يتناول الباحث المصري هنا هذه الرواية العراقية من زاوية تعدد الرواية وتبدل المنظور السردي من أجل الكشف عن مستويات متراكبة من الدلالات في الحدث والشخصية على السواء. ويكشف لنا كيف أن التمثيل السردي فيها يعتمد على التكثيف والاستعارات الأسطورية الكامنة خلف واقعية النص.

التمثيل السردي والتنازع المكثف في الرمزية الواقعية

في رواية «عند شواطئ أندلوسيا» لأحمد غانم عبد الجليل

حسـن غـريب

تقدم رواية (عند شواطئ أندلوسيا) للروائي "أحمد غانم عبد الجليل"، خطة شديدة التعقيد والتنوع للسرد الكثيف، وقوام تلك الخطة هو التدافع الشديد بين الراوي من أجل الاستئثار بالسرد للإفصاح عن جملة من المواقف الفكرية فيما يخص الماضي والحاضر على حد سواء. وفيما ينبغي أن تنبثق حكاية المرأة من خلال السرد بيسر وسلاسة، فإنها تشتبك مع الراوي في نوع من التنازع، فالراوي منهمك في وصف وضعيات الشخصية ومنظوراتها وعلاقاتها بالمرأة وحكايتها، الأمر الذي جعله يقدّم ذواتها وانطباعاتها ورؤاها بصورة استثنائية، وبمقدار ما يمنح كل ذلك هذه الرواية خاصية فنية مهمة، فانه يؤجّل ظهور الحكاية في نوع من التشويق الذي يسهم السرد في تنظيمه والتلاعب به، قبل أن يعلن عن تفاصيلها تدريجياً من خلال علاقة الراوي بها في سياق ثقافي مختلف. وهو أسلوب في البناء السردي يتيح مجالا واسعا لأن تتجلّى الحكاية من خضم سلسلة الرؤى التي تتمركز حول نقطة ما، فتكون نتيجتها تشكيل الحكاية التي هي رواية مجموعة من الشخصيات تتضافر عناصرها الفنية معا من أجل بلورة حكاية يمكن إدراجها ضمن نسيج متعدد المرجعيات بمكوناته السياحية والأسطورية والسحرية، وهذا سهّل التراسل الشفاف بين المستويات الرمزية والواقعية للنص إلى درجة تحرّرت فيها الشخصيات من قيود الحركة التقليدية، بما جعل السياحة نفسها مادة سردية تمّ تشكيلها حسب مقتضيات الأحداث. وهي إلى ذلك حكاية تخترق سكون الزمن، فتعاصر سيل الأحداث المتدفّق . فالزمان بوصفه إطاراً للحدث، يتقدّم ويتراجع ويتلوّى ويتكسّر في تساوق مع الاتجاهات المتشعّبة التي تأخذها الوقائع والأفعال المشكّلة لمادة الحدث السردية:.

مقطع من رواية (عند شواطئ أندلوسيا) ص 47 «لم أستطع التخلص من كبح جماح فضولي، لأسمه الفني حتى أنجو من وخز الضمير، فتعاقبت ذات مرة إلى الساحل وكأني أتحول إلي مخبر من المخبرين السريين الذين صرنا نستطيع تميز وقع خطاهم عن بعد في بلادنا، أختبأت خلف صخرة خفت ان تتزحزح من مكانها بعد تدهور من الجمود فقط نكاية بي أمامها، كانت تنتظر بالفعل، تلبس مايوها من قطعتين وردتي اللون، متجانسة تماما مع لون بشرتها الزهرية الفاتح، تمشي على الشاطئ ويبلل الماء قدميها الصغيرتين، مجرد انحناءة من قدها الممشوق لها الجرأة أن توقظ المدينة كلها من نومها الكسول، قامتها تميل القصر، تقف أطراف شعرها الأسود المميش المغطى بالكاب،عند اسفل الرقبة ووجها بارز الوجنتين يبدو ضئيلا إلى جانب وجهه الخمري، عريض عظام الفكين، يميل إلى الطول وحدة القسمات في حالات الغضب،وهو سريعها،يختبئ شفاههما عناق طويل وكأنهما مستعدان لللاستمرار حتى وقت المغيب،يخفيهما الموج تقلباته حتى يخلفانه منهكين مع تنامي ضياء الشمس،يقبل علينا بسخونة العشق المتغلغل في الشرايين.»

