تراب وباسل زايد تجربة مميزة

دراسة تحليلية

زياد جيّوسي

باسل زايد فنان فلسطيني شاب متميز، يمثل ظاهرة مختلفة ومتميزة في الساحة الفلسطينية، عرفته وهو يغني ويعزف ويلحن منذ قرابة عشرة أعوام، حين حضرت لأول مرة حفلة مشتركة له مع فنانين آخرين في قاعة مركز خليل السكاكيني الثقافي، ومنذ تلك الحفلة لفت نظري وأصبحت حريصاً على متابعة حفلاته وتجاربه المختلفة، كلما كان له حفلة أو عرض في مدينة رام الله، فعرفته منفرداً ومع فرق مختلفة مثل فرقة سنابل وفرقة سرية رام الله الأولى وفرقة يلالان وأخيراً فرقة تراب، وكنت أشعر دوما أنه لم ينل حقه من الاهتمام والرعاية، رغم أنه أصبح معروفاً عالمياً وأقام عدّة عروض في الدول العربية وفي أوروبا.

وفي كل ما كتب عنه لم أجد الاهتمام الكافي بالبحث في الأغنية التي يغنيها وقدرته الكبيرة على التلحين، فمعظم ما كتب عنه، إن لم يكن جميعه، لم يخرج عن إطار المقابلة الصحافية أو التقرير الصحافي والتغطية الإعلامية لحفلاته، ومن هنا كان اهتمامي من خلال متابعتي الطويلة لحفلات باسل زايد خلال الأعوام الماضية، أن أكتب بنمط مختلف يتناول الكلمة المغناة وما تحمله من بين ثناياها من رسالة، فباسل لا يختار كلماته عبثاً ولا يقبل أن يغني كل ما يعرض عليه، فهو دقيق باختيار كلمات أغانيه لتعبر عما يجول داخل روحه، يدققها ويعطيها جهدا كبيراً وخاصاً كما يعطي هذا الجهد لألحانه المتميزة.

وحتى يمكن فهم باسل زايد لا بد من إلقاء نظرة على تجربته الطويلة في عالم اللحن والأغنية، فقد امتاز باسل بقدرته على مفاجأة جمهوره دوما بمفاجآت غير متوقعة، وأذكر من هذه المفاجآت الإعلان عن سلسلة من الحوارات الموسيقية.. عبارة عن تفاعل بين الجمهور وبين الفنان.. أولى سلسلة هذه الحلقات كان يبتدئ بأغنية الشيخ إمام "حلو المراكب" التي لحنها الشيخ وكتب كلماتها الشاعر نجيب سرور..الحوار بدأ بشرح من باسل زايد حول اختياره لهذه الأغنية تحديداً, فهذه الأغنية ليست من كلمات أحمد فؤاد نجم, الشاعر الذي ارتبط اسمه باسم الشيخ طويلاً, فكانت ألحان الشيخ إمام يظهر فيها حجم تأثره بكلمات نجم وشخصيته وعلاقتهما التاريخية ونضالهم المشترك في المسيرة الطويلة.. بينما نرى أن مدى تأثير ألحان إمام على أغنية "حلو المراكب" واضحاً جداً...

فكرة سلسلة الحوارات تقوم على تحديد أغنية, يتم سماع لحنها على العود, ثم غناؤها كاملة بمرافقة العود, ثم غناؤها وتلحينها بشكل مقاطع ومناقشة الجمهور بها.. ولكن بكل أسف لم تستمر هذه الحوارات الفنية الجميلة لأسباب خارجة عن إرادة الفنان.

