أوجه متعددة لتجربة الفقد تكتبها الكاتبة المصرية في هذه القصص القصيرة جدا. وتستثير لحظات عابرة أو أشياء صغيرة ما تفتقده الشخصيات ويكمن داخلها لا يكف عن محاولة التحقق حتى ولو في الخيال. والتكثيف هنا لا يومئ فقط بدلالات ثرية مضمرة بل يحافظ على وهج تلك الرؤى التي تتجلى لها خطفا.

انتظار

سماح تمّام

ألم الظهر

بعد تجربةِ حملٍ فاشلة شعرتْ بآلام رهيبة تمزِّق ظهرها. قالوا لها: انفتح جسدك فدخله الهواءُ، وقالتْ هي: بل انفتح رحمي ليُخرج وليدي فتسللَ الحزنُ وسكنَ ظهري.

الثوب

تنسجُ لها الأيامُ ثوباً لا تتبينْ ألوانَه، يغلبُ عليه شيء قاتم. تحاول أن تستبدل خيوطه ولكن اليد العاجزة لا تستطيع شيئاً حيالَ أقدارِها.

غيبوبة

ظلت شهوراً تتساءل: هل كان ما نطق به، ولم يسمعْه أحدٌ سواها، حقيقةً أظهرها اللاوعي أم كذباً جمَّلَه الوعي؟ صمتتْ وقررتْ أن يُدفن ما سمعته معه.

رحيل

كانت تظن أن الموت لا يأتي في الأعياد، وعندما رحلتْ جدَّتُها أول أيام العيد لاحظتْ السرادقات المقامة وأدركتْ أن للموتِ منطقاً خاصاً به، فهو لا يرى من مظاهر العيد سوى نساء متشحات بالسواد في طريقهن لزيارة موتاهن.

الآذان

صوتُ مكبرِ الصوت يُعلن الآذان ثم إقامة الصلاة ثم الصلاة نفسها، كل هذا بصوتٍ يكادُ يصم الأذن. تعلم أنها لا تملك حق الامتعاض، وليس الاعتراض، حتى لا يُقام عليها حد التكفير. الدينُ هنا شأنه شأن باقي الأشياء صوتُه مرتفع.

شجرة

شجرةٌ وحيدةٌ تقفُ بين البيوت تقاومُ بكبرياء وإصرار كل القبح المحيط بها، وفى المقابل شرفة تستند على عروق خشبية تقاوم الزمن هي الأخرى، وتتساءل كل منهما كل يوم: تُرى من منا ستسقط قبل الأخرى؟

الهاتف

عندما يعلو رنينُ الهاتف نبترُ ضحكاتنا، نتركُ كل شيء كي نلبى النداء ولا نعودُ بعد ذلك لأشيائِنا أبداً.

أمومة

يا طفلتي: لو سألوك ما الأمومة؟ قولي لهم هي عندي لا تعنى سوى أمي.. أمسكُ شعرها ليلاً كي أنام.

وجه

أتى لها بمقعدٍ نظيف وأبعدها عن سيارتها قليلاً حتى يُنهى عمله. حانت منها التفاتة: البيوتُ فقيرةٌ، وهناك شباكٌ منْ يجلسُ وراءَه لن يرى من السائرين غير أحذيتِهم، وخلفه امرأة عدد سنوات عمرها بعدد تجاعيد وجهها، سلوتها أن تراه وهو يمارس عمله. صوت الضجيج لا يزعجها بل يُشعرها أنها ما زالتْ على وجه الحياة حتى وإن كانت تحيا بباطن الأرض.

بعد الأربعين

وجدتْ نفسَها تهمُّ بكتابة اسم دواء يزيل ما بدا من تجاعيد العين، وفى اليوم التالي امتدت يدها لتقتلع شعرةً بيضاء وجدتها واضحةً للناظرين في مقدمة رأسها، وفى نهاية اليوم كانت هناك علاماتٌ أخرى كثيرة تذكِّرُها كم بلغتْ من العمر.