إن تداخل مستويات السرد يؤدي إلى حركتين متعارضتين: حركة أولى تريد اختزال السرد الذي يحتكره الراوي لصالح الإعلان عن وضعياتهم الفكرية والنفسية، والإفصاح عن حكاية امرأة الشاطئ دون إبطاء. وحركة ثانية مضادة تتواطأ مع الرغبات الدفينة للراوي، وهي تُرجئ إظهار الحكاية، فيستغل الراوي الفرصة للإعلان عن نفسه وحكاياته. وسنجد أن هذه اللعبة السردية، إنما هي لعبة بلاغية متكاملة غايتها الإبلاغ عن الحكاية بطرق غير مألوفة. والواقع، فان حكاية امرأة الشاطئ باعتبارها اللّب المكوّن للرواية تتنازعها ثلاثة مستويات سردية، تتصل بثلاثة مناحي: يؤدي الأول وظيفة التقديم والاستهلال دون أن تربطه سردياً رابطة مباشرة بالحكاية، ويؤدي الثاني وظيفة تنظيم الحكاية والمشاركة فيها من خلال علاقته المباشرة بامرأة الشاطئ. وهذا الراوي يهيمن برؤاه ومواقفه وسلطاته المطلقة على النص، ويؤدي الثالث، وهو ضمير غائب، دور الوسيط الذي من خلال سرده ينبثق صوت المرأة وهو صوت لا يكتسب استقلاله الشخصي، إنما يقترن دائماً بذلك الراوي الوسيط الذي يتقنّع بضمير الغائب في نمط من السرد الموضوعي غير المباشر على نقيض السرد الذاتي المباشر الذي يتصل بالراوي الأول والثاني..

تبدو، أول وهلة، علاقة الراوي الأول بحكاية امرأة الشاطئ علاقة واهية، وهي كذلك من ناحية سردية، اذا أُخذت بالاعتبار درجة الصلة بين ذلك الراوي والحكاية، فالعلاقة السردية المباشرة ضعيفة، ولايحصل تماسٌ يبنهما إلاّ بشكل عابر، يُراد منه الايحاء بطبيعة تلك الحكاية، بيد أنّ تلك العلاقة تبدو على غاية من الأهمية اذا نُظر اليها من زاوية أخرى، وهي تنزيل الحكاية في موقعها السردي، وضبط حدودها، والتوطئة لها، ووصف الخلفية التي تعطيها قيمة في سياق السرد. وما أن ينتهي الراوي الأول من وظائفه هذه إلاّ يتوارى، ولكن ذلك يحدث ّ بعد ان يروي هو حكايته الخاصة به ؛ حكاية التمزّق بين الهجرة هروبا من ويلات دمار بلده لأسباب لا يؤمن بها إنما يُدفع اليها مُكرها، ومحاولاته السبع للفرار منها، في إصرار عجيب لا يعرف الضعف والتهاون، وبين الشوق الدفين الذي يتملّكه منذ صباه لـ أوروبا. ورفض الحالة الأولى (الهجرة) والاستغراق في الثانية (أوربا) أمران مرتبطان في ذهنه، ارتباط نتيجة بسبب، يقول:

«كنت العراقي الوحيد بينهم في الدورة المحاسبية المقامة في الفرع الرئيس بمدريد فرصة كانت بعيدة المنال لي، بالنسبة لي أوشكت علي اليأس أن يفي قريبي الذي غادر العراق أكثر من عقدين ونصف بوعده ويرسل لي عقد العمل في طرابلس، طالبني قبلها بدخول عدة دورات تؤهلني للوظيفة الحلم لأي متسكع بعد الحرب تتصيده بؤس الذكريات في كل وقت وأينما ذهب،لايبرأ منها إلا في بعض حالات السكر الشديد مجنونة الهذيان، ثم يصحو على شخبطة الورق المبعثر أمامه، تشكل بعضها رسوما مرتبكة الخطوط» (27_28).