وتبقى "تراب" هي التجربة المميزة والمستمرة حتى الآن في مسيرة الفنان باسل زايد، واسم "تراب" لم يأت عبثا لهذه الفرقة المتميزة، وإنما جاء تشكيلها واسمها بعد مخاض عسير وطويل مر فيه الفنان في مسيرته الفنية، يقول باسل زايد: "التراب هو أصلنا ونحن كبشر متساوون، ولنا الحق في العيش والحياة، كما التراب يستحق منا العناء والكد والنضال من أجله،.. بالنهاية تم اختيار "تراب"، لأن كل ما نتحدث عنه ونغني له في أغانينا موجود فوق هذا التراب، المواضيع السياسة، الأفكار المختلفة التي نطرحها عبر أغاني "تراب" موجودة فوق هذا التراب، وبالنهاية نحن من التراب، فالاسم له معنى فلسفيّ".

ولهذا اختط باسل لفرقته "تراب" خطاً خاصاً ومختلفا عن السائد من الفرق الموجودة، وعن الفرق الأخرى التي لا تكاد تظهر حتى تختفي، فكان اختياره لثقافة الفن بدلاً من ثقافة الربح المادي هو الطريق، لذا ارتبطت الأغاني التي يختارها ويلحنها بكلمات مميزة، فاختار لأغانيه أشعارا لشعراء أمثال محمود درويش، والمرحوم حسين البرغوثي، والدكتور عامر بدران، وسامر الصالحي، ومحمود أبو هشهش، وغيرهم ممن كتبوا للحياة الفلسطينية بتلاوينها المختلفة، فكان باسل وتراب يحملون على عاتقهم مشعل الثقافة الفلسطينية وألم المواطن ومعاناته بصورها المتعددة من الاحتلال مروراً بالضيق المادي وصولاً للقهر والسؤال.

كان فكرة تشكيل "تراب" قد انبثقت في ذهن باسل إبان اجتياح العدو الصهيوني العام ألفين واثنين ميلادية للضفة الغربية ولمدينة رام الله التي كان باسل مقيماً فيها إبان الاجتياح، فعانى كما غيره من انقطاع الماء والكهرباء، واقتراب الموت الذي كان يحيط الجميع في كل لحظة تحت كثافة القصف وإطلاق النار، ولكنها رأت النور فعلياً العام ألفان وأربعة، وقد عبر عنها باسل في حوار مع الكاتبة رشا حلوة بقوله: "تراب" هي بديل للمتحدث الرسمي عن الشعب الفلسطيني، لأنها تتحدث عن المعاناة بصورة أفضل من السياسي والإعلامي الفلسطيني، فكل وكالة أنباء متهمة بأنها فاسدة أو قد تم شراؤها من قبل جهة معينة. إذًا تراب هي أداة نقل معلومات ولكن بطريقة موسيقية، لن يتم تحطيم هذه الأداة مثلما تم تحطيم أدوات نقل المعلومات في الإذاعة والتلفزيون والجرائد ".

تراب فرقة فلسطينية بامتياز وجدارة، من خلال ملامستها الهم اليومي للمواطن، تعاني ما يعانيه المواطن، ولعل أكبر مشكلة تواجه الفرقة هو إمكانية تجمع أعضائها، فكل منهم من منطقة، فهشام أبو جبل من الجولان المحتل وكيتي يايلور أمريكية وباسل من سكان القدس وباقي أعضاء الفرقة من أماكن مختلفة، والجميع يدرك حجم وكثافة الحواجز الاحتلالية، والدور الكبير الذي تلعبه في التنغيص على المواطن الفلسطيني وإعاقة حركته، وهذا ما سنلمسه في كلمات أغاني ألبومها الأول الذي أطلق عليه اسم "هذا ليل"، وفي هذا الألبوم نجد التميز بالكلمة واللحن، فهو يمزج بإبداع كبير الموسيقى العربية والغربية بمختلف أشكالها، وإن بقي العود هو الأساس في ألحانه مترافقاً مع الإيقاع، وقد اخترت أن تكون دراستي هذه في كلمات هذا الألبوم كونه يشكل وحدة متكاملة ومتماسكة ومتميزة للهدف الذي أنشده وهو إلقاء الضوء على الرسالة التي حملها باسل زايد وحملتها تراب في تجربتها.

