الشخصيات. فتلك العوالمُ، إن شئتَ التمثيلَ، حلقاتٌ متداخلة، يشكِّلُ الحدثُ الآنيُّ، أو ما نسمِّيه حاضرَ السرد، مشتركَها الفضائيَّ والزمنيَّ والحدثيَّ، حيث تتجاور الشخصيات، وتتفاعل. بينما يمثِّل ماضي الشخصيات، وأصولهُا الاجتماعيةُ، وما سلكتْهُ من سُبُلٍ في سيرورة تشكُّلها، وما تستفرد به من نشاط اجتماعيٍّ، إيجابيٍّ أو سلبيٍّ، خلفيّةً ضروريةً لتكييف مواقف تلك الشخصيات، وإنارتها، وتفسيرها.

إن الأستاذ الجامعيَّ نجيب يتداخل عالمه في الجامعة مع عالم الأستاذة مُنى بشكل أساس، ثم مع عالم الطالبة لبنى؛ منى زميلتُه في التدريس، وشريكتُه في المكتب، يحبّها في صمت وينشغل باله بها في حضورها وفي غيابها. أما لبنى فطالبتُه النبيهة التي يشرف على بحثها، ويصدمه ما تعرّضت له من اعتداء شنيع في آخر الرواية فيخرج مع الغاضبين متظاهراً، ويقف إلى جانبها إلى أن تغادر المستشفى إلى بيت منى. أما في البيت فيتقاسم عالَمَهُ مع عالمِ زوجته فاطمة، ربَّةِ البيت التي قاسمته كفاح السنين، وبناء الأسرة، وتربية الأولاد، وحيث يواجه ضغوطاً من الخارج والداخل لبيع بيته العتيق، مهدِ ذكرياته وحياته. والأستاذة منى، وإن كانت تشترك في عالم الجامعة، مساهمة في التدريس، ومعجبة بشخصية زميلها الأستاذ نجيب، ودعماً للطالبة لبنى في محنتها، فإنها في البيت، تقاسم عالم زوجها، ضابطِ المخابرات العنيفِ، حيث صارت حياتهُا معه جحيماً لا يُطاق. ثم تستفرد بعالم أسرتها؛ حيث ماضي الذكريات الجميلة، ثم مأساةُ القطيعة بينها وبين أهلها عندما مات أبوها أسفاً على عنادها للزواج من الضابط على الرغم من معارضته. أما لبنى فتشارك في عالم الجامعة طالبة مجدَّةً، ومناضلة من أجل قيم الحرية والعدالة، وعاشقة لعاطف زميلها في الدراسة. لكنها تستفرد بعالم أصولها الفقيرة، عالمِ أسرتها التي تعيش في البادية حياة المعاناة والبؤس، ولبنى أملُ الأسرة الوحيدِ لتحسين وضعها وانتشالها من الحرمان. ويشارك عاطف، الطالب الجامعيُّ، في عالم الجامعة بحبِّه للبنى وانعزاله عن أي نشاط جماعي مهما كانت طبيعته، وفي البيت يشاطر عالم والديه؛ تزوّجا زواج مصلحة، ويتحمّلان حياة مشتركة جافّةً متشنِّجة؛ الأم في أسفارها والأب بحثاً عن مغامرات مع فتيات أصغر منه. وعالم الأب، المحامي الشهير الأستاذ كمال، يمتد إلى مكتبه، حيث الصفقاتُ والمؤامراتُ خلف الستار، بينما يظهر للمجتمع بوجه المناضل الجمعويِّ الملتزمِ، متعدِّدِ الأنشطة والاهتمامات.