مايلاحظ هنا أن التمثيل السردي ينتج عالمين متناقضين: عالم الشرق حيث ينتمي الراوي، وعالم الغرب حيث يتمنّى، والرؤية السردية لهذا الراوي لاتعرف الحياد. إنها تركّب صورة مكروهة وممقوته للمكان الذي انبثق منه (الشرق)، وتركّب صورة احتفائية ورغبوية واستيهامية للمكان الذي ينشده (الغرب)، إنها ثنائية الخفض والإعلاء، التبخيس والتبجيل، الكامنة في وعينا المعاصر وفي ثقافتنا. وسوف تطّرد هذه الرؤية نفسها عند الراوي الثاني، كما سنرى. على أن الموضوع الذي هو مدار عنايتنا هنا هو علاقة الرواي بالحكاية، فقبل أن تتشكّل أطرافها يعلن الراوي عن عدم وجود علاقة له بها.إن المصادفة وحدها هي التي جعلته يعرفها، ولذا فان مسؤوليته عنها تتصل بالمساعدة في نشرها فقط. والدفع باتجاه فصم العلاقة بين الراوي الذي يتقّنع بقناع المؤلف والحكاية، إنما هو لعبة سردية شائعة في الرواية العربية، تمثلها غالباً الصيغة المتداولة الآتية : إن المؤلف عثر على حكاية مجهولة، وإن دوره سينتهي بنشرها وهو لايتحمّل أية مسؤولية عمّا ورد فيها. وهذه الصيغة بذاتها هي أكثر المداخل شيوعاً الى السرد الكثيف (ولكنها أهملت الرسم منذ زمن ولم يتبق داخلها إلا روح المتذوقة الفنية التي تجد في اللوحات نافذتها على أحلام تخلت عنها هي الأخرى "ص79")، اذ انها تبرمج الاطار العام لبناء النص السردي على نحو يحتّم ظهور ذلك السرد، بتشعباته وتفاصيله الكثيرة. وقد أخذت بها هذه الرواية تماماً، وبالغت في ذلك، فخصّص فصلا كاملا، هو (فصل ابتدائي) ليس فقط للبرهنة على عدم وجود صلة بين الراوي الأول والحكاية، إنما لعرض الحكاية الشخصية لذلك الراوي، فالمبالغة في نفي هذا النوع من العلاقة إنما هي مبالغة في تأكيدها، يقول الراوي: «نسيت أن اخبرك على مايبدو أن صديقي المفتون بعشقها لحد الآن، رغما عنه، قد عاد به الشوق الى ترصد اخبارها....لوسيا حبلى»(193ص).

وسوف يستثمر الراوي هذهِ الفرصة للبحث في الظروف التي جعلت الحكاية تصل إليه. وذلك مجرّد مسوّغ يُستغل كغطاء لعرض حكايته الشخصية التي تستأثر بالأهمية الاستثنائية. فالرواي، مستعينا بالسرد الكثيف كوسيط تمثيلي، يتبطنّ شخصية المؤلف للإعلان عن مواقف آيديولوجية وثقافية، والتصريح بآراء مزدوجة الإنتماء تتصل بالعالم الرمزي للنص من جانب وبالمحضن السياحي له من جانب آخر، وكما رأينا في تركيب صورة تعارضية للشرق والغرب من قبل في رواية "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم،فإن الصورة ذاتها ترتسم في امرأة الشاطئ لكنها مقلوبة الدلالة. فالراوي يمضي في وصف حالة الإستياء والتبرّم التي دُفع اليها، وهي حالة المشاركة في علاقة لاتعنيه. وهذه الحالة بذاتها ستكون محفّزا حيويا بالنسبة له للبحث عن نوع من الحرية التي يحلم بها، ولهذا تتعاقب محاولات فراره من بلاده سعيا لإشباع تلك الحاجة التي بمقدار ما هي رغبة، فانها موقف من العالم الذي يعيش فيه، وهجاء له، فالشرق طارد والغرب جاذب. وفي اصرار يناظر اصرار يفلح الراوي في الوصول الى اسبانيا ليجد أن حكاية امرأة الشاطئ في انتظاره، حكاية الشرق السرية المعمّدة بالألم، وبتسهيل نشرها يختفي. لكن القضية الأكثر أهمية في سياق السرد هي أنه توارى بسبب نجاحه في رهان لايمكن أن يفشل فيه أمثاله، لقد انتزع مكانا رفيعا لحكايته الشخصية، ولايمكن لأحد أن يمر عليه، دون ان تلفت أنظاره تلك الحكاية لأنها البوابة التي من خلالها يدلف إلى الحكاية الأم.