في أغنية "حد العمر" من كلمات الشاعر محمود أبو هشهش، نلمس بوضوح ملامسة الهم الفلسطيني من خلال التضييق على المواطن والحد من حرية حركته، فهو يخاطب المحبوبة ويقول: "وين السفر يا زين باب السفر مسدود... لو كان لي جناحين عليت بيك وطرت"، لكنه لا يقصد الهجرة خارج الوطن بل يقصد الحلم بوطن للجميع، وطن تصل حدوده للسماء، وطن لا يعرف التمييز حسب العرق والدين، وطن الإنسان كإنسان، وطن لا تحكمه عيون العسس وأجهزة الأمن، فيوضح الفكرة من خلال قوله: "عا بلاد ما إلها عينين ولا حد وجمعة وسبت...حد البلد معناه حد السما العالي"، ويعرف أن الدرب طويل وشاق أمام المواطن وأمام حلمه، رغم المحطات المختلفة في الطريق، لكن في النهاية لا بد أن يتحقق الحلم وترتاح الروح: "درب الهوى مرصوف نار وورد وحجار..يا حلو يا مفتون هوّن على حالك.. تاري الوجع بيروح حملان منشانك".

في أغنية " يا عمي يا أمين" من كلمات سامر الصالحي، نجده يتحدث عن هم المواطن من خلال نقطتين، الأولى: الظروف المعيشية من فقر وبطالة وتوقف الرواتب وشحّ الأعمال "يا عمي يا أمين يا دايق المرين ومفرق عالزباين ومديون للإجرين، لا شغلة ولا عمله من دكان لدكان"، ولا يجد السلوى إلا بتدخين لفافات التبغ التي يستدينها "طيب مش في دخان وطبعا كلو عا الدين"، العم أمين هو أنموذج للمواطن الفلسطيني الذي يعاني من الاحتلال والظروف التي يخلقها "يا ساكن بالأجار والجار قبل الدار، ويلك تدفع أجار ويلك تسد الجار"، فالجار مهم جداً هنا، فالتكافل الاجتماعي بين المواطنين هو الذي يساعدهم على الصمود والمواجهة، ورغم كل هذا القهر، فالمواطن يهتم بمتابعة شؤون وطنه "ولسه بتسمع أخبار؟"، والنقطة الثانية: هي الظروف السياسية التي أحاطت بالشعب الفلسطيني والحصار المر عليه، حتى تخيل العالم أنها النهاية والاستسلام "عمك شنطح بطل ينطح قص قرونو ومد لسانو"، لكنها لم تكن النهاية كما أرادوها "جوا عيونو تشوف أحزانه، بس سنانو لسه بتجرح"، فالشعب لا يستسلم مهما كان الضغط، فجاءت الانتفاضة وثار الشعب الأعزل، رغم مؤامرات الأشقاء وتضييقهم على الشعب الفلسطيني "نزل يحارب منو لحاله، وخالو وعمو وولاد عمو، نازلين يمصوا بدمه".

في أغنية "طفران" من كلمات خالد سكر نجد البحث بهم الموظف الذي لا يقبض رواتبه من السلطة "الموظف يخي طفران عايف حالو شو غلبان، بيفرجها الله الكريم ومنسد حساب الدكان"، ولا يفوته هنا الإشارة إلى الأسباب التي ادعاها من سرقوا البلد وامتصوا حتى الدم في العروق، حين اعتبروا أن كل المسألة إعادة هيكلة سلم الموظفين وتحل كل المشاكل "هيكلها بيصير الحال ماشي كتير وعال العال، بإصلاح وإدارة مال وبتتعدل يا أبو فلان"، وهنا يسخر من هذه الادعاءات "محسوبية ما عناش لا فاسد ولا غشاش، اقتصاد بانتعاش والوضع كله بأمان"، ويواصل السخرية على انحدار الوضع بأسوأ مما كان " حققنا كل المراد يكفينا شر الحساد، عمل وجد واجتهاد، يرحم أيام الفلتان".