فهذه العوالمُ المتداخلة، وقد اقتصرنا على ذكر أهمِّها، يَحبِكُ الكاتب خيوط حكيها، ويضبط إيقاع نموِّها وتطورِها، بشكل أفقيٍّ يعتمد التناوب السرديَّ، إلى أن تصبَّ كل الجداول في مأساة الاعتداء الذي تعرّضت له لبنى على يد عصابة مأجورة لمن أزعجه صوتُ طالبة تحلم بالعدالة والحرية والكرامة الإنسانية. ولعلَّ مشهدَ تجمّع المحتجِّين أمام بوّابة المستشفى يجسد صورة تلاقي تلك العوالم، حيث تحضر فيه جلُّ الشخصيات الرئيسةِ مجتمعةً لأول مرة في مشهد واحد. وعلى الرغم من أن الرواية تنتهي بمأساة لبنى المغتصَبَة، إلا أن بناء الرواية بالشكل الذي أشرنا إليه، يوحي بأن المأساة ليست فرديّة، بل إنها مأساةٌ جماعية، أنتجتها كل تلك العوامل المتداخلة. المأساة صورة كلِّيّةٌ، وكلُّ تلك العوالمِ الروائيةِ أجزاءُ تلك الصورة.

لكن ماذا تقول تلك الصورة الكلِّيَّةُ؟ أي ما هي فكرة الرواية؟ وهنا نخوض في طموح الرواية الجمالي؛ في علاقتها بالمتلقي والعالم. فإذا كانت الفكرة في الفنون التشكيلية تتجلّى في المادّة المحسوسة، فإنها في الرواية تظهر في مادة الحبكة الروائية التي تظل غير مفهومة إذا لم تُقارب في ضوء الفكرة التي تحركها.[iii]  فالكاتب عندما اختار أن يبنيَ حبكة روايته بالشكل الأفقي المتنامي الذي أشرنا إليه، إنما يصبو إلى تقديم صورة عامة ل"روح العصر" في المجتمع المغربي في فترة محدَّدة هي الفترة التي هبّت فيها أولى رياح الربيع العربي. فتعدُّدُ الشخصيات وتباينُها يُفترضُ فيه أن يَكشِفَ تعدُّدَ العوالم والرؤى والأصواتِ، التي صنع تفاعلُها ذلك الربيعَ وقاد إليه؛ فروح العصر إنما يتشكل من ملايين وملايين الوجودات والقوى الفردية المجهولة، والملموسة في الآن عينه، والتي تشكِّلُ شعبَ ذلك العصر، وتَدعم سيرورةَ مجموع الأحداث[iv]. وقد أصابَ الكاتبُ في اختياره لفترة اندلاع الربيع العربي فضاء زمنياً لأحداث روايته، لأن فترات التحوّلات الكبرى هي الأنسب لرصد روح العصر، وَفق الناقد النمساوي المذكور، غير أن فعلَ الرصد يصير عسيراً في عصر تفكّكت فيه القيمُ واضطربت المعاييرُ، مثلما هو الحال اليوم، بينما يسهل في عصور الوحدة، سواء كانت وحدة دينية أم قومية مثل عصور الملاحم.

فما هي تلك الصورة الكلية التي ترصد روحَ العصر في روايتنا هذه وتُجليه؟

إن تحليل صور الشخصيات الرئيسة في الرواية يكشف أن كل تلك الشخصيات، على الرغم من تباين طبائعها الظاهرِ، واختلافِ أصولها الاجتماعية، وتباعدِ عوالمها الشخصية، فإنها جميعَها تشترك في سمة أساس، تُكيِّفُ مواقفها وأفعالها ومصائرها؛ أقصد علاقتَها الرومانسيةَ بالواقع. كل تلك الشخصيات تعيش خوفاً، إن لم نقل رعباً، في علاقتها بواقعها الخارجي؛ إنها "أجراسُ الخوف" التي تُجلجلُ في ضمائرها وأعماقها. والخوف متأصِّلٌ في ذواتها، متعدِّدُ الأسباب والدوافع، غير أنها تعود جميعُها إلى سبب عميق متمثِّلٍ في غياب انسجامها مع الواقع الخارجي.