بعد أن يتوارى الراوي الأول الذي يعتبر المدشّن الرئيس للحكاية والمُمهد لها يظهر آخر يلتصق بظاهرها قبل أن يتماهى معها، ويصبح جزءا منها.وإلى هذا الراوي تُعزى كل السمات الفنية للعالم التخيّلي-السردي الذي يحتضن حكاية امرأة الشاطئ لوسيا، ومع أنه يماثل الراوي الأول في اختيار الغرب مكانا للحياة استنادا إلى جملة أسباب دفعته إلى ذلك،وانه يعيش بوصفه فردا باحثا عن اللذة في مختلف أشكالها إلاّ أن درجة حضوره في السرد تفوق درجة حضور الأول، ورؤيته أكثر وضوحا، وحياته أكثر تنوعا،وهو بلغة إيروتيكية – فنتازية مشبعة بالإيحاءات الرمزية يقوم بتشكيل العالم التخيّلي للنص، ويوضع امرأة الشاطئ لوسيا فيه سواء في جذوره وامتداده التاريخي العراقي أو في حاضره الآن. فتتدرّج علاقته بالحكاية من كونه في البداية مجرد راوٍ إلى أن يستأثر بمكانته بوصفه شخصية لها موقعها ودورها في الحكاية. مع ملاحظة التكتّم على الاسم، وينتهي الأمر به ليكون مشاركا للشخصيتين الأساسيتين لوسيا الحاج حسان حياتهما ومصيرهما.

وكما كنا قد رأينا ذلك في حالة الراوي الأول، فان هذا الراوي، وبإصرار أكثر حدة وبطريقة أفضل، ينجح في إيجاد درجة عالية من التناغم بين حكايته وحكايته و حكاية لوسيا. وعلى هذا فان حضوره في النص يظل قائما لملازمته الشخصيتين المذكورتين،وخلال ذلك يمارس ضروبا من الأفعال، ويتفّوه بسلسلة لانهائية من الأقوال التي تكشف منظوره الشبقي الذي يجعله منغمسا في عالم اللذة إلى أقصى درجة ممكنة.إنه باحث دائم عن المتعة، يتصيّدها ويقتفي آثارها حيثما تكون،ولا يتردد في التصريح بأنها جوهر وجوده ومدخله إلى الحياة والعالم، وقد اختار الغرب ليتمكن من الاقتراب إليها.إنه يتجدد بمقدار استغراقه الجذري في المتعة الجسدية، يقول :تحمل لوسيا الي مع جسدها المتحفز للشهوة اكثر فأكثر، فقط لإضافة الإثارةعلى حياتها الركدة والرتابة المتسللة الى علاقتنا دمرتها في حالة سكر او وعي لا اعرف".

يكتسب هذا المنظور أهمية خاصة لأنه سيعيد إنتاج كل الأشياء طبقا لمقتضياته، وفي مقدمة ذلك لوسيا امرأة الشاطئ، فمهما تعدّدت أوجه تأويلها،وتنوعت أبعادها الرمزية، فهي آلهة للذة الجسدية، والراوي لا يراها إلا باعتبارها وريثة تجربة في اللذة، لذة بلاد العرب الجارفة والعريقة. وحتى هو المتقشّف جسدياً، ينتهي بتوجيه مزدوج من اليقظة التي توقدها امرأة الشاطئ في كيانه، ومنظور الراوي الذي يلح على البعد الايروتيكي للحياة، إلى شخصية مخالفة لمعايير التزهّد الجنسي الذي كان عليه من قبل.

وهكذا فان منظور الراوي الذي ينظّم مسارات السرد، ويُسقط عليها شلالات من الإيحاءات الجنسية، ويفلح في إضفاء شبكة دلالية معقّدة ترشح باللذة في تضاعيف النص. بانتهاء الاعتصام الجنسي لصديقه فان ينابيع اللذة تتفجر في كل مكان. على أن كل هذا لا يلغي بعد شخصية الراوي من ناحية الخلفيات والتكّون، لكنه يقصيه إلى الوراء، ويدفع إلى الأمام بشبقيّته؛ فالنهم بالجسد وتفاصيله يستأثر بالعناية الأساسية. وبما أن حكاية امرأة الشاطئ تتجلّى عبر منظوره، وتتدفّق من خلال رؤيته، فإن ذلك الراوي يُشغل أولا بنفسه قبل أن تمر من خلاله تلك الحكاية، وفي كل مرة يعيد ترتيب وضعيته بما يجعل حضوره باهرا ومشعاً وأخّاذا، فيعلن عن نفسه في مطالع الفصول الأربعة التي يتكّون منها النص، مستخدماً صيغة المخاطبة مع مروي له يُدغم بالمتلقي/ القارئ.