في أغنية "لهديل الحمام" من قصيدة للشاعر الكبير محمود درويش، نجد رنة الحزن تسيطر على صوت باسل زايد، فهي أغنية للوطن المغتصب والخاضع لاحتلال قوة عسكرية، تسعى لاجتثاث الأرض والسكان والشجر والطير، فالأغنية تتحدث عن هديل الحمام والحمام مرتبط في الذاكرة بالسلام وفي حياة الفلاح الفلسطيني لا يكاد يخلو بيت من حمام تتم تربيته فوق أسطح البيوت وفي الجنائن المحيطة في البيوت، إنها أغنية النداء والشوق للوطن والرغبة في العودة للوطن والعيش بسلام، رغم كل القسوة والظروف والقمع يترك الفلسطيني النوافذ مفتوحة للسلام "لهديل الحمام تركت النوافذ مفتوحة"، ورغم اجتثاثه من أرضه بالطرد أو المصادرة أو الجدار، يبقى ارتباطه قائماً بالأرض والبيت "تركت على حافة البئر وجهي"، وبئر الماء الذي يتم جمع مياه الأمطار فيه موجود في كل بيت وهو رمز هنا للحياة والاستمرارية، ويتحدث عن شجرة التين المرتبطة وجدانياً بذاكرة الفلاح الفلسطيني "على شجر التين ينشر سرواله، تركت الغمام"، والسلام الذي لا يكون إلا بين البشر له نصيبه في الأغنية أيضاً، فالمواطن قد تم تشريده من أرضه، فبقي السلام وحيداً "وحيداً هناك على الأرض، تركت السلام".

وفي أغنيته "كم" من كلمات المرحوم الدكتور حسين البرغوثي، يعود للتحدث عن الشتات الذي عانى منه الفلسطيني في أصقاع الأرض، فالفلسطيني مشرد متنقل بلا وطن ولا أرض "كم قلت ظلي لدي، كم كنت لي حيناً وحيناً علي.. وغربتك الذكريات وقطارات نصف الليل في روحي، وأنهار بلا ماء يطاردها الشتات"، إنه الفلسطيني المتعب في رحلة المنافي يحلم بالذكرى التي لا تنسى أبداً "لقد خطفتني المنحنيات.. الحياة التهام... وينزل سيف ذكرى غامضا في ظهره..ينام من تعب ويوقظه الكلام".

في أغنية "هذا ليل" من كلمات سامر الصالحي، نجد ملامسة كبيرة لألم المواطن الذي يفتقد الوطن فيطول الليل وتمتد الأحلام، "هذا ليل ولا شو.. هذا بحر"، ويتساءل "بشو بدك تعلق الأسامي والصور"، فلا بيت يخلو من صور معلقة على جدرانه، ولكن في ظل فقدان البيت "فش حيطان ولا شجر"، أين سيتم تعليق الصور؟، فالمواطن المشرد لا يجد الوقت لشيء في ظل تشرده، ولم يعد هناك في ظل ذلك ما يخاف عليه، "فش وقت عشان تخاف، ولا وقت تكتب شعر، فش ورق أبيض ولا حبر"، لكن ورغم كل هذه الصورة القاتمة، فالمشرد لا يمكنه أن ينسى وطنه وتشرده ومخيمات اللجوء، "فش وقت عشان تنسى، أكم خيمة أكم عمر"، ولكن الحلم لا يموت أيضاً رغم الحصار "بشو بدك تقاتل، فش وقت عشان تموت، وأنت واعدني بالفرح، وبالأغاني وبالقمر".