فقد يكون سببُ الخوف الغامرِ انعدامَ اليقين؛ فعندما تشعر مُنى بالقلق ويغلبها الغثيانُ وهي تغوص في سديم حياتها، توقِنُ «أنها مجرّدُ هواجسِ ذاتٍ غمرها اللايقين».[v] إنه كذلك خوف متأصِّلٌ لا تُعرف له بداية، فمنى، يقول السارد «تشقُّ طريقها في بحر الخوف الذي يسكنها»[vi]؛ وتقول لبنى لعاطف، وقد ملأ الرعبُ عينيها: «منذ أن وعيتُ بنفسي وأنا خائفة .. والآن أنا خائفة أكثر».[vii] و«ما بين الشعور بالخوف واليأس والحلم الباهتِ مضتْ لبنى في طريقها المفعمِ بالشوك تجادلُ أعماقَ أفكارها» يقول السارد.[viii] والأستاذ نجيب يتكئ على «الجدار شارداً وهو يكتم مخاوفه التي لا تنتهي. [وَ] أطلَّتْ منى بحزنها على خياله فزاد ارتباكاً وخوفاً».[ix] بل إن التفكيرَ نفسَه يعني بالنسبة إليه «قضاءَ الليل يقظاً وقلِقاً».[x]  أما بالنسبة إلى فاطمة، زوجةِ نجيب، فمصدر خوفها المصيرُ المجهولُ الذي يهدِّدُ حياتَها وحياةَ أسرتها. تقول لزوجها «لأننا تعبنا من الخوف. كرهتُ المصير المجهولَ.. أخاف يوماً أن نستيقظ على صوت الجرافات وهي تهدمُ البيت».[xi] ثم إنها تستسلم لهواجس الخوف القويّةِ التي تُبدِّدُ حتى غيرتهَا الطبيعيةَ الأنثوية.[xii]  أما عاطف فإن الخوف يسكنه، لا يفارقه؛ دائماً ينسحبُ «إلى دائرة الخوف التي رسمت حياته منذ الصغر فلزم الصمت.[...] عاش طفولتَهُ وحيداً وخائفاً على الدّوام».[xiii] 

من الواضح أن خوفاً بهذه الصفات ليس خوفاً ذا أصول خارجية ملموسة، إنه خوف ميتافيزيقيٌّ، ملازمٌ لشرط الوجود الإنساني. خوفُ مَنْ وجد نفسه في عالم مجهول لا يناسبه. تقول لبنى لعاطف في مقطع واضح الدلالة: «أنا وأنت شيء آخر يا عاطف. من عالم آخر بريء».[xiv] فالقطيعة تامّةٌ بين الداخل والخارج. الداخلُ مهد البراءة والحبِّ والقيم الإنسانية المثالية ومنبعها، والخارجُ مصدر التنغيص، والقُبحِ، والأذى؛ فحتى «منغصّاتنا الداخلية أحياناً تكون خلاّقةً [تقول لبنى]؛ تُوَلِّدُ الأفكارَ وترسم القيم وتُشعرنا بإنسانيتنا المفقودة. لكن المنغصاتِ الأخرى تقتلنا في صمت، بل تُبدِّدُ كل الجمال الذي ينبع من الداخل.». كل الشخصيات تحنُّ إلى فردوس مفقود اجتُثَّتْ منه ولا سبيل لها إلى استرجاعه في هذا العالم. قد يكون ذلك الفردوسُ طفولةً بريئةً في رحم الأسرة بالنسبة إلى منى ولبنى، أو ذكرياتِ البيت العتيقِ بالنسبة إلى نجيب، أو الطفولةَ السعيدةَ، وهوايةَ فنِّ الرّسم في فترة الشباب، بالنسبة إلى كمال المحامي، الغارقِ في كل ما هو ربحٌ ماديٌّ ولذةٌ حسيّةٌ مهما يكن مصدرها. تخاطب منى نفسَها، وهي تبحث عن معنى لحياتها من جديد، فتقول: «تنهضين فجأة وتتربّعين فوق السرير كأنك طفلة.. طفلةٌ كبُرت فجأة. تبحثين في ماضيكِ عن ابتساماتٍ متفرقة.. تلهثين خلف الأحلام وحيدة ومتردِّدة.. تُقَبِّلين يدَ أمِّكِ العجوز.. تسير في عروقك رعشةٌ قديمة تائهة.. تلوذين بالصمت وتُدركين أنه قدرُكِ العليل».[xv] ويقف الأستاذ نجيب «يتأمل الجرّافات وهي تهدمُ البيت، تُبدِّدُ تلك العتاقةَ وتسرقُ الذكريات [...] يتعرّى المنزلُ وحيداً تحت السماء الممطرة، وتتعرّى أنتَ من دفءٍ كان قلعتَكَ الأخيرةَ في تبديد الخوف».[xvi] ويتوق كمال إلى «عودة السعادة المتبقِّيةِ من الطفولة، أو خيوطِ حكمةٍ يستخلصها من معاناته الطويلة في رحلة بحثه الوهميِّ عن النّقاء.[...] هنا كان يجلس ويلتقط ريشتَهُ ليرسمَ هذه الصّخرةَ المعلَّقةَ التي تعني له كلَّ الحياة».[xvii]