إن الأمر الذي يستثير الملاحظة، هو: فضول الراوي في الإعلان المتواصل عن نفسه. فهو يؤكد، أنه البوابة الوحيدة التي من خلالها يمكن المرور إلى حكاية امرأة الشاطئ. ومن هذهِ الناحية فان سرده يتضمن كثافة هائلة تجعله حاضراً بطريقة لافتة للنظر في كل ثنايا النص. ومن الجدير بالذكر هنا أن سعيه في ألاّ يكون مجرد وسيط تعبر عليه الحكاية، جعله في الصفحتين الأخيرتين يندمج تماماً في عالم الحكاية، فاستبدل بصيغة الإفراد التي كان يستعملها طوال الرواية، صيغة الجمع، وبوساطة ضمير الجمع للمتكلمين ختم الرواية في مشهد معبّر عن نجاحه في أن يكون عنصراً من الصعب الاستغناء عنه إلى جانب لوسيا وصديقه والجنين الذي تحمله في الأصل لوسيا، لا ينفلت من رحمها، إنما -كما يقول الراوي- ينبجس من دوامتنا ويطفو مع قارورته فوق الماء ويزحف على الشاطئ باتجاه حقول وبساتين وينابيع نيران أزلية. وبإزالة الحجب السردية الكثيفة التي تلفّ حكاية امرأة القارورة، قصدتُ بذلك مستويات السرد التي تمثلها منظورات الراوي الأول والثاني، تتجلّى الحكاية الباهرة المشعّة: حكاية التحولات المستمرة، والعلاقات الغريبة، وتحديداً حكاية لوسيا رمز الترحال والهجرة الأبدية، والأسطورة الأنثوية العائمة فوق التواريخ والأوطان، والحلم الذي يسعى كل الذكور إلى نيله.

ومع أن السرد يبدأ يُفصح عن الحكاية، وتخفّ كثافته، وتشتدّ شفافيته، إلاّ أن صوت لوسيا مازال يمر خلل وسيط سردي ثالث، إنه يتدخل ويعيد صياغة ما ينبغي أن يكون صوت الراوي المباشر، ويستبدل الضمائر، ويغيّر الصيغ، ويلخّص حيناً، ويسترسل حيناً آخر، ويحفر وينقّب ويعلّل ويصف ويؤوّل لكنه لا يحجب ولا يستبعد أحدا،وهو في الوقت الذي لا يختفي فيه تماما، فانه يتوارى ويتقشّف في الإعلان عن نفسه بطريقة ملفتة للنظر. إنه ضمير ماكر لعوب، يجيد لعبته الذكورية، فيعيد إنتاج حكاية امرأة الشاطئ طبقا لتصوراته الثقافية والجنسية كذكر خاضعا لفكرة التنميط الثقافي لذكورته ومسقطا التنميط ذاته عليها كأنثى، دون أن يأخذه الفضول في الإعلان عن نواياه الحقيقية. وستقترن الحكاية بهذا المستوى من السرد إلى النهاية، لأنها عبارة عن التشكيل الخطابي الذي يكوّنه صوتان متداخلان: صوت لوسيا وصوت ذلك الضمير الغائب المجهول الذي من خلاله يمر إلينا صوتها.فكل أنثى بحاجة إلى وسيط ضمن ثقافة مشبعة بقيم الذكورة!