شارع

دكانٌ صغيرٌ للتموين يصطفُ أمامه طابورٌ من النساء. غسيلٌ مشبوح على حبله تتساقط منه قطراتٌ ماء تنبئُ رائحتها عن صابون رخيص، وزوجان من الجوارب على حبلٍ آخر ربما لا يستحقان حتى عناء نشرهما. أطفالٌ صغار يمرحون حفاة الأقدام عرايا البطون لأسباب شتى غير الحر طبعاً. فتاتان تسيران وتنظران خلسةً عل أحد الشباب يبدى إعجابه فيشعرهما بأنوثتهما. ونساءٌ لا تسمع إلا خطوهن الثقيل على الأرض، وجلاليب سوداء يوارين خلفها عورةً لو كشفوها ما كان الفرقُ كبيراً.

امرأة تختنق

نظرتْ في الساعة المجاورة، تقتربُ من الفجر. يوقظُها صوتُ طفلتها، تشعر بالغثيان، نامتْ الطفلة ولم تنم هي. نظرت في المرآة.. وجدتْ نفسَها جميلةً، فازداد الشعور بالغثيان. تترك الغرفة، تقع عيناها على الدبلة الذهبية ملقاةً بإهمال، تشعر أنها وحشٌ التهم سنواتِ عمرها ويريد أن يلتهم المزيد. الغثيان يصاحبه اختناق. أطرافها ثقيلة. الجو مظلم. ضوء سيارة جعلها تجفل، هناك من يتعمد أن ينير لها. الاختناق يزيد. ترفض الاستمرار، ترتدي ملابسها على عجلٍ قبل أن يشعر بها أحدٌ، تفتحُ البابَ، تغمض عينيها، النور مبهر بالخارج فكيف يكون البيت ظلاماً؟! تتيقن أنها البداية، تجرى وترقص سعيدة بأن لا أحد يراها.

الجميع نيام، تجده على مرمى البصر يمارس هو الآخر حالةً من الجنون وتقابلا. شعرت معه أنها جميلة، دافئة، أنثى. يزولُ الاختناقُ تدريجياً، مسام جسدها تتفتح، عادت إليها مشاعر خنقتها سنوات الزواج، سألته: هل تراني امرأةً باردة؟ جسدها يرتجفُ من فرط النشوة. لمساتُه جعلتْ براكين الرغبة بداخلها تثور. قررت أن تكون أنثى ولو لساعاتٍ قليلة حتى تشرق الشمس فتعود مرةً أخرى إلى واقعها. يقترب منها، تشعر بالسعادة، يزول الغثيان وبعده الاختناق، تشعر بالرغبة تجتاحها بعنف، إحساس رائع. تغمض عينيها.. الآن تحلق في السماء.

ولكن، وبالرغم من بعدها عدة أميال عن بيتها، تسمعُ طفلتها تبكى. تلاشت الأنثى والتفتت تبحث من أي طريق أتت وأخذت تعدو حتى لا يكشفَ بكاءُ الطفلة عدمَ تواجدها بالمنزل. أخذتها في أحضانها حتى هدأتْ ونامتْ، وعندما همَّت بالنوم هي الأخرى شعرت أنها تختنق وعاودها الشعور بالغثيان.

حبل الغسيل

هو للفتاة وسيلتها لتجفيف تنورتها الأثيرة في وقتٍ مناسب كي تلحق بموعد حبيبها، وهو للرجل حامل جوربه المبتل وقميصه بعد أن تفضلت زوجتُه بغسلهم، وهو للسيدة الهم الأزلي الذي لا خلاص منه، تنظر إليه وتشغلها المراحل التالية له من طي وكي.

أما بالنسبة لها فكان يعني شيئاً آخر تماماً. كان يُشعرها بالنقص، ويغمرها بالحزن لأن حبالها دائماً خالية. كم كانت تختلسُ النظرات ليلاً لتنظر إلى الحبال الممتلئة بكل ملابس الأطفال الداخلي منها والخارجي.

عند حملها كانت سعيدةً لأنها سوف تملك هماً يومياً هي الأخرى وسوف تصبح عملية الغسيل طقساً يومياً يعقبه امتلاء الحبال بكل ما هو صغير. وعندما فقدتْ جنينها عادت تنظر ليلاً إلى الحبال الممتلئة، ثم تولت حرارة الشمس المهمة لتُذيب حبلين وكأنها تخبرها أنك لن تحتاجين أكثر من ذلك.

ومرت السنوات. تغيرت فيها أشياء كثيرة ولكنها أبداً لم تقلع عن عادتها في النظر خلسةً إلى الحبال الممتلئة ولكن ليلاً حتى لا تفضحها عيونُها.