إنها مأساة آدمَ المطرودِ من الجنّة، والمجتمعُ جحيمُ الدنيا الذي لا سبيل إلى مواجهته، أو المصالحةِ معه، إلا بالعزلة والانكفاءِ على الذات، أو الهروبِ واللجوءِ إلى الطبيعة. تقول لبنى مخاطبة عاطف: «أوقِنُ أننا من عالمين مختلفين جدّاً، لا يجمعنا إلا الحزن، إلا الهروبُ من عالمنا الضيِّقِ والمعقَّد.».[xviii] ويرى عاطف أن الهروبَ يظلُّ حلاًّ لمآزقَ كثيرةٍ في حياتنا.[xix] وتكاد جميع المشَاهد المتوتِّرةِ في الرواية تنتهي بعودة إلى الطبيعة. نقرأ في الرواية: «كان [كمال]يتوق أن يملأ ذاكرته، التي محتها المدينةُ بتعقيداتها وضجيجها، بالحنين. تملَّكَتْهُ الرغبةُ في أن يستلقيَ بجسده عارياً تحت السماء الزرقاء ويتدحرجَ على الحشائش الخضراءِ دون توقّفٍ أو ملل. كان التّلُّ يوقظُ لديه شعوراً بصفاء ونقاء الروح.. هذا الإحساسُ بالبراءة فقدَهُ منذ أن تاهَ في المدينة وفي قِصص ناسِها التي لا تنتهي.». ولبنى المناضلة ترنو إلى «شيء كالسحر المبهم الشفّاف، نقطةِ النور البعيدة التي تلمع كالنجمة في العتمة، الحياةِ الحقيقية التي لا ظلم فيها ولا كذب ولا نفاق.». ويظهر انسجام الطبيعة مع الذات والروح في المقطع الذي يُقفل به السارد المشهد السابقَ حيث يقول: «وكان حينئذ شعاع من النور يتسلّلُ إلى الغرفة ويكشف تفاصيلَ الروح. يصنع ألواناً من قوس قزح في قلبها المكسور وخيوطِ مشاعرها المختلطة.. ألوانٌ صافيةٌ مُشعّةٌ متناسقةٌ».[xx]

وحده فهمُنا لطبيعة تلك الشخصيات الرومانسية والمثالية يسمح للناقد أن يجد تأويلا مُرْضياً لتلك المفارقات السريعة التي تطفو على سطح النص فتفضح حقيقة الموقف وعمق الصورة. فعلى سبيل المثال، تقول لبنى الطالبة المناضلة وهي تشاهد تظاهرَ الطلبة بشتى ألوانهم وتوجهاتهم في باحة الكلية: «أليست هذه الصورة هي الحياة الحقيقية؟»، والجواب المفترضُ هنا على تساؤلها هو: بلى! لأنها تؤمن بفعل النضال من أجل التغيير، غير أنها، بعد أسطر قليلة في نهاية المشهد، تقول لعاطف الذي كان رفقتها: «هيّا! لنخرجْ إلى الطبيعة، لنستردَّ ضحكتنا في الهواء الطلق الحرّ.»، وكأن السعادة والحرية في الطبيعة وليس في معترك النضال. ولا يمكن أن نجد تعريفاً للحرية أكثر رومانسية ومثالية من تعريف لبنى؛ تقول: «الحرية أن تحبَّ بلا خوف، وأن يكون العالم نظيفاً من الداخل. أن يسمعك العالم تنشد قصائد فيفرح لفرحك ويحزن لحزنك».[xxi]