تندرج حكاية امرأة الشاطئ في نظام دائم التحوّل، وبذرة التحوّل التي توجّه كل شيء، وتكون سبباً له، هي لوسيا المتحوّلة من كائن فانٍ، إلى كائن خالد، ثم إلى كائن فانٍ مرة أخرى. وهذا التحوّل المركزي ستمتد آثاره إلى فضاء الأحداث والشخصيات وإلى السرد نفسه، وعلى هذا فان نظام العلاقات المتحوّل هو أشدّ ما يثير الاهتمام في النص، إذ ليس ثمة وضعيات ثابتة، بل هنالك صيرورة دائمة، وهو الذي يغلّب البحث في العلاقات على البحث في الوضعيات. والحقيقة فانه بسبب نظام التحولات الذي يهيمن في رواية (عند شواطئ أندلوسيا) ينتهي كل شيء إلى غير ما بدأ به، حتى الوضعيات الابتدائية التي يمهّد لها السرد، سرعان ما تلتحق بنظام التحولات الشامل في النص. فالراوي ومن ثم الأفعال والفضاءات، تستجيب لمبدأ التحوّل في شخصية لوسيا التي كانت سلسلة متواصلة الحلقات من التحوّل المستمر؛ من كونها امرأة ولدت وعاشت في أسبانيا، إلى حبها الجارف للشاب العراقي، والإغراء بالخلود لتكون حبيبة وعشيقة دائمة، وانتهاءً بفك طلسم الخلود عنها. وخلال ذلك تتجلى من خلال أصنام مدريد ـ، واعتباراً من هذه المرحلة تصبح لوسيا أمّا وعشيقة مستباحة للذين يتوالون عليها في نهمٍ شبقي هو ومزيج من العشق والاغتصاب. وحين تنتهي تتدخّل جملة ظروف تفضي إلى إزالة الخلود عنها،والعيش بوصفها امرأة معرّضة للفناء شأنها في ذلك شأن جميع البشر. وفيما يقوم الراوي بتخليدها، يقوم شبيه له ـ ربما نفسه ـ بتخلصها من الخلود. وبين هاتين اللحظتين يفترع عذريتها المتجددة «اعتبرها من حقه وحده زوجها هو الدخيل على حياتهما الهانئة المتقطعة يزجرها ان اتت على ذكره امامه،يشاجرها حتى يكاد يضربها ان تاخرت عن موعد لهما او لم تذهب للقائه بأي حجة كانت يسحقه ذلك الاحساس القاهر بهامشية علاقتهما من جهتها اظنه كان يهجس بايلام سيطرتها عليه رغم مكابراته البائسه لابداء عكس ذلك».19.ص".

في مقدمتهم وكل هذا يحُدث تحولاً في جملة العناصر الفنية المكوّنة للنص، فالشخصيات تغيّر انتماءاتها فتهجر بلادها وتلجأ إلى بلاد أخرى، وذلك يؤدي إلى تغيير كامل في الفضاءات السردية، وتغيير كامل في نسق الأفكار التي ترددها الشخصيات بحسب الفضاءات التي تظهر فيها. إن السرد ذاته يتحوّل من كونه سرداً مغرقاً في كثافتهِ إلى سرد أقل كثافة، ثم أخيراً إلى سرد هو مزيج من الكثافة والشفافية. وفي التفاته معبّرة عن نظام التحول الدائم يقفل النص سرديا بمشهد هو ذروة التحولات، وبه ينفتح أفق آخر للتحولات الدلالية. ففيما يرجّح أن لوسيا قد اقتيدت أسيرة ورهينة إلى البلاد التي ولدت فيها، يُحدث فناؤها تحولاً في مصائر الشخصيات الأخرى : الراوي، و مسعود، ولوسيا. فالايهام الذي عبّأه في القارورة وحلّ محل لوسيا مُزج بالنبيذ الأحمر، وبالارتواء منه فاض الخلود على تلك الشخصيات. وفيما كانوا فانين و امرأة الشاطئ خالدة، أصبحوا خالدين وهي فانية، وفيما أفلحوا في تحقيق حلم الحرية الدائم كُبّلتْ هي بقيود البلاد التي ظهرت فيها. فتقاطعت المصائر في نوع من التحوّل الدائـم.

ينتهي النص حينما يكف السرد عن تجهيز المتلقي بمصائر أخرى للشخصيات،وتنتهي الرواية ككتاب، لكن التفكير في أمر صوغ الأحداث وتحولاتها الدائمة لاينتهي، فكل نص يفجّر مشكلة لدى المتلقّي. وقد يكون النص الروائي نفسه اطاراً مناسبا للحديث عن تقنيات السرد وطرائق تركيب المادة التخيلية، كما سيتكشّف لنا ذلك في الفقرة الآتية.

في صفحات الرواية التالية (ص137حتى 156). وص 174حتى 212).

ثمة مغزيين في العبارة التي يحملها الغلاف الداخلي للكتاب [مغامرات الراوي]؛ الأول: التشويق والاثارة، مما قد يضيفه الناشر للترويج، أو وضعها المؤلف؛ لمراوغة القارئ والايحاء اليه انما هو أمام حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة أو حواديث الجن والحوريات. وهنا يتحقق الهروب منذ اللحظة الأولى مع سبق الاصرار والترصد وبعدة مستويات:

1 - هروب من الدمار والخراب.