في أغنية "شعرك ذهب" للشاعر محمود أبو هشهش، نرى الأسير يخاطب الحبيبة من ليل الأسر، وهذه ملامسة أخرى للهم الفلسطيني الكبير، فلم تخلوا سجون الاحتلال مرة من عدد يقل عن عشرة الآف أسير، وقلة من أبناء فلسطين لم يتذوقوا مرارة الأسر والمعتقلات، هنا نرى الأسير يخاطب المحبوبة "شعرك ذهب مغزول بنول الشمس والريح"، ويتحدث عن نفسه وعن صموده في الأسر "قلبي صهيل خيول مثل الفرس بيصيح"، ويعود للتغزل بالحبيبة البعيدة "شعرك ذهب وبيلزمه بكلة ذهب"، وهنا يتجه للحديث عن الأرض المحتلة والمسلوبة "بس الذهب مدفون جوه البلد"، ولكن البلد مسلوبة ومحتلة "لو في بلد كل الذهب بيهون"، فماذا يمكنه أن يقدم والأرض التي تنبت الذهب مجدولاً بسنابل القمح مصادرة ومحتلة، والحلم بالتحرير والعودة ما زال بعيداً، وهو أسير خلف القضبان لا يرى الشمس، لا يجد إلا "عندي إلك ورد وغزل مثل الخمر المعتق بالجرار، عندي إلك شهد وعسل أصله ورد، بس من نحل الأشعار"، يربط حبه وغزله للحبيبة بالأرض "شعرك أحله وأنعفه قمح بشمس الجروح"، والحبيبة دوماً للأسير سواء كانت محبوبة أو زوجة أو أم أو أخت تشكل رافعة أخرى لصمود الأسير إضافة إلى رافعة عشق الوطن "بسمة بوجهك الحلو.. نجمة بسما المسجون".

في أغنية "محمود" من كلمات سامر الصالحي نجد حديثاً آخر للأسرى، لكن هذه المرة الأسرى الأطفال الذين تمتلئ بهم السجون، فالطفل في فلسطين رضع حليب المقاومة، فنراه وبمجرد أن يرى دورية لجيش الاحتلال يحمل من فوره الحجارة ليقاوم، ونجد الحديث عن معاناة الأم التي يختطف طفلها من حضنها ليزج به خلف القضبان وفي الأسر، وفي هذه الأغنية التي أبكت الجمهور وتفاعل معها بشكل خاص وكبير نرى مجموعة لوحات غنائية تصور الحدث "لما أجو الجنود محمود سكت، إمو اللي حكت لساتو ولد محمود، محمود ريحة البيت وآخر العنقود" وتحاول الأم أن تشرح لجنود الاحتلال أن محموداً ما زال طفلاً صغيراً "وبتبكي شو فهمو محمود، محمود زغير عالقصة والقصة مش أي قصة... محمود لساتو ولد بيعد العمر على إيده، بتخربش، مره بيقلوا ومره بيزيدوا برجع يعيدوا"، لكن هذا الطفل الذي رضع من الأرض المقاومة لا يسكت في وجه الجنود "إمو اللي حكت.. محمود ما سكت"، فيختطفه الجيش كمئات الأطفال المقاومين، وتبقى الحسرة في قلب الأم التي تصر أن محموداً ما زال طفلاً، ولم تدرك بعد أن الأطفال في وجه الاحتلال رجال، فتصرخ "وينو محمود ؟ لو ييجي لخلي الدنيا تشتيلو والورد اللي بالجبل يمشيلوا، وامشيلوا وازحفلوا بإيدي وإجرِيّ وأجيلوا واغنيلوه.. "، لكن محموداً مضى مثله مثل أطفال بلادي إما أسيراً أو شهيداً "أبوح يا أبوح يا قلبي يا مجروح، وقعت من طولها ولسا بتنوح... محمود لساتو موجود".

"لما الليل" للشاعر المرحوم الدكتور حسين البرغوثي، يختارها باسل ويبدع في اختياره وفي لحنه، وفي صوته بالنبرة المرتفعة المعبرة عن المقاومة، يجده يعطي لقوة الكلمات قوة أخرى، فكلمات الأغنية تبدأ بتصوير الليل كناية عن الاحتلال "لما الليل يصير نمره، نمره رقطه تشم أيديك، بقفزة خفيفة ولفته عنيفة، تلف النمرة من حواليك"، نجد تصويراً جميلاً وتشابيه رائعة، ونجد دعوة للمقاومة "خلي روحك ترقص رقصه مثل النمرة من حواليك، بقفزة خفيفة ولفتة عنيفة تشم الوردة بين إيديك"، فهي دعوة للروح أن تقاوم الليل معتمدة على الأمل والورود والقوة، وفي مقطع آخر وصورة أخرى يصور الاحتلال وظلامه "لما الليل يصير سِروة، سِروة طويلة وتعلى عليك"، يدعو من جديد للمقاومة بعنفوان النسور المحلقة "خلي إيديك يصيروا جناح، جناح النسر يصيرو إيديك".