في آخر المطاف، يقودنا تحليل العلاقات التي تقيمها الشخصيات الرئيسة مع العالم والواقع، إلى استنتاج وجود مستويين في قراءة الصورة الكلية التي تقدمها الرواية؛ ترصد الرواية في المستوى الأول واقع المجتمع العربي عموماً، والمغربي خصوصاً، الذي قاد إلى هبّة الربيع العربي، بفعل ما يثقله من تناقض وظلم اجتماعي. غير أن المستوى الثاني، الأعمق، يكشف عن صراع أزلي بين المثال والواقع، والحلم والحقيقة، بين الدّاخل والخارج. ففي المستوى الأول يمكن أن نرى في مأساة لبنى، الطالبة التي اغتصبها معادو الحرية وماتت محمومةً من آثار ذلك الاعتداء، صورة للظلم الاجتماعي والقمع السياسي الذي أجَّجَ الثورة. وفي المستوى الثاني تبرهن تلك المأساة على استحالة التعايش بين المثال النقي الطاهر والواقع الدنيويِّ الملوّث. إنها غربة الروح في الجسد. فَلُبنى ماتت لأنها فقدت نقاءها وطهارتها؛ «كانت تطوان في تلك الأيام الساخنة تغلي، وكانت لبنى تأتيها الرسائل الهاتفية على الرغم من عزلتها. تقرأها بشغف وتحاول أن ترسلها إلى آخرين لكنها تتوقّف، تشعر أنها عاجزةٌ عن التواصل مع العالم، منزوعةُ الإرادة والتفكير، جسدٌ بلا روحٍ في صحراءَ قاحلة».[xxii] ويُفصح تحليلُ صورة موت لبنى عن تلك الحقيقة العميقة في الرواية؛ فقدت لبنى كلَّ أمل في هذا العالم، في هذه الدنيا "التافهة"، "المليئة بالكذب والجنون"، وفق تعبيرها، فلم يعد أمامها إلا أن تعود إلى السماء، عالمها الحقيقي، عالم المثُل، ولنلاحظ كيف تأخذ السماء لونَ التراب، لونَ الأرض، كأنما لبنى إنما تعود إلى الأصل، بينما توحي كلمات "ساحر" و"الناعم" و"تنهّدتْ" أن الموتَ بالنسبة إلى لُبنى لا يعني سوى الخلاص: «رفعت عينيها إلى السماء الرمادية الثقيلة.. ثمة سحب متفرقة ومنتشرة تصنع دوائر متعرجة.. وكان قرص صغير من الشمس الباردة يتسلل باهتاً .. فلم تعد السماء سماء ولا السحب سحباً.. مزيج ساحر من البياض والرماد.. كـأنه لون التراب الناعم..تنهّدتْ بقوة وركّزت عينيها في العدم.. وضعت يدها على قلبها وتمتمت بكلمات متقطعة مكسورة.. سقطت على الأرض الصُّلبة دفعة واحدة».[xxiii]    



[i] - دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى، 2014.

[ii] - Hermann Broch, création littéraire et connaissance, Tel Gallimard, France, 2007, p 190.

[iii] - Thomas Pavel, La pensée du roman, Gallimard, France, 2003, p 46

[iv] - Hermann Broch, op cit, p 190.

[v] - أجراس الخوف، ص 64.

[vi] - المصدر نفسه، ص 178.

[vii] - المصدر نفسه، ص 114.

[viii] المصدر نفسه، ص 20.

[ix] - المصدر نفسه، ص 134-135.

[x] - المصدر نفسه، ص 13.

[xi] - المصدر نفسه، ص 134.

[xii] - المصدر نفسه، ص 17.

[xiii] - المصدر نفسه، ص 24-29.

[xiv] - المصدر نفسه، ص 137.

[xv] - المصدر نفسه، ص 177.

[xvi] - المصدر نفسه، ص 174-175.

[xvii] - المصدر نفسه، ص 149.

[xviii] - المصدر نفسه، ص 120.

[xix] - المصدر نفسه، ص 139.

[xx] - المصدر نفسه، ص 181.

[xxi] - المصدر نفسه، ص 138.

[xxii] - المصدر نفسه، ص 201.

[xxiii] - المصدر نفسه، ص 205.