2 - هروب من الواقع إلى المخيلة.

3 - هروب من المكان إلى الميتافيزيقا.

4 - هروب من الوطن إلى الخارج.

5 - هروب من الهمّ الرئيس الشاغل إلى فكرة جانبية غير مؤرقة.

6 - هروب من الذات إلى المجرد.

7 - هروب من الدكتاتور/ الهجرة إلى المرأة.

هذا الهروب اختزل معالجة ثيمة الحرب والدكتاتورية في واحدة من الروايات المبكرة الصادرة خارج منشورات أدب المعركة وحلّق بها في آفاق تفاوتت بين الميثالوجيا والفكر التجريدي. ان هروب الكتاب من تحمل وزر ثيمة رئيسية والتوجه بها نحو القارئ بعيداً عن المراوغة والالتباس قاد إلى أمرين: أولهما استنزاف امكانيات الكاتب الفكرية والأدبية في كتاب واحد (146 ص).

والثاني صعوبة تقديم كتاب لاحق بنفس المستوى الفني. وهذا يؤشر مبلغ الخسارة الفنية لمقدرة روائية مميزة، أرادت أن تقول كل شيء وتحقق كل شيء دفعة واحدة، فتنقلت من الاغتراب والسياسة إلى السياحة والدولة والدين والمرأة في لهاث واحد دون أن تمنح كل واحدة الفرصة الكافية للمعالجة، فكانت (عند شواطئ اندلوسيا) وثيقة معرفية ودالة على موسوعية ثقافية وهمّ فكري شاغل في أكثر من اتجاه. ففي حين يغري المؤلف قارئه بما يقدمه من أفكار على مائدة روايته، يحرم (قارئه) من الاقتراب من تلك الافكار أو تكرار المحاولة.

يقول أحد الفلاسفة أن الأفكار ملقاة على الطريق، ووظيفة الكاتب التقاطها. لكن المؤلف الحديث لا يلتقط الأفكار فقط من مضانها وانما يزاوج بينها ويتفنن في ترتيبها لتصنيع دلالات جديدة وتوليد معانٍ جديدة واستجلاء آفاق فكرية وروحية جديدة. ان تعدد مستويات البنية وتشابك اتجاهات الخطاب يجعل منها (رواية موسوعية) بالمعنى الموجب لظاهرة التشتت، فهي لا تترك باباً من أبواب العلوم والمراجع الفكرية والسياحية لا تطرقه من قريب أو بعيد، حتى تجد لكل شيء فيهاً أثراً. وتمنح مستويات التلقي تعددية أفقية وعمودية، تقابل أنساق النص. ووظيفة(أحمد غانم عبدالجليل )تقديم فاكهة روايته هذه للقارئ كثمرة جديدة، قد تبدو للوهلة الأولى عسيرة الهضم، فالأشياء الجديدة والجميلة تتطلب جهدا اسثنائيا لأنها أكثر دواماً من غيرها..

ان البنية العامة للنص تخضع للبساطة والتلقائية، وهو مذهب سردي حديث ينص، على أن الكاتب يذهب للكتابة بدون أية فكرة مسبقة. ولكن خطاب الرواية خطاب ثقافي عقلاني متداخل، يستند إلى رؤية مسبقة. فإذا أمكن توصيف وقوع جانب من مساحات السرد أسيرة الذهان أو التشوش الفكري، فأن الخطاب الرئيسي للرواية حافظ على مساره، وبالشكل الذي تكرر وتوضح في كتبه وطروحاته اللاحقة. ان الشخصيتين المترادفتين من العراق إلى اسبانيا تكملان بعضهما البعض وتنسجمان بالتئامهما دون تدمير الواحدة للأخرى كما هو معروف في حالات الفصام الذاتي أو النفسي. وإذا كان أحمد غانم قد استخدم فكرة الاستحالة والتناسخ من الميثولوجيا القديمة لتأكيد الأصول المشتركة للهوية/ الهويات العراقية (الجريحة)، فقد استخدم فكرة الانفصام/ الانشطار من العلوم النفسية لتصوير الشخصية العراقية/ السياسية أو الحركة السياسية العراقية في اتجاهاتها أو اتجاهيها المتنافرين بين العقلانية والتهور ولكن المكملتين لبعضهما – حسب المؤلف- سواء في التيارين القومي والأممي في التيارين القومي والطائفي اليوم.