في آخر أغنيتين من البوم "هادا ليل" نجد طرح فلسفة خاصة، فنجد في أغنية "عمره قصير" لسامر الصالحي الحديث عن العالم، فهذا العالم هش أشبه ما يكون بعجوز بلغ من العمر عتياً، قلبه فارغ من الدفء، تسوده الأنانية والمصالح ويسير حافي القدمين متهالك من التعب، أشبه ما يكون بعالم ورقي يطير من نسمة هواء، يسير وهو يعاني من آلامه وذنوبه، فالإنسان خصوصا في العالم الصناعي تمكن بجدارة من تخريب واستنزاف بيئة الأرض وأجوائها، فأحالها إلى كومة متهالكة معرضة للفناء، لنتأمل الكلمات التالية في الأغنية "عمره قصير عالم ورق وصغير، ختيار حافي حضنوا مش دافي، وقلبه مش كبير، ماشي على جنبه، عايش على ذنبه، كله نفخة بيطير"، فهنا نلمس فلسفة الهم الإنساني العام بعد هم الوطن وهم المواطن.

في أغنية "خلقه" من كلمات الدكتور عامر بدران، نجد فلسفة أخرى قائمة على التساؤل، هذا التساؤل الذي يؤدي إلى أجوبة قدرية، فتبدأ الأغنية بالسؤال "هيك الله زارع الدنيا شجر، عنده سبب، يمكن لنار جهنم مجهز حطب"، فهنا يحاول الوصول إلى سبب للحدث ويعكسه على الحياة وطبيعة البشر "هيك الله خالق الدنيا بشر، فيهم ذكي، وفيهم شفافوا مورمين من الحكي، وفيهم صور"، فإذاً التنوع في طبيعة البشر هو أمر قدري، فليس كل البشر هم أناس فاعلين وإلا لأصبح العالم عبارة عن مدينة فاضلة يسودها النمط الواحد.

في النهاية لا بد من المرور على معزوفة "جنين"، والتي أبدع فيها باسل زايد، هذه المعزوفة التي تتحدث عن حصار مخيم جنين إبان اجتياح 2002 والمجزرة البشعة التي ارتكبها الاحتلال في مواجهة مجموعة صغيرة من المقاومين، الذين أقسموا على القتال حتى الموت وعدم الاستسلام، فنجد المقطوعة الموسيقية تتنقل باستخدام أصوات الموسيقى ما بين الناي والحزن وتصوير أجواء حماسية وقتال، يعتمد الفنان فيها على التنقل ووضع المستمع بلوحات متعددة، ويتم الانتقال من خلال استخدام الوقفة القصيرة بين اللوحة والأخرى، والاعتماد على إبراز صوت واحد من أدوات الموسيقى كالناي والعود مترافقاً مع الإيقاع في مقاطع، وفي مقاطع أخرى استخدام العديد من الآلات الموسيقية في تمازج للحن للوصول إلى الغرض، فأبدع معزوفة تمكنت من نقل المستمع في كافة الأجواء التي تصور معركة جنين البطولية.

والخلاصة أرى من خلال متابعة مسيرة الفنان باسل زايد وفرقته "تراب"، طاقة كبيرة من العطاء وقدرة فنية هائلة ورسالة الهم الوطني والإنساني، وإصرار على المقاومة بالكلمة واللحن والأداء، فتشكلت من خلال هذه المسيرة تجربة تحتاج إلى المزيد من البحث والمتابعة.

(زياد جيوسي / رام الله المحتلة)