لقد كان أجدى بالمؤلف البحث عن قاعدة مادية ديالكتيكية تتواشج مع الأسس المادية للحضارات العراقية العريقة والنهوض بها نحو الحاضر بدل تمييع الهوية الاجتماعية [المميعة أصلاً]. ان اشكالية العراق اشكالية بنيوية متوارثة سببها استمرار الغزوات والحكام الأجانب ممن لم يعيروا أو يفهموا مبادئ السياسة والوطنية والانسانية. فظهر محمد علي الألباني ليبني دولة عصرية صناعية في مصر التي تتمتع بخصائص اجتماعية وسياسية تختلف عن الحالة العراقية. بينما ظهر ولاة قلائل من الاصلاحيين أمثال مدحت باشا أو داود باشا أو سليمان القانوني ممن أجروا اصلاحات جزئية انتهت مع رحيله، فبقاء العراق تابعاً للامبراطورية العثمانية أنعكس سلباً على المجتمع العراقي والسيرورة الوطنية بينما قاد استقلال دولة محمد علي وقيام أسرة حاكمة متوارثة على ترسيخ كيان مصر وحماية المنجزات الوطنية المتحققة. ان وقوع العراق في منطقة تنازع تاريخي بين ايران العنصرية التوسعية والقوى المتلاحقة بالمقابل من عهد الاسكندر المقدوني والرومان والحكم العربي والعثماني والانجليزي والأميركي العامل الأساس في نسف الصيرورة العراقية منذ جذورها القديمة - السومرية والأكدية والبابلية والاشورية، التي ما أن تضعف حتى تبسط فارس نفوذها وأطماعها على بلاد الرافدين. وسواء وجدت ايران منفذاً عبر الهوية الشيعية [الانشقاق الأول في الاسلام] أو أقتطاع أجزاء من أراض ومياه العراق أو دفع أصول وقبائل ايرانية داخل العراق تكون مقدمة لتوسعها الاستراتيجي التاريخي وكما هو حاصل اليوم أو وسائل أخرى كالغزو المباشر عند انسحاب القوى الدولية من المنطقة، تبقى هي الخطر الأكبر والناسف الأساس لمشروع الهوية العراقية، وهو ما يجعل قدر العراق، ذاتاً مجتزأة وهوية منقوصة مشوّهة، مموّهة بين ملامح فارسية وعربية وعثمانية وكردية، على حساب الملامح السومرية الآرامية والأكدية والاشورية والبابلية. وسواء غاب ذلك عن المؤلف أو أدرك حجم المعضلة واستحالة المشكل، فرأى نسف كل تلك المنظومات وإذابة كل تلك الاصول والصراعات داخل مرجل تتحكم فيه ثمرة التفاح وصراعات قابيل وهابيل، تاركاً باب المستقبل مفتوحاً، بعودة الأنثى لعراق الصراع والعراك وهروب البطل إلى اسبانيا. ان ادراك، أو استعداد القوى المتصارعة في عراق اليوم لأبجديات الانتماء والوطنية التي تطرحها اندلوسيا امرأة الشاطئ، قد يتطلب قروناً طويلة، وحتى ذلك الوقت يبقى مشروع هوية عراقية وانتماء أصيل لوطن أسمه العراق مؤجلاً، على بحيرات من الآلام والدماء والقلوب الجريحة..

ان تعدد المستويات البنائية والدلالية والقرائية لـ(عند شواطئ أندلوسيا) يمنحها صفة التميز والتفرد والريادة، اقتضت من كاتبها جهداً استثنائياً على أصعدة الفكر والشعور بحيث لا يكون من السهل تكرارها أو مضاهاتها. وهو ما ينطبق على [عصفور الشرق ]توفيق الحكيم. فبينما كان توفيق الحكيم تجريدياً في روايته الشهيرة، حاول أحمد غانم باستحالات شواطئ أندلوسيا اعطاء عمله صفة مادية أقرب إلى الواقع وأدنى إلى ثقافة السياحة وليس كما يتوهم البعض بالتاريخ.....وقدرته على الانتقال بين العالم المرئي والعالم الغيبي عبر الذوبان والاختفاء في فن الرسم. وعودتها المتكررة في أزمان وأجيال متلاحقة، ومرورها بأمم وحروب وغزوات وبلاد قبل أن تعود إلى أرض النهرين، بما يجسد رؤيته لأزمة الهجرة أو تعدد الهويات في عراق اليوم.

 

كاتب وباحث